الإمام الخميني
تأتي رؤى الإمام الخميني على صعيد مرتكزات
نظرية مراتب الفهم متّسقة مع تصوّرات المدرسة الوجودية، بل نجد أنّ خلفيات الرؤية
متطابقة حتّى بالألفاظ بحيث يقتبس الإمام في أحايين كثيرة الصيغ التعبيرية لابن
عربي والشيرازي وعبد الرزاق الكاشاني وغيرهم من أقطاب المدرسة.
مرتكزات النظرية :
ما القرآن ؟ ربما كان جواب هذا السؤال هو
المفتاح الأفضل للنفوذ إلى دائرة التصور الخميني . «القرآن حقيقة» (1) ؛ وهذه الحقيقة تسبق الألفاظ وتعلو عليها :
«ولا تتوهمنّ أنّ الكتاب السماوي والقرآن النازل الربّاني ،
لا يكون إلّا هذا القشر والصورة» (2). ومن ثمّ فهو «ليس من مقولة السمع والبصر،
ولا من مقولة الألفاظ، ولا من مقولة الأعراض، لكن أنزلوه- إلى هذه- لأجلنا» (3).
الحقيقة القرآنية رفيعة سامية، يحجبها
علوّها ويجعلها عصية على الإدراك ما دامت هناك، معتصمة عن الجميع لا تظهر لأحد من
عمّار الملك والملكوت ما لم تتنزّل، وعظمة البعثة النبوية ومن أهم بركاتها أنّها
أذنت بتنزّل تلك الحقيقة من عالم الغيب على قلب النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم،
ثمّ ظهرت للبشر في كسوة الألفاظ والحروف بحيث أصبح من الممكن التعاطي معها في نطاق
الوجود الإنساني وعلى صعيد دائرة الإدراك : «للقرآن أبعاد ، وما دام الرسول الأكرم
صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يبعث، ولم يتنزّل القرآن بعد من مقام الغيب ذاك، ولم
يتجلّ في جلوته النزولية على قلب رسول اللّه ، فإنّه لم يظهر لأحد من موجودات
الملك والملكوت» (4) ، وإنّما ظهر القرآن وصار بين يدي البشر
بفعل اتصال النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بمبدأ الفيض ، بحيث تجلّى في قلبه،
ثمّ وبعد أن قطع مراتب النزول السبع جرى على لسانه ؛ وهذا النزول هو «من بركات
البعثة ...
فلسان القرآن من البركات الجليلة للبعثة ؛ من
البركات العظيمة لبعثة رسول اللّه» (5).
هذا النزول على نحو التجلّي (6) على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن ذا معنى لو
كان القرآن هو مجرّد هذه الألفاظ والصورة اللفظية المطويّة بين الدفتين، بل صار
ذلك ممكنا لأنّه تعبير عن حقيقة : «لو كان القرآن هو هذه الأجزاء الثلاثين لم يكن ممكنا أن
ينفذ إلى القلب مرّة واحدة، خاصة هذه القلوب العادية. لكن القلب هو باب آخر والقرآن
تعبير عن حقيقة، وهذه الحقيقة تنفذ إلى القلب أيضا» (7).
يبدو هذا الفهم للقرآن الذي يتعامل مع كتاب
اللّه على أنّه حقيقة متنزّلة من عالم الغيب، وأنّ الصورة اللفظية هي آخر ضروب
التنزّل لكي يكون التعامل مع هذه الحقيقة وفهمها ممكنا؛ هذا الفهم يبدو أيسر
إدراكا وهضما حين ننظر إليه في إطار المنظومة بأكملها، إذ ستبدو الصورة أكثر
اتساقا وستكون الأجزاء مترابطة على نحو منسجم.
المنطلق في الاتجاه الوجودي هو التوازي بين
العالم والقرآن والإنسان، وإنّ هذه العناصر الثلاثة هي تجليات لاسم اللّه الأعظم وما
تحته من الأسماء، ومن ثمّ فهي متعدّدة المراتب.
الوجود في إطار هذه الرؤية كتاب أو كتب
إلهية، وما تحويه تضاعيفها هي سور وآيات تكوينية : «إنّ سلسلة الوجود من عنصرياتها
وفلكياتها، وأشباحها وأرواحها، وغيبها وشهودها، ونزولها وصعودها، كتب إلهية وصحف
مكرّمة ربوبية وزبر نازلة من سماء الأحدية، وكلّ مرتبة من مراتبها ودرجة من
درجاتها من السلسلتين الطولية والعرضية، آيات مقروّة على آذان قلوب الموقنين الذين
خلصت قلوبهم عن كدورة عالم الهيولى وغبارها وانتبهوا عن نومتها، متلوّة على الذين
انبعثوا من قبر عالم الطبع، وتخلصوا من سجن المادة الظلمانية وقيودها» (8).
الوجود كتب إلهية تطوي سورا وآيات، وله
مراتب، وهو يتلى تلاوة نفسية قلبية. هذه الدلالات نلمسها بأجمعها في نص آخر يسجّل
فيه الإمام : «إنّ عوالم الوجود وإقليم الكون من الغيب والشهود كتاب وآيات وكلام وكلمات،
وله أبواب مبوّبة، وفصول مفصّلة، ومفاتيح يفتتح بها الأبواب ومخاتيم يختتم بها
الكتاب.
ولكلّ مفتاح أبواب، ولكلّ باب فصول ، ولكلّ
فصل آيات ، ولكلّ آية كلمات، ولكلّ كلمة حروف، ولكلّ حرف زبر وبيّنات». ثمّ يضيف
مواصلا بعد سوق عدد من المقاربات بين الوجود والإنسان، بما نصّه : «وبين فاتحة
الكتاب [التكويني] وخاتمته سور وآيات وأبواب وفصول. فإن اعتبر الوجود المطلق والتصنيف
الإلهي المنسّق بمراتبه ومنازله كتابا واحدا ، يكون كلّ عالم من العوالم الكلية
بابا وجزء من أبوابه وأجزائه، وكلّ عالم من العوالم الجزئية سورة وفصلا، وكلّ مرتبة
من مراتب كلّ عالم أو كلّ جزء من أجزائه آية وكلمة، وكأنّ قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم : 20] إلى آخر الآيات
راجع إلى هذا الاعتبار. وإن اعتبرت سلسلة الوجود كتبا متعدّدة وتصانيف متكثّرة
يكون كلّ عالم كتابا مستقلا، له أبواب وآيات وكلمات باعتبار المراتب والأنواع والأفراد،
وكان قوله تعالى : {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام : 59] بحسب هذا
الاعتبار.
وإن جمعنا بين الاعتبارين يكون الوجود المطلق
كتابا له مجلّدات ، كلّ جلد له أبواب وفصول وآيات بيّنات» (9).
يتكامل هذا التصوّر الوجودي الذي يذهب إلى
أنّ الكون قرآن تكويني ؛ يتكامل عبر ضلعين آخرين يفيد الأوّل أنّ الإنسان على صغره
هو كون جامع، على حين يفيد الثاني بأنّه قرآن مطو. عن الضلع الأوّل نقرأ للإمام
قوله : «اعلم أنّ
الإنسان هو الكون الجامع لجميع المراتب العقلية والمثالية والحسية ، منطو فيه
العوالم الغيبية والشهادية» (10). ثمّ يستشهد بهذا البيت من الشعر المنسوب،
إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام :
أ تزعم أنّك جرم
صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
يعقّب على هذا المعنى بقوله : «فهو مع الملك
ملك، ومع الملكوت ملكوت، ومع الجبروت جبروت». ثمّ ينعطف بعدئذ للاستدلال بكلام
مروي عن الإمامين علي بن أبي طالب وجعفر الصادق عليهما السّلام فيه : «اعلم أنّ
الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي
الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صورة العالمين، وهي المختصر من اللوح المحفوظ،
وهي الشاهد على كلّ غائب ، وهي الطريق المستقيم إلى كلّ خير، والصراط الممدود بين
الجنة والنار» (11).
إمعانا في تركيز هذا المعنى الذي يفيد توازي
الإنسان مع الوجود وأنّه الجامع للصور الكونية بأجمعها ينقل عن عبد الرزاق
الكاشاني، قوله : «الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود» (12).
الوجود كلّه وبمداه الأقصى الذي يضم عالم
الإمكان وما فيه هو كلمات اللّه المبثوثة في العالم والإنسان والقرآن، وهذه
بأجمعها آيات وتجليات ومظاهر لأسماء اللّه، والكلّ من عند اللّه ولا شيء غير
اللّه سبحانه. يقتبس الإمام النص التالي عن صدر الدين الشيرازي : «إنّ هذا القرآن
انزل من الحقّ إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب» ليعقّب عليه بما
يفيد أنّ الكتاب التكويني (الوجود) والقرآن الإلهي الناطق في ذروته العليا التي
يمثلها الإنسان الكامل، هو أيضا نازل عن اللّه سواء بسواء مع القرآن : «و أنا أقول
: إنّ الكتاب التكويني الإلهي [الوجود] والقرآن الناطق الربّاني [الإنسان الكامل]
أيضا نازل من عالم الغيب والخزينة المكنونة الإلهية مع سبعين ألف حجاب لحمل هذا
الكتاب التدويني الإلهي [القرآن الكريم] وخلاص النفوس المنكوسة المسجونة عن سجن
الطبيعة وجهنامها ... فهذا الكتاب التكويني الإلهي وأولياؤه الذين كلّهم كتب
سمائية نازلون من لدن حكيم عليم، وحاملون للقرآن التدويني ، ولم يكن أحد حاملا له
بظاهره وباطنه إلّا هؤلاء الأولياء المرضيين» (13).
انطلاقا من هذا التوازي الوجودي وتأسيسا
عليه تواجهنا كثافة ملحوظة في نصوص الإمام تتحدّث عن التطابق بين الوجود والإنسان
والقرآن، من ذلك مثلا ما يذكره عن القرآن والإنسان والعالم : «اعلم أنّه كما أنّ
للكتاب التدويني الإلهي بطونا سبعة باعتبار وسبعين بطنا بوجه، لا يعلمها إلّا
اللّه والراسخون في العلم ولا يمسّها إلّا المطهّرون من الأحداث المعنوية والأخلاق
الرذيلة السيّئة، والمتحلّون بالفضائل العلمية والعملية ... كذلك الكتب التكوينية
الإلهية الأنفسية [الإنسان] والآفاقية [العالم] حذوا بالحذو ونعلا بالنعل، فإنّ
لها بطونا سبعة أو سبعين» (14).
في نص آخر تظهر المحاكاة واضحة بين القرآن والإنسان،
إذ نقرأ في وصف القرآن «القرآن سرّ، سرّ السرّ، سرّ مستسرّ بالسرّ، سرّ مقنّع
بالسرّ، ينبغي أن يتنزّل ، أن يهبط، لكي يصل إلى هذه المراتب النازلة ثمّ ينبغي أن
يتنزّل أيضا [من مقام قلب النبي] ليصير إلى الموضع الذي يفهمه به الآخرون» (15).
وعن الإنسان : «كذلك الإنسان ، الإنسان
أيضا سرّ، وهو سرّ السرّ أيضا. ما نراه من الإنسان هو بعد ظاهري وحسب، هو البعد
الحيواني. ما نراه هو هذا الحيوان وحسب ولا شيء غيره، حيوان أسوأ من بقية
الحيوانات. لكن حيوان له هذه الخاصية : بمقدوره بلوغ الإنسانية، وبلوغ مراتب
الكمال والكمال المطلق ... تلك المراتب هي سرّ بأجمعها، وهذا هو الظاهر [الذي يبدو
أمامنا]».
بعد هذه الموازاة بين القرآن والإنسان ينعطف
النص مباشرة إلى الضلع الثالث المتمثل بالعالم، ليخضع بدوره إلى المقاربة ذاتها، وإلى
العلاقة التوازويّة نفسها، حيث يقول : «إنّ عالم الطبيعة هذا هو من السرّ أيضا،
فثمّ هاهنا مسألة هي أنّنا لا نستطيع أن ندرك شيئا من الجواهر، وكلّ ما ندركه من
الأجسام هو الأعراض.
فأعيننا ترى هذا اللون وهذه الظواهر، وآذاننا
تسمع الصوت، وذائقتنا تدرك الطعم، وأيدينا تلمس الظاهر وحسب؛ وهذه أعراض بأجمعها،
فأين الجسم؟ ... وعند ما يريد الإنسان أن يمارس التعريف فهو يفعل ذلك بالأوصاف والأعراض،
فإذن أين هو الجسم نفسه؟ الجسم أيضا سرّ، ظلّ لذلك السرّ، ظلّ لتلك الأحدية التي
نعرف أسماءها وصفاتها، وإلّا فالعالم نفسه غيب، الظاهر منه أسماؤه وصفاته» (16).
هذه القاعدة التي تتمثّل باندراج كلّ ممكن
من الممكنات في نطاق عالمي الغيب والشهادة ، بحيث ينطوي كلّ موجود إمكاني على
المرتبتين معا، لا تقتصر على الطبيعة وحدها بل تسري في كلّ شيء : «ربّما كانت
إحدى مراتب (الغيب) و(الشهادة) هو هذا المعنى الذي يفيد أنّ عالم الطبيعة نفسه
يتألّف من غيب وشهادة ... وهذا السرّ موجود في كلّ شيء، بمعنى أنّ الغيب والشهادة
يسريان في كلّ مكان» (17).
___________________
(1)-
تفسير سورة حمد : 165.
(2)- شرح دعاء السحر : 59.
(3)- تفسير سورة حمد : 139- 140.
(4)- صحيفه امام 17 : 431.
(5)- نفس المصدر.
(6)- يميّز البحث العلمي بين ضربين من
النزول، هما النزول على نحو التجافي والنزول على نحو التجلّي. في الأوّل ينظر إلى
العلوّ والسفل على نحو مكاني ، فهذا الكتاب يوجد في مكان عال الآن، عند ما يأخذه
أحدهم ويضعه في مكان دان ، يقال فيه أنّه كان عاليا وصار الآن سافلا. من أبرز
خصائص النزول على نحو التجافي أنّ الشيء يكون في مكان ولا يكون في آخر. على هذا
جرت الآية في قوله سبحانه : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة : 16] ، فعند ما ينهض
هؤلاء لا تبقى جنوبهم في المضجع بل تتجافى عنه وتتباعد.
أمّا الضرب الآخر من النزول (على نحو
التجلّي) فأبرز خصوصية فيه أنّ الشيء إذا تنزّل لا يفقد وجوده في العلوّ ولا يفقد
مرتبته الحضورية فيه، على ما يومئ إليه القرآن بقوله : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ}
[الأعراف : 143] . يمكن تقريب الفارق بمثال من النشاط العلمي للإنسان، فإذا ما
كانت عند الإنسان فكرة في ذهنه، ثمّ بادر إلى كتابتها على الورق، فستتنزّل هذه
الفكرة من مرتبة العقل إلى مرتبة الورق ، لكن من دون أن تفقد الفكرة وجودها في
الذهن، فهي مع تنزّلها إلى مرتبة التدوين على الورق تحافظ على وجودها في الذهن.
وكذلك تنزّل القرآن الكريم، فهو على نحو
التجلّي ، إذ أنّ وجوده الكتبي ما بين الدفتين، ليس بديلا عن وجوده في المراتب
الأخرى.
(7)- تفسير سورة حمد : 165.
(8)- شرح دعاء السحر : 145.
(9)- شرح دعاء السحر : 51 و53.
(10)- نفس المصدر : 7.
(11)- نفس المصدر.
(12)- نفس المصدر : 8.
(13)- نفس المصدر : 57- 58.
(14)- نفس المصدر : 59.
(15)- تفسير سورة حمد : 165- 166.
(16)- نفس المصدر : 166.
(17)- نفس المصدر : 166- 167.