أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-11-2016
2453
التاريخ: 2023-12-09
928
التاريخ: 26-8-2018
2060
التاريخ: 21-11-2019
2121
|
العلاقات التجارية والدبلوماسية:
لم يكن العرب قبل الإسلام في عزلة عما حولهم: فكريًّا او اجتماعيًّا، أو اقتصاديًّا، وليس ثمة داعٍ لها، فلم يؤثر تاريخي، أنه ضرب عليهم سور يعوق من حركات الدخول في الجزيرة العربية أو الخروج منها، وليست الجزيرة العربية بالأرض الخصبة، التي تكفل لقاطنيها وفرة في العيش، وخصوبة في الرزق حتى يكره العربي في حبها السعي عن تحصيل ضرورات عيشه، وإنما كانت طبيعتها قاسية جافة، وأرضها جرداء مقفرة، ترغم أهلها أن يضربوا بإبلهم في أفناء الأرض شهورًا؛ ليصيبوا منها أقواتهم، وضرورات عيشهم، ونرى في القرآن الكريم تسجيلًا لهذه الرحلات في سورة كاملة -سورة قريش- قال تعالى:
{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .
هذا من ناحية حركات الخروج منها.
أما من ناحية حركات دخول الناس فيها -أي الجزيرة العربية- فله من الدواعي العدد الكثير:
ففيها الكعبة: وهي من البيوت السبعة القديمة مما يجذب إليها الرائي أو السائح للتعرف عليها، وهناك روايات تاريخية تذكر أن الفرس قصدوها كثيرا(1).
كما دخلها جيش أبرهة الحبشي(2)، ورحل إليها قديمًا نبي الله إبراهيم، وأقام ابنه إسماعيل فيها وجددا معا بناء الكعبة وأسسا حولها دين التوحيد.
يذكر القرآن ذلك فيقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وهي وإن كانت من حيث طبيعة جوها لا يطمع فيها طامع، تعد بمعزل عن أطماع السياسيين، وأصبحت بذلك كأنها منطقة حيادية، ولهذا السبب -وهو عزلتها- رغب فيها اللاجئون السياسيون الذين وقعوا فريسة للاضطهاد السياسي، أو الديني، فكانوا يفزعون إليها؛ لأنهم يجدون فيها الملجأ الآمن المطمئن، وكذلك جاليات اليهود، والنفر من النصارى، الذين ما دخلوا تلك البلاد إلا فرارا من حملات الاضطهاد الروماني التي وقعت عليهم.
لذلك لم يكن بعيدا علينا أن نجد فيها -كما ذكر القرآن- بعضا من اليهود والنصارى، والمجوس، والصابئين، والذين أشركوا، ونجد فيها: الأصنام، والأوثان، ومصطلحات دينية غير عربية مثل: الجبت، والطاغوت.
ومعلوم أن اليهودية لم تنشأ فيها، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ولا الصابئة، ولكنها وفدت إليها تحت قسوة الاضطهاد السياسي أو الديني.
كل هذا وغيره يعطينا أن العربي لم يكن في عزلة عما حوله، سواء من ناحيته؛ لأنه خرج منها متاجرا، أو من غيره فلم يكن في عزلة عنها؛ إذ وجدنا من يمم وجهه شطرها.
ومن العوامل الأساسية في التوسع ودعم النفوذ الروماني وتوطيده في الشرق أمور كان قوامها:
- الدبلوماسية.
- والتجارة.
ولكنها كانت مؤيدة بقوات حربية عظيمة، ونشاط حربي مضنٍ، وفي مصر وفي بلاد العرب وشمال إفريقية اتبعت هذه السياسة بعينها.
فالبلاد العربية جرى فيها حركات حربية وتجارية ودبلوماسية.
ويرى م - رستوفتزف: أن الدبلوماسية والتجارة هما من أسس التوسع الروماني في بلاد العرب. وهذا معناه -في نظرنا- أن العربي كان له اعتباره الفكري منذ القدم.
ويقول: ولم تكلل حملة إبليوس جالوس على بلاد العرب بالنجاح التام، ولكنها على أي حال ضمنت للتجار الرومان الحصول على مرافئ آمنة وهم في رحلتهم من مصر إلى موانئ الهند.
ويقول: وكان التجار من الأعراب يقومون بدور الوسيط بين التجار المصريين وزملائهم في الهند، وكانت هذه التجارة إلى حد كبير تقوم على الكماليات(3).
وليس الأمر بحثا في دوافع الخروج، أو الدخول فيها فحسب، بل يرى علماء التاريخ: أن شبه الجزيرة العربية هي أصل الهجرات السامية لتلك المنطقة(4).
وحجتهم في ذلك أنها بلاد صحراوية، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، لذلك كان السكان عندما يزيد عددهم عن قدرة الأرض المأهولة الضيقة عن إعالتهم يميلون إلى البحث عن مجال حيوي، فيجدونه فقط في الأراضي الشمالية الخصبة التي تجاورهم.
ويؤدي ذلك إلى الحجة الاقتصادية التي تقول: إن أهل الجزيرة الرحل كانوا دوما يعيشون على ما يقرب من الجوع، وإن الهلال الخصيب كان أقرب مكان يزودهم بما يحتاجون إليه.
يقول سبتينومو سكاني(5):
"فالساميون يظهرون في أقدم المصادر على أنهم بدو صحراء العرب يدفعون بأنفسهم دائما إلى الخارج، ويتغلغلون في المناطق المحيطة، ويوطدون أقدامهم فيها فهناك:
- الأكاديون الذين نراهم في أرض الرافدين في الألف الثالثة قبل الميلاد.
- ثم الأموريون الذين أسسوا في بداية الألف الثانية سلسلة من الدول في فلسطين وسورية وأرض الرافدين.
- ثم العبريون والآراميون الذين جاءوا بعد ذلك بقرون قليلة؛ ليسدوا الفراغ التاريخي الذي خلفه انسحاب "شعوب البحر" في فلسطين وسورية.
ثم العرب الذين خرجوا من صحرائهم بعد ذلك بعدة قرون في حركة فتح عظيمة نقلتهم إلى أقصى البقاع، وهؤلاء جميعًا ليسوا سوى أسماء مختارة برزت في الحركة المستمرة التي كانت في كثير من الأحيان خفية مجهولة الأبطال، والتي وجهت ودفعت سير الأحداث في الشرق الأدنى.
ثم يقول: ولم يكن بد من أن يتنقل البدو ومعهم آثار أحوالهم الأولى، ومن هنا كان بحثنا في النظام الاجتماعي القديم لصحراء العرب عن الخطوط التقريبية.
وحاولنا أن نقوِّم على وجه التقريب أيضًا الصور السياسية للشعوب المختلفة في معتقداتها وطقوسها وفي قوانينها بل في فنها أيضًا، وليس التراث البدوي لتلك الشعوب كافيا وحده لتغيير ذلك الطور وهو العنصر الذي وصفناه بأنه سام.
ويضيف نتنج قوله(6):
"المحاولات الناضجة في القرن التاسع عشر في فك رموز الكتابات التي تعود إلى العصر السابق على ظهور المسيحية كشفت عن تشابه بين لغات البابليين والأشوريين والآراميين والكلدانيين والفينيقيين والعموريين والعبرانيين والعرب والأحباش، وهو تشابه لافت للنظر بحيث يوحي بأن هؤلاء الناس جميعا لا بد أنهم ينبثقون من الأصول نفسها".
ومن هذا ثبت أن أسلافهم المشتركين كانوا العرب الأصليين -أو الساميين من قبيلة سام- إذ إن اسم "عربي" هو التعبير السامي عن ساكن الصحراء- وأن أول استيطان للعرب على نطاق شامل إنما كان في اليمن على عهد مملكة مأرب وهي الجيل الخامس من نسل سام.
وقد تأيدت الفروض بشواهد تاريخية منها:
- القرابة اللغوية بين الشعوب التي تتكلم اللغات السامية.
- عقائدهم الدينية.
- مؤسساتهم الاجتماعية.
هذا فضلًا عن خصائص أخرى نضرب صفحًا عنها.
وهذا التشابه جعل من السهل استنتاج: أن الأسلاف الذين تكلموا البابلية والأشورية والأمورية، والكنعانية، والعبرية، والآرامية، والعربية والحبشية، كانوا غالبا يشكلون جماعة واحدة في الأصل. لعوامل: سياسية واقتصادية ومع التاريخ، حصل بينهم خلافات، وكان من آخر الهجرات القديمة حوالي 500ق. م. هجرة الأنباط إلى شمال شرقي جزيرة سيناء؛ حيث كانت عاصمتهم البتراء. هذا عدا هجرات الفتح الإسلامي، وهذه الهجرات الأخيرة هي الحجة التاريخية التي يؤيد بها أصحابها نظريتهم التي تجعل من شبه جزيرة العرب المواطن الأصلي للساميين، ويضيفون إلى ذلك حجة لغوية مؤداها: أن اللغة العربية قد احتفظت في نواحٍ كثيرة بأشد تشابه باللغة السامية الأم التي كانت جميع اللغات السامية من لهجاتها.
وكذلك لديهم حجة سيكولوجية: ترى أن سكان شبه جزيرة العرب وبخاصة سكان البادية قد احتفظوا بأنقى الصفات السامية.
ومما نحب أن نشير إليه أن عقائدهم الدينية كانت تقوم على عبادة الطبيعة في شكلها البدائي، وكانت هذه العبادة شائعة بين الرحل من بادية الشام وبلاد العرب، وكان يوجد بجانب إله القبيلة إله أعظم يطلق عليه: هبل أو بعل أو اللات.
وكانت اللات أو هبل الآلهة الرئيسية في الجزيرة العربية.
فدعوى أن العرب حجزهم عن العالم القديم وثقافته عُزْلتهم عنه -غير واردة، ولا تثبت أمام التاريخ الحديث الذي أصبح يتكلم عن العرب ودورهم في التاريخ القديم، من خلال علوم الحفائر والنقوش التاريخية القديمة، ومما ينبغي أن يقال: إن ما يستكشفونه من حفائر تاريخية في تلك المنطقة، يعطي ما أشار إليه القرآن الكريم، وهو عدم عزلتهم، وما تعاقب في المنطقة العربية على حقب متتالية في التاريخ من مراكز حضارية عربية يشهد بذلك فضلا عن المركز الديني الثابت وتلك المراكز هي:
- مكة: عاصمة دينية قديمة، تقع في وسط الحجاز.
- البتراء: عاصمة دولة تجارية عربية، ورئيسها عربي، وكانت في الجنوب.
- تدمر: عاصمة تجارية عربية، ورئيسها عربي في الشمال.
- بصرى: عاصمة دولة الغساسنة، وهي عاصمة تجارية عربية ورئيسها عربي، وتقع بين "البتراء" و"تدمر".
ويجمع بين هذه الدول الثلاث بعض المظاهر العامة وفق تاريخها المتعاقب من حيث:
- أصلها: الذي يرجع إلى تحضير القبائل البدوية أو المتنقلة.
- وازدهارها: الذي يرجع إلى تجارة المرور.
- وقد تحالفت كل منها مع إحدى الدولتين العظيمتين لبعض الوقت باعتبارها دولة حاجزة بين تينك الدولتين العالميتين وهما: فارس والروم، وتلقت المساعدات منهما.
- ونهاية كل منها كانت على يد إحدى الدولتين.
فروما قضت على الدولتين: الدولة النبطية، والدولة التدمرية "الزباء"، وقضت فارس وبيزنطة على دولة الغساسنة.
وأنها جميعا كانت وسائل جيدة للتزاوج بين حضارات الغرب: رومة، واليونان، وبين حضارات الشرق: فارس والهند وبيزنطة، فنقلت من الهند إلى الغرب ونقلت من الهلينية، وكانت مع مرفئها التجاري عاملا مهما في ظهور التراث الهلينستي، وظهرت مدارس اشتغلت بالفكر الشرقي والهليني في ربوع تلك الدول منها:
- مدرسة أنطاكية.
- مدرسة نصيبين.
- مدرسة الرها.
- المدائن.
- جند يسابور.
فتلك المدارس: كانت روافد صالحة لنشر الهيلنستية في الشرق والغرب، ونشر تراث الشرق والغرب أيضا في المغرب الروماني، وسنعرض لتلك المدارس ووظائفها:
1- فالبتراء:
من الدويلات المهمة التي قامت في العصر السلوقي وأهلها من الأنباط "من العرب المتكلمين باللغة الآرامية"، وازدهرت طوال ثلاثة قرون من القرن الثاني ق. م. إلى القرن الثاني الميلادي، وفي القرن نفسه ضمها الامبراطور الروماني تراجان(7) إلى الامبراطورية، وظلت إلى أواخر القرن الرابع وهي المدينة الرئيسية على طريق القوافل تربط بين جنوب الجزيرة الذي ينتج التوابل ومراكز البيع في الشمال.
وكانت تسيطر على الطرق المؤدية إلى مرفأ غزة في الغرب وإلى بصرى ودمشق في الشمال وإلى آيلة "إيلات" على البحر الأحمر وإلى الخليج الفارسي عبر الصحراء.
وكانت تستبدل فيها الجمال النشطة بجمال القوافل.
واستطاع الحارث الثالث العربي النبطي(8): أن يدخل مملكته ضمن المحور التام للحضارة الهلينستية: وكسب بذلك لقب محب الهلينية.
وبدأت البتراء -وهي جزء من الولاية الغربية الرومانية- تتخذ مظاهر هلينستية نموذجية. يقول فيليب حتى: كانت حضارة الأنباط عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، سامية في ديانتها، يونانية ورومانية في فنها وهندستها المعمارية، وهي لذلك حضارة مركبة: سطحية في مظهرها الهليني ولكنها عربية في أساسها وبقيت كذلك.
2- تدمر:
وأما تدمر "زنوبيا" فيرجع بناؤها إلى نبي الله سليمان، وكانت تقوم بين هاتين الإمبراطوريتين العالميتين، وساعدها موقعها هذا على عدة ميزات؛ منها:
- عدم تمكن الفرق الرومانية والفرق الفارسية من سهولة الاستيلاء عليها.
- استفاد تجارها من وضعها الفريد كمحطة رئيسية لنزول القوافل عند نقطة التقاء الطرق التي تعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.
- استغل رجال السياسة بذكاء موقعها الاستراتيجي من حيث إنها بين دولتين كبيرتين متنافستين، فكانوا يقفون مرة بجانب رومة، ومرة بجانب الفرس، مما جعلهم يحافظون على ميزان القوة ويستفيدون من الحياد.
وحصل الزعماء التدمريون من شيوخ القبائل في الصحراء على إذن بمرور قوافلهم بسلامة، وكانت النتيجة أن أصبحت "تدمر" من أكثر المدن ثروة في الشرق القديم.
وأصبح رئيسها "أذينة زوج زنوبيا" يحوز لقب "زعيم الشرق" ونائبا للإمبراطور غالينوس الروماني؛ غالينوس في الشرق، وذلك بعد أن خاض معركة ضد الغرب؛ ليخلص "فاليران" الإمبراطور الروماني، الأسير لدى الفرس، فهزم الفرس، ولم يستطع تخليص الإمبراطور الأسير، ثم اغتيل في ظروف غامضة.
تولت زنوبيا أو الزباء من بعده، وكانت طَموحة، فوسعت من دولتها حتى أصبحت تشمل سورية، وجزءًا من أسيا الصغرى، وشمال الجزيرة العربية، ويقول المؤرخون: كادت تكون إمبراطورية، ورعت الثقافة اليونانية وجمعت تاريخا للشرق.
يقول فيليب حتى: وكانت حضارة تدمر: حضارة غريبة؛ فهي مزيج من عناصر سورية ويونانية وفارسية، ولا شك أن السكان الأصليين كانوا قبائل عربية وبقيت أكثرية اللسان عربية.
ويصف م. رستوفثزف قوة دولة تدمر فيقول(9):
وكانت الحال في المشرق أسوأ منها في المغرب فقد غزا الفرس سورية وهددوا آسية الصغرى فسار فاليران لصدهم، وبالقرب من أديسا "الرها" هزمه هزيمة نكراء ووقع في أيدي أعدائه "260م"، ونجت آسية الصغرى وسورية من قبضة فارس، وأنقذ الأولى "آسية الصغرى" كاليسنوس -أحد قواد الرومان- الذي طرد الفرس وأنقذ الأخرى: "سورية" أوديناثوس شيخ تدمر الذي أنزل الهزيمة بالغزاة عندما حاولوا عبور الفرات في عودتهم إلى فارس.
لذلك اعترف جالينوس بأوديناثوس الذي استمر يحكم سورية وجزاء من آسية الصغرى، وبقي يحمل لقب الإمبراطور حتى قتل 226-267م، فخلفه على العرش ابنه فابالاثوس وقد قامت أمه زنوبيا بأعباء الحكم نيابة عنه وكانت إمبراطورية تدمر في الشرق أكثر رخاء وأشد تماسكا تحت حكم زنوبيا وابنها ابلاثوس وقد لاحت بالتدرج لزنوبيا فكرة إنشاء إمبراطورية رومانية شرقية مستقلة يحكمها أغسطس مستقل.
ولكن أوريليانوس -الذي تولى زمام الأمور بعد كلوديوس- الذي لقي حتفه ضحية طاعون عصف مرة ثانية بصفوف الرومان سنة 270م- وبعد أن هزم القوط سار إلى الملكة زنوبيا واستطاع بعد حملة اكتنفتها الصعاب من كل جانب أن يعيد سيادة رومة على الشرق وأن يفتح مصر مرة ثانية وأن يستولي على مدينة تدمر ويأسر حكام الإمبراطورية التدمرية على الرغم من المدد الذي جاءهم من الفرس.
3- دولة الغساسنة:
ودولة الغساسنة: "الحارث بن جبلة بن الأبهم" التي قامت في خلال القرن الرابع الميلاد إلى أن جاء الإسلام.
منح الحارث من قبل "بوستنيان" لقب "فيلارك" أي رئيس قبيلة، واستطاع أن يهزم المناذرة في معركة قنسرين التي تعرف بـ "يوم حليمة".
وقام الحارث في عام 563 بزيارة بلاط يوستنيان حيث ترك تأثيرا عميقا على أفراد حاشيته كشيخ بدوي مهيب.
ويقول المؤرخون: وكان موظفو البلاط بعد سنوات من هذا الحادث حين يريدون أن يهدئوا الأمير المعتوه "يوستين" وهو ابن أخ يوستنيان ووريثه يتفوهون بالقول:
اسكت: وإلا استدعينا الحارث.
وحصل الحارث أثناء وجود بالقسطنطينية على تعيين يعقوب البرادعي(10) أسقفًا على الكنيسة فكان يعقوب من أتباع نسطور ومذهبه القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح.
وأصبحت بصرى -التي بنيت كاتدرائيتها في عام 512- العاصمة الدينية في المنطقة، ووصلت المملكة حينذاك ذروة اتساعها؛ إذ كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر وتشتمل على البقاع، والصفا، وحران.
4- دويلة المناذرة:
وقامت في بداية القرن الثلاث الميلادي في البادية المحاذية للفرات في منطقة الكوفة دويلة عربية مهمة هي مملكة الحيرة، وأصل أهلها وملوكها من عرب اليمن، عرفوا بالمناذرة واللخميين، وتقع الحيرة، عاصمتها على بعد نحو 3 أميال جنوب الكوفة، وكان أهلها نصارى على المذهب النسطوري وكان ملوكها موالين أو محالفين لملوك الدولة الساسانية، ومن ملوكها الأوائل امرؤ القيس الأول "القرن الرابع الميلادي"، والنعمان الأول ابن امرئ القيس، والمنذر الأول "418-462" ابن النعمان، وقد عظم في زمنه شأن الحيرة، والمنذر الثاني "505-554" وهو الذي سماه العرب "ابن ماء السماء"، وأعقبه ابنه المسمى: عمرو بن هند "554-569" الذي خلده شعراء العرب من الجاهلية مثل: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وانتهى حكم السلالة في حكم النعمان الثالث الذي يكنى "أبو قابوس" "580-602"، صاحب النابغة الذبياني، حيث صار الملوك الساسانيون
يتدخلون في شئونها وأخيرا انحاز عرب الحيرة إلى خالد بن الوليد في فتحه العراق "633"(11).
وقد بذلت داخل الصحراء نفسها محاولات للتنظيم السياسي كدولة كندة التي وحدت تحت حكمها عدة قبائل من وسط الجزيرة.
ولكن ظل البدو في جملتهم أحرارا من مثل هذه التنظيمات السياسية فلم يطلبوا وحدة فوق قرابة الدم التي وحدت بينهم في قبائل، وإنما كانوا يجوبون بلادهم الرملية الشاسعة مستقلين بعضهم عن بعض، وقد حكت لنا الرواية الإسلامية ذكريات تنافسهم وتصارعهم، "فأيام العرب" مملوءة بحروب وثارات نشأت في الأصل عن نزاع على الماشية أو المراعي، أو عيون الماء، وهنا تبرز شخصية البدوي حية نابضة بصفات الشجاعة والكبرياء والإصرار والحيلة وهي صفات كان لها دور لا يستهان به في النظام العظيم الذي انبثقت عنه أحداث الجزيرة العربية فيما بعد، وقد قامت مدن في واحات الحجاز خاصة، وكان طريق القوافل المتجه إلى الشمال يسيطر عليه مركزان يغلب عليهما طابع التجارة هما: يثرب التي سميت المدينة فيما بعد، ومكة إلى الجنوب منها، وكانت تحكم مكة حكومة قلة قواما التجار.
وكانت تفد عليها في أيام الأسواق والمواسم الدينية أفواج العرب من جميع أنحاء الجزيرة، فلم يكن في وسط الجزيرة رقعة تضارع مكة مركزًا لاجتماع القبائل واختلافها بعضها ببعض(12).
من هنا يتبين لنا أن المنطقة العربية تعرضت لتيارات؛ من الرومان تارة، والفرس أخرى، وبيزنطة الثالثة الأخيرة، وفي هذا ما ينفي القول القائل: إن العرب كانوا في عزلة عن التاريخ، ويثبت لنا: أن المنطقة شهدت حضارات تعاقبت عليها، وشاركت في أحداثها السياسية، والاقتصادية ومظاهرها الاجتماعية، أيضا؛ غير أن هذه التأثيرات بتياراتها لم تستطع أن تلغي شخصيتها العربية، إنما كانت طلاء ظاهرا لم يلبث أن انجلى عنها؛ أما لماذا انجلى عنها؟ فسوف نعرض له.
وبعدما كانوا يرون أن العرب حجزهم التاريخ عن حضارته، أصبحوا يرون من خلال ما استجد أمامهم من وثائق تاريخية وصلوا إليها عن طريق الحفائر والآثار أن المنطقة تعرضت للتيارات المختلفة: من غزو يوناني، إلى روماني، إلى فارسي، إلى بيزنطي، وبالتالي "أصبحت قادرة على العطاء، وأصبح الإسلام -في نظرهم- هو ثمرة هذا العطاء"، وتلك قصة سنعرض لها فيما بعد.
وأصبح الإسلام يتكون -في نظره- من عدة تراثات:
- التراث الهلنيسني: أي التراث الشرقي الغربي الذي ألفت بينه مدرسة الإسكندرية حاضرة البحر المتوسط.
- التراث الديني: العبري: اليهودي والمسيحي.
_________
(1) يراجع المسعودي -مروج الذهب "1: 188" قال: وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به تعظيما له ولجدها إبراهيم.
(2) وكتب غير واحد من اليونانيين المؤرخين: أن أبرهة زحف على مكة في مركب يجرها أربعة من الفيلة وأن جيشه لم يعد منه إلا القليل لكثرة من مات منه بالوباء. "أبو الأنبياء: العقاد"، كما لجأ إليها النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة وكلا المذهبين اضطهدا سياسيا، ودينيا.
(3) تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعية والاقتصادية، صفحات 92، 145.
(4) العرب واليهود والتاريخ "1: 189" د/ أحمد سوسه، وتاريخ سورية: فيليب حتى جـ1 وقصة الحضارة "2: 264".
(5) يراجع كتابه في الحضارة السامية ص225.
(6) ترجمة: دكتور السيد يعقوب بكر.
مراجعة: دكتور محمد القصاص.
ص5 العرب نتنج ترجمة د. راشد البراوي. الأنجلو.
(7) يراجع: مقدمة تاريخ الحضارات القديمة: طه باقر ص 598 منشورات دار البيان.
(8) كان المؤرخون القدامى يرون أن العرب غير الأنباط فترى المسعودي في كتابه مروج الذهب "1: 182" يقول: وقد تنازع الناس في ملوك الطوائف: أمن الفرس كانوا أم من النبط أم من العرب؟ غير أن هذا الخلاف يشير إلى أن هناك أصلا لهذا الاختلاف.
يقول فيليب حتى: وقد أصاب "سترابو" و"بوسيفوس" و"ديوروس" بإطلاق اسم العرب على الأنباط؛ إذ إن أسماءهم الشخصية وأسماء آلهتهم وأثر التحريف العربي في كتاباتهم الآرامية لا تدع مجالا للشك بأن لغتهم الوطنية كانت لهجة عربية شمالية وظهر في الكتابات الأثرية أسماء مثل: علي، حبيب، سعيد ... إلخ.
وبلغ من كثرة استعمال كلمات عربية صرفة في إحدى الكتابات الأثرية المتأخرة "268م" أن النص كل يكاد يكون عربيًّا، راجع: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ص "1: 426، 327" ترجمة د/ جورج حدَّاد وعبد الكريم رافق، ومراجعة د/ جبرائيل جبور. دار الثقافة بيروت.
(9) تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 527".
(10) وكان الحارث مسيحيا يعقوبيا، وقد دافع عن مذهبه بحماسة وتوفيق عظيمين في وقت كان التعلق بأهداب هذا مجازفة خطيرة، كما كان لا يدخر وسعا في الدفاع عن أصحاب الطبيعة الواحدة وتحريرهم من الاضطهاد أن يقع عليهم، وبفضله توطدت دعائم الكنسية اليعقوبية بعد أن كانت مهددة بالخطر. نولدكه: أمراء غسان ص14 ترجمة دابندي جوزي ود قسطنطين زريق.
(11) مقدمة من تاريخ الحضارات القديمة، طه باقر ص611 منشورات دار البيان.
(12) يراجع الحضارات السامية القديمة ص204.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|