أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
5716
التاريخ: 15-2-2017
3922
التاريخ: 10-5-2017
7271
التاريخ: 11-5-2017
7641
|
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 - 167].
{ومن الناس } من للتبعيض هاهنا أي بعض الناس {من يتخذ من دون الله أندادا } يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين وقيل رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال عن السدي وعلى هذا المعنى ما روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال هم أئمة الظلمة وأشياعهم وقوله {يحبونهم كحب الله } على هذا القول الأخير أدل لأنه يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع ولا تضر ويدل أيضا عليه قوله إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ومعنى يحبونهم يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم أو الانقياد لهم أو جميع ذلك كحب الله فيه ثلاثة أقوال (أحدها) كحبكم الله أي كحب المؤمنين الله عن ابن عباس والحسن (والثاني) كحبهم الله يعني الذين اتخذوا الأنداد فيكون المعني به من يعرف الله من المشركين ويعبد معه الأوثان ويسوي بينهما في المحبة عن أبي علي وأبي مسلم (والثالث) {كحب الله } أي كالحب الواجب عليهم اللازم لهم لا الواقع .
{والذين آمنوا أشد حبا لله } يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء وحبهم أشد من وجوه (أحدها) إخلاصهم العبادة والتعظيم له والثناء عليه من الإشراك (وثانيها) أنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء وأنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير وقد أنعم عليهم بالكثير فيعبدونه عبادة الشاكرين ويرجون رحمته على يقين فلا بد أن يكون حبهم له أشد (وثالثها) أنهم يعلمون أن له الصفات العلى والأسماء الحسنى وأنه الحكيم الخبير الذي لا مثل له ولا نظير يملك النفع والضر والثواب والعقاب وإليه المرجع والم آب فهم أشد حبا لله بذلك ممن عبد الأوثان .
واختلف في معنى قوله {أشد حبا } فقيل أثبت وأدوم لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم عن ابن عباس وقيل لأن المؤمن يعبده بلا واسطة والمشرك يعبده بواسطة عن الحسن وقوله {ولو يرى الذين ظلموا } تقديره ولو يرى الظالمون أي يبصرون وقيل لو يعلم هؤلاء الظالمون {إذ يرون العذاب } والصحيح الأول كما تقدم بيانه هذا على قراءة من قرأ بالياء ومن قرأ بالتاء فمعناه ولو ترى يا محمد عن الحسن والخطاب له والمراد غيره وقيل معناه لو ترى أيها السامع أو أيها الإنسان الظالمين إذ يرون العذاب وقوله {أن القوة لله } فيه حذف أي لرأيت أن القوة لله {جميعا } فعلى هذا يكون متصلا بجواب لوومن قرأ بالياء فمعناه ولو يرى الظالمون أن القوة لله جميعا لرأوا مضرة فعلهم وسوء عاقبتهم .
ومعنى قوله {أن القوة لله جميعا } أن الله سبحانه قادر على أخذهم وعقوبتهم وفي هذا وعيد وإشارة إلى أن هؤلاء الجبابرة مع تعززهم إذا حشروا ذلوا وتخاذلوا وقد بينا الوجوه في فتح أن وكسرها فالمعنى تابع لها ودائر عليها وجواب لو محذوف على جميع الوجوه {وأن الله شديد العذاب } وصف العذاب بالشدة توسعا ومبالغة في الوصف فإن الشدة من صفات الأجسام .
وقوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد ذكر سوء حالهم في المعاد فقال سبحانه {إذ تبرأ الذين اتبعوا } وهم القادة والرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة والربيع وعطاء وقيل هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن عن السدي وقيل هم شياطين الجن والإنس والأظهر هو الأول {من الذين اتبعوا } أي من اتباع السفل {ورأوا } أي رأى التابعون والمتبوعون {العذاب } أي عاينوه حين دخلوا النار .
{وتقطعت بهم الأسباب } فيه وجوه (أحدها) الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها عن مجاهد وقتادة والربيع (والثاني) الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس (والثالث) العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس أيضا (والرابع) تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها عن ابن زيد والسدي (والخامس) تقطعت بهم أسباب النجاة عن أبي علي .
وظاهر الآية يحتمل الكل فينبغي أن يحمل على عمومه فكأنه قيل قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا وذلك نهاية في الإياس.
{وقال الذين اتبعوا } يعني الأتباع {لو أن لنا كرة } أي عودة إلى دار الدنيا وحال التكليف {فنتبرأ منهم } أي من القادة في الدنيا {كما تبرأوا منا } في الآخرة {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } (أحدها) أن المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها عن الربيع وابن زيد وهو اختيار الجبائي والبلخي (والثاني) المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها وضيعوها عن السدي (والثالث) ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره (والرابع) أن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه والآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم.
{وما هم بخارجين من النار } أي يخلدون فيها بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة وذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة وأكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار كابن عباس وغيره وفي هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة والمعصية لأن ليس في المعقول أن يتحسر الإنسان على ترك ما كان لا يمكنه الانفكاك عنه أو على فعل ما كان لا يمكنه الإتيان به أ لا ترى أنه لا يتحسر الإنسان على أنه لم يصعد السماء لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص462-466.
{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . أي ان بعض الناس يشركون باللَّه ، لأنهم قد جعلوا له نظراء في بعض خصائصه ، كالنفع والضرر . . وعن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال : الأنداد الذين اتخذوهم ، وأحبوهم كحب اللَّه هم أئمة الظلمة ، وأشياعهم .
وقيل : ان معنى حب اللَّه سبحانه هو حب الكمال : لأنه الكمال المطلق .
وقيل : بل هو العلم بعظمته وقدرته وحكمته . وقيل : الايمان بأنه المبدئ المعيد ، وان كل شيء في يده . . ونحن على الطريقة التي التزمناها من اختيار المعنى الملائم الواضح القريب إلى كل فهم ، وعلى هذا الأساس نقول : ان الذي يحب اللَّه هو الذي يخالف هواه ، ويطيع مولاه ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تعريف من يؤخذ الدين عنه ، وبكلمة : ان معنى حبك للَّه ان تترك ما تريد لما يريد ، كما ان معنى محبة الرسول (صلى الله عليه واله) العمل بسنته ، أما حب اللَّه لعبده فاجزال الثواب له ، وجاء في الحديث : (سأعطي الراية غدا إلى رجل – وهو علي بن أبي طالب - يحب اللَّه ورسوله ، ويحبه اللَّه ورسوله ) . أي ان عليا يطيع اللَّه ، واللَّه يجزل له الثواب ، والرسول يكرمه ويقدمه .
وبعد ، فان كل من يؤثر طاعة المخلوق على طاعة الخالق فقد اتخذ من دون اللَّه أندادا ، من حيث يريد ، أولا يريد .
{والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . لأنهم لا يشركون أحدا في طاعته ، والثقة به ، والتوكل عليه ، أما غير المؤمنين فيثقون بالعديد من الأنداد ، ويشركونهم مع اللَّه في الطاعة ، وطلب الخير ، ودفع الشر .
{ولَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}. أي لو علم المشركون الذين ظلموا أنفسهم ان لا سلطان في يوم الحق والفصل لأحد سوى اللَّه ، وانه وحده يستقل بعذاب العاصين ، وثواب الطائعين – لو علموا ذلك لأيقنوا ان الذي يستقل غدا في شؤون الآخرة هو وحده الذي يدبر هذا العالم . . فجواب لو محذوف دل عليه سياق الكلام .
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ورَأَوُا الْعَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبابُ} .
ما زال الكلام في الذين اتخذوا أندادا من دون اللَّه ، وهؤلاء هم المرؤوسون والتابعون ، والأنداد هم الرؤساء والمتبوعون . . وغدا إذا انكشف الغطاء تبرأ الرئيس من المرؤس ، والمتبوع من التابع ، لشدة ما وقع به من العذاب ، وتقطعت الروابط والعلاقات بين الاثنين ، قال صاحب مجمع البيان : (يزول بينهم كل سبب يمكن التعلق به من مودة وقرابة ومنزلة وحلف وعهد ، وما إلى ذلك مما كانوا ينتفعون به في هذه الدنيا ، وذلك غاية الإياس ) . وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38] .
{وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا} . يتمنى غدا كل عاص ان يعود إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسد ، بخاصة التابع لأهل البغي والضلال ، ليتبرأ من المتبوع المضل ، ولا شيء أبعد من هذه الأمنية ، بل هي حسرة تحرق النفس ، تماما كما تحرق النار الجسد . . وهكذا تكون الحسرات ثمرة لاتباع الهوى والتفريط .
وظاهر لفظ الآية يدل على انها مختصة بالكفار ، ولكن السبب الموجب للحكم يشمل كل من اتبع وناصر أهل الجور والفساد ، ومن اعتقد ان غير اللَّه ينفع ويضر ، ومن أخذ دينه عن أهل الجهل والضلال ، ان هذه الآية تشمل هؤلاء جميعا ، حتى من نطق بكلمة التوحيد ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة . . اللهم الا الجاهل القاصر الذي يعجز عن معرفة الحقيقة ، وادراك ما تدركه العقول السليمة .
التقليد والأئمة الأربعة :
جاء في تفسير المنار نقلا عن الشيخ محمد عبده ان الأئمة الأربعة : أبا حنيفة ومالكا والشافعي وابن حنبل نهوا عن تقليدهم والأخذ بأقوالهم ، وانهم قد أمروا بتركها لكتاب اللَّه وسنة رسوله ، وبعد ان نقل قول كل إمام في ذلك قال :
ولكن الكرخي – هو أحد فقهاء الحنفية - صرح قائلا بأن الأصل قول الحنفية ،
فان وافقته نصوص الكتاب والسنة فذاك ، والا وجب تأويل نصوص القرآن والسنة النبوية على وفق قول الحنفية .
ومعنى هذا ان قول الحنفية حاكم ومقدم على القرآن والسنة ، وهما محكومان له ، وهذا القول هو الكفر بعينه ، وأي كفر أعظم من طرح قول اللَّه ورسوله بقول أبي حنيفة وأصحابه ؟ وأي فرق بين من يقول هذا ، وبين من أشار اللَّه إليهم بقوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [البقرة: 170]. وقد بحثنا التقليد بصورة أوسع عند تفسير الآية 170 من هذه السورة فقرة (التقليد وأصول العقيدة ) ، فراجع .
هذا ، إلى ان العمل بأقوال الأئمة الأربعة عمل بلا اجتهاد ولا تقليد ، لأن الأربعة قد منعوا من تقليدهم والعمل بأقوالهم.
____________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ،ص255-257.
قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا}، الند كالمثل وزنا ومعنى، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [إبراهيم: 30] ، وغير ذلك لأن المقام مسبوق بالحصر في قوله: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} الآية، فكأن من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بإله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا.
قوله تعالى: يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكة، وأفرادا من الإنسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] ، وكما قال تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] ، وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وفي الآية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال: إن الحب – وهو وصف شهواني - يتعلق بالأجسام والجسمانيات، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وإن معنى ما ورد من الحب له الإطاعة بالايتمار بالأمر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
والآية حجة عليهم فإن قوله تعالى:{أشد حبا لله} يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله أندادا، ولوكان المراد بالحب هو الإطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لأن طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } [التوبة: 24] - إلى قوله - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والأبناء والأموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.
ثم إن الآية ذم المتخذين للأنداد بقوله: يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم إنما هو لتوزيعهم المحبة الإلهية بين الله وبين الأنداد الذين اتخذوهم أندادا.
وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإن قوله: إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وقوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقوله: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث إنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم أن لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتباع الحق من أصله أوفي بعض الأمر، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من أمر الله، ولذلك مدح المؤمنين بذلك في قوله {والذين آمنوا أشد حبا لله}.
وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلوكان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البتة كما قال تعالى: "{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } [التوبة: 24] - إلى قوله - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لأن حبه (عليه السلام) حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع الله تعالى فإن الله سبحانه هو الداعي إلى إطاعة رسوله والأمر باتباعه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء: 64] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقراءته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه.
فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شيء لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله أندادا وسيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هومن أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا.
وبان أيضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شيء، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] والشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيد بشيء مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هومن شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.
نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والآيات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أوضرا أو موتا أو حياة أو نشورا إخراج لها عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الألوهية وشرك بالله العظيم، والعياذ بالله تعالى.
قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب}، ظاهر السياق أن قوله: إذ مفعول يرى، وأن قوله: إن القوة لله إلى آخر الآية، بيان للعذاب، ولو للتمني.
والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد أخطئوا في إعطاء شيء منه لأندادهم وأن الله شديد في عذابه، وإذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية - على ما يبينه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطأ في اتخاذهم أندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فلم يبق تأثير لشيء دون الله، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الأنداد المتبوعين في الدنيا كما تبرءوا منا في الآخرة، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الأنداد أعمالهم، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حال كونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار.
قوله تعالى: {وما هم بخارجين من النار} ، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص337-340.
أئمّة الكفر يتبرّأون من أتباعهم!
تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدّد الآلهة .. عن أُولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيقة، ويتعشقونها ويشغفون بها حبّاً لا يليق إلاّ بالله سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم.
تقول الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً}(2).
ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله}، لأنهم أصحاب عقل وإدراك، يفهمون أن الله سبحانه مصدر كل الكمالات، وهو وحده اللائق بالحبّ، ولا يحبون شيئاً آخر إلاّ من أجله. وقد غمر الحبّ الإلهي قلبهم حتى أصبحوا يرددون مع أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام): «فَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ}؟!(3).
الحبّ الحقيقي يتجه دائماً نحو نوع من الكمال، فالإِنسان لا يحبّ العدم والنقص، بل يسعى دوماً وراء الوجود والكمال، ولذلك كان الأكمل في الوجود والكمال أحق بالحبّ.
الآية أعلاه تؤكد أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكافرين لمعبوداتهم.
ولم لا يكون كذلك؟! فلا يستوي من يحبّ عن عقل وبصيرة، ومن يحبّ عن جهل وخرافة وتخيّل.
حبّ المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحبّ المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار.
لذلك تقول الآية: {وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَديدُ الْعَذابِ} لرأوا سوءَ فعلهم وسوءَ عاقبتهم(4).
في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير الله {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}.
واضح أن المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا النّاس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة، واستسلموا لهم دون قيد أو شرط.
هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يروا ما حلّ بهم يمنّون أنفسهم: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةَ فَنَتَبَرَّاً مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنّا} لكنها أُمنية لا تتحقق، وعبرت آية اُخرى عن مثل هذا التمني على لسان كافر يقول لمعبوده المزيف: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38].
ثم تقول الآية: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرات عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}.
ليس لهم إلاّ أن يتحسّروا، يتحسّرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها غيرهم ... وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها ... وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.
لكنّها حسرة غير نافعة ... فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء، وليس يوم تلافي الأخطاء.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص388-390.
2 ـ الأنداد جمع (ند) وهو(المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إن المشركين كانوا يعتقدون بأن هذه الأنداد تحمل الصفات الإِلهية!
3 ـ من دعاء علي(عليه السلام) المروي على لسان كميل بن زياد. المعروف بدعاء (كميل).
4 ـ هذا على تفسير (لو) شرطية وجوابها محذوف، ومن المفسرين من قال: إنّ (لو) هنا للتمني.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|