أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-3-2017
9994
التاريخ: 25-11-2016
2635
التاريخ: 2-3-2017
9156
التاريخ: 30-11-2016
3818
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة: 264-265].
أكد تعالى ما قدمه بما ضرب من الأمثال فقال {يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا الله ورسوله {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن} أي بالمنة على السائل وقيل بالمنة على الله {والأذى} بمعنى أذى صاحبها ثم ضرب تعالى مثلا لعمل المنان وعمل المنافق جميعا فإنهم إذا فعلا الفعل على غير الوجه المأمور به فإنهما لا يستحقان عليه ثوابا وهذا هو معنى الإبطال وهو إيقاع العمل على غير الوجه الذي يستحق عليه الثواب فقال {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} هذا يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا المال للرئاء.
{ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} هذا للكافر خاصة أي لا يصدق بوحدانية الله ولا بالبعث والجزاء وقيل أنه صفة للمنافق لأن الكافر معلن غير مراء وكل مراء كافر أو منافق {فمثله كمثل صفوان} أي حجر أملس {عليه تراب فأصابه وابل} أي مطر عظيم القطر شديد الوقع {فتركه صلدا} حجرا صلبا أملس شبه سبحانه فعل المنافق والمنان بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب فإنه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه كذلك إذا دفع المنان صدقة وقرن بها المن فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى استدراكه وتلافيه لوقوعها على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب فإن وجوه الأفعال تابعة لحدوث الأفعال فإذا فاتت فلا طريق إلى تلافيها وليس في الآية ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يبطل ويزول بالمن فيما بعد ولا بالرياء الذي يحصل فيما يستقبل من الأوقات على ما قاله أهل الوعيد.
{لا يقدرون على شيء مما كسبوا} أي لا يقدر هؤلاء على نفقتهم ولا على ثوابها ولا يعلمون أين النفقة وأين ثوابها ولا يحصلون منها على شيء كما لا يحصل أحد على التراب أذهبه المطر عن الحجر فقد تضمنت الآية و الآي التي قبلها الحث على الصدقة وإنفاق المال في سبيل الخير وأبواب البر ابتغاء مرضاة الله والنهي عن المن والأذى والرياء والسمعة والنفاق والخبر عن بطلان العمل بها ومما جاء في معناه من الحديث ما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع أين الذين كانوا يعبدون الناس قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله ((من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أومن عليه فقد أبطل الله صدقته ثم ضرب فيه مثلا فقال {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} إلى قوله {الكافرين} وقال أبوعبد الله (عليه السلام) ما من شيء أحب إلى من رجل سلفت مني إليه يد أتبعته أختها وأحسنت ربها له لأني رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل.
{والله لا يهدي القوم الكافرين} أي لا يثيب الكافرين على أعمالهم إذ كان الكفر محبطا لها ومانعا من استحقاق الثواب عليها وإنما يثيب المؤمنين الذين يوقعون أعمالهم على الوجوه التي يستحق بها الثواب وقيل معناه لا يهديهم إلى الجنة بأعمالهم كما يهدي المؤمنين وقيل معناه لا يعطيهم ما يعطي المؤمنين من زيادة الألطاف والتوفيق .
{ومثل الذين ينفقون} أي يخرجون {أموالهم} في أعمال البر {ابتغاء مرضات الله} أي طلبا لرضاء الله {وتثبيتا من أنفسهم} بقوة اليقين والبصيرة في الدين عن سعيد بن جبير والسدي والشعبي وقيل معناه أنهم يثبتون أين يضعون صدقاتهم عن الحسن ومجاهد وقيل معناه وتوطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعة الله عن أبي علي الجبائي واعترض على الحسن ومجاهد بأنه لم يقل وتثبيتا وليس هذا بشيء لأنهم إذا ثبتوا أنفسهم فقد ثبتوا وقوله {كمثل جنة بربوة} معناه كمثل بستان لمرتفع من الأرض وإنما خص الربوة لأن نبتها يكون أحسن وريعها أكثر من المستغل الذي يسيل الماء إليه ويجتمع فيه فلا يطيب ريعه أ لم تر إلى قول الأعشى :
فخص بها الحزن للمعنى الذي ذكرناه {أصابها وابل} أي أصاب هذه الجنة مطر شديد {فأتت أكلها ضعفين} أي فأعطت غلتها ضعفي ما تعطي إذا كانت بأرض مستغلة ويحتمل أن يكون معناه مرتين في كل سنة واحدة كما قال سبحانه {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} ومعناه كل ستة أشهر فيما روي وقال أبوعبد الله (عليه السلام) معناه : يتضاعف(3) أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله {فإن لم يصبها وابل} أي مطر شديد {فطل} أي أصابها مطر لين أراد به أن خيرها لا يخلف على كل حال ولا يرى الغبار عليها على كل حال وإنما ارتفع فطل على تقدير فالذي يصيبها طل {والله بما تعملون بصير} معناه عالم بأفعالكم فيجازيكم بحسبها وقيل عالم بالمرائي والمخلص(4) وفيه ترغيب وترهيب .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص184-187.
2- أي : في معلقته . وحبر ما في شعره من بعده وهو : ((يوما بأطيب منها نشر رائحة ولا بأحسن منها اذ دنا الاصل )).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ } . بيّن سبحانه فيما سبق أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على البذل والإنفاق ، وان عدم الصدقة ، مع قول معروف خير منها مع المن والأذى ، وان من يبذل بلا من وأذى يضاعف له الأجر والثواب بلا حد وحساب ، وضرب لذلك مثلا بحبة عادت على الزارع ب 700 ضعف . . بعد أن بيّن هذا كله ضرب في هذه الآية مثلا لأصحاب المن والأذى بالمنافق المرائي الذي ينفق ماله طلبا لثناء الناس وحمدهم ، لا ابتغاء مرضاة اللَّه وثوابه .
وقوله تعالى : {ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ } المراد به أن عمل المرائي ، وعمل الكافر سواء ، لأن كلا منهما لم يبتغ وجه اللَّه ، ومن هنا تواتر الحديث في ان الرياء شرك خفي .
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } . الضمير في مثله يعود إلى المرائي . . لقد شبه اللَّه أولا المانّ المؤذي بالمنافق المرائي ، ثم شبه هذا بصفوان عليه تراب ، وبديهة ان شبيه الشبيه شبيه ، كصديق الصديق ، وعليه يكون كل من المانّ المؤذي والمنافق المرائي كالصفوان ، أي الحجر الصلب الأملس ، يغطيه تراب خفيف يحجب صلابته ، فأصابه مطر غزير ذهب بالتراب . . وهكذا صدقة المؤذي والمرائي ، تماما كالتراب على الحجر الأملس ، والأذى والرياء كالمطر الذي ذهب بالتراب . . وقوله تعالى :
{لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ } معناه كما انه لا أحد من الخلق يقدر على رد ذلك التراب الذي اجتاحته السيول كذلك لا يقدر المراؤون والمؤذون على رد صدقاتهم . .
والغرض انهم لا ينتفعون بها في الدنيا ، لأنها ذهبت من أيديهم ، ولا في الآخرة ، حيث أفسدها الأذى والرياء .
{واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } . المراد بالهداية هنا ثواب الآخرة بقرينة السياق ، لأن الكلام في ثواب اللَّه ، والمراد بالكافرين من عمل لغير وجه اللَّه ، فلقد جاء في الحديث الشريف : (إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يعبدون الناس ؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له ، فاني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها) .
{ ومَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ }. بعد أن ضرب
اللَّه مثلا لصدقة المراءين والمؤذين ضرب مثلا في هذه الآية لصدقة المخلصين ، كما هو شأنه عز وجل في المقابلة بين الضدين ، وإذا كانت صدقة أولئك كصفوان عليه تراب فان صدقة هؤلاء كجنة في مرتفع من الأرض ، عميقة التربة ، لا يخشى عليها من السيول ، كما هي حال حفنة التراب على الحجر الأملس ، وهذه الجنة تثمر في السنة مثلي ما يثمر غيرها في المعتاد ، ولا تمحل إطلاقا ، لجودة تربتها ، ويكفيها القليل من الري ، حتى الندى ، لرطوبة ثراها ، واعتدال جوها ، وهذا هو معنى قوله : فآتت أكلها - أي ثمرها - ضعفين فان لم يصبها وابل - مطر غزير - فطل ، وهو الندى .
أما قوله : {ابتغاء مرضاة اللَّه وتثبيتا من أنفسهم} فإنه إشارة إلى أمرين : الأول ان المؤمنين يطلبون مرضاة اللَّه من الإنفاق . الثاني ان هذا الإنفاق كان بدافع من أنفسهم ، لا بدافع خارجي : وقيل : تثبيتا من أنفسهم معناه انهم يجاهدون أنفسهم ، ويمرنونها على الطاعة بالبذل . . وهذا المعنى يصح إذا كانت من هنا بمعنى اللام ، كقوله تعالى . . {مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا} أي لخطاياهم ، وكقول الفرزدق في الإمام زين العابدين : يغضي حياء ويغضى من مهابته .
وبعد ، فان في هاتين الآيتين من معجزة البلاغة ما لا تجدها في غير كلامه جلت عظمته . . فقد شبه أولا صدقة الأذى بصدقة الرياء ، وشبه هذه بالتراب على الصفوان يذهب مع الريح والأمطار ، ثم ذكر في مقابل هذه الصدقة الخاسرة الصدقة الرابحة ، وهي صدقة الايمان ، وانها كبستان خصب التربة ، يهب الخيرات على الدوام وفي كل عام ، سواء أجادت السماء بالمطر الغزير ، أو الخفيف .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص414-416.
قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم} "إلخ"، تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن والأذى، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المن والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدم إشباع الكلام في الحبط..
قوله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر}، لما كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والأذى، بل إنما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس وعمل المان والمؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.
واتحاد سياق الأفعال في قوله: {ينفق ماله}، وقوله: {ولا يؤمن} من دون أن يقال: ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لوكان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحب واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأسا.
ويظهر من الآية أن الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.
قوله تعالى: {فمثله كمثل صفوان عليه تراب} إلى آخر الآية الضمير في قوله: {فمثله} راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.
والضمير في قوله: {لا يقدرون} راجع إلى الذي ينفق رئاء لأنه في معنى الجمع، والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به، وقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} بيان للحكم بوجه عام وهو أن المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.
وخلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاء وفي ترتب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزينها بزينة النبات، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، ولا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.
وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.
وقد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال: إنما الأعمال بالنيات.
قول تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم}، ابتغاء المرضاة هوطلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشيء هوما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبة إلى عبده الذي أمره بشيء وأراده منه هو رضاؤه عن فعله وامتثاله، فإن الأمر يستقبل المأمور أولا بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضاة الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عز وجل.
وأما قوله: {وتثبيتا من أنفسهم} فقد قيل: إن المراد التصديق واليقين.
وقيل: هو التثبت أي يتثبتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شيء من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله.
وأنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف.
والذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أن الله سبحانه لما أطلق القول أولا في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأن له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتب عليهما الثواب، وهما الإنفاق رياء الموجب لعدم صحة العمل من رأس والإنفاق الذي يتبعه من أو أذى فإنه يبطل بهما وإن انعقد أولا صحيحا، وليس يعرض البطلان.
لهذين النوعين إلا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية أعني ابتغاء المرضاة ثانيا بعد ما كانت عليها أولا، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المن والأذى، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون أنفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.
ومن هنا يظهر أن المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله، وبقوله {تثبيتا من أنفسهم} تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس.
فقوله {تثبيتا} تميز وكلمة من نشوية وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدر.
والتقدير تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته.
قوله تعالى: {كمثل جنة بربوة أصابها وابل} إلى آخر الآية، الأصل في مادة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها، والأكل بضمتين ما يؤكل من الشيء والواحدة أكلة.
والطل أضعف المطر القليل الأثر.
والغرض من المثل أن الإنفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن أثرها الحسن البتة، فإن العناية الإلهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أن الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي أكلها إيتاء جيدا البتة وإن كان إيتاؤها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل.
ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: {والله بما تعملون بصير} أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص330-333.
دوافع الإنفاق ونتائجه :
في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم. ثمّ يضرب القرآن مثلاً للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلاً آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.
يقول تعالى في المثال الأوّل : {فمثله كمثل صفوان عليه تراب...}.
تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقه خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثمّ عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نمو النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.
ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنّة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاُولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى(2).
وفي نهاية الآية يقول تعالى : {والله لا يهدي القوم الكافرين} وهو إشارة إلى أنّ الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى باقدامهم، واختاروا طريق الكفر بإختيارهم، ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنّة والأذى في عرض واحد.
مثال رائع آخر
في الآية التالية نقرأ مثالاً جميلاً آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية : {ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله}.
تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل لنسيم الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع، وإذا لم يهطل المطر ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرّات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاُخرى، فهذه الأرض فضلاً عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لأيناع حاصلها، وفضلاً عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وإشعّة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.
فالآية الشريفة تريد أن تقول : إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.
وفي ختام الآية تقول : {والله بما تعملون بصير} فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبّة والاحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص125-127.
2 ـ صفوان : جمع مفرده صفوانة، وتعني الصخرة الصافية. والوبل : هو المطر الشديد الكبير والصلد : بمعنى الحجر الأملس. وضعف : تثنية الضعف ولكنه لا يعني أربع مرّات بل مرّتين مثل زوجين التي تعني طرفين، تأمّل بدقّة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|