أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
588
التاريخ: 14-2-2017
677
التاريخ: 14-2-2017
719
التاريخ: 14-2-2017
570
|
قال تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1].
{بسم الله } قيل : المراد به تضمين الاستعانة فتقديره استعينوا بأن تسموا الله بأسمائه الحسنى ، وتصفوه بصفاته العلي ، وقيل المراد استعينوا بالله ويلتفت إليه قول أبي عبيدة أن الاسم صلة والمراد هو الله كقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما **** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي ثم السلام عليكما والاسم قد يوضع موضع المسمى لما كان المعلق على الاسم ذكرا أو خطابا معلقا على المسمى تقول رأيت زيدا فتعلق الرؤية على الاسم وفي الحقيقة تعلقها بالمسمى فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى وقيل المراد به أبتدأ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته كرامة أي إكراما وأهنته هوانا أي إهانة ومنه قول الشاعر(2) :
أ كفرا بعد رد الموت عني **** وبعد عطائك المائة الرّتاعا
أي بعد إعطائك ، وقال الآخر :
فإن كان هذا البخل منك سجية **** لقد كنت في طولي رجائك أشعبا
أراد في إطالتي رجائك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله أوأقرأ مبتدئا بتسمية الله وهذا القول أولى بالصواب لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله لا بالخبر عن كبريائه وعظمته كما أمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح أ لا ترى أن الذابح لو قال بالله و لم يقل باسم الله لكان مخالفا لما أمر به و معنى الله والإله أنه الذي تحق له العبادة وإنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بما يستحق به العبادة وهوتعالى إله للحيوان والجماد لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة فأما من قال معنى الإله المستحق للعبادة يلزمه أن لا يكون إلها في الأزل لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ وإنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم لأنه يطلق عليه وعلى غيره وروى أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن عيسى بن مريم قال الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة وعن بعض التابعين قال الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين خاصة ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم هو إنشاؤه إياهم وخلقهم أحياء قادرين ورزقه إياهم ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والإكرام ، وغفران الذنوب والآثام ، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة وعن عكرمة قال الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقتبسه من قول الرسول أن لله عز وجل مائة رحمة وأنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة وروي أن الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة .
____________________
1- مجمع البيان في تفسير القران ، ج1 ، ص53-54.
2- قائله : القطامي واسمه عمير بن يشيم.
البسملة ، وتحديد الإسلام بكلمة واحدة :
{بسم اللَّه الرحمن الرحيم} هذه الكلمة المقدسة شعار مختص بالمسلمين ، يستفتحون بها أقوالهم وأعمالهم ، وتأتي من حيث الدلالة على الإسلام بالمرتبة الثانية من كلمة الشهادتين : لا إله إلا اللَّه ، محمد رسول اللَّه . أما غير المسلمين فيستفتحون باسمك اللهم ، وباسمه تعالى ، أو باسم المبدئ المعيد ، أو باسم الأب والابن وروح القدس ونحو ذلك .
وتحذف الهمزة من لفظة ( اسم ) نطقا وخطا في البسملة ، وتكتب هكذا :
بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، لكثرة الاستعمال ، وتحذف الهمزة نطقا ، لا خطا في غير البسملة ، نحو سبح باسم ربك الأعلى ، واقسم باسم اللَّه .
ولفظ الجلالة ( اللَّه ) علم للمعبود الحق الذي يوصف بجميع صفات الجلال والكمال ، ولا يوصف به شيء . . وقيل : ان للَّه اسما هو الاسم الأعظم ، وان الذي يعرفه تفيض عليه الخيرات ، وتقع على يده المعجزات . . ونحن نؤمن ونعتقد بأن كل اسم للَّه هو الاسم الأعظم ، أي انه عظيم ، لأن التفضيل لا يصح إطلاقا ، لعدم وجود طرف ثان تسوغ معه المفاضلة . . . وبكلمة ان المفاضلة تستدعي المشاركة وزيادة . . والذي ليس كمثله شيء لا يشاركه أحد في شيء .
والرحمن في الأصل وصف مشتق من الرحمة ، ومعناها بالنسبة إليه تعالى الإحسان ، وبالنسبة إلى غيره معناها رقة القلب ، ثم شاع استعمال الرحمن في الذات القدسية ، حتى صار من أسماء اللَّه الحسنى ، قال تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء: 110]. وعلى هذا فلك ان تعرب لفظة الرحمن صفة للَّه بالنظر إلى الأصل ، ولك أن تجعلها بدلا بالنظر إلى النقل .
الرحيم أيضا وصف مشتق من الرحمة ، بمعنى الإحسان بالنسبة إليه جل وعز .
وفرّق أكثر المفسرين ، أو الكثير منهم ، بين لفظة الرحمن ، ولفظة الرحيم بأن الرحمن مشتق من الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر ، والرحيم من الرحمة الخاصة بالمؤمن ، وفرعوا على ذلك ان تقول : يا رحمن الدنيا والآخرة ، وان تقول : يا رحيم الآخرة فقط دون الدنيا . . أما أنا فأقول : يا رحمن يا رحيم الدنيا والآخرة : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف 32].
ومعنى « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » بجملة انك قد ابتدأت عملك مستعينا باللَّه الذي وسعت رحمته كل شيء مسجلا على نفسك ان ما تفعله هو باسم اللَّه ، لا باسمك أنت ، ولا باسم أحد سواه ، تماما كما يقول موظف الدولة للرعايا : باسم الدولة عليكم كذا وكذا . . وان عملك الذي باشرت هو حلال لا شائبة فيه لما حرم اللَّه . . فان كان حراما ، وفعلته باسم اللَّه فقد عصيت مرتين في آن واحد ، وفعل واحد : مرة لأنه حرام بذاته ، ومرة لأنك كذبت في نسبته إلى اللَّه . . تعالى علوا كبيرا .
والبسملة جزء من السورة عند الشيعة الإمامية . . وقد أوجبوا الجهر بها فيما يجب الجهر فيه بالقراءة ، كصلاة الصبح ، وأوليي المغرب والعشاء ، ويستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة ، كأوليي الظهر والعصر ، ويجوز الإخفات .
وقال الحنفية والمالكية : يجوز ترك البسملة في الصلاة كلية ، لأنها ليست جزءا من السورة . . وقال الشافعية والحنابلة : بل هي جزء لا تترك بحال ، سوى ان الحنابلة قالوا : يخفت بها إطلاقا ، وقال الشافعية : يجهر بها في الصبح ، وأوليي العشاءين ، وما عدا ذلك إخفات . . ويتفق قول الشافعية والحنابلة مع قول الإمامية .
وتجمل الإشارة إلى أن اسم اللَّه سبحانه وصفاته تتألف من هذه الحروف ، وتلفظ وتكتب كغيرها من الكلمات ، ومع هذا لها قدسية وأحكام خاصة بها ، فلا يجوز أن يكتب شيء منها على ورق ، أو غيره ، أو بمداد ، أو قلم نجس ، وأيضا لا يجوز مسها الا للمطهرين .
وأفتى فقهاء الإمامية بكفر وارتداد « من ألقى المصحف عامدا عالما في القاذورات والقمامة ، أو ضربه برجله ، أو مزقه إهانة وإعراضا ، ونحو ذلك مما يدل على الاستهزاء بالشرع والشارع » .
وقال قائل : ان سورة الفاتحة تضمنت جميع معاني القرآن دون استثناء ، وان البسملة تضمنت جميع معاني الفاتحة ، وان الباء من البسملة تضمنت جميع معاني البسملة ، وبالتالي تكون الباء من بسم اللَّه الرحمن الرحيم فيها معاني القرآن بكامله .
وهذا القائل أشبه بمن يحاول أن يدخل الكون بأرضه وسمائه في البيضة دون أن تكبر البيضة ، أو يصغر الكون . .
تحديد الإسلام بكلمة واحدة :
قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ 21 نيسان سنة 1967 كلمة قال كاتبها ضياء الريس : انه قرأ مقالا في مجلة أدبية لكاتب عربي شهير ، قال فيه : انه - أي الكاتب - حين كان عضوا في البعثة العلمية بالنكلترا اشتبك في نقاش حاد مع انكليزية مثقفة حول الإسلام والمسيحية ، فقالت الانكليزية - متحدية جميع المسلمين بشخص الكاتب المسلم - اني ألخص مبادئ المسيحية كلها بكلمة واحدة ، وهي المحبة ، فهل تستطيع أنت - أيها المسلم - ان تأتي بكلمة تجمع مبادئ الإسلام ؟ فأجابها الكاتب المسلم : أجل ، انها كلمة التوحيد .
وبعد ان نقل الريس هذا الحوار قال : لم يكن الجواب موفقا ، وذكر أسبابا وجيهة وصحيحة تدعم حكمه على الكاتب بعدم التوفيق ، وبعد ان انتهى الريس من حكمه وأسبابه الموجبة قال : لو وجه إلي هذا السؤال لأجبت بأن هذه الكلمة هي الرحمة ، واستدل على صحة جوابه هذا بالعديد من الآيات والروايات مبتدئا ببسم اللَّه الرحمن الرحيم . . إلى وما أرسلناك الا رحمة للعالمين . . الخ وصدق الريس في قوله : ان الكاتب لم يكن موفقا في جوابه . . ولكن الريس أيضا لم يكن موفقا في اختياره كلمة الرحمة ، لأنه لم يزد شيئا على ما قالته الانكليزية ، حيث أخذ كلمة المحبة منها ، وترجمها إلى كلمة الرحمة ، وعلى هذا لا يكون للإسلام أية ميزة على المسيحية .
ولو كنت حاضرا مع البعثة العلمية بانكلترا لأجبت بكلمة « الاستقامة » فإنها الكلمة الجامعة المانعة الشاملة للاستقامة في العقيدة بما فيها التوحيد والتنزيه عن الشبيه ، وأيضا تشمل الاستقامة في الأعمال والأخلاق والأحكام وجميع التعاليم بما فيها الرحمة والمحبة والتعاون . ان الرحمة من مبادئ الإسلام ، وليست الإسلام بكامله ، كما ان التوحيد أصل من أصوله ، لا أصوله بأجمعها .
وبما ان الاستقامة تجمع المحبة والرحمة والتوحيد ، وسائر الأصول الحقة ، والأعمال الخيرية ، والأخلاق الكريمة المستقيمة ، وبما انها المقياس الصحيح للفضيلة والكمال الذي يبلغ بالإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة . . لذلك كله أمرنا أن نكرر في صلاتنا صباح مساء : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ } . . وقال عز من قائل مخاطبا نبيه الأكرم ( صلى الله عليه واله ) : {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، ومَنْ تابَ مَعَكَ ، ولا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود 113 ] . وقال : { إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [ فصلت 30 ] .
ولا شيء أدل على ان الاستقامة هي الكل في الكل من قول إبليس اللعين :
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } .
وجاء في الحديث الشريف : « قال سفيان الثقفي : يا رسول اللَّه قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحدا بعدك . قال رسول اللَّه : قل : آمنت باللَّه ، ثم استقم » .
واختصارا ان معنى الاستقامة أن نقف عند حدود اللَّه ، ولا ننحرف عن الحق إلى الباطل ، وعن الهداية إلى الضلال ، وان نسير بعقيدتنا وعاطفتنا ، وجميع أقوالنا وأفعالنا على الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم اللَّه عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص24-27.
الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل و يقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، و مثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، و يبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول و لا ينسى.
و قد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه ليكون ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، و ليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال و الأفعال و الأقوال، فيبتدءوا باسمه و يعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك و البطلان إليه.
و ذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، و أنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هباء منثورا، و يحبط ما صنعوا و يبطل ما كانوا يعملون، و أنه لا بقاء لشيء إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم و صنع باسمه هو الذي يبقى و لا يفنى، و كل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، و هذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث ".
و الأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدىء بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، و وحدة الكلام بوحدة مدلوله و معناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة و هو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، و الغرض المحصل منه. و قد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال: تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ } [المائدة: 15، 16] إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه و كلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، و هو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن و الكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم و حياتهم، و هو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين و هو سعادة آخرتهم و لقاء ربهم و قد قال تعالى: " {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].
فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: {أْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } [يونس: 38].
و قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
و قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} [التوبة: 86].
و قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [النور: 1].
فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعا قطعا، و سمي كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف و التمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة و لا بين سورة و سورة، و من هنا نعلم: أن الأغراض و المقاصد المحصلة من السور مختلفة، و أن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص و لغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، و على هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه، و الغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة و الاستعانة و سؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به.
و إظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، و الأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.
فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء و يراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب.
و ربما يقال إنه الاستعانة و لا بأس به و لكن الابتداء أنسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
و أما الاسم، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة و كيف كان فالذي يعرفه منه اللغة و العرف هو اللفظ الدال و يستلزم ذلك أن يكون غير المسمى، و أما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ و هو مسمى الاسم بالمعنى الأول كما أن لفظ العالم من أسماء الله تعالى اسم يدل على مسماه و هو الذات مأخوذة بوصف العلم و هو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه و نعت من نعوته و السبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات و تدل عليه حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الأوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فأنتج ذلك أن الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، و أن الاسم بالمعنى الأول إنما يدل على الذات بواسطته، و لذلك سموا الذي بالمعنى الثاني اسما، و الذي بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا و لكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري و لا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.
وقد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، و لكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم اتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة و لا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل و ما يقال فيها و العناية بإبطال ما هو الباطل و إحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك أولى. و أما لفظ الجلالة، فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، و إله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، و الظاهر أنه علم بالغلبة، و قد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
و قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136].
و مما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى و سائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم و يقال: رحم الله و علم الله، و رزق الله، و لا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها و لا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.
و لما كان وجوده سبحانه، و هو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، و صح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال و إلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.
و أما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرحمة، و هي وصف انفعالي و تأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه و رفع حاجته، إلا أن هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء و الإفاضة لرفع الحاجة و بهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.
و الرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، و الرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات و البقاء و لذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن و الكافر و هو الرحمة العامة، و على هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
و قال: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم: 75].
إلى غير ذلك، و لذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة و الرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب: 43].
و قال تعالى: " {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
إلى غير ذلك، و لذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن و الكافر و الرحيم خاص بالمؤمن.
_____________________________
1- الميزان في تفسير القران ، للعلامة محمد حسين الطباطبائي ، ج1 ، ص15-18.
دأبت الأمم والشّعوب على أن تبدأ كل عمل هام ذي قيمة باسم كبير من رجالها. والحجر الأساس لكل مؤسسة هامّة يوضع باسم شخصية مرموقة في نظر أصحابها، أي أن أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشّخصية.
ولكن، أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اُطروحة اُريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟ فكلّ ما في الكون يتجه إلى الزّوال والفناء، إلا ما كان مرتبطاً بالذات الأبدية الخالدة ... ذات الله سبحانه.
إنّ خلود ذكر الأنبياء سببه ارتباطهم بالله وبالقيم الإنسانية الإِلهية الخالدة كالعدالة وطلب الحقيقة، وخلود اسم رجل في التّاريخ مثل (حاتم الطّائي)، يعود إلى إرتباطه بواحدة من تلك القيم هي (السّخاء).
صفة الخلود والأبدية يختص بها الله تعالى من بين سائر الموجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كلّ شيء باسمه وتحت ظلّه وبالاستمداد منه. ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.
والبسملة لا ينبغي أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإِرتباط الواقعي بمعناها، وهذا الإِرتباط يخلق الإِتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة. لذلك جاء في الحديث النّبوي الشريف: «كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»(2).
وأمير المؤمنين(عليه السلام) بعد نقله لهذا الحديث الشريف قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَعْمَلَ عَمَلا فَيَقُولُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهُ يُبَارَكَ فيهِ»(3).
ويقول الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام):
«... وَيَنْبَغي الإِتْيَانُ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ أَمْر عَظِيم أَوْ صَغِير لِيُبَارَكَ فيهِ»(4).
بعبارة موجزة: بقاء العمل وخلوده يتوقف على ارتباطه بالله.
من هنا كانت الآية الاُولى التي أنزلها الله على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمته الكبرى باسم الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].
ولذلك أيضاً فإنّ نوحاً(عليه السلام) ـ حين يركب السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه ـ يطلب من أتباعه أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41]. وانتهت هذه السفرة المليئة بالأخطار بسلام وبركة كما يذكر القرآن الكريم: { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48]
وسليمان(عليه السلام) يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
وانطلاقاً من هذا المبدأ تبدأ كلّ سور القرآن بالبسملة، كي يتحقّق هدفها الأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة.
وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الأيمان، وإِعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن الرحيم.
تجدر الإِشارة إلى أنّ البسملة تقتصر على صيغة «بسم الله» ولا تقول فيها: باسم الخالق أو باسم الرزاق وما شابهها من الصيغ. والسبب يعود إلى أنّ كلمة (الله) ـ كما سيأتي ـ جامعة لكلّ أسماء الله وصفاته. أمّا الأسماء الاُخرى لله فتشير إلى قسم من كمالاته كالرحمة والخالقية.
اتضح ممّا سبق أيضاً أنّ قولنا: «بِاسْمِ اللهِ» في بداية كلّ عمل يعني «الاستعانة» بالله، ويعني أيضاً «البدء» باسم الله. وهذان المعنيان يعودان إلى أصل واحد، وإن عمد بعض المفسّرين إلى التفكيك بينهما وتقدير كل واحد منهما في الكلام. فالمعنيان متلازمان، أي: أبدأ باسم الله وأستعين بذاته المقدّسة.
وطبيعي أنّ البدء باسم الله الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإِندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإِخلاص والنزاهة في الحركة.
وهذا رمز آخر للنجاح، حين تبدأ الأعمال باسم الله.
مهما أطلنا الحديث في تفسير هذه الآية فهو قليل، فالمعروف عن عليّ(عليه السلام)أنّه بدأ يفسّر لابن عباس آية البسملة في أول الليل، فأسفر الصبح وهو لم يتجاوز تفسير الباء منها(5)، غير أنّنا ننهي البحث بحديث عنه(عليه السلام)، وستكون لنا بحوث اُخرى في هذا الصدد خلال بحوثنا القادمة.
دَخَلَ عَبْدُ الله بنُ يَحْيى عَلى أَمِير الْمُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كُرْسِيٌّ فَأَمَرَهُ بالْجُلُوسِ عَلَيْهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَمَالَ بِهِ حَتّى سَقَطَ عَلى رَأْسِهِ فَأَوْضَحَ عَنْ عَظْمِ رَأْسِهِ وَسَالَ الدَّمُ، فَأَمَرَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِمَاء فَغَسَلَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمَ ثُمَّ قَالَ: أُدْنُ مِنّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى مَوْضِحَتِهِ «... أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ حَدَّثَني عَن اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: كُلُّ أَمْر ذِي بَال لَمْ يَذْكَر فِيهِ بِسْمِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ؟» فَقُلْتُ: بَلى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي لاَ أَتْرُكُهَا بَعْدَهَا، قَالَ: «إِذاً تحْظى بِذَلِكَ وَتسْعَدُ».
وَقَالَ الصَّادِقُ(عليه السلام): «وَلَرُبَّمَا تَرَكَ فِي افْتِتَاحِ أَمْر بَعْضُ شِيعَتِنَا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَيَمْتَحِنُهُ اللهُ بِمَكْرُوه لِيُنَبِّهَهُ عَلى شُكْرِ اللهِ تَعَالى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَيَمْحُو فِيهِ عَنْهُ وَصمَةَ تَقْصِيرِهِ عِنْدِ تَرْكِهِ قَوْلَ بِسْمِ اللهِ»(6).
_______________________
1- تفسير الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص24-26.
2- بحار الانوار ، ج73 ، ص 305 ، وتفسير البيان ، ج1 ،ص61 ، وتفسير روح المعاني ،
ج1 ، ص39.
3- بحار الانوار ، ج89 ، ص242 ، وتفسير الامام الحسن عليه السلام ص25.
4 ـ تفسير الميزان، ج 1، ص 21.
5- نهج الحق ، ص238 ، وبحار الانوار ، ج40 ، ص186.
6- سفينة البحار ، ج1 ، ص633 ، وبحار الانوار ، ج73 ، ص305 ، ح1.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
جامعة كربلاء: مشاريع العتبة العباسية الزراعية أصبحت مشاريع يحتذى بها
|
|
|