أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-2-2017
3491
التاريخ: 14-2-2017
4429
التاريخ: 1-3-2017
5942
التاريخ: 9-12-2016
2725
|
قال تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَويُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوبِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 92، 96].
حكى سبحانه عنهم (قوم موسى) ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين وضعفهم في اليقين فقال {ولقد جاءكم موسى بالبينات} الدالة على صدقه والمعجزات المؤيدة لنبوته كاليد البيضاء وانبجاس الماء من الحجر وفلق البحر وقلب العصا حية والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وسماها بينات لظهورها وتبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر الإتيان بها على كل بشر وقوله {ثم اتخذتم العجل} يعني اتخذتم العجل إلها وعبدتموه {من بعده} أي من بعد موسى لما فارقكم ومضى إلى ميقات ربه ويجوز أن يكون الهاء كناية عن المجيء فيكون التقدير ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات {وأنتم ظالمون} لأنفسكم بكفركم وعبادتكم العجل لأن العبادة لا تكون لغير الله .
قوله {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} قد فسرناه فيما مضى والفائدة في تكرير هذا وأمثاله التأكيد وإيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها وقيل إنه سبحانه لما عد فضائح اليهود أعاد ذكر رفع الجبل وقيل أنه تعالى إنما ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى والثاني للاحتجاج عليهم وقوله {واسمعوا} أي اقبلوا ما سمعتم واعملوا به وأطيعوا الله وقيل معناه اسمعوا ما يتلى عليكم أي استمعوا لتسمعوا وهذا اللفظ يحتمل الاستماع والقبول ولا تنافي بينهما فيحتمل عليهما فكأنه قيل استمعوا لتسمعوا ثم أقبلوا وأطيعوا وبدل عليه أنه قال في الجواب عنهم {قالوا سمعنا وعصينا} وفيه قولان (أحدهما) أنهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك (والثاني) أن حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دل عليه كما قال الشاعر :
(قالت جناحاه لرجليه ألحقي) وإن كان الجناح لا يقول ذلك وإنما رجع سبحانه عن لفظ الخطاب إلى الخبر عن الغائب على عادة العرب المألوفة واختلف في هذا الضمير إلى من يعود فقيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنهم قالوا ذلك ثم رجع إلى حديث أوائلهم فقال {وأشربوا} وقيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر موسى (عليه السلام) إذ ردوا عليه قوله وقابلوه بالعصيان وقوله {وأشربوا في قلوبهم} فمعناه دخل قلوبهم حب العجل وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها والطعام يجاوز الأعضاء ولا يتغلغل فيها قال الشاعر :
تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور
وليس المعنى في قوله {وأشربوا} أن غيرهم فعل ذلك بهم بل هم الفاعلون لذلك كما يقول القائل أنسيت ذلك من النسيان وليس يريد أن غيره فعل ذلك به ويقال أوتي فلان علما جما وإن كان هو المكتسب له وقوله {بكفرهم} ليس معناه أنهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم لأن محبة العجل كفر قبيح والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء ولا جزاء بل معناه أنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل وقيل إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينة عندهم ودعاهم إليه كالسامري وشياطين الجن والإنس فقوله {بكفرهم} معناه لاعتقادهم التشبيه وجهلهم بالله تعالى وتجويزهم العبادة لغيره أشربوا في قلوبهم حب العجل لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر وقول من قال فعل الله ذلك بهم عقوبة ومجازاة غلط فاحش لأن حب العجل ليس من العقوبة في شيء ولا ضرر فيه وقوله {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} معناه قل يا محمد لهؤلاء اليهود بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله والتكذيب بكتبه وجحد ما جاء من عنده ومعنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم نؤمن بما أنزل علينا وقوله {إن كنتم مؤمنين} أي مصدقين كنا زعمتم بالتوراة وفي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشيء يكرهه الله من أفعالهم وإعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ويحملهم عليه آراؤهم .
ثم عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم وعلماءهم ودعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فقال {قل} يا محمد لهم {إن كانت} الجنة {خالصة} لكم {دون الناس} كلهم أودون محمد وأصحابه كما ادعيتم بقولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وكنتم صادقين في قولكم نحن أبناء الله وأحباؤه وإن الله لا يعذبنا {فتمنوا الموت} لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعا كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق والهموم والآلام والغموم ومن كان على يقين أنه إذا مات تخلص منها وفاز بالنعيم المقيم فإنه يؤثر الموت على الحياة أ لا ترى إلى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة(2) لما قال له الحسن ابنه ما هذا زي الحرب يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه وقول عمار بن ياسر بصفين أيضا الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي فإنما نهي عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع والمأمور به الصبر وتفويض الأمور إليه تعالى ولأنا لا نأمن وقوع التقصير فما أمرنا به ونرجو في البقاء التلافي .
أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذين قيل لهم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين بأنهم لا يتمنون ذلك أبدا بما قدموه من المعاصي والقبائح وتكذيب الكتاب والرسول عن الحسن وأبي مسلم وقيل بما كتموا من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن جريج وأضاف ذلك إلى اليد وإن كانوا إنما فعلوا ذلك باللسان لأن العرب تقول هذا ما كسبت يداك وإن كان ذلك حصل باللسان والوجه فيه أن الغالب أن تحصل الجناية باليد فيضاف بذلك إليها ما يحصل بغيرها .
وقوله {والله عليم بالظالمين} خصص الظالمين بذلك وإن كان عليما بهم وبغيرهم بأن الغرض بذلك الزجر والتهديد كما يقال الإنسان لغيره إني عارف بصير بعملك وقيل معناه إن الله عليم بالأسباب التي منعتم عن تمني الموت وبما أضمروه وأسروه من كتمان الحق عنادا مع علم كثير منهم أنهم مبطلون وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار فقال الله سبحانه إنهم لن يتمنوه أبدا تحقيقا لكذبهم وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا وصحة نبوته لأنه أخبر بالشيء قبل كونه فكان كما أخبر وأيضا فإنهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنه حق وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا وروى الكلبي عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لهم إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهم أمتنا فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه (3) فمات مكانه وهذه القصة شبيهة بقصة المباهلة وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه وخوفهم من صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا فلما لم يتمن اليهود الموت افتضحوا كما أن النصارى لما أحجموا عن المباهلة افتضحوا وظهر الحق فإن قيل من أين علمتم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم فالجواب أن من قال التمني هو القول فالسؤال ساقط عنه ومن قال هو معنى في القلب قال لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصا منهم على تكذيبه في إخباره ولأن تحديهم بتمني الموت إنما وقع بما يظهر على اللسان وكان يسهل عليهم أن يقولوا ليت الموت نزل بنا فلما عدلوا عن ذلك ظهر صدقه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ووضحت حجته .
ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال {ولتجدنهم} أي ولتعلمن يا محمد هؤلاء اليهود وقيل يعني به علماء اليهود {أحرص الناس على حيوة} أي أحرصهم على البقاء في الدنيا أشد من حرص سائر الناس {ومن الذين أشركوا} أي ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا وهم المجوس ومن لا يؤمن بالبعث وقال أبو علي الجبائي إن الكلام تم عند قوله {على حيوة} وقوله {ومن الذين أشركوا} تقديره ومن [اليهود ] الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فحذف من وقال علي بن عيسى هذا غير صحيح لأن حذف من لا يجوز في مثل هذا الموضع وقال أبو مسلم الأصفهاني أن في هذا الكلام تقديما وتأخيرا وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حيوة وأقول إذا جاز هاهنا أن يحذف الموصوف الذي هو طائفة وتقام الصفة مقامه وهو قوله {من الذين أشركوا} فليجز على ما ذهب إليه الجبائي أن يكون تقديره ومن الذين أشركوا طائفة يود أحدهم فيحذف الموصوف ويقام صفته الذي هو{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} مقامه فيصح على هذا تقدير الحذف ويستوي القولان من حيث الصورة والصفة ويختلفان من حيث المعنى ويكون من هنا هي الموصوفة لا الموصولة كما قدره الجبائي .
وقوله {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض وتحيى به الملوك يقولون عش ألف نوروز وألف مهرجان قال ابن عباس هو قول أحدهم لمن عطس هزار سأل بزي يقال فهؤلاء الذين يزعمون(4) أن لهم الجنة لا يتمنون الموت وهم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث وكذلك يجب أن يكون هؤلاء لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم والعذاب الأليم على كفرهم وعنادهم مما لا يقر به أهل الشرك فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث وعلى الحياة أحرص لهذه العلة وقوله {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما أحدهم بمنجيه من عذاب الله ولا بمبعده منه تعميره وهو أن يطول له البقاء لأنه لا بد للعمر من الفناء هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها {والله بصير بما يعملون} أي عليم بأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها بل هو محيط بجميعها حافظ لها حتى يذيقهم بها العذاب وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله : (بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك بها ما فأت ويحيي بها ما أمات).
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص306-313.
2- الغلالة : شعار يلبس تحت الثوب . او تحت الدرع.
3- غص بريقه : اعترض في حلقه.
4- وفي نسخنا المخطوطة : ((يدعون )) بدل ((يزعمون)).
هذه الآيات واضحة الدلالة ، ظاهرة المعنى ، وأيضا فيها تكرار لما سبق ، ولذا نكتفي بذكر المعنى العام لها .
أمر اللَّه نبيه أن يجادل المخالفين بالحسنى : ومعنى الجدال بالحسنى مخاطبة القلب والعقل ، وكل حجاج القرآن من هذا النوع . . فلقد دعا الجاحدين إلى التفكر في أنفسهم ، وفي خلق السماوات والأرض ، وقال لمن نسب السيد المسيح إلى الألوهية : انه وأمه كانا يأكلان الطعام ، وخاطب قلوب اليهود بهذه الآيات ، حيث ذكرتهم بنعمة اللَّه عليهم بالتوراة ، فيها الهدى والنور ، كما ذكرتهم آيات سابقة بخلاصهم وتحررهم من فرعون ، وما إلى ذاك ، ثم وبخهم اللَّه بعبادة العجل كفرا وجحودا لنعمته ، وكرر ذكر رفع الجبل فوقهم لتمردهم وعصيانهم ، وكذّب بمنطق العقل دعواهم انهم أبناء اللَّه وأحباؤه ، وان الجنة خالصة لهم لا
يدخلها أحد غيرهم ، وأمرهم - ان كانوا صادقين - بتمني الموت ، لأن من اعتقد انه للجنة قطعا آثر الموت المريح على حياة البلاء والشقاء .
ثم أخبر القرآن ان اليهود أشد الناس حرصا على حياة الدنيا ، بل هم أحرص عليها من الذين لا يؤمنون بجنة ولا نار ، بل ان الواحد منهم يتمنى لو عاش ألف سنة ، ولكن تعميره لا يجديه شيئا ، ولا ينجيه من العذاب . . والغرض من الجدال بهذا المنطق العقلي السليم هو الزام اليهود الحجة بأنهم كاذبون في دعواهم الايمان بالتوراة ، وفي زعمهم بأنهم شعب اللَّه المختار .
قال الشيخ المراغي في تفسيره : « جاء في الأخبار ان عبد اللَّه بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة باردة شرابها
وان عمار بن ياسر في حرب صفين قال :
غدا نلقى الأحبه * محمدا وصحبه
فان لم يتمن اليهود الموت فما هم بصادقي الايمان ، وهذه حجة تنطبق على الناس عامة ، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون بها دعواهم اليقين بالايمان ، والقيام بحقوق اللَّه ، فان ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل اللَّه كانوا مؤمنين حقا ، وان ضنوا بها إذا جد الجد ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدعون » .
المصلحة هي السبب لا الجنسية :
ونحن لا نشك أبدا بأن مسألة تكذيب اليهود لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ليست مسألة ايمانهم بخصوص ما ينزل عليهم من الوحي تعصبا لجنسيتهم ، كلا ، والف كلا . . ان الدافع الوحيد للتكذيب هو مصالحهم الشخصية ، ومنافعهم المادية ، انهم يعيشون على الغش والربا والدعارة ، ومحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) يحرم ذلك ، فكيف يؤمنون به ؟ .
والدليل انهم كفروا بتوراتهم ، وقتلوا أنبياءهم ، ولا سبب الا حرصهم على المنفعة الذاتية ، وكل من حرص على منفعته لا يجدي معه جدال بالحسنى ، وفي قوله تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} اشعار بهذه الحقيقة . وما عدا هذه الآية الكريمة من المحاجة انما جرت معهم مجرى النقاش ، والإلزام بالحجة ، تماما كما تقول : لو سلمنا جدلا .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص154-156.
قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل}، الإشراب هو السقي، والمراد بالعجل حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل و به يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة و مجاز.
قوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم}، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى، والاستكبار بإعلام المعصية، و فيه معنى الاستهزاء بهم.
قوله تعالى: {قل إن كانت لكم} إلخ، لما كان قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}: و قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم و أن نجاتهم و سعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة وهي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم وأنهم يعلمون ذلك من غير تردد وارتياب فقال تعالى لنبيه: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله {عند الله} أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] وقوله تعالى: {خالصة} أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: {من دون الناس} وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، وقوله تعالى: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وهذا كقوله تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}: الجمعة - 6 وهذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك وهو أن الإنسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب اختار الراحة من غير تردد وتذبذب وإذا خير بين حياة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا ولو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.
فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا وأركانا ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.
قوله تعالى: {بما قدمت أيديهم} كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي وعد كل فعل عملا للأيدي.
وبالجملة أعمال الإنسان وخاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والأعمال الطالحة والأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله والحلول في دار أوليائه.
قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، كالدليل المبين لقوله تعالى: {ولن يتمنوه أبدا} أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والإخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
قوله تعالى: {ومن الذين أشركوا} الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.
قوله تعالى: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر}، الظاهر أن ما نافية وضمير هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله: {بمزحزحه} أي بمبعده، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله: {يود أحدهم}، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب.
وقوله تعالى: {أن يعمر} بيان له ومعنى الآية ولن يتمنوا الموت وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر وهو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد وأجل.
قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}، أي أطول العمر وأكثره، فالألف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة ألف وألف ألف.
قوله تعالى: {والله بصير بما يعملون}، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص187-192.
يعرض القرآن وثيقة لإدانة اليهود ولكشف زيف ادعائهم فيقول: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسى بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}.
ما هذا الإنحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين؟! لو كنتم آمنتم به حقّاً، فَلِمَ تبدّل إيمانكم إلى كفر عند غياب موسى وذهابه إلى جبل الطور، وبذلك ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم والأجيال المتعاقبة بعدكم؟!
في الآية الثانية يطرح القرآن وثيقة إدانة اُخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّة وَاسْمَعُوا، قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}.
وما كان عصيانهم إلاّ عن انغماس في حبّ الدنيا الذي تمثّل في حبّ عجل السّامري الذّهبي: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهمْ} ولذا نسوا الله عزّ وجلّ؟! كيف يجتمع الايمان بالله مع قتل انبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الالهية المؤكدة؟! أجل {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنيِنَ}(1).
فئة مغرورة:
يبدو من تاريخ اليهود ـ مضافاً لما أخبر القرآن عنه ـ أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أن الجنّة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء الله وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.
هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية (18) من سورة المائدة تقول عن لسانهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}.وفي الآية111 من سورة البقرة نرى إدعاءً آخر لهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصارَى}، وهكذا في الآية 80 من سورة البقرة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيّاماً مَعْدُودَةً}.
هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان، وتبعث فيهم ـ من جهة اُخرى ـ الغرور والتكبّر والإستعلاء.
والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ألا تحبّون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه؟!
لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنّة خالصة لنا دون سائر النّاس: أو أن النار لا تمسّنا إلاّ أيّاماً معدودات ـ إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.
لماذا تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدّعون؟! لماذا هذا الإِلتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقّاً؟!
بهذا الشكل فضح القرآن أُكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.
في الآية التّالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ، وَاللهُ عَلَيْمٌ بِالظَّالِمينَ}.
هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، والله عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.
الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَيَاة} وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: {وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا}.
المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.
وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة} لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغيّر من مصيره شيئاً {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أنْ يُعَمَّرَ} إذ كل شيء محصى لدى الله، ولا يعزب عن عمله شيء {واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
_______________________
1-الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ،248-251.
2- مرّ بنا في الآيتين (51 و 63) من هذه السّورة المباركة موضوع ميثاق بني إسرائيل وخصائصه.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|