أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-9-2016
1055
التاريخ: 15-9-2016
2931
التاريخ:
1089
التاريخ: 27-8-2018
1695
|
من العلماء الذين نسبوا هجرة الساميين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغير الذي وقع في جو جزيرة العرب، العالم الايطالي "كيتاني" "L.Caetani". لقد تصور "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارتها مدة طويلة وكانت سبباً في رسم تلك الصورة البديعة في مخيلة كتاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب، غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحارى ورمالا، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قوية وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات.
ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جو جزيرة العرب، إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيراً محسوساً ملموساً إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجاً، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخنف تضيق منذ هذا الزمن.
وقد تصور "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهاراً كانت ذات مياه غزيرة تنساب أليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحياناً، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار.
وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار أليها، هي وادي الدواسر، و وادي الرمة، ووادي السَّرحان، ووادي حَوْران. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري "جيحون" و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة، هما في جزيرة العرب.
ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كانت موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين".
وقد قسّم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. و أما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية -في رأيه - في مستوى راق من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقلّ في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كذلك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخر ى.
وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجاً بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التاريخ العربي. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تاريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، قد جرت في مناطق محدودة فلم تفحص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصاً علمياً فنياً، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التاريخية.
يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحول الأرضين الخصبة صحارى، إلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحول الطرق التجارية. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل و الرؤساء، و انشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه و أهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلاً لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثر على السدّ كما تصور ذلك "كيتاني"، بل بعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شؤون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس، مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن للسادس للميلاد، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدع السد بسبب ضغط الماء على جوانبه، هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف.
ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعمرت قرى، وشقت ترع، وحفرت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعد من الأرضين الصحراوية. فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكون هذه الصحارى، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المتفرج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمال خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وان من الممكن إعادة قسم من الأرضين الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، و إقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون.
وبرى "موسل" أيضا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسالة لا يمكن البت فيه ألان، لقلة الدراسات العلمية، كما ان ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مرده إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجو الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مرده في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله اياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتاب، ولكنها بقلة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد و حيوانات أخرى في مواضع قل فيها وجودها الأن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وان اعتداء البشر على الحيوان شر من اعتداء الطبيعة عليه.
ولا يوافق "موسل" على نطريه "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية "السراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السراة" إلى الخليج والبحر العربي.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، وهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سبباً لظهور الصحارى الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي. و يرى "موسل" أن هذا التقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية و جغرافية، ولا إلى أراء "الكلاسيكيين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم و انه مجرد رأي لا يكون حجة لإثبات هذا الرأي.
و لموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" و غيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تاريخي قوي. فليست لدينا حتى ألان براهين كافية تثبت - على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيي" مثلا من جزيرة العرب. كما إن ما ادعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قبل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ضلت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد? أزدادت الرطوبة و تحسن الجو? أم أن القبائل الكبيرة قد تجزأت إلى قبائل صغيرة و عشائر و أفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محال صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة ، و لا إلى مياه غزيرة? فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة و هل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطورتين البيزنطية و الساسانية كانتا قد سدتا أبواب جزيرة العرب على اهلها، فلم تسمحا بتخطي هذه الحدود? و يرى إن ما ادعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهلة بالسكان، تمر بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتا بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايخ من أهل الهلال الخصيب، ولم يكونوا مهاجرين وردوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تزعمه بعض الروايات.
و يأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها - مع التسليم بصحتها - تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خبر مسوغ لا يصح أن يكون سنداً في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد.
ويمكن تفسير انتساب القبائل - على حد قول موسل - بصورة أخرى، هو ان العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيراً من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشر ف بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسعت وتضخمت في الإسلام.
ويدّعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقاً، لرأينا أثرها في لغة القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارة في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد في شيئاً من ذلك، وهذا مما يفند رأي القائلين بالهجرات، وباًن أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن.
ويعترض "موسل" أيضا على دعوى "كيتاني" وغيره من المستشرقين ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكوه "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع.
والرأي عندي أن ما يسمى بموضوع تغير الجو في جزيرة العرب وبالهجرات للسامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية، لاتخاذ ذلك دليلا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعد، وهو لا يزال بعد يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كلمتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقف الحكم في موضوع تطور الجو وتغير الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية ثقافية أخرى، فأنها لا تكفي في نظري للبت في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة لمعلوم لا للحدس والتصور والتخمين, هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع.
هجرات القبائل:
هنالك عدة اسباب ترجع الى هجرة القبائل من مكان الى اخر , مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسببت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى، لعدم وجود قوات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم، ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسيين وفي الأيام التي تلتهم، فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنية فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، ولم يبق من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت أليه اليوم.
والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خربت وهجرت وصارت أثراً، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبق من أكثرها شيئاً، فهل نرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الواحات والبحيرات والأنهار? إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود واحات وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن.
وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض محتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي، وضعوا نظريتهم هذه قياساً على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب، ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا تجد من ناحية أخرى ان التوراة تذكر آن الاسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والإخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة اسماعيل أي أنهم اسماعيليون، ويذكرون أنهم جاؤوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدهم رفع قواعد البيت الحرام، ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقواماً من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وان قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشمام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعله يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائماً في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة نتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، و بمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تتنقل من مكان إلى مكان طلباً للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل، هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يدرجون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الاسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلق اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم فدمهم من هنا ليس بدم صاف نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخراً مطلقاً بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدل تبدلا محسوسا مؤثرا فيها منذ حوالي ألفي عام، و منهم من عزا أسباب انخفاض مستوى الماء الارضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعزا خراب القرى و المدن و اندثار السدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو. ومع كل ذلك، فأن هذه الدراسات لم تنضج بعد، ودراسة جزيرة العرب لم تتم بصورة علمية مختبرية بعد، و أكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدس و التخمين، و لا يمكن بناء نظريات معقولة على مثل هذه الآراء.
إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريث في البت في وطن الجنس السامي، حتى تتهيأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، و بمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلاً علمياً مقنعاً في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هدْا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وان كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام بفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، و إنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|