أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016
1765
التاريخ: 18-8-2016
980
التاريخ: 19-7-2020
1862
التاريخ: 18-8-2016
1046
|
إن القياس - على ما سيأتي تحديده وبيان موضع البحث فيه - من الأمارات التي وقعت فيها معركة الآراء بين الفقهاء. وعلماء الإمامية - تبعا لآل البيت عليهم السلام - أبطلوا العمل به. ومن الفرق الأخرى أهل الظاهر المعروفين ب (الظاهرية) أصحاب داود بن خلف إمام أهل الظاهر. وكذلك الحنابلة لم يكن يقيمون له وزنا. وأول من توسع فيه في القرن الثاني أبو حنيفة (رأس القياسيين)، وقد نشط في عصره، وأخذ به الشافعية والمالكية. ولقد بالغ به جماعة فقدموه على الإجماع، بل غلا آخرون فردوا الأحاديث بالقياس، وربما صار بعضهم يؤول الآيات بالقياس. ومن المعلوم عند آل البيت عليهم السلام أنهم لا يجوزون العمل به، وقد شاع عنهم: (ان دين الله لا يصاب بالعقول) و (ان السنة إذا قيست محق الدين). بل شنوا حربا شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي وقياسهم ما وجدوا للكلام متسعا. ومناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) معهم معروفة، لا سيما مع أبي حنيفة، وقد رواها حتى أهل السنة إذ قال له فيما رواه ابن حزم (1) (اتق الله ولا تقس، فانا نقف غدا بين يدي الله فنقول: (قال الله وقال رسوله) وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا). والذي يبدو ان المخالفين لآل البيت الذين سلكوا غير طريقهم ولم يعجبهم ان يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام الله وما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) فالتجئوا إلى ان يصطنعوا الرأي والاجتهادات الاستحسانية للفتيا والقضاء بين الناس، بل حكموا الرأي والاجتهاد حتى فيما يخالف النص، أو جعلوا ذلك عذرا مبررا لمخالفة النص، كما في قصة تبرير الخليفة الأول لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وقد خلا بزوجته ليلة قتله، فقال عنه: (انه اجتهد فأخطأ)، وذلك لما أراد الخليفة عمر بن الخطاب ان يقاد به ويقام عليه الحد (2). وكان الرأي والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة والتابعين، حتى بدأ البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه. ثم بعد ان أخذت الدولة العباسية تساند أهل القياس وبعد ظهور النقاد له، انبرى جماعة من علمائهم لتحديد معالمه وتوسيع أبحاثه، ووضع القيود والاستدراكات له، حتى صار فنا قائما بنفسه. ونحن يهمنا منه البحث عن موضع الخلاف فيه وحجيته، فنقول:
1- تعريف القياس:
إن خير التعريفات للقياس - في رأينا - ان يقال: (هو إثبات حكم في محل بعلة لثبوته في محل آخر بتلك العلة). والمحل الأول، وهو المقيس، يسمى (فرعا). والمحل الثاني، وهو المقيس عليه، يسمى (أصلا). والعلة المشتركة تسمى (جامعا). وفي الحقيقة ان القياس عملية من المستدل (أي القياس) لغرض استنتاج حكم شرعي لمحل لم يرد فيه نص بحكمه الشرعي، إذ توجب هذه العملية عنده الاعتقاد يقينا أو ظنا بحكم الشارع. والعملية القياسية هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت للأصل شرعا، فيعطى القايس حكما للفرع مثل حكم الأصل، فان كان الوجوب أعطى له الوجوب، وان كان الحرمة فالحرمة.. وهكذا. ومعنى هذا الإعطاء ان يحكم بأن الفرع ينبغي أن يكون محكوما عند الشارع بمثل حكم الأصل للعلة المشتركة بينهما. وهذا الإعطاء أو الحكم هو الذي يوجب عنده الاعتقاد بأن للفرع مثل ما للأصل من الحكم عند الشاعر، ويكون هذا الإعطاء أو الحكم أو الإثبات أو الحمل - ما شئت فعبر - دليلا عنده على حكم الله في الفرع. وعليه: (فالدليل): هو الإثبات الذي هو نفس عملية الحمل وإعطاء الحكم للفرع من قبل القايس. و(نتيجة الدليل): هو الحكم بان الشارع قد حكم فعلا على هذا الفرع بمثل حكم الأصل. فتكون هذه العملية من القايس دليلا على حكم الشارع، لأنها توجب اعتقاده اليقيني أو الظني بأن الشأن له هذا الحكم. وبهذا التقرير يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف بان الدليل - وهو الإثبات نفسه نتيجة الدليل، بينما انه يجب ان يكون الدليل مغايرا للمستدل عليه. وجه الدفع، انه اتضح بذلك البيان ان الإثبات في الحقيقة - وهو عملية الحمل - عمل القايس وحكمه (لا حكم الشارع) وهو الدليل. وأما المستدل عليه، فهو حكم الشارع على الفرع، وإنما حصل للقايس هذا الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك العملية القياسية التي أجراها. ومن هنا يظهر ان هذا التعريف أفضل التعريفات وأبعدها عن المناقشات. واما تعريفه بالمساواة بين الفرع والأصل في العلة أو نحو ذلك، فانه تعريف بمورد القياس، وليست المساواة قياسا. وعلى كل حال، لا يستحق الموضوع الإطالة، بعد ان كان المقصود من القياس واضحا.
2 - أركان القياس:
بما تقدم من البيان يتضح ان للقياس أربعة أركان:
1 - (الأصل)، وهو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعا.
2 - (الفرع)، وهو المقيس، المطلوب إثبات الحكم له شرعا.
3- (العلة)، وهي الجهة المشتركة بين الأصل والفرع التي اقتضت ثبوت الحكم. وتسمى (جامعا).
4- (الحكم)، وهو نوع الحكم الذي ثبت للأصل ويراد إثباته للفرع. وقد وقعت أبحاث عن كل من هذه الأركان مما لا يهمنا التعرض لها الا فيما يتعلق بأصل حجيته وما يرتبط بذلك. وبهذا الكفاية.
3 - حجية القياس:
ان حجية كل أمارة تناط بالعلم - وقد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرة - فالقياس، كباقي الأمارات، لا يكون حجة الا في صورتين لا ثالث لهما:
1 - ان يكون بنفسه موجبا للعلم بالحكم الشرعي.
2 - ان يقوم دليل قاطع على حجيته، إذا لم يكن بنفسه موجبا للعلم. وحينئذ لا بد من بحث موضوع حجية القياس من الناحيتين، فنقول:
1 - هل القياس يوجب العلم؟:
ان القياس نوع من (التمثيل) المصطلح عليه في المنطق - راجع (المنطق) للمؤلف 2 / 147 - 149 -. وقلنا هناك: ان التمثيل من الأدلة التي لا تفيد الا الاحتمال، لأنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر، بل في عدة أمور، ان يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيات.
نعم، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع وتعددت، يقوى في النفس الاحتمال حتى يكون ظنا ويقرب من اليقين. والقيافة من هذا الباب. ولكن كل ذلك لا يغني عن الحق شيئا. غير انه إذا علمنا - بطريقة من الطرق - ان جهة المشابهة علة تامة لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع، ثم علمنا أيضا بأن هذه العلة التامة موجودة بخصوصياتها في الفرع، فانه لا محالة يحصل لنا، على نحو اليقين، استنباط ان مثل هذا الحكم ثابت في الفرع كثبوته في الأصل، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة. ويكون من القياس المنطقي البرهاني الذي يفيد اليقين. ولكن الشأن كل الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بان الجامع علة تامة للحكم الشرعي. وقد سبق ص 114 من هذا الجزءان ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول، أو لا مجال للنظر العقلي فيها، فلا تعلم الا من طريق السماع من مبلغ الأحكام الذي نصبه الله تعالى مبلغا وهاديا. والغرض من كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها أن أصل تعليل الحكم بالملاك لا يعرف الا من طريق السماع لأنه أمر توقيفي، أما نفس وجود الملاك في ذاته فقد يعرف من طريق الحس ونحوه، لكن لا بما هو علة وملاك، كالإسكار فان كونه علة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلة السمعية، أما وجود الاسكار في الخمر وغيره من المسكرات فأمر يعرف بالوجدان، ولكن لا ربط لذلك بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم، فانه ليس هذا من الوجدانيات. وعلى كل حال، فان السر في ان الأحكام وملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح، لأنها أمور توقيفية من وضع الشارع، كاللغات والعلامات والإشارات التي لا تعرف الا من قبل واضعيها، ولا تدرك بالنظر العقلي، إلا من طريق الملازمات العقلية القطعية التي تكلمنا عنها فيما تقدم في بحث الملازمات العقلية في الجزء الثاني. وفي دليل العقل من هذا الجزء. والقياس لا يشكل ملازمة عقلية بين حكم المقيس عليه وحكم المقيس. نعم إذا ورد نص من قبل الشارع في بيان علة الحكم في المقيس عليه فانه يصح الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين:
(الأول) ان نعلم بان العلة المنصوصة تامة يدور معها الحكم أينما دارت، و(الثاني) أن نعلم بوجودها في المقيس.
والخلاصة: ان القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم، لأنه لا يتكفل ثبوت الملازمة بين حكم المقيس عليه وحكم المقيس. ويستثنى منه منصوص العلة بالشرطين اللذين تقدما. وفي الحقيقة ان منصوص العلة ليس من نوع القياس كما سيأتي بيانه. وكذلك قياس الأولوية.
ولأجل ان يتضح الموضوع أكثر نقول: ان الاحتمالات الموجودة في كل قياس خمسة ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم الأصل وحكم الفرع، ولا يمكن رفع هذه الاحتمالات الا بورود النص من الشارع، والاحتمالات هي:
1- احتمال ان يكون الحكم في الأصل معللا عند الله بعلة أخرى غير ما ظنه القايس. بل يحتمل على مذهب هؤلاء ألا يكون الحكم معللا عند الله بشيء أصلا، لأنهم لا يرون الأحكام الشرعية معللة بالمصالح والمفاسد، وهذا من مفارقات آرائهم فإنهم إذا كانوا لا يرون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فكيف يؤكدون تعليل الحكم الشرعي في المقيس عليه بالعلة التي يظنونها، بل كيف يحصل لهم الظن بالتعليل؟
2- احتمال ان هناك آخر ينضم إلى ما ظنه القايس علة بان يكون المجموع منهما هو العلة للحكم، لو فرض ان القايس أصاب في أصل التعليل.
3- احتمال ان يكون القايس قد أضاف شيئا أجنبيا إلى العلة الحقيقية لم يكن له دخل في الحكم في المقيس عليه.
4- احتمال ان يكون ما ظنه القايس علة - ان كان مصيبا في ظنه - ليس هو الوصف المجرد بل بما هو مضاف إلى موضوعه (اعني الأصل) لخصوصية فيه.
مثال ذلك: لو علم بأن الجهل بالثمن علة موجبة شرعا في إفساد البيع، وأراد ان يقيس على البيع عقد النكاح إذا كان المهر فيه مجهولا، فانه يحتمل أن يكون الجهل بالعوض الموجب لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض في البيع، لا مطلق الجهل بالعوض من حيث هو جهل بالعوض ليسري الحكم إلى كل معاوضة، حتى في مثل الصلح المعاوضي والنكاح باعتبار أنه يتضمن معنى المعاوضة عن البضع.
5- احتمال ان تكون العلة الحقيقية لحكم المقيس عليه غير موجودة أو غير متوفرة بخصوصياتها في المقيس. وكل هذه الاحتمالات لا بد من دفعها ليحصل لنا العلم بالنتيجة، ولا يدفعها الا الأدلة السمعية الواردة عن الشارع.
وقيل: من الممكن تحصيل العلم بالعلة بطريق برهان السبر والتقسيم. وبرهان السبر والتقسيم عبارة عن عد جميع الاحتمالات الممكنة، ثم يقام الدليل على نفي واحد واحد حتى ينحصر الأمر في واحد منها، فيتعين، فيقال مثلا: حرمة الربا في البر: أما ان تكون معللة بالطعم، أو بالقوت، أو بالكيل. والكل باطل ما عدا الكيل. فيتعين التعليل به. أقول: من شرط برهان السبر والتقسيم ليكون برهانا حقيقيا، ان تحصر المحتملات حصرا عقليا من طريق القسمة الثنائية (3) التي تردد بين النفي والإثبات. وما يذكر من الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعي لا تعدو ان تكون احتمالات استطاع القايس ان يحتملها ولم يحتمل غيرها، لا أنها مبنية على الحصر العقلي المردد بين النفي والإثبات. وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يفرضه من الاحتمالات يجوز ان يكون وراءها احتمالات لم يتصورها أصلا. ومن الاحتمالات ان تكون العلة اجتماع محتملين أو أكثر مما احتمله القايس. ومن الاحتمالات أن يكون ملاك الحكم شيئا آخر خارجا عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن ان يهتدي إليه القايس، مثل التعليل في قوله تعالى (سورة النساء: 160): {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فان الظاهر من الآية ان العلة في تحريم الطيبات عصيانهم لا أوصاف تلك الأشياء. بل من الاحتمالات عند هذا القايس الذي لا يرى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ان الحكم لا ملاك ولا علة له، فكيف ان يدعي حصر العلل فيما احتمله وقد لا تكون له علة. وعلى كل حال، فلا يمكن ان يستنتج من مثل السبر والتقسيم هنا أكثر من الاحتمال. وإذا تنزلنا فأكثر ما يحصل من الظن. فرجع الأمر بالأخير إلى الظن (وان الظن لا يغني من الحق شيئا). وفي الحقيقة ان القائلين بالقياس لا يدعون إفادته العلم، بل أقصى ما يتوقعونه إفادته للظن، غير انهم يرون ان مثل هذا الظن حجة. وفي البحث الآتي نبحث عن أدلة حجيته.
2 - الدليل على حجية القياس الظني:
بعد ان ثبت ان القياس في حد ذاته لا يفيد العلم، بقي علينا ان نبحث عن الأدلة على حجية الظن والحاصل منه، ليكون من الظنون الخاصة المستثناة من عموم الآيات الناهية عن أتباع الظن، كما صنعنا في خبر الواحد، والظواهر، فنقول: أما نحن - الإمامية - ففي غنى عن هذا البحث، لأنه ثبت لدينا على سبيل القطع من طريق آل البيت عليهم السلام عدم اعتبار هذا الظن والحاصل من القياس: فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ بالقياس، وان دين الله لا يصاب بالعقول، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول، ولا ملاكاتها وعللها. على انه يكفينا في إبطال القياس ان نبطل ما تمسكوا به لإثبات حجيته من الأدلة، لنرجع إلى عمومات النهي عن أتباع الظن وما وراء العلم. أما غيرنا - من أهل السنة الذين ذهبوا إلى حجيته - فقد تمسكوا بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ولا بأس ان نشير إلى نماذج من استدلالاتهم لنرى ان ما تمسكوا به لا يصلح لإثبات مقصودهم، فنقول: الدليل من الآيات القرآنية: (منها) - قوله تعالى - (الحشر 59): {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] بناء على تفسير الاعتبار بالعبور والمجاوزة، والقياس عبور ومجاوزة من الأصل إلى الفرع. و (فيه) إن الاعتبار هو الاتعاظ لغة، وهو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الذي كفروا من أهل الكتاب، إذ قذف الله في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. وأين هي من القياس الذي نحن فيه؟ وقال ابن حزم في كتابه إبطال القياس ص 30: (ومحال ان يقول لنا: فاعتبروا يا أولي الأبصار، ويريد القياس، ثم لا يبين لنا في القرآن ولا في الحديث: أي شيء نقيس؟ ولا (متى نقيس؟) ولا (على أي نقيس؟). ولو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما أمرنا بقياسه حيث أمرنا، وحرم علينا أن نقيس مالا نص فيه جملة، ولا نتعدى حدوده). و(منها) قوله تعالى (يس 36): {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78، 79] باعتبار أن الآية تدل على مساواة النظير للنظير، بل هي استدلال بالقياس لإفحام من ينكر إحياء العظام وهي رميم. ولولا ان القياس حجة لما صح الاستدلال فيها.
و(فيه) إن الآية لا تدل على هذه المساواة بين النظيرين كنظيرين في أية جهة كانت، كما إنها ليست استدلالا بالقياس، وإنما جاءت لرفع استغراب المنكرين للبعث، إذ يتخيلون العجز عن إحياء الرميم، فأرادت الآية أن تثبت الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها لأول مرة بلا سابق وجود وبين القدرة على أحيائها من جديد، بل القدرة على الثاني أولى، وإذا ثبتت الملازمة والمفروض ان الملزوم (وهو القدرة على إنشائها أول مرة) موجود مسلم، فلا بد أن يثبت اللازم (وهو القدرة على أحيائها وهي رميم). وأين هذا من القياس؟ ولو صح ان يراد من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولوية المقطوعة، وأين هذا من قياس المساواة المطلوب إثبات حجيته، وهو الذي يبتني على ظن المساواة في العلة؟ وقد استدلوا بآيات أخر مثل قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] والتشبث بمثل هذه الآيات لا يعدو ان يكون من باب تشبث الغريق بالطحلب - كما يقولون -. الدليل من السنة: رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله )أحاديث لتصحيح القياس لا تنهض حجة لهم. ولا بأس ان نذكر بعضها كنموذج عنها، فنقول: (منها) - الحديث المأثور عن معاذ ان رسول الله (صلى الله عليه وآله )بعثه قاضيا إلى اليمن وقال له فيما قال: بماذا تقضي إذا لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله؟ قال معاذ: (اجتهد رأيي ولا آلو)، فقال (صلى الله عليه وآله) : (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله). قالوا: قد أقر النبي الاجتهاد بالرأي. واجتهاد الرأي لا بد من رده إلى أصل، وإلا كان رأيا مرسلا، والرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر بالقياس.
و(الجواب): ان الحديث مرسل لا حجة فيه، لان راويه - هو الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة - رواه عن أناس من أهل حمص!. ثم الحارث هذا نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ ولا يعرف له غير هذا الحديث. ثم ان الحديث معارض بحديث آخر (4) في نفس الواقعة، إذ جاء فيه: (لا تقضينّ ولا تفصِلنّ الا بما تعلم. وان أشكل عليك أمر فقف حتى تتبينه أو تكتب إلي). فأجدر بذلك الحديث ان يكون موضوعا على الحارث أو منه. مضافا إلى انه لا حصر فيما ذكروا، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم، ولو بالرجوع إلى العمومات أو الأصول. ولعله يشير إلى ذلك قوله (ولا آلو). و (منها) - حديث الخثعمية التي سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله )عن قضاء الحج عن أبيها الذي فاتته فريضة الحج: أينفعه ذلك؟ فقال (صلى الله عليه وآله )لها: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟) قالت: نعم. قال: (فدين الله أحق بالقضاء). قالوا: فألحق الرسول دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء. وهو عين القياس.
و(الجواب): انه لا معنى للقول بان الرسول أجرى القياس في حكمه بقضاء الحج، وهو المشرع المتلقي الأحكام من الله تعالى بالوحي، فهل كان لا يعلم بحكم قضاء الحج فاحتاج ان يستدل عليه بالقياس؟ ما لكم كيف تحكمون! وانما المقصود من الحديث - على تقدير صحته - تنبيه الخثعمية على تطبيق العام على ما سألت عنه، وهو - أعني العام - وجوب قضاء كل دين إذ خفي عليها أن الحج مما يعد من الديون التي يجب قضاؤها عن الميت، وهو أولى بالقضاء لأنه دين الله. ولا شك في ان تطبيق العام على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى تشريع جديد غير تشريع نفس العام، لان الانطباق قهري. وليس هو من نوع القياس. ولا ينقضي العجب ممن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحج ولا الصوم كالحنفية، ويقول (دين الناس أحق بالقضاء) ثم يستدل بهذا الحديث على حجية القياس؟ و(منها) حديث بيع الرطب بالتمر، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله )سأل: أينقص الرطب إذا يبس؟ فلما أجيب بنعم، قال: (فلا، أذن). والجواب: ان هذا الحديث - على تقدير صحته - يشبه حديث الخثعمية، فان المقصود منه التنبيه على تطبيق العام على أحد مصاديقه الخفية. وليس هو من القياس في شيء. وكذلك يقال في أكثر الأحاديث المروية في الباب. على انها بجملتها معارضة بأحاديث أخر يفهم منها النهي عن الأخذ بالرأي من دون الرجوع إلى الكتاب والسنة.
الدليل من الإجماع: والإجماع هو أهم دليل عندهم، وعليه معولهم في هذه المسألة. والغرض منه إجماع الصحابة. ويجب الاعتراف بأن بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا بل حتى فيما خالف النص تصرفا في الشريعة باجتهاداتهم. والإنصاف ان ذلك لا ينبغي ان ينكر من طريقتهم، ولكن - كما سبق ان أوضحناه - لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على نحو القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة، ولم يعرف عنهم على أي أساس كانت اجتهاداتهم، أكانت تأويلا للنصوص أو جهلا بها أو استهانة بها؟ ربما كان بعض هذا أو كله من بعضهم. وفي الحقيقة انما تطور البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث كما سبق بيانه، فميزوا بين القياس والاستحسان والمصالح المرسلة. ومن الاجتهادات قول عمر بن الخطاب: (متعتان كانتا على عهد رسول الله انا محرمهما ومعاقب عليهما) ومنها: جمعه الناس لصلاة التراويح، ومنها: إلغاؤه في الأذان (حي على خير العمل). فهل كان ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟ لا ينبغي ان يشك ان مثل هذه الاجتهادات ليست من القياس في شيء. وكذلك كثير من الاجتهادات عندهم. وعليه فابن حزم على حق إذا كان يقصد إنكار ان يكون القياس سابقا معروفا بحدوده في اجتهادات الصحابة، حينما قال في كتابه إبطال القياس ص 5: (ثم حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرؤا منه) وقال في كتابه الأحكام 7 / 177: (انه بدعة حدث في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث) اما إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة - وهو لا يريد ذلك قطعا - فهو إنكار لأمر ضروري متواتر عنهم. وقد ذكر الغزالي في كتابه المستصفى 2 / 58 - 62 كثيرا من مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم، ولكن لم يستطيع أن يثبت انها على نحو القياس الا لأنه لم ير وجها لتصحيحها الا بالقياس وتعليل النص. وليس هو منه الا من باب حسن الظن، لا أكثر. وأكثرها لا يصح تطبيقها على القياس. وعلى كل حال، فالشأن كل الشأن في تحقيق إجماع الأمة والصحابة على الأخذ بالقياس ونحن نمنعه أشد المنع. اما (أولا) فلما قلناه قريبا أنه لم يثبت ان اجتهاداتهم كانت من نوع القياس بل في بعضها ثبت عكس ذلك، كاجتهادات عمر بن الخطاب المتقدمة ومثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف، ونحو ذلك.
واما (ثانيا) - فان استعمال بعضهم للرأي - سواء كان مبنيا على القياس أو على غيره - لا يكشف عن موافقة الجميع، كما قال ابن حزم (5) فأنصف: (أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم ان الصحابة ألوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل الا عن مائة ونيف وثلاثين نفرا: منهم سبعة مكثرون وثلاثة عشر نفسا متوسطون، والباقون مقلون جدا تروى عنهم المسألة والمسألتان حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها (6) كالصلوات وصوم رمضان. فأين الإجماع على القول بالرأي؟). والغرض الذي نرمي إليه انه لا ينكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند جملة من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت، بل ربما من غيرهم. وانما الذي ينكر أن يكون ذلك بمجرده محققا لإجماع الأمة أو الصحابة واتفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرون ليس إجماعا مهما كانوا. نعم أقصى ما يقال في هذا الصدد: ان الباقين سكتوا وسكوتهم إقرار، فيتحقق الإجماع. ولكن يجاب عن ذلك ان السكوت لا نسلم انه يحقق الإجماع، لأنه لا يدل على الإقرار الا من المعصوم بشروط الإقرار. والسر في ذلك أن السكوت في حد ذاته مجمل، فيه عند غير المعصوم أكثر من وجه واحد واحتمال: إذ قد ينشأ من الخوف، أو الجبن أو الخجل، أو المداهنة، أو عدم العناية ببيان الحق، أو الجهل بالحكم الشرعي، أو وجهه أو عدم وصول نبأ الفتيا إليهم.. إلى ما شاء الله من هذه الاحتمالات التي لا دافع لها بالنسبة إلى غير المعصوم. وقد يجتمع في شخص واحد أكثر من سبب واحد للسكوت عن الحق. ومن الاحتمالات أيضا أن يكون قد أنكر بعض الناس ولكن لم يصل نبأ الإنكار إلينا. ودواعي إخفاء الإنكار وخفائه كثيرة لا تحد ولا تحصر.
وأما (ثالثا) - فان سكوت الباقين غير مسلم. ويكفي لإبطال الإجماع إنكار شخص واحد له شأن في الفتيا إذ لا يتحقق معه اتفاق الجميع، فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد، وقد ثبت تخطئة القول بالرأي عن ابن عباس وابن مسعود وأضربهما، بل روي ذلك حتى عن عمر بن الخطاب (7): (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث ان يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) وإن كنت أظن ان هذه الرواية موضوعة عليه لثبوت أنه في مقدمة أصحاب أهل الرأي، مع أن أسلوب بيان الرواية بعيدة عن النسبة إليه والى عصره. وعلى كل حال، لا شيء ابلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف والفتوى بالضد، وهذا قد كان من جماعة كما قلنا، بل زاد بعضهم كابن عباس وابن مسعود ان انتهى إلى ذكر المباهلة والتخويف من الله تعالى.
وهل شيء ابلغ في الإنكار من هذا؟ فأين الإجماع؟ ونحن يكفينا إنكار علي بن أبي طالب عليه السلام وهو المعصوم الذي يدور معه الحق كيفما دار كما في الحديث النبوي المعروف. وإنكاره معلوم من طريقته، وقد رووا عنه قوله: (لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره). وهو يريد بذلك إبطال القول بجواز المسح على الخف الذي لا مدرك له الا القياس أو الاستحسان. الدليل من العقل: لم يذكر أكثر الباحثين عن القياس دليلا عقليا على حجيته (8)، غير ان جملة منهم ذكر له وجوها أحسنها فيما أحسب ما سنذكره، مع انه من أوهن الاستدلالات. الدليل: انا نعلم قطعا بان الحوادث لا نهاية لها.
ونعلم قطعا انه لم يرد النص في جميع الحوادث، لتناهي النصوص، ويستحيل أن يستوعب المتناهي مالا يتناهى. أذن، فيعلم انه لا بد من مرجع لاستنباط الأحكام لتلافي النواقص من الحوادث وليس هو الا القياس. والجواب: صحيح ان الحوادث الجزئية غير متناهية، ولكن لا يجب في كل حادثة جزئية أن يرد نص من الشارع بخصوصها، بل يكفي ان تدخل في أحد العمومات. والأمور العامة محدودة متناهية لا يمتنع ضبطها ولا يمتنع استيعاب النصوص لها. على ان فيه مناقشات أخرى لا حاجة بذكرها.
4- منصوص العلة وقياس الأولوية:
ذهب بعض علمائنا كالعلامة الحلي إلى انه يستثنى من القياس الباطل، ما كان منصوص العلة وقياس الأولوية، فان القياس فيهما حجة. وبعض قال: لا! ان الدليل الدال على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين، وليس هناك ما يوجب استثناءهما. والصحيح أن يقال: ان منصوص العلة وقياس الأولوية هما حجة، ولكن لا استثناءا من القياس، لأنهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس، بل هما من نوع الظواهر، فحجيتهما من باب حجية الظهور. وهذا ما يحتاج إلى البيان، فنقول: منصوص العلة: أما (منصوص العلة)، فان فهم من النص على العلة أن العلة عامة على وجه لا اختصاص لها بالمعلل (الذي هو كالأصل في القياس) - فلا شك في ان الحكم يكون عاما شاملا للفرع، مثل ما لو قال: حرم الخمر لأنه مسكر، فيفهم منه حرمة النبيذ لأنه مسكر أيضا. واما إذا لم يفهم منه ذلك، فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع الا بنوع من القياس الباطل، مثل ما لو قيل: هذا العنب حلو لان لونه أسود، فإنه لا يفهم منه ان كل ما لونه أسود حلو، بل العنب الأسود خاصة حلو. وفي الحقيقة انه بظهور النص في كون العلة عامة ينقلب موضوع الحكم من كونه خاصا بالمعلل إلى كون موضوعه كل ما فيه العلة، فيكون الموضوع عاما يشمل المعلل (الأصل) وغيره، ويكون المعلل من قبيل المثال للقاعدة العامة، لا ان موضوع الحكم هو خصوص المعلل (الأصل) ونستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلة المشتركة، حتى يكون المدرك مجرد الحمل والقياس. كما في الصورة الثانية أي التي لم يفهم فيها عموم العلة. ولأجل هذا نقول: ان الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الأولى يكون من باب الأخذ بظاهر العموم، وليس هو من القياس في شيء ليكون القول بحجية التعليل استثناء من عمومات النهي عن القياس. مثال ذلك قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع: (ماء البئر واسع لا يفسده شيء.. لان له مادة)، فان المفهوم منه - أي الظاهر منه - أن كل ماء له مادة واسع لا يفسده شيء، واما ماء البئر فانما هو أحد مصاديق الموضوع العام للقاعدة، فيشمل الموضوع بعمومه كلا من ماء البئر وماء الحمام وماء العيون وماء حنفية الأصالة.. وغيرها، فالأخذ بهذا الحكم وتطبيقه على هذه الأمور غير ماء البئر ليس أخذا بالقياس، بل هو أخذ بظهور العموم، والظهور حجة. هذا، وفي عين الوقت لما كنا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلة (لان له مادة) لكل ماله مادة وان لم يكن ماء مطلقا، فان الحكم (وهو الاعتصام من التنجس) لا نعديه إلى الماء المضاف الذي له مادة الا بالقياس، وهو ليس بحجة. وما هنا يتضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلة والأخذ بالقياس، فلا بد من التفرقة بينهما في كل علة منصوصة لئلا يقع الخلط بينهما. ومن أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار في تعرف الموضوع للحكم. وبهذا البيان والتفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجية منصوص العلة، فمن يراه حجة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلة، ومن لا يرى حجيته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذا به على نهج القياس.
والخلاصة: إن المدار في منصوص العلة أن يكون له ظهور في عموم الموضوع لغير ما له الحكم (أي المعلل الأصل)، فانه عموم من جملة الظواهر التي هي حجة. ولا بد حينئذ ان تكون حجيته على مقدار ماله من الظهور في العموم، فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم فان التعدية لا محالة تكون من نوع الحمل والقياس الذي لا دليل عليه، بل قام الدليل على بطلانه. قياس الأولوية: أما (قياس الأولوية) فهو نفسه الذي يسمى (مفهوم الموافقة) الذي تقدمت الإشارة إليه 1 / 104 وقلنا هناك: انه يسمى (فحوى الخطاب)، كمثال الآية الكريمة (ولا تقل لهما أف) الدالة بالأولوية على النهي عن الشتم والضرب ونحوهما. وتقدم في هذا الجزء ص 111 أن هذا من الظواهر. فهو حجة من أجل كونه ظاهرا من اللفظ، لا من أجل كونه قياسا، حتى يكون استثناء من عموم النهي عن القياس، وان أشبه القياس، ولذلك سمي بقياس الأولوية والقياس الجلي. ومن هنا لا يفرض مفهوم الموافقة الا حيث يكون للفظ ظهور بتعدي الحكم إلى ما هو أولى في علة الحكم، كآية التأفيف المتقدمة. ومنه دلالة الأذن بسكنى الدار على جواز التصرف بمرافقها بطريق أولى. ويقال لمثل هذا في عرف الفقهاء: (أذن الفحوى) ومنه الآية الكريمة (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) الدالة بالأولوية على ثبوت الجزاء على عمل الخير الكثير. وبالجملة انما تأخذ بقياس الأولوية إذا كان يفهم ذلك من فحوى الخطاب، إذ يكون للكلام ظهور بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى في علة الحكم، فيكون حجة من باب الظواهر. ومن أجل هذا عدوه من المفاهيم وسموه مفهوم الموافقة. أما إذا لم يكن ذلك مفهوما من فحوى الخطاب فلا يسمى ذلك مفهوما بالاصطلاح، ولا تكفي مجرد الأولوية وحدها في تعدية الحكم، إذ يكون من القياس الباطل. ويشهد لذلك ما ورد من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) (9). قال أبان: قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة؟ كم فيها؟ قال: عشر من الإبل. قلت: قطع اثنتين (10). قال: عشرون. قلت: قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون. قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون!؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)ان المرأة تعاقل (11) الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان! انك أخذتني بالقياس. والسنة إذا قيست محق الدين. فهنا في هذا المثال لم يكن في المسألة خطاب يفهم منه في الفحوى من جهة الأولوية تعدية الحكم إلى غير ما تضمنه الخطاب حتى يكون من باب مفهوم الموافقة. وانما الذي وقع من أبان قياس مجرد لم يكن مستنده فيه الا جهة الأولوية، إذ تصور - بمقتضى القاعدة العقلية الحسابية - أن الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع، فإذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بد أن يكون في قطع الأربع أربعون، لان قطع الأربع قطع للثلاثة وزيادة. ولكن أبان كان لا يدري ان المرأة ديتها نصف دية الرجل شرعا فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، وهي مائة من الإبل. والخلاصة: انا نقول ببطلان قياس الأولوية إذا كان الأخذ به لمجرد الأولوية، اما إذا كان مفهوما من التخاطب بالفحوى من جهة الأولوية فهو حجة من باب الظواهر، فلا يكون قياسا؟؟ مستثنى من القياس الباطل.
تنبيه: الاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرايع بقى من الأدلة المعتبرة عند جملة من علماء السنة: (الاستحسان)، و (المصالح المرسلة) و (سد الذرايع). وهي - ان لم ترجع إلى ظواهر الأدلة السمعية أو الملازمات العقلية - لا دليل على حجيتها، بل هي أظهر أفراد الظن المنهي عنه. وهي دون القياس من ناحية الاعتبار. ولو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظن لا يبقى عندنا ما يصلح لانطباق هذه العمومات عليه مما يستحق الذكر، فيبقى النهي عن الظن بلا موضوع. ومن البديهي عدم جواز تخصيص الأكثر. على انه قد أوضحنا فيما سبق في الدليل العقلي ان الأحكام وملاكاتها لا يستقل العقل بإدراكها ابتداء. أي ليس من الممكن للعقول أن تنالها ابتداء من دون السماع من مبلغ الأحكام الا بالملازمة العقلية. وشأنها في ذلك شأن جميع المجعولات كاللغات والإشارات والعلامات ونحوها، فانه لا معنى للقول بأنها تعلم من طريق عقلي مجرد، سواء كان من طريق بديهي أم نظري. ولو صح للعقل هذا الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل ونصب الأئمة، إذ يكون حينئذ كل ذي عقل متمكنا بنفسه من معرفة أحكام الله تعالى، ويصبح كل مجتهد نبيا أو إماما. ومن هنا تعرف السر في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأن كل مجتهد مصيب، وقد اعترف الإمام الغزالي (12) بأنه لا يمكن إثبات حجية القياس الا بتصويب كل مجتهد، وزاد على ذلك قوله بأن المجتهد وان خالف النص فهو مصيب وان الخطأ غير ممكن في حقه. ومن أجل ما ذكرناه من عدم امكان إثبات حجية مثل هذه الأدلة رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه الأدلة ومرادهم منها ومناقشة أدلتهم. ونحيل الطلاب على محاضرات (مدخل الفقه المقارن) التي ألقاها أستاذ المادة في كلية الفقه الأخ السيد محمد تقي الحكيم، فان فيها الكفاية.
___________
(1) إبطال القياس ص 71 مطبعة جامعة دمشق 1379 ه.
(2) راجع كتاب (السقيفة) للمؤلف ص 17، الطبعة الثالثة.
(3) كتاب المنطق للمؤلف 1 / 106 - 108 الطبعة الثانية.
(4) راجع تعليقة الناشر لكتاب إبطال القياس لابن حزم ص 15.
(5) إبطال القياس ص 19.
(6) هذه ليست من المسائل الإجماعية بل هذه من ضروريات الدين. وقد تقدم أن الأخذ بها ليس أخذا بالإجماع.
(7) إبطال القياس ص 58 والمستصفى 2 / 61.
(8) قال الشيخ الطوسي في العدة 2 / 84: (فأما من أثبته فاختلفوا فمنهم من أثبته عقلا وهم شذاذ غير محصلين).
(9) الكافي 7 / 299 طبع طهران بالحروف سنة 1379 ه.
(10) في النسخة المطبوعة (اثنين).
(11) تعاقل: توازن. وفي النسخة المطبوعة (تقابل) - وأحسبه من تصحيح الناشر اشتباها.
(12) المستصفى 2 / 57.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|