أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-8-2016
969
التاريخ: 5-9-2016
941
التاريخ: 23-7-2020
2322
التاريخ: 5-9-2016
1706
|
أمّا الاجماع فتقريره من وجوه:
الأوّل: تحصيل الإجماع إمّا من ملاحظة فتاوى المفتين بحجيّة خبر الواحد، وإمّا من نقل نقلة الإجماع لوصوله إلى حدّ التواتر على حجيّة خبر الواحد مطلقا.
والثاني: تحصيله بأحد الوجهين على حجيّة في حال انسداد العلم، فالأوّل إجماع من غير السيّد وأتباعه، فلو حصل العلم بهذا النحو من الإجماع لا بدّ من تخطئة السيّد ومن تبعه، والثاني إجماع من السيّد وغيره؛ فإنّ السيّد أيضا معترف بحجيّة الخبر في حال الانسداد.
والثالث: سيرة المسلمين والمتديّنين بهذا الدين من حيث هم مسلمون ومتديّنون على العمل بخبر الواحد الغير العلمي، والفرق بينه وبين الإجماع أنّه إجماع جميع أهل الدين من غير اختصاص ببعضهم، بخلاف الثاني، فإنّه إجماع خصوص العلماء منهم فتوى وعملا.
والإنصاف أنّ التمسّك بالإجماع من هذه الوجوه مخدوش، أمّا الإجماع تحصيلا أو نقلا على الحجيّة مطلقا، ففيه أنّه إنّما ينفع لو لم يحتمل أنّ مدرك المجمعين ومستندهم هو ما تقدّم من الآيات والروايات، وأمّا لو احتمل ذلك فلا يكون كاشفا قطعيّا عن رأى الإمام عليه السلام، ومن المعلوم أنّ باب هذا الاحتمال واسع.
وأمّا الإجماع على أحد الوجهين على الحجيّة في حال الانسداد ففيه أنّه مركّب من إجماع طائفتين، إحداهما من يقول بالحجيّة من باب الظنّ المطلق، والاخرى يقول بها من باب الظنّ الخاص، فأمّا الاولى فمستندهم مقدّمات الانسداد، وأمّا الثانية فمدركهم الآيات والروايات، فكيف يتأتّى من هذا الإجماع الكشف القطعي عن قول الإمام.
هذا مضافا إلى الخدشة بما في الكفاية من أنّ هذا الإجماع غير مفيد؛ لأنّ القائلين كلّا منهم قائل بحجيّة خبر خاص، ومثل هذا لا يفيد الكشف لحجيّة أصل الخبر.
بيان ذلك أنّ العدد الذي يفيد قول جمعهم العلم لامتناع تواطئهم على الكذب إنّما هو مفيد للعلم إذا أخبروا بمضمون واحد، كما لو فرضنا أنّ العشرة هكذا، فأخبر عشرة رجال بأنّ الزيد قائم، فبملاحظة امتناع تواطئهم على الكذب يحصل العلم بالصدق. وأمّا لو أخبر هذا العدد كلّ منهم بمجيء شخص غير من أخبر بمجيئه الآخر، فحينئذ لا يحصل العلم لا بمجيء أحد الأشخاص المعيّنة ولا بمجيء الإنسان، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّه لو سئل عن كلّ من المخبرين أنّه لو لم يجئ الشخص الذي أخبرت بمجيئه فهل جاء الإنسان؟ لقال: لا أعلم، وأمّا لو وصل عدد هؤلاء المخبرين بمجيء الأشخاص المختلفين إلى حدّ حصل العلم العادي باستحالة كذب مثل هذا العدد عادة- ويعبّر عنه بالتواتر الإجمالي- حصل العلم حينئذ بالقدر المشترك أعني: مجيء الإنسان وإن لم يحصل بأحد الخصوصيّات معيّنا.
مثلا لو أخبر مائة رجل كلّ واحد بمجيء شخص غير من أخبر الآخر بمجيئه، وقلنا: إنّ كذب المائة محال عادة، حصل العلم بأنّ واحدا من الأشخاص قد جاء وإن كان كلّ منهم مرددا لو سئل عن مجيء الإنسان على تقدير عدم مجيء الخاص الذي أخبر بمجيئه.
نعم يمكن حصول العلم بالقدر المشترك من إخبار العشرة أيضا لو كان إخبار كلّ واحد بمجيء الشخص المعين متضمّنا للإخبار بمجيء الإنسان، فكان قد أخبر بخبرين، الأوّل: مجيء الإنسان، والثاني: أنّه هذا الشخص، فحينئذ يحصل العلم بمجيء الإنسان؛ لامتناع التواطؤ على الكذب وإن كان لا يحصل بواحد من الخصوصيّات.
وحينئذ نقول: إنّ المفتين بحجيّة خبر الواحد طائفة منهم قائلون بحجيّة خبر الثقة مثلا وطائفة بحجيّة خبر العدل مثلا، وطائفة بحجيّة خبر خاص آخر، فإن كانوا هذه الطوائف لو سألوا أنّه على تقدير فساد مذهبكم هل يكون هنا خبر حجّة؟
لقالوا: لا نعلم فهذا الإجماع غير مفيد للعلم لا بحجيّة أحد الخصوصيّات ولا بحجيّة أصل الخبر في الجملة، وإن كانوا أجابوا بوجود خبر كان حجّة فكان في ما بينهم من المسلّم حجيّة خبر واحد واختلفوا في خصوصيّاته، فحينئذ إجماعهم نافع، للعلم بحجيّة خبر الواحد في الجملة، ولكن دون إثبات كون إجماعهم من القبيل الثاني خرط القتاد.
وأمّا التمسّك بالسيرة فإنّما ينفع لو احرز أنّ بناء المسلمين من حيث هم مسلمون ومتديّنون على العمل بالخبر الموثوق به، وأمّا لو لم يحرز ذلك واحتمل ذلك واحتمل أنّه لأجل كونهم عقلاء فلا يبقى الكشف الحاصل بالسيرة، نعم يصير دليلا من باب البناء فيرجع إلى رابع الوجوه.
وكيف كان فالتمسّك بالسيرة على وجه لم يرجع إلى التمسّك ببناء العقلاء غير وجيه، نعم لو أمكن تحصيل القطع بالإجماع على أحد المعنيين أعني الحجيّة المطلقة أو المقيّدة بحال الانسداد على وجه كشف عن قول المعصوم بأن علم عدم استناد المجمعين إلى هذه الوجوه كان هذا الإجماع نافعا بحالنا.
ولا يتوهّم عدم نفعه لأجل أنّه على تقدير عدمه كان الحجيّة ثابتة بدليل الانسداد، وذلك لظهور الثمرة بين إثبات الحجيّة بالإجماع وبين إثباته بدليل الانسداد في أمرين، الأوّل: أنّه لو أثبتنا الحجيّة بنتيجة دليل الانسداد فاللازم الاقتصار على الظنّ الفعلي، فيدور الأمر مدار إفادة الخبر الظنّ الفعلي وعدمها، فإن أفاد كان حجّة وإلّا فلا، وأمّا على إثباته بالإجماع فالخبر في نفسه حجّة سواء أفاد الظنّ فعلا أم لا.
والثاني: أنّه لو قلنا بالحجيّة بنتيجة دليل الانسداد ورد إشكال التبعيض في الاحتياط الذي نبّه عليه شيخنا المرتضى، بمعنى أنّه لا يفيد المقدّمات الاقتصار على المظنونات وإجراء البراءة في المشكوكات والموهومات، بل قضيّتها هو العمل بالمشكوكات أو ببعضها أيضا إذا لم يوجب الوقوع في الحرج والعسر، بل وبالموهومات مع عدم استلزام العسر.
وبالجملة، فالاحتياط الغير الموجب للعسر واجب الأخذ، وهو قد ينطبق على المظنونات فقط، وقد ينطبق عليها وعلى بعض المشكوكات، وقد ينطبق على المظنونات والمشكوكات مع إضافة بعض الموهومات.
وأمّا على تقدير الحجيّة بالإجماع لا ورود لهذا الإشكال، بل القائل في سلامة عنه كما هو واضح، لفرض قيام الإجماع على حجيّة الظنّ النوعي الحاصل من الأخبار، فعلى الثاني يثبت حجيّة الظنّ النوعي المذكور، والأوّل غير ملازم لحجيّة الظنّ الفعليّ المطلق.
الوجه الرابع من وجوه تقرير الإجماع على حجيّة الخبر هو التمسّك ببناء العقلاء، فإنّه لا شكّ في استقرار طريقة العقلاء على العمل بخبر المفيد للاطمئنان ولو لم يكن الناقل ثقة، ولكن حصل الوثوق بالصدق من أجل أمارة خارجيّة، وجرت عادتهم على ذلك في امورهم العادية، وهذا ثابت في غير فرق المسلمين من أهل الملل، بل ومن غيرهم ممّن لا يتديّن بدين كالدهري، فإنّه لو اطمئنّ الدهري بأنّ سفر البحر وركوب السفينة لا يوجب الغرق لنفسه وماله وحصل له هذا الاطمئنان من إخبار المخبرين فهو يقدم على هذا السفر، مع أنّه محتمل مع ذلك للغرق ولكن لا يعتني به، بل يعامل معاملة المعدوم.
وكذلك الحال في معاملة العبيد مع مواليهم، فلو حصل الاطمئنان للعبد أنّ مولاه أراد الركوب وأراد ركوبه معه في ركابه، وحصل له ذلك بنقل ناقل مع وثوق الناقل أو ضميمة أمارة خارجيّة، يركب بمجرّد ذلك ويذهب إلى مقرّ المولى، بحيث لو لم يركب وكان المولى مريدا واقعا لم يكن معذورا، وبالجملة فمجبوليّة العقلاء واقتضاء فطرتهم ذلك في جميع امورهم ممّا لا يقبل الإنكار.
إن قلت: نعم ولكنّهم غير معصومين وقابلون للخطإ، وهذا هو الفارق بين بناء العقلاء وحكم العقل، فإنّ الحاكم قاطع بحكمه ولا يحتمل الخلاف وإن كان من الممكن كون قطعه جهلا مركّبا، ولكن لا يتّفق احتمال ذلك لنفس القاطع، وأمّا لو استقرّ طريقة العقلاء على أمر فمن المحتمل خطائهم، فحكم العقل حجّة شرعيّة في نفسه بلا حاجة إلى ضمّ شيء آخر، وأمّا بناء العقلاء فلا يصير حجّة إلّا بعد إحراز الإمضاء من الشرع، وأمّا بدونه فيحتمل خطائهم، ومع الإمضاء كان الحجّة هو إمضائه.
قلت: نعم ولكن نحن نستكشف إمضاء الشارع بعدم ردعه، فنجعل عدم ردعه دليلا على إمضائه وطريقا إليه، ووجه طريقيّته أنّه بعد ما عرفت من أنّ مقتضى الفطرة هو العمل بالاطمئنان الحاصل من نقل النقلة، فهم لو لم يصرفهم صارف فهم باقون على حسب فطرتهم ويعاملون مع الشارع معاملتهم مع سائر الموالي والأرباب؛ فإنّ اللّه تعالى ربّ الأرباب ونبيّه صلّى اللّه عليه وآله مفترض الطاعة كسائر الموالي العرفيّة بنظرهم، فكما يعملون في أحكام سائر الموالي وأوامرهم بالاطمئنان الحاصل لهم من النقل كذلك يعملون به في أحكام هذين الموليين، فلو كان الموليان مخطّئين لهذه الطريقة لكان عليهما إعلام العبيد بذلك وصرفهم عمّا يمشونه بفطرتهم، فحيث لم يعلما ولم يصرفا علم أنّهما راضيان بهذه الطريقة وممضيان لها.
فإن قلت: كيف لم يردعا وقد ورد في الآيات حرمة العمل بغير العلم وبالظّن، وبهذا المعنى ينادي الأخبار أيضا بأعلى صوت، أ فلا يكفي في الردع مثل هذه النواهي البليغة الأكيدة،؟ وبالجملة، فنحن وإن كنّا نسلّم جريان بناء العقلاء على حجيّة الاطمئنان من الخبر إلّا أنّ موضوع حجيّة بناء العقلاء مقيّد بعدم ردع الشرع، فالأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم الواردة من الشرع واردة على بناء العقلاء؛ لكونها ردعا، فلا يبقى معها موضوع الحجيّة في بناء العقلاء.
قلت: لا بدّ لتوضيح دفع هذا الإشكال من التكلّم في صلاحيّة هذه الأدلّة للرادعيّة وعدمها.
فنقول: قد ادّعى المولى الجليل المولى محمّد كاظم الطوسي في حاشيته على رسائل شيخنا المرتضى قدّس سرّهما وحكى إصراره عليه في الدرس استحالة رادعيّة هذه الأدلّة، ومحصّل ما أفاد في وجه الاستحالة أنّ هذه الأدلّة ليست بأزيد من عمومات قابلة للتخصيص، فالعمل بعمومها في المقام أعني الظنّ الحاصل من الخبر الموثوق به وحجيّة ظهورها في هذا الفرد- حتى يحصل لها وصف الرادعيّة- يتوقّف على عدم حجيّة هذا الظن؛ إذ لو كان حجّة كانت العمومات مخصّصة به، فلا تتّصف بالرادعيّة، فإذا توقّف عدم حجيّة هذا الظن أيضا على رادعيّة هذه الأدلّة كان دورا، وحاصله توقّف رادعيّة الأدلّة على عدم حجيّة هذا الفرد، وتوقّف عدم حجيّته أيضا على رادعيّتها، هذا حاصل ما أفاده.
ولكنّك خبير بأنّه ممكن القلب؛ لإمكان تقرير هذا الإشكال بعينه في طرف الحجيّة، فنقول: حجيّة هذا الظن يتوقّف على عدم رادعيّة الأدلّة، وعدم رادعيّتها أيضا متوقّف على حجيّة هذا الظن، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني أعني: توقّف عدم رادعيّة الأدلّة على حجيّة هذا الظنّ فلأنّ تلك العمومات بطبعها مقتضية لشمول هذا الفرد أيضا، والمفروض عدم المخصّص، فتكون شاملة له، فتكون رادعة، فصحّ أن يقال: إنّ عدم رادعيّتها يتوقّف على حجيّة هذا الظنّ، فإذا توقّف حجيّته أيضا على عدم رادعيّتها كان دورا محالا.
هذا مضافا إلى عدم لزوم الدور رأسا، بيانه أنّه: إذا ورد دليلان متنافيا المضمون فمن شرط تنافي أحدهما للآخر ومعارضته معه أن لا يكون موضوع أحد الدليلين مقيّدا بعدم الآخر، وإن شئت المثال فلاحظ دليل حرمة العمل بالقياس، فإنّه عام أو مطلق شامل لحالتي الانفتاح والانسداد، وأمّا الظنّ المستفاد حجيّته من نتيجة دليل الانسداد فهو وإن كان مطلق الظنّ، لكن موضوعه مقيّد بعدم قيام دليل على المنع، فنتيجة دليل الانسداد إنّما يثبت حجيّة الظنّ الذي لم يقم على منعه دليل من الشرع، فلا يفيد حجيّة الظنّ القياسي، مع أنّ دليل حرمة القياس ليس إلّا عموما أو إطلاقا شاملا لحال الانسداد.
ويمكن تقرير الدور في عمومها للظنّ القياسي في حال الانسداد فيقال: إنّ شمولها وعمومها لهذا الظن متوقّف على عدم حجيّة هذا الظنّ؛ إذ لو كان حجّة كان عموم هذا الدليل مخصّصا في هذا الفرد، فإذا توقّف عدم حجيّة هذا الظنّ على شمول العموم أيضا كان دورا، فيلزم حجيّة هذا الظنّ في حال الانسداد عند القائل بحجيّة الظنّ المطلق.
والسرّ في تقديم العام ورفع الدور أنّ وجه تقديم المخصّصات المنفصلة على عموم العام إنّما هو المعارضة بالأقوى وكون الخاص نصّا أو أظهر من العام، فإذا ورد:
أكرم العلماء، وورد: لا تكرم زيدا، فليس الأوّل بعد ورود الثاني مسلوب الدلالة أو الحجيّة الذاتية لخروج الزيد عن أفراد العالم، بل معه أيضا مقتض بعمومه، لوجوب إكرام الزيد وحجّة ذاتية عليه، ولكنّ الثاني أقوى دلالة وحجيّة من العام، فلهذا يقدّم على العام.
وبالجملة، فعقد موضوع الحجيّة الذاتية الاقتضائية في العام غير مقيّد بعدم المخصّص المنفصل، بل ولو كان مقيّدا بعدم المنفصل أيضا، لكنّ المضرّ إنّما هو المنفصل الذي كان حجيّته مطلقة، دون ما كان حجيّته منوطا بعدم العام كما هو واضح.
نعم بناء على أصالة عدم القرينة هو مقيّد بعدم المخصّص المتّصل، وأمّا الخاص المفروض في المقام أعني الحجيّة المستفادة من دليل الانسداد فعقد حجيته منوط ومربوط بعدم المنع المنفصل من الشرع، فيكون العام الوارد واردا على هذا الخاص، ووجه عدم الدور أنّ الأخذ بالعام كما عرفت بحسب الحجيّة الاقتضائيّة غير متوقّف على عدم الخاص، فإذا أخذنا به يكون منعا يرفع موضوع الخاص أعني عدم المنع، أعني يقوم المنع في مقام عدم المنع؛ لأنّهما في مرتبة واحدة، فيرتفع حجيّة الخاصّ برفع موضوعها.
ومن هنا يظهر أنّ الخاصّ المقدّم على العام إنّما هو خاص لا يكون عقد الموضوع فيه مقيّدا بعدم دليل على خلافه، وإلّا فكان اللازم تقديم العام عليه، لوضوح عدم المقاومة للخاص بهذا الوصف مع أدنى دليل، مثلا لو ورد: أكرم العلماء، وورد:
لا تكرم زيدا ما دام لم يقم دليل على وجوب إكرامه فهل ترى يقدّمون هذا الخاص على العام، بل لا شكّ في أنّهم عاملون بالعام؛ لأنّه دليل، وموضوع الخاص مقيّد بعدم الدليل، فيكفي في رفع اليد عنه وجود أدنى دليل.
إذا تقرّر هذا فنقول: هكذا الحال في ما نحن فيه، فإنّ الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم عمومات شاملة بعمومها للاطمئنان الحاصل من قول الثقة وبناء العقلاء وإن كان ثابتا في خصوص هذا الاطمئنان، إلّا أنّ حجيّة ما يثبت حجيّته ببناء العقلاء مقيّد بعدم قيام دليل على منعه، فإذا دلّ عليه عموم كان له الورود على بناء العقلاء.
وهنا جواب آخر للدور تعرّضه شيخنا في الكتاب، وهو أنّ توقّف الردع على عدم الحجيّة مسلم، لكن توقّف عدم الحجيّة على ثبوت الردع ممنوع، بل يكفي فيه عدم ثبوت الإمضاء قبل ثبوت حال الآية في الردع وعدمه، وفيه أنّ الموقوف عليه عدم الحجيّة إنّما هو ثبوت الردع، ولا يكفي عدم ثبوت الإمضاء؛ لأنّه معه يستكشف الإمضاء لئلّا يلزم نقض الغرض.
هذا والذي يمكن الاستظهار به لدفع رادعيّة العمومات هو أن يقال: إنّ المرتكزات العرفيّة تكون بحيث يغفل عن كون حجيّتها مقيّدة بعدم منع الشرع نوع النفوس، فالارتكاز مانع عن خطور خلافه في ذهن النوع، فالعبد كما يعامل مع مولاه في أحكامه وأوامره بالعمل فيها على الاطمئنان الحاصل من قول القائل على حسب فطرته كذلك هو باق على مقتضى هذه الفطرة لو صار عبدا لمولى آخر، من دون أن يخطر بباله أن تكون طريقة هذا المولى في امتثال أوامره غير طريقة المولى السابق.
فكذا الحال في معاملة العبيد مع الموالي الحقيقيّة، يعني لا يخطر ببال العامّة أنّه يريد منهم أمرا جديدا وطريقة مخترعة غير ما هم مجبولون عليه، فلا يرضى بالعمل بالاطمئنان من قول القائل، بل لا يرضى إلّا بترتيب الأثر على العلم، وكذلك لا يخطر ببالهم أنّ حجيّة هذا الارتكازي موقوف على عدم منع المولى، فهم عاملون على هذا التقييد صغرى وكبرى، فالحاصل عندهم هو الحجيّة التنجيزيّة الإطلاقيّة.
فلهذا لو ورد من الشارع النهي عن العمل بالظنّ ينصرف نظرهم إلى غير هذا الاطمئنان فيقطعون أنّه بمنزلة العلم وإن كان غير علم، بل ويعمّمون الحكم المعلّق على العلم بالنسبة إلى هذا الاطمئنان مثل عدم نقض اليقين إلّا باليقين، فالنقض بهذا الاطمئنان يكون في نظرهم نقضا باليقين، وبالجملة، لا يدخل في ذهنهم من دليل مثبت للحكم على الظنّ هذا الفرد، ويدخل في ذهنهم من الدليل الدال على الحكم في العلم هذا الفرد، والسبب لذلك هو الارتكاز والمجبوليّة المانعة عن دخول مضادّه في أذهانهم، بمعنى أنّهم مع وقوع نظرهم إلى هذا العموم والإطلاق الصادرين من المولى لا يحتملون أنّ هذا الطريق الذي يمشونه من العمل بمقتضى الاطمئنان لعلّه كان على خلاف الواقع وغير مرضيّ لمواليهم وكان طريقة المولى طريقة اخرى.
ويمكن أن يقال: إنّ صورة المعارضة الصورية أيضا ينقدح في ذهنهم، لكنّه مقرون بالقطع بالتخصيص، وبالجملة، لا يذهب عنهم هذا العموم قطعهم بعدم قابليّة طريقتهم للردع، وبعبارة اخرى: لا يذهب قطعهم بالكبرى، والاحتمال الصوري إنّما يتعلّق بمقام الصغرى، فهم يرون الإرادة الصوريّة المستفادة من العموم قد تعلّق بأمر لا يقبل الإرادة الجديّة، فهو عام عندهم قطعي التخصيص نظير أكرم العلماء مع القطع بلا تكرم زيدا، والفرق بين هذا وسابقه أنّ الأوّل دعوى الانصراف وهذا دعوى التخصيص.
هذا هو الحال في عامّة الناس المتّصفين بالغفلة عن تصوّر خلاف مرتكزهم، وأمّا الملتفتون وهم الشاذ القليل من الناس فهذه الطريقة وإن كان ليست في نفسها حجّة لهم لاحتمالهم الخطاء في حقّهم لعدم كونهم معصومين، ولكن يثبت الحجيّة عند تحقّق الارتكاز عندهم أيضا بالبرهان.
وهو أن يقال: لو كان للشارع طريقة جديدة غير ما الناس مجبولون عليه، ويكون خلافه مغفولا عنه لهم، والنهي عن العمل بالظنّ على وجه العموم منصرفا عندهم عمّا ارتكز حجيّته عندهم، أو مخصّصا قطعيا بغيره، لكان يجب على الشارع التنصيص على إظهار أنّه مريد منهم خلاف هذا الطريق المعمول، كما هو المشاهد في المرتكزات في الجاهليّة التي خطّأها الشارع بالإبلاغات الصريحة الأكيدة والإيعادات بأنواع العذاب، فإنّ صرف الأذهان عن ما ارتكز فيها لا يحصل بغير هذا الوجه ولا يمكن الاكتفاء في تبليغه بعموم وإطلاق، فيلزم على تقدير الاكتفاء في بيانه بهما إغراء عامّة الناس بالقبيح.
والحاصل: لو كان احتمال أن تكون الطريقة المجبول عليها من العمل على وفق الاطمئنان الحاصل من قول المخبر غير مرضيّة لدى الشرع وأنّه يحتاج إلى إحراز ذلك حاصلا لعامّة الناس، كان أدلّة النهي عن العمل بالظنّ صالحة للردع ومحكّمة؛ إذ المفروض أنّ كلّا من آحاد النوع يحتمل عدم إمضاء الشرع للطريقة التي يمشي عليها في الامور العادية، ومن المعلوم أنّ هذه الطريقة إنّما تصير حجّة في الامور الشرعيّة لو لم ترد تخطئة من الشرع، فإذا ورد العمومات الناهية عن العمل بالظنّ كان لها الورود وكانت ردعا وتخطئة لهذه الطريقة كما ذكرنا نظيره.
ولكنّ الذي سهّل الخطب أنّ الاحتمال غير حاصل إلّا للشاذ القليل من الأشخاص، فيقوم عند هذا الأشخاص- المحتملين- البرهان على حجيّة الطريقة المألوفة بين أهل العرف.
وحاصله أنّ هذه العمومات غير صالحة للردع لصرف أذهان العامّة منها إلى غير مورد ارتكازهم، ويثبت عدم الرادع من جهة اخرى بلزوم الإغراء بالجهل على تقديره؛ إذ لو كان واقعا غير راض بالطريقة المألوفة المأنوسة كان الواجب عليه إقامة الدليل بحدّ لا يبقى لأحد تشكيك من كثرة التصريحات المحفوفة بالإنذارات والبيانات المكتنفة بالوعيدات، فعدم الرادع في مقام الإثبات يصير دليلا على عدمه في مقام الثبوت، واحتمال نصب هذا الدليل وعدم وصوله إلينا مقطوع العدم، فإنّه لا بدّ في هذه الامور إقامة النصّ الصريح على وجه تبلغ صيته جميع العالمين، فإذا لم يثبت هذا الدليل قطعنا بأنّه ليس طالبا لهذا الأمر.
ومن هنا نقول في باب اعتبار نيّة الوجه والتمييز في العبادة أنّ لنا رفع هذين القيدين وإن قلنا بعدم جريان البراءة فيهما كما يقوله شيخنا المرتضى بهذا الطريق، فنقول: إنّ اعتبار الوجه والتمييز مغفول عنه للعامّة ولا يخطر احتماله ببالهم، وإنّما يحتمله بعض أهل الدقّة من العلماء، وما كان شأنه هكذا فلو طلبه الشارع كان الواجب عليه إقامة مقدّمات تبليغه من التنصيص الغير القابل للتشكيك عليه، ولو كان لبان، وحيث ما أقام نقطع بأنّه ما أراد، وبالجملة، يصحّ دفع الدور المذكور بأن نقول: سلّمنا توقّف الحجيّة على عدم الرادع، ولكن نجعل العدم في مرحلة الإثبات دليلا على العدم في مرحلة الثبوت بمعونة البرهان.
وبعبارة اخرى: الحجيّة الشرعيّة لدى الملتفت موقوفة على عدم الرادعيّة لتلك العمومات، وهي موقوفة على الحجيّة الارتكازيّة، وهذا بخلاف من يدّعي أنّ العقلاء مع كونهم محتملين عدم رضى الشارع بطريقتهم وعدم كونهم غافلين عنه يبنون على رضائه به ما لم يثبت ردعه عنه، وهذا بمنزلة أصل عندهم، حيث إنّ عند الشكّ في وجود الردع يبنون على عدمه، فإنّه وإن كان لا يلزم الدور ببيان تقدّم، لكن يتمّ الرادعيّة للعمومات على هذا التقدير لما مرّ من عدم المعارضة بين المقتضي التنجيزي وهو العمومات والتعليقي وهو البناء، بل اللازم تقديم التنجيزي؛ لوروده على التعليقي.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|