أقرأ أيضاً
التاريخ:
2278
التاريخ: 16-10-2016
798
التاريخ: 18-8-2016
1582
التاريخ: 19-7-2020
2324
|
السنة في اصطلاح الفقهاء: (قول النبي أو فعله أو تقريره). ومنشأ هذا الاصطلاح أمر النبي (صلى الله عليه وآله )بأتباع سنته فغلبت كلمة (السنة) حينما تطلق مجردة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما يتضمن بيان حكم من الأحكام من النبي (صلى الله عليه وآله )سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدل الفعل والتقرير على بيان الأحكام. أما فقهاء (الإمامية) بالخصوص فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب الأتباع فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: (قول المعصوم أو فعله أو تقريره) والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت (عليه السلام) ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقاة في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعة، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي أو من طريق التلقي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه ):
(علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله )ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب). وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي وإلاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم (سنة) لا حكاية السنة وأما ما يجئ على لسانهم أحيانا من روايات وأحاديث عن نفس النبي صلى الله عليه وآله، فهي إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعي. وإما إثبات إمامتهم وان قولهم يجري مجرى قول الرسول (صلى الله عليه وآله )فهو بحث يتكفل به علم الكلام. وإذا ثبت أن السنة بمالها من المعنى الواسع الذي عندنا هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم ومشاهدته فقد أخذ الحكم الواقعي من مصدره الأصلي على سبيل الجزم واليقين من ناحية السند، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل الله الأكبر، والأئمة من آل البيت ثقله الأصغر. أما إذا لم يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعي - كما في العهود المتأخرة عن عصرهم - فإنه لا بد له في أخذ الأحكام من أن يرجع - بعد القرآن الكريم - إلى الأحاديث التي تنقل السنة، إما من طريق التواتر أو من طريق أخبار الآحاد على الخلاف الذي سيأتي في مدى حجية أخبار الآحاد. وعلى هذا فالأحاديث ليست هي السنة بل هي الناقلة لها والحاكية عنها ولكن قد تسمى بالنسبة توسعا من أجل كونها مثبتة لها. ومن أجل هذا يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنة، لأنه يتعلق ذلك بإثباتها. ونعقد الفصل في مباحث أربعة:
1- دلالة فعل المعصوم: لا شك في أن فعل المعصوم - بحكم كونه معصوما - يدل على إباحة الفعل، على الأقل، كما أن تركه لفعل يدل على عدم وجوبه على الأقل. ولا شك في أن هذه الدلالة بهذا الحد أمر قطعي ليس موضعا للشبهة بعد ثبوت عصمته. ثم نقول بعد هذا: انه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلك، وذلك فيما إذا صدر منه الفعل محفوفا بالقرينة كأن يحرز انه في مقام بيان حكم من الأحكام أو عبادة من العبادات كالوضوء والصلاة ونحوهما، فإنه حينئذ يكون لفعله ظهور في وجه الفعل من كونه واجبا أو مستحبا أو غير ذلك حسبما تقتضيه القرينة. ولا شبهة في أن هذا الظهور حجة كظواهر الألفاظ بمناط واحد، وكم استدل الفقهاء على حكم أفعال الوضوء والصلاة والحج وغيرها وكيفياتها بحكاية فعل النبي أو الإمام في هذه الأمور. كل هذا لا كلام ولا خلاف لأحد فيه.. وإنما وقع الكلام للقوم في موضعين:
1 - في دلالة فعل المعصوم المجرد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل فقد قال بعضهم: انه يدل بمجرده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا. وقيل: يدل على استحبابه. وقيل لا دلالة له على شيء منهما، أي انه لا يدل على أكثر من إباحة الفعل في حقنا. والحق هو الأخير، لعدم ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة. وقد يظن ظان أن قوله تعالى في سورة الأحزاب 21: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) يدل على وجوب التأسي وإلاقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله )في أفعاله. ووجوب الإقتداء بفعله يلزم منه وجوب كل فعل يفعله في حقنا وإن كان بالنسبة إليه لم يكن واجبا، إلا ما دل الدليل الخاص على عدم وجوبه في حقنا. وقيل: انه إن لم تدل الآية على وجوب الإقتداء فعلى الأقل تدل على حسن الإقتداء به واستحبابه. وقد أجاب العلامة الحلي عن هذا الوهم فأحسن، كما نقل عنه إذ قال: (إن الأسوة عبارة عن الإتيان بفعل الغير لأنه فعله على الوجه الذي فعله، فإن كان واجبا تعبدنا بإيقاعه واجبا، وإن كان مندوبا تعبدنا بإيقاعه مندوبا، وإن كان مباحا تعبدنا باعتقاد إباحته). وغرضه قدس سره من التعبد باعتقاد إباحته فيما إذا كان مباحا، ليس مجرد الاعتقاد حتى يرد عليه - كما في الفصول - بأن ذلك أسوة في الاعتقاد لا الفعل، بل يريد - كما هو الظاهر من صدر كلامه - إن معنى الأسوة في المباح هو أن نتخير في الفعل والترك أي لا نلتزم بالفعل ولا بالترك، إذ الأسوة في كل شيء بحسب ماله من الحكم، فلا تتحقق الأسوة في المباح بالنسبة إلى الإتيان بفعل الغير إلا بالاعتقاد بالإباحة. ثم نزيد على ما ذكره العلامة فنقول: إن الآية الكريمة لا دلالة لها على أكثر من رجحان الأسوة وحسنها فلا نسلم دلالتها على وجوب التأسي. مضافا إلى أن الآية نزلت في واقعة الأحزاب فهي واردة مورد الحث على التأسي به في الصبر على القتال وتحمل مصائب الجهاد في سبيل الله، فلا عموم لها بلزوم التأسي أو حسنه في كل فعل حتى الأفعال العادية. وليس معنى هذا إننا نقول بأن المورد يقيد المطلق أو يخصص العام، بل انما نقول: انه يكون عقبة في إتمام مقدمات الحكمة للتمسك بالإطلاق. فهو يضر بالإطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد، كما نبهنا على ذلك في أكثر من مناسبة.
والخلاصة: إن دعوى دلالة هذه الآية الكريمة على وجوب فعل ما يفعله النبي مطلقا أو استحبابه مطلقا بالنسبة إلينا بعيدة كل البعد عن التحقيق. وكذلك دعوى دلالة الآيات الآمرة بإطاعة الرسول أو بأتباعه على وجوب كل ما يفعله في حقنا، فإنها اوهن من أن نذكرها لردها.
2 - في حجية فعل المعصوم بالنسبة إلينا، فانه قد وقع كلام للأصوليين في أن فعله إذا ظهر وجهه انه على نحو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب مثلا هل هو حجة بالنسبة إلينا؟ أي انه هل يدل على اشتراكنا معه وتعديه إلينا فيكون مباحا لنا كما كان واجبا عليه.. وهكذا؟ ومنشأ الخلاف: أن النبي (صلى الله عليه وآله )اختص بأحكام لا تتعدى إلى غيره ولا يشترك معه باقي المسلمين: مثل وجوب التهجد في الليل وجواز العقد على أكثر من أربع زوجات. وكذلك له من الأحكام ما يختص بمنصب الولاية العامة فلا تكون لغير النبي أو الإمام باعتبار انه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فإن علم أن الفعل الذي وقع من المعصوم انه من مختصاته فلا شك في أنه لا مجال لتوهم تعديه إلى غيره، وان علم عدم اختصاصه به بأي نحو من أنحاء الاختصاص فلا شك في انه يعم جميع المسلمين فيكون فعله حجة علينا. هذا كله ليس موضع الكلام. وإنما موضع الشبهة في الفعل الذي لم يظهر حاله في كونه من مختصاته أو ليس من مختصاته ولا قرينة تعين أحدهما، فهل هذا بمجرده كاف للحكم بأنه من مختصاته، أو للحكم بعمومه للجميع. أو انه غير كاف فلا ظهور له أصلا في كل من النحوين؟ وجوه، بل أقوال. والأقرب هو الوجه الثاني. والوجه في ذلك: أن النبي بشر مثلنا له ما لنا وعليه ما علينا وهو مكلف من الله تعالى بما كلف به الناس، إلا ما قام الدليل الخاص على اختصاصه ببعض الأحكام: أما من جهة شخصه بذاته وإما من جهة منصب الولاية، فما لم يخرجه الدليل فهو كسائر الناس في التكليف. هذا مقتضى عموم أدلة اشتراكه معنا في التكليف. فإذا صدر منه فعل ولم يعلم اختصاصه به فالظاهر في فعله أن حكمه فيه حكم سائر الناس. فيكون فعله حجة علينا وحجة لنا، لا سيما مع ما دل على عموم حسن التأسي به. ولا نقول ذلك من جهة قاعدة الحمل على الأعم الاغلب، فانا لا نرى حجية مثل هذه القاعدة في كل مجالاتها. وإنما ذلك من باب التمسك بالعام في الدوران في التخصيص بين الأقل والأكثر.
2- دلالة تقرير المعصوم: المقصود من تقرير المعصوم أن يفعل شخص بمشهد المعصوم وحضوره فعلا، فيسكت المعصوم عنه مع توجهه إليه وعلمه بفعله، وكان المعصوم بحالة يسعه تنبيه ألفاعل لو كان مخطئا. والسعة تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان ومن جهة عدم المانع منه كالخوف والتقية واليأس من تأثير الإرشاد والتنبيه ونحو ذلك فإن سكوت المعصوم عن ردع ألفاعل أو عن بيان شيء حول الموضوع لتصحيحه يسمى تقريرا للفعل، أو إقرارا عليه، أو إمضاء له. ما شئت فعبر. وهذا التقرير - إذا تحقق بشروطه المتقدمة - فلا شك في انه يكون ظاهرا في كون الفعل جائزا فيما إذا كان محتمل الحرمة، كما انه يكون ظاهرا في كون الفعل مشروعا صحيحا فيما إذا كان عبادة أو معاملة، لأنه لو كان في الواقع محرما أو كان فيه خلل لكان على المعصوم نهيه عنه وردعه إذا كان ألفاعل عالما عارفا بما يفعل، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكان عليه بيان الحكم ووجه الفعل إذا كان ألفاعل جاهلا بالحكم، وذلك من باب وجوب تعليم الجاهل. ويلحق بتقرير الفعل التقرير لبيان الحكم، كما لو بين شخص بمحضر المعصوم حكما أو كيفية عبادة أو معاملة، وكان بوسع المعصوم البيان، فإن سكوت الإمام يكون ظاهرا في كونه إقرارا على قوله وتصحيحا وإمضاء له. وهذا كله واضح، ليس فيه موضع للخلاف.
3 - الخبر المتواتر: إن الخبر على قسمين رئيسين: خبر متواتر، وخبر واحد و (المتواتر): ما أفاد سكون النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع من أجل أخبار جماعة يتمنع تواطؤهم على الكذب. ويقابله (خبر الواحد) في اصطلاح الأصوليين، وان كان المخبر أكثر من واحد، ولكن لم يبلغ المخبرون حد التواتر. وقد شرحنا حقيقة التواتر في كتاب المنطق (الجزء الثالث ص 10) فراجع. والذي ينبغي ذكره هنا أن الخبر قد يكون له وسائط كثيرة في النقل، كالأخبار التي تصلنا على الحوادث القديمة، فإنه يجب - ليكون الخبر متواترا موجبا للعلم - إن تحقق شروط التواتر في كل طبقة طبقة من وسائط الخبر، وإلا فلا يكون الخبر متواترا في الوسائط المتأخرة، لان النتيجة تتبع أخس المقدمات. والسر في ذلك واضح، لان الخبر ذا الوسائط يتضمن في الحقيقة عدة أخبار متتابعة، إذ إن كل طبقة تخبر عن خبر الطبقة السابقة عليها، فحينما يقول جماعة حدثنا جماعة عن كذا بواسطة واحدة مثلا، فإن خبر الطبقة الأولى الناقلة لنا يكون في الحقيقة خبرها ليس عن نفس الحادثة بل عن خبر الطبقة الثانية عن الحادثة. وكذلك إذا تعددت الوسائط إلى أكثر من واحدة فهذه الوسائط هي خبر عن خبر حتى تنتهي إلى الواسطة الأخيرة التي تنتقل عن نفس الحادثة، فلا بد أن يكون الجماعة الأولى خبرها متواترا عن خبر متواتر عن متواتر وهكذا، إذ كل خبر من هذه الأخبار له حكمه في نفسه. ومتى اختل شرط التواتر في طبقة واحدة خرج الخبر جملة عن كونه متواترا وصار من أخبار الآحاد. وهكذا الحال في أخبار الآحاد، فإن الخبر الصحيح ذا الوسائط إنما يكون صحيحا إذا توفرت شروط الصحة في كل واسطة من وسائطه، وإلا فالنتيجة تتبع أخس المقدمات.
4 - خبر الواحد إن خبر الواحد - وهو مالا يبلغ حد التواتر من الأخبار - قد يفيد علما وإن كان المخبر شخصا واحدا، وذلك فيما إذا أحتف خبره بقرائن توجب العلم بصدقه، ولا شك في أن مثل هذا الخبر حجة. وهذا لا بحث لنا فيه، لأنه مع حصول العلم تحصل الغاية القصوى. إذ ليس وراء العلم غاية في الحجية واليه تنتهي حجية كل حجة كما تقدم. وأما إذا لم يحتف بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه، وإن احتف بالقرائن الموجبة للاطمئنان إليه دون مرتبة العلم - فقد وقع الخلاف العظيم في حجيته وشروط حجيته - والخلاف في الحقيقة - عند الإمامية بالخصوص - يرجع إلى الخلاف في القيام الدليل القطعي على حجية خبر الواحد وعدم قيامه، وإلا فمن المتفق عليه عندهم أن خبر الواحد بما هو خبر مفيد للظن الشخصي أو النوعي لا عبرة به لان الظن في نفسه ليس حجة عندهم قطعا، فالشأن كل الشأن عندهم في حصول هذا الدليل القطعي ومدى دلالته. فمن ينكر حجية خبر الواحد كالسيد الشريف المرتضى ومن أتبعه انما ينكر وجود هذا الدليل القطعي، ومن يقول بحجيته كالشيخ الطوسي وباقي العلماء يرى وجود الدليل القاطع. ولأجل أن يتضح ما نقول ننقل نص أقوال الطرفين في ذلك: قال الشيخ الطوسي في العدة (ج 1 ص 44): (من عمل بخبر الواحد فإنما يعمل به إذا دل دليل على وجوب العمل به إما من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم). وصرح بذلك السيد المرتضى في الموصليات حسبما نقله عنه الشيخ ابن إدريس في مقدمة كتابه السرائر فقال: (لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم) إلى أن قال: (ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد، لأنها لا توجب علما ولا عملا، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم، لان خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا). وأصرح منه قوله بعد ذلك: (والعقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد. ولو تعبد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة لان عبادته بذلك توجب العلم الذي لا بد أن يكون العمل تابعا له). وعلى هذا فيتضح أن المسلم فيه عند الجميع أن خبر الواحد لو خلى ونفسه لا يجوز الاعتماد عليه لأنه لا يفيد إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. وإنما موضع النزاع هو قيام الدليل القطعي على حجيته. وعلى هذا فقد وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة: فمنهم من أنكر حجيته مطلقا، وقد حكي هذا القول عن السيد المرتضى والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس وادعوا في ذلك الإجماع. ولكن هذا القول منقطع الآخر فإنه لم يعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدريس إلى يومنا هذا. ومنهم من قال: (إن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة لا سيما الكتب الأربعة مقطوعة الصدق) وهذا ما ينسب إلى جماعة من متأخري الأخباريين، قال الشيخ الأنصاري تعقيبا على ذلك: (وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلا التحرز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم، وإلا فمدعى القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه..). وأما القائلون بحجية خبر الواحد فقد اختلفوا أيضا: فبعضهم يرى أن المعتبر من الأخبار هو كل ما في الكتب الأربعة بعد استثناء ما كان فيها مخالفا للمشهور. وبعضهم يرى أن المعتبر بعضها والمناط في الاعتبار عمل الأصحاب، كما يظهر ذلك من المنقول عن المحقق في المعارج، وقيل المناط فيه عدالة الراوي أو مطلق وثاقته، أو مجرد الظن بالصدور من غير اعتبار صفة في الراوي.. إلى غير ذلك من التفصيلات. والمقصود لنا الآن بيان إثبات حجية بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلي، ثم ننظر في مدى دلالة الأدلة على ذلك. فالعمدة أن ننظر أولا في الأدلة التي ذكروها من الكتاب والسنة والإجماع وبناء العقلاء، ثم في مدى دلالتها:
أ - أدلة حجية خبر الواحد من الكتاب العزيز: لا يخفى إن من يستدل على حجية خبر الواحد ب الآيات الكريمة لا يدعى بأنها نص قطعي الدلالة على المطلوب، وإنما أقصى ما يدعيه أنها ظاهرة فيه. وإذا كان الأمر كذلك فقد يشكل الخصم بان الدليل على حجية الحجة يجب أن يكون قطعيا كما تقدم، فلا يصح الاستدلال ب الآيات التي هي ظنية الدلالة، لان ذلك استدلال بالظن على حجية الظن، ولا ينفع كونها قطعية الصدور. ولكن الجواب عن هذا الوهم واضح، لأنه قد ثبت بالدليل القطعي حجية ظواهر الكتاب العزيز كما سيأتي، فالاستدلال بها ينتهي بالأخير إلى العلم، فلا يكون استدلالا بالظن على حجية الظن. ونحن على هذا المبنى نذكر الآيات التي ذكروها على حجية خبر الواحد فنكتفي بإثبات ظهورها في المطلوب: ( الآية الأولى) - آية النبأ: وهي قوله تعالى في سورة الحجرات 6: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف ومن جهة مفهوم الشرط، والذي يبدو أن الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط كاف في المطلوب. وتقريب الاستدلال يتوقف على شرح ألفاظ الآية أولا، فنقول:
1- (التبين)، إن لهذه المادة معنيين:
(الأول) بمعنى الظهور، فيكون فعلها لازما، فنقول: تبين الشيء، إذا ظهر وبان. ومنه قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)، (حتى يتبين لهم أنه الحق).
و(الثاني) بمعنى الظهور عليه، يعني العلم به واستكشافه، أو التصدي للعلم به وطلبه، فيكون فعلها متعديا، فتقول: تبينت؟؟ الشيء، إذا علمته، أو إذا تصديت للعلم به وطلبته. وعلى المعنى الثاني وهو التصدي للعلم به يتضمن معنى لتثبت فيه والتأني فيه لكشفه وإظهاره والعلم به. ومنه قوله تعالى في سورة النساء 94: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } [النساء: 94] ومن أجل هذا قرئ بدل فتبينوا: (فتثبتوا) ومنه كذلك هذه الآية التي نحن بصددها (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وكذلك قرئ فيها (فتثبتوا) فان هذه القراءة مما تدل على أن المعنيين (وهما التبين والتثبت) متقاربان.
2- (إن تصيبوا قوما بجهالة). يظهر من كثير من التفاسير أن هذا المقطع من الآية كلام مستأنف جاء لتعليل وجوب التبين. وتبعهم على ذلك بعض الأصوليين الذين بحثوا هذه الآية هنا. ولأجل ذلك قدروا لكلمة (فتبينوا) مفعولا، فقالوا مثلا: (معناه فتبينوا صدقة من كذبه): كما قدروا لتحقيق نظم الآية وربطها لتصلح هذه الفقرة أن تكون تعليلا كلمة تدل على التعليل بأن قالوا: (معناها: خشية أن تصيبوا قوما بجهالة، أو حذار أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا قوما..) ونحو ذلك. وهذه التقديرات كلها تكلف وتمحل لا تساعد عليها قرينة ولا قاعدة عربية. ومن العجيب أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار ويرسل إرسال المسلمات. والذي أرجحه إن مقتضى سياق الكلام والاتساق مع أصول القواعد العربية أن يكون قوله: (أن تصيبوا قوما..) مفعولا لتبينوا فيكون معناه (فتثبتوا واحذروا إصابة قوم بجهالة). والظاهر أن قوله تعالى: (فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) يكون كناية عن لازم معناه، وهو عدم حجية خبر ألفاسق، لأنه لو حجة لما دعا إلى الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ثم من الندم على العمل به.
3 - (الجهالة): اسم مأخوذ من الجهل أو مصدر ثان له، قال عنها أهل اللغة: (الجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم) ثم هم فسروا الجهل بأنه المقابل للعلم، عبروا عنه تارة بتقابل التضاد وأخرى بتقابل النقيض، وان كان الأصح في التعبير العلمي انه من تقابل العدم والملكة. والذي يبدو لي من تتبع استعمال كلمة الجهل ومشتقاتها في أصول اللغة العربية إن إعطاء لفظ الجهل معنى يقابل العلم بهذا التحديد الضيق لمعناه جاء مصطلحا جديدا عند المسلمين في عهدهم لنقل الفلسفة اليونانية إلى العربية الذي استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ وكسبها إطارا يناسب الأفكار ألفلسفية، وإلا فالجهل في أصل اللغة كان يعطي معنى يقابل الحكمة والتعقل والروية، فهو يؤدي تقريبا معنى السفه أو الفعل السفهي عندما يكون عن غضب مثلا وحماقة وعدم بصيرة وعلم. وعلى كل حال هو بمعناه الواسع اللغوي يلتقي مع معنى الجهل المقابل للعلم الذي صار مصطلحا علميا بعد ذلك. ولكنه ليس هو إياه. وعليه، فيكون معنى (الجهالة) أن تفعل فعلا بغير حكمة وتعقل وروية الذي لازمه عادة إصابة عدم الواقع والحق.
إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآية الكريمة يتضح لك معناها وما تؤدي إليه من دلالة على المقصود في المقام: إنها تعطي أن النبأ من شأنه أن يصدق به عند الناس ويؤخذ به من جهة أن ذلك من سيرتهم، وإلا فلماذا نهى عن الأخذ بخبر ألفاسق من جهة انه فاسق. فأراد تعالى أن يلفت أنظار المؤمنين إلى انه لا ينبغي أن يعتمدوا كل خبر من أي مصدر كان، بل إذا جاء به فاسق ينبغي ألا يؤخذ به بلا ترو، وإنما يجب فيه أن يتثبتوا أن يصيبوا قوما بجهالة أي بفعل ما فيه سفه وعدم حكمة قد يضر بالقوم. والسر في ذلك إن المتوقع من ألفاسق ألا يصدق في خبره فلا ينبغي أن يصدق ويعمل بخبره. فتدل الآية بحسب المفهوم على أن خبر العادل يتوقع منه الصدق فلا يجب فيه الحذر والتثبت من إصابة قوم بجهالة. ولازم ذلك انه حجة. والذي نقوله ونستفيده وله دخل في استفادة المطلوب من الآية، أن النبأ في مفروض الآية مما يعتمد عليه عند الناس وتعارفوا الأخذ به بلا تثبت وإلا لما كانت حاجة للأمر فيه بالتبين في خبر ألفاسق، إذا كان النبأ من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس. ولما علقت الآية وجوب التبين والتثبت على مجيء ألفاسق يظهر منه بمقتضى مفهوم الشرط أن خبر العادل ليس له هذا الشأن، بل الناس لهم أن يبقوا فيه على سجيتهم من الأخذ به وتصديقه من دون تثبت وتبين لمعرفة صدقه من كذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة. وطبعا لا يكون ذلك الا من جهة اعتبار خبر العادل وحجيته، لان المترقب منه الصدق، فيكشف ذلك عن حجية قول العادل عند الشارع وإلغاء احتمال الخلاف فيه. والظاهر إن بهذا البيان للآية يرتفع كثير من الشكوك التي قيلت على الاستدلال بها على المطلوب فلا نطيل في ذكرها وردها.
( الآية الثانية) آية النفر: وهي قوله تعالى في سورة التوبة 123: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] إن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على المطلوب يتم بمرحلتين من البيان:
1- الكلام في صدر الآية: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)، تمهيدا للاستدلال، فان الظاهر من هذه ألفقرة نفي وجوب النفر على المؤمنين كافة (1) والمراد من النفر بقرينة باقي الآية النفر إلى الرسول للتفقه في الدين لا النفر إلى الجهاد، وان كانت الآيات التي قبلها واردة في الجهاد، فان ذلك وحده غير كاف ليكون قرينة مع ظهور باقي الآية في النفر إلى التعلم والتفقه. إن الكلام الواحد يفسر بعضه بعضا. وهذه الفقرة إما جملة خبرية يراد بها إنشاء نفي الوجوب فتكون في الحقيقة جملة إنشائية، وإما جملة خبرية يراد بها الأخبار جدا عن عدم وقوعه من الجميع إما لاستحالته عادة أو لتعذره اللازم له عدم وجوب النفر عليهم جميعا فتكون دالة بالدلالة الإلتزامية على عدم جعل مثل هذا الوجوب من الشارع. وعلى كلا الحالين فهي تدل على عدم تشريع وجوب النفر على كل واحد واحد إما إنشاء أو أخبارا. ولكن ليس من شأن الشارع بما هو شارع أن ينفي وجوب شيء إنشاء أو أخبارا الا إذا كان في مقام رفع توهم الوجوب لذلك الشيء أو اعتقاده. واعتقاد وجوب النفر أمر متوقع لدى العقلاء، لان التعلم واجب عقلي على كل أحد وتحصيل اليقين فيه المنحصر عادة في مشافهة الرسول أيضا واجب عقلي. فحق أن يعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلى الرسول شرعا لتحصيل المعرفة بالأحكام. ومن جهة أخرى، فانه مما لا شبهة فيه إن نفر جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلما عنت حاجة وعرضت لهم مسألة أمر ليس عمليا من جهات كثيرة، فضلا عما فيه من مشقة عظيمة لا توصف بل هو مستحيل عادة. إذا عرفت ذلك فنقول: إن الله تعالى أراد بهذه الفقرة - والله العالم - أن يرفع عنهم هذه الكلفة والمشقة برفع وجوب النفر رحمة بالمؤمنين. ولكن هذا التخفيف ليس معناه أن يستلزم رفع أصل وجوب التفقه، بل الضرورات تقدر بقدرها. ولا شك إن التخفيف يحصل برفع الوجوب على كل واحد واحد، فلا بد من علاج لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كل حال وهو التعلم، بتشريع طريقة أخرى للتعلم غير طريقة التعلم اليقيني من نفس لسان الرسول. وقد بينت بقية الآية هذا العلاج وهذه الطريقة وهو قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة.) والتفريع بإلغاء شاهد على أن هذا علاج متفرع على نفي وجوب النفر على الجميع. ومن هذا البيان يظهر أن هذه الفقرة (صدر الآية) لها الدخل الكبير في فهم الباقي من الآية الذي هو موضع الاستدلال على حجية خبر الواحد. وقد أغفل هذه الناحية المستدلون بهذه الآية على المطلوب، فلم يوجهوا الارتباط بين صدر الآية وبقيتها للاستدلال بها، على نحو ما يأتي.
2- الكلام عن نفس موقع الاستدلال من الآية على حجية خبر الواحد المتفرع هذا الموقع على صدرها لمكان فاء التفريع. انه تعالى بعد أن بين عدم وجوب النفر على كل واحد واحد تخفيفا عليهم حرضهم على أتباع طريقة أخرى بدلالة (لولا) التي هي للتحضيض، والطريقة هي أن ينفر قسم من كل قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلغونهم الأحكام بعد أن يتفقهوا في الدين ويتعلموا الأحكام. وهو في الواقع خير علاج لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه. ف الآية الكريمة بمجموعها تقرر أمرا عقليا وهو وجوب المعرفة والتعلم، وإذ تعذرت المعرفة اليقينية بنفر كل واحد إلى النبي ليتفقه في الدين فلم يجب، رخص الله تعالى لهم لتحصيل تلك الغاية - اعني التعلم - بأن ينفر طائفة من كل فرقة. والطائفة المتفقهة هي التي تتولى حينئذ تعلم الباقين من قومهم بل انه لم يكن قد رخصهم فقط بذلك وإنما أوجب عليهم أن ينفر طائفة من كل قوم، ويستفاد الوجوب من (لولا) التحضيضية ومن الغاية من النفر وهو التفقه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب، مضافا إلى أن أصل التعلم واجب عقلي كما قررنا. كل ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقه جماعة من كل قوم لأجل تعليم قومهم الحلال والحرام. ويكون ذلك - طبعا - وجوبا كفائيا. وإذا استفدنا وجوب تفقه كل طائفة من كل قوم أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقل لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم - فلا بد أن نستفيد من ذلك أن نقلهم للأحكام قد جعله الله تعالى حجة على الآخرين وإلا لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغوا بلا فائدة بعد أن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن نقل الأحكام حجة لما بقيت طريقة لتعلم الأحكام تكون معذرة للمكلف وحجة له أو عليه. والحاصل إن رفع وجوب النفر على الجميع والاكتفاء بنفر قسم منهم ليتفقهوا في الدين ويعلموا الآخرين هو بمجموعه دليل واضح على حجية نقل الأحكام في الجملة وإن لم يستلزم العلم اليقيني، لان الآية من ناحية اشتراط الإنذار بما يوجب العلم مطلقة فكذلك تكون مطلقة من ناحية قبول الإنذار والتعليم، وإلا كان هذا التدبير الذي شرعه الله لغوا وبلا فائدة وغير محصل للغرض الذي من أجله كان النفر وتشريعه. هكذا ينبغي أن تفهم الآية الكريمة في الاستدلال على المطلوب، وبهذا البيان يندفع كثير مما أورد على الاستدلال بها للمطلوب. وينبغي ألا يخفى عليكم أنه لا يتوقف الاستدلال بها على أن يكون نفر الطائفة من كل قوم واجبا، بل يكفي ثبوت أن هذه الطريقة مشرعة من قبل الله وان كان بنحو الترخيص بها، لان نفس تشريعها يستلزم تشريع حجية نقل الأحكام من المتفقه. فلذلك لا تبقى حاجة إلى التطويل في استفادة الوجوب. كما أن الاستدلال بها لا يتوقف على كون الحذر عند إنذار النافرين المتفقهين واجبا واستفادة ذلك من لعل أو من أصل حسن الحذر، بل الأمر بالعكس، فإن نفس جعل حجية قول النافرين المتفقهين المستفاد من الآية يكون دليلا على وجوب الحذر. نعم يبقى شيء، وهو أن الواجب أن ينفر من كل فرقة طائفة، والطائفة ثلاثة فأكثر، أو أكثر من ثلاثة. وحينئذ لا تشمل الآية خبر الشخص الواحد أو الاثنين. ولكن يمكن دفع ذلك بأنه لا دلالة في الآية على انه يجب في الطائفة أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم مجتمعين بشرط الاجتماع، ف الآية من هذه الناحية مطلقة وبمقتضى إطلاقها يكون خبر الواحد لو انفرد بالأخبار حجة أيضا. يعني إن العموم فيها أفرادي لا مجموعي.
(تنبيه): إن هذه الآية الكريمة تدل أيضا على وجوب قبول فتوى المجتهد بالنسبة إلى العامي، كما دلت على وجوب قبول خبر الواحد، وذلك ظاهر لان كلمة التفقه عامة للطرفين وقد أفاد ذلك شيخنا النائيني (قدس سره) كما في تقريرات بعض الأساطين من تلامذته، فانه قال: (إن التفقه في العصور المتأخرة، وإن كان هو استنباط الحكم الشرعي بتنقيح جهات ثلاث: الصدور وجهة الصدور والدلالة، ومن المعلوم إن تنقيح الجهتين الأخيرتين مما يحتاج إلى أعمال النظر والدقة، إلا أن التفقه في الصدر الأول لم يكن محتاجا الا إلى إثبات الصدور ليس الا، لكن اختلاف محقق التفقه باختلاف الأزمنة لا يوجب اختلافا في مفهومه، فكما أن العارف بالأحكام الشرعية بأعمال النظر والفكر يصدق عليه ألفقيه كذلك العارف بها من دون أعمال النظر والفكر يصدق عليه ألفقيه حقيقة). وبمقتضى عموم التفقه فإن الآية الكريمة أيضا تدل على وجوب الاجتهاد في العصور المتأخرة عن عصور المعصومين وجوبا كفائيا، بمعنى انه يجب على كل قوم أن ينفر منهم طائفة فيرحلوا لتحصيل التفقه وهو الاجتهاد لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، كما تدل أيضا بالملازمة التي سبق ذكرها على حجية قول المجتهد على الناس الآخرين ووجوب قبول فتواه عليهم.
( الآية الثالثة) - آية حرمة الكتمان: وهي قوله تعالى في سورة البقرة 159: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وجه الاستدلال بها يشبه الاستدلال بآية النفر، فإنه لما حرم الله تعالى كتمان البينات والهدى وجب أن يقبل قول من يظهر البينات والهدى ويبينه للناس وإن كان ذلك المظهر والمبين واحدا لا يوجب قوله العلم، وإلا لكان تحريم الكتمان لغوا وبلا فائدة لو لم يكن قوله حجة مطلقا. والحاصل أن هناك ملازمة عقلية بين وجوب الإظهار ووجوب القبول، وإلا لكان وجوب الإظهار لغوا وبلا فائدة. ولما كان وجوب الإظهار لم يشترط فيه أن يكون الإظهار موجبا للعلم فكذلك لازمه وهو وجوب القبول لا بد أن ن يكون مطلقا من هذه الناحية غير مشترط فيه بما يوجب العلم. وعلى هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آية النفر على حجية خبر الواحد وحجية فتوى المجتهد. ولكن الإنصاف أن الاستدلال لا يتم بهذه الآية الكريمة، بل هي أجنبية جدا عما نحن فيه، لان ما نحن فيه وهو حجية خبر الواحد - أن يظهر المخبر شيئا لم يكن ظاهرا ويعلم ما تعلم من أحكام غير معلومة للآخرين كما في آية النفر. فإذا وجب قبوله على الآخرين وإلا كان وجوب التعليم والإظهار لغوا، وأما هذه الآية فهي واردة في مورد كتمان ما هو ظاهر وبين للناس جميعا، بدليل قوله تعالى: (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) لا إظهار ما هو خفي على الآخرين. والغرض: أن هذه الآية واردة في مورد ما هو بين واجب القبول سواء كتم أم اظهر، لا في مورد يكون قبوله من جهة الإظهار حتى تكون ملازمة بين وجوب القبول وحرمة الكتمان فيقال: لو لم يقبل لما حرم الكتمان. وبهذا يظهر الفرق بين هذه الآية وآية النفر. وينسق على هذه الآية باقي الآيات الأخر التي ذكرت للاستدلال بها على المطلوب فلا نطيل بذكرها.
ب - دليل حجية خبر الواحد من السنة: من البديهي انه لا يصح الاستدلال على حجية خبر الواحد بنفس خبر الواحد فإنه دور ظاهر، بل لا بد أن تكون الأخبار المستدل بها على حجيته معلومة الصدور من المعصومين، إما بتواتر أو قرينة قطعية. ولا شك في انه ليس في أيدينا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه في هذا المضمون، وإنما كل ما قيل هو تواتر الأخبار معنى في حجية خبر الواحد إذا كان ثقة مؤتمنا في الرواية، كما رآه الشيخ الحر صاحب الوسائل. وهذه دعوى غير بعيدة، فإن المتتبع يكاد يقطع جازما بتواتر الأخبار في هذا المعنى، بل هي بالفعل متواترة لا ينبغي أن يعتري فيها الريب للمنصف (2).
وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس الله نفسه طوائف من الأخبار، يحصل بانضمام بعضها إلى بعض العلم بحجية خبر الواحد الثقة المأمون من الكذب في الشريعة، وان هذا أمر مفروغ عنه عند آل البيت عليهم السلام. ونحن نشير إلى هذه الطوائف على الإجمال وعلى الطالب أن يرجع إلى الوسائل (كتاب القضاء) والى رسائل الشيخ في حجية خبر الواحد للإطلاع على تفاصيلها: (الطائفة الأولى) - ما ورد في الخبرين المتعارضين في الأخذ بالمرجحات كالأعدل والأصدق والمشهور ثم التخيير عند التساوي. وسيأتي ذكر بعضها في باب التعادل والتراجيح. ولولا أن خبر الواحد الثقة حجة لما كان معنى لفرض التعارض بين الخبرين ولا معنى للترجيح بالمرجحات المذكورة والتخيير عند عدم المرجح كما هو واضح.
(الطائفة الثانية) - ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام، على وجه يظهر فيه عدم ألفرق في الإرجاع بين ألفتوى والرواية، مثل إرجاعه عليه السلام إلى زرارة بقوله: (إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس) يشير بذلك إلى زرارة. ومثل قوله عليه السلام، لما قال له عبد العزيز بن المهدي: ربما أحتاج ولست ألقاك في كل وقت، أفيونس ابن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال: نعم. قال الشيخ الأعظم: (وظاهر هذه الرواية أن قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي فسأل عن وثاقة يونس ليرتب عليه اخذ المعالم منه). إلى غير ذلك من الروايات التي تنسق على هذا المضمون ونحوه.
(الطائفة الثالثة) - ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء، مثل قوله عليه السلام: (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).. إلى ما شاء الله من الروايات في أمثال هذا المعنى.
(الطائفة الرابعة) ما دل على الترغيب في الرواية والحث عليها وكتابتها وإبلاغها، مثل الحديث النبوي المستفيض بل المتواتر: (من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة) الذي لأجله صنف كثير من العلماء الأربعينيات، ومثل قوله عليه السلام للراوي: (اكتب وبث علمك في بني عمك فإنه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم) إلى غير ذلك من الأحاديث.
(الطائفة الخامسة): ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين عليهم، فإنه لو لم يكن الأخذ بأخبار الآحاد أمرا معروفا بين المسلمين لما كان مجال للكذب عليهم، ولما كان مورد للخوف من الكذب عليهم ولا التحذير من الكذابين، لأنه لا أثر للكذب لو كان خبر الواحد على كل حال غير مقبول عند المسلمين. قال الشيخ الأعظم بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار - وهو على حق فيما قال -: (إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمة بالعمل بالخبر، وإن لم يفد القطع، وقد ادعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلا أن القدر المتيقن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ويقبحون التوقف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دل عليه ألفاظ الثقة والمأمون والصادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدمة وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها).
وأضاف: (وإما العدالة فأكثر الأخبار المتقدمة خالية عنها، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه).
ج - دليل حجية خبر الواحد من الإجماع: حكى جماعة كبيرة تصريحا وتلويحا الإجماع من قبل علماء الإمامية على حجية خبر الواحد إذا كان ثقة مأمونا في نقله وان لم يفد خبره العلم. وعلى رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة الطوسي أعلى الله مقامه في كتابه العدة (ج 1 ص 47) لكنه اشترط فيما اختاره من الرأي وحكى عليه الإجماع أن يكون خبر الواحد واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النبي أو عن الواحد من الأئمة وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله. وتبعه على ذلك في التصريح بالإجماع السيد رضي الدين ابن طاووس، والعلامة الحلي في النهاية، والمحدث المجلسي في بعض رسائله، كما حكى ذلك عنهم الشيخ الأعظم في الرسائل. وفي مقابل ذلك حكى جماعة أخرى إجماع الإمامية على عدم الحجية. وعلى رأسهم السيد الشريف المرتضى أعلى الله درجته، وجعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة. وتبعه على ذلك الشيخ أبن إدريس في السرائر ونقل كلاما للسيد المرتضى في المقدمة، وأنتقد في أكثر من موضع في كتابه الشيخ الطوسي في عمله بخبر الواحد، وكرر تبعا للسيد قوله: (أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا) وكذلك نقل عن الطبرسي صاحب مجمع البيان تصريحه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد. والغريب في الباب وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ والسيد عن إجماع الإمامية، مع أنهما متعاصران بل الأول تلمذ على الثاني، وهما الخبيران العالمان بمذهب الإمامية. وليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا الأمر بدون تثبت وخبرة كاملة. فلذلك وقع الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما. وقد حكى الشيخ الأعظم في الرسائل وجوها للجمع: مثل أن يكون مراد السيد المرتضى من خبر الواحد الذي حكى الإجماع على عدم العمل به هو خبر الواحد الذي يرويه مخالفونا والشيخ يتفق معه على ذلك. وقيل: يجوز أن يكون مراده من خبر الواحد ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الأصول المعمول بها عند جميع خواص الطائفة وحينئذ يتقارب مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع وقيل: يجوز أن يكون مراد الشيخ من خبر الواحد خبر الواحد المحفوظ بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه فيتفق حينئذ نقله مع نقل السيد. وهذه الوجوه من التوجيهات قد استحسن الشيخ الأنصاري منها الأول ثم الثاني. ولكنه يرى أن الأرجح من الجميع ما ذكره هو من الوجه (3) وأكد عليه أكثر من مرة، فقال: (ويمكن الجمع بينهما بوجه أحسن، وهو أن مراد السيد من (العلم) الذي ادعاه في صدق الأخبار هو مجرد الاطمئنان، فإن المحكي عنه في تعريف العلم انه (ما اقتضى سكون النفس)، وهو الذي أدعى بعض الأخباريين أن مرادنا من العلم بصدور الأخبار هذا المعنى، لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا. فمراد الشيخ من تجرد هذه الأخبار عن القرائن تجردها عن القرائن الأربع التي ذكرها أولا، وهي موافقة الكتاب والسنة والإجماع والدليل العقلي. ومراد السيد من القرائن التي أدعى في عبارته المتقدمة (4) احتفاف أكثر الأخبار بها هي الأمور الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما). ثم قال: (ولعل هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيد خصوصا مع ملاحظة تصريح السيد في كلامه بأن أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة وتصريح الشيخ في كلامه المتقدم بإنكار ذلك). هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري في توجيه كلام هذين العلمين، ولكني لا أحسب أن السيد المرتضى يرتضي بهذا الجمع، لأنه صرح في عبارته المنقولة في مقدمة السرائر بأن مراده من العلم القطع الجازم، قال: (اعلم انه لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها، لأنه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على انه مصلحة جوزنا كونه مفسدة). وأصرح منه (5) قوله بعد ذلك: (ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد لأنها لا توجب علما ولا عملا وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم لان خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن لصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وان ظننت به الصدق، فان الظن لا يمنع من التجويز فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنه إقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا أو غير صلاح). هذا، ويحتمل احتملا بعيدا أن السيد لم يرد من التجويز - الذي قال عنه انه لا يمنع منه الظن - كل تجويز حتى الضعيف الذي لا يعتني به العقلاء ويجتمع مع اطمئنان النفس، بل أراد منه التجويز الذي لا يجتمع مع اطمئنان النفس ويرفع الأمان بصدق الخبر، وإنما قلنا إن هذا الاحتمال بعيد لأنه يدفعه: إن السيد حصر في بعض عباراته ما يثبت الأحكام عند من نأى عن المعصومين أو وجد بعدهم، حصره في خصوص الخبر المتواتر المفضي إلى العلم وإجماع الفرقة المحقة لا غيرهما. وأما تفسيره للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شائع في عبارات المتقدمين ومنهم الشيخ نفسه في العدة. والظاهر إنهم يريدون من سكون النفس الجزم القاطع لا مجرد الاطمئنان وإن لم يبلغ القطع كما هو متعارف التعبير به في لسان المتأخرين. نعم لقد عمل السيد المرتضى على خلاف ما أصله هنا، وكذلك ابن إدريس الذي تابعه في هذا القول، لأنه كان كثيرا ما يأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المروية في كتب أصحابنا، ومن العسير عليه وعلى غيره أن يدعى تواترها جميعا أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. وعلى ذلك جرت استنباطاته ألفقهية وكذلك ابن إدريس في السرائر، ولعل عمله هذا يكون قرينة على مراده من ذلك الكلام ومفسرا له على نحو ما أحتمله الشيخ الأنصاري.
وعلى كل حال سواء استطعنا تأويل كلام السيد بما يوافق كلام الشيخ أو لم نستطيع، فإن دعوى الشيخ إجماع الطائفة على اعتبار خبر الواحد الموثوق به المأمون من الكذب وان لم يكن عادلا بالمعنى الخاص ولم يوجب قوله العلم القاطع - دعوى مقبولة ومؤيدة، يؤيدها عمل جميع العلماء من لدن الصدر الأول إلى اليوم حتى نفس السيد وابن إدريس كما ذكرنا، بل السيد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد إلا انه أدعى انه لما كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجردة كعدم عملهم بالقياس فلا بد من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة بالقرائن، قائلا: (ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها - ويقصد بالأمور المعلومة عدم عملهم بالظنون - إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل - ويقصد بالمشتبه المجمل وجه عملهم بأخبار الآحاد - وقد علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم وكذلك نقول في أخبار الآحاد). ونحن نقول للسيد المرتضى: صحيح أن المعلوم من طريقة الشيعة الإمامية عدم عملهم بالظنون بما هي ظنون، ولكن خبر الواحد الثقة المأمون وما سواه من الظنون المعتبرة كالظواهر إذا كانوا قد عملوا بها فإنهم لم يعملوا بها إلا لأنها ظنون قام الدليل القاطع على اعتبارها وحجيتها. فلم يكن العمل بها عملا بالظن، بل يكون - بالأخير - عملا بالعلم. وعليه، فنحن نقول معه: (انه لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها، لأنه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على انه مصلحة جوزنا كونه مفسدة). وخبر الواحد الثقة المأمون لما ثبت اعتباره فهو طريق يوصل العلم بالأحكام، ونقطع بالعلم - على حد تعبيره - على انه مصلحة لا نجوز كونه مفسدة. ويؤيد أيضا دعوى الشيخ للإجماع قرائن كثيرة ذكر جملة منها الشيخ الأنصاري في الرسائل:
(منها) ما ادعاه الكشي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة، فإنه من المعلوم أن معنى التصحيح المجمع عليه هو عد خبره صحيحا بمعنى عملهم به، لا القطع بصدوره، إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصحة. و (منها) دعوى النجاشي أن مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب، وهذه العبارة من النجاشي تدل دلالة صريحة على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير لا من أجل القطع بالصدور، بل لعلمهم انه لا يروي أو لا يرسل الا عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن التي ذكرها الشيخ الأنصاري من هذا القبيل. وعليك بمراجعة الرسائل في هذا الموضوع فقد استوفت البحث أحسن استيفاء، وأجاد فيها الشيخ فيما أفاد، والمتبحر بالموضوع من جميع أطرافه، كعادته في جميع أبحاثه. وقد ختم البحث بقوله السديد: (والإنصاف انه لم يحصل في مسألة يدعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة والأمارات الكثيرة الدالة على العمل ما حصل في هذه المسألة، فالشاك في تحقق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل ألفقهية اللهم الا في ضروريات المذهب).
وأضاف: (لكن الإنصاف أن المتيقن من هذا كله الخبر المفيد للاطمئنان لا مطلق الظن). ونحن له من المؤيدين. جزاه الله خير ما يجزي العلماء العاملين. د - دليل حجية خير الواحد من بناء العقلاء انه من المعلوم قطعا الذي لا يعتريه الريب استقرار بناء العقلاء طرا واتفاق سيرتهم العملية، على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، على الأخذ بخبر من يثقون بقوله ويطمئنون إلى صدقه ويأمنون كذبه، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العملية جارية حتى في الأوامر الصادرة من ملوكهم وحكامهم وذوي الأمر منهم. وسر هذه السيرة إن الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغية بنظرهم لا يعتنون بها، فلا يلتفتون إلى احتمال تعمد الكذب من الثقة، كما لا يلتفتون إلى احتمال خطأه واشتباهه أو غفلته. وكذلك أخذهم بظواهر الكلام وظواهر الأفعال، فان بناءهم العملي على إلغاء الاحتمالات الضعيفة المقابلة. وذلك من كل ملة ونحلة. وعلى هذه السيرة العملية قامت معايش الناس وانتظمت حياة البشر، ولولاها لاختل نظامهم الاجتماعي ولسادهم الاضطراب لقلة ما يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة سندا ومتنا. والمسلمون بالخصوص كسائر الناس جرت سيرتهم العملية على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعية من القديم إلى يوم الناس هذا، لأنهم متحدو المسلك والطريقة مع سائر البشر، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعية. ألا ترى هل كان يتوقف المسلمون من أخذ أحكامهم الدينية من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله )أو من أصحاب الأئمة عليهم السلام الموثوقين عندهم؟. وهل ترى هل يتوقف المقلدون اليوم وقبل اليوم في العمل بما يخبرهم الثقات عن رأي المجتهد الذي يرجعون إليه؟ وهل ترى تتوقف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها الذي تطمئن إلى خبره عن رأي المجتهد في المسائل التي تخصها كالحيض مثلا؟. وإذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة - فان الشارع المقدس متحد المسلك معهم لأنه منهم بل هو رئيسهم، فلا بد أن نعلم بأنه متخذ لهذه الطريقة العقلائية كسائر الناس ما دام انه لم يثبت لنا أن له في تبليغ الأحكام طريقا خاصا مخترعا منه غير طريق العقلاء، ولو كان له طريق خاص قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه وبينه للناس ولظهر واشتهر ولما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر.
وهذا الدليل قطعي لا يداخله الشك، لأنه مركب من مقدمتين قطعيتين:
1 - ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة والأخذ به.
2 - كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم واشتراكه معهم، لأنه متحد المسلك معهم. قال شيخنا النائيني (قدس سره) كما في تقريرات تلميذه الكاظمي (قدس سره) (ج 3 ص 69): (وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض انه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم). وأقصى ما قيل في الشك في هذا الاستدلال هو: أن الشارع لئن كان متحد المسلك مع العقلاء فإنما يستكشف موافقته لهم ورضاه بطريقتهم إذا لم يثبت الردع منه عنها. ويكفي في الردع الآيات الناهية عن أتباع الظن وما وراء العلم التي ذكرناها سابقا في البحث السادس من المقدمة، لأنها بعمومها تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم. وقد عالجنا هذا الأمر فيما يتعلق بشمول هذه الآيات الناهية للاستصحاب في الجزء الرابع مبحث الاستصحاب، فقلنا: إن هذه الآيات غير صالحة للردع عن الاستصحاب الذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ به، لان المقصود من النهي عن أتباع غير العلم النهي عنه إذ يراد به إثبات الواقع، كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] بينما انه ليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع والحق، بل هو أصل وقاعدة عملية يرجع إليها في مقام العمل عند الشك في الواقع والحق. فيخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعا. وهذا العلاج - طبعا - لا يجري في مثل خبر الواحد، لان المقصود به كسائر الأمارات الأخرى إثبات الواقع وتحصيل الحق. ولكن مع ذلك نقول: إن خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات تخصصا كالظواهر التي أيضا حجيتها مستندة إلى بناء العقلاء على ما سيأتي. وذلك بأن يقال - حسبما أفاده أستاذنا المحقق الإصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية ج 3 ص 14 - قال: (أن لسان النهي عن أتباع الظن وانه لا يغني من الحق شيئا ليس لسان التعبد بأمر على خلاف الطريقة العقلائية، بل من باب ايكال الأمر إلى عقل المكلف من جهة أن الظن بما هو ظن لا مسوغ للاعتماد عليه والركون إليه. فلا نظر في الآيات الناهية إلى ما استقرت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على أتباعه من أجل كونه خبر الثقة. ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم أتباع روايته بعد فرض وثاقته). أو يقال - حسبما أفاده شيخنا النائيني قدس سره على ما في تقريرات الكاظمي قدس سره ج 3 ص 69 - قال: (أن الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل خبر الثقة، لان العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرت عليه عادتهم. فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا. فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة، بل الردع يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص). وعلى كل حال، لو كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد والظواهر التي جرت سيرة العقلاء على العمل بها ومنهم المسلمون - لعرف ذلك بين المسلمين وانكشف لهم ولما أطبقوا على العمل بها وجرت سيرتهم عليه. فهذا دليل قطعي على عدم صلاحية هذه الآيات للردع عن العمل بخبر الواحد فلا نطيل بذكر الدور الذي أشكلوا به في المقام والجواب عنه. وإن شئت الإطلاع فراجع الرسائل وكفاية الأصول.
_____________
(1) يستفيد بعضهم من الآية النهي عن نفر الكافة. وهي استفادة بعيدة جدا وليست كلمة (ما) من أدوات النهي. أذن ليس لهذه الآية أكثر من الدلالة على نفي الوجوب.
(2)إن الشيخ صاحب الكفاية لم يتضح له تواتر الأخبار معنى، وإنما أقصى ما اعترف به (أنها متواترة إجمالا) وغرضه من التواتر الإجمالي هو العلم بصدور بعضها عنهم عليهم السلام يقينا. وتسمية ذلك بالتواتر مسامحة ظاهرة.
(3) ذكر المحقق الآشتياني في حاشيته على الرسائل في هذا الموقع أن هذا الوجه من التوجيه سبق إليه بعض أفاضل المتأخرين وهو المحقق النراقي صاحب المناهج، ونقل نص عبارته. (4) غرضه من عبارته المتقدمة عبارته التي نقلها في السرائر عن السيد وقد نقلها الشيخ الأعظم في الرسائل.
(5) إنما قلت أصرح منه، لأنه يحتمل في العبارة المتقدمة أنه يريد من العلم ما يعم العلم بالحكم والعلم بمشروعية الطريق إليه وإن كان الطريق في نفسه ظنيا. وهذا الاحتمال لا يتطرق إلى عبارته الثانية.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|