أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
1562
التاريخ: 31-8-2016
1411
التاريخ: 8-8-2016
1429
التاريخ: 8-8-2016
1308
|
وهي مسألة كلاميّة قبل أن تكون مسألة اُصوليّة وقد ذكرت ببعض المناسبات في الاُصول، وعنوانها أنّه هل تكون الإرادة والطلب متّحدين في المعنى، أي هل يكون مفهوم الإرادة متّحداً مع مفهوم الطلب أو لا؟
ذهبت الأشاعرة وفئة قليلة من الإماميّة إلى اختلاف الإرادة والطلب مفهوماً ومصداقاً، وهو المستفاد هو أيضاً من بعض كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولكن المعتزلة وأكثر الإماميّة على اتّحادهما، وهم طائفتان: طائفة ذهبوا إلى اتّحادهما مفهوماً ومصداقاً، واُخرى إلى اتّحادهما في خصوص المصداق.
ولا بدّ أوّلا من تبيين أساس النزاع والجذور التاريخية للمسألة لكي يتّضح موضع النزاع ومحلّ الخلاف، ولكن المحقّق الخراساني(رحمه الله) حيث ورد في المسألة من أواسطها ولم يتعرّض لمنشأ الاختلاف وقع في بعض الإشكالات كما سيأتي.
فنقول: إن أصل هذه المسألة متفرّع من مسألة اُخرى مطروحة في علم الكلام، وهي البحث عن وجود الكلام النفسي للباري تعالى المتفرع بدوره من البحث في كلام الله وأنّه هل هو قديم كسائر صفاته الذاتيّة أو حادث كسائر صفاته الفعليّة؟
توضيح ذلك: لا شكّ في أنّ الله تبارك وتعالى متكلّم كما تكلّم مع أنبيائه وملائكته كما نطق به الأنبياء والكتاب الكريم في قوله تعالى مثلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] فمن صفاته جلّ وعزِ صفة «المتكلّم»، فوقع البحث حينئذ في أنّ هذه الصفة قديمة أو حادثة (أي أنّها من صفاته الذاتيّة أو الفعليّة كالخلق والرزق) وهذه المسألة من المسائل التي ازدحمت فيها الآراء وكثر فيها الخلاف واريقت بسببها الدماء في القرون الأوّلى للإسلام، بل إنّه هو الوجه في تسمية علم الكلام باسم الكلام، فإنّ أكثر النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كان في الكلام النفسي ـ الأمر الذي صار من أسباب التفرقة الشديدة بين فرق المسلمين وآلة بأيدي طالبي الرئاسة والحكومة من بني العبّاس ومثاراً لإيجاد التنازع والاختلاف من جانبهم تحكيماً لمباني حكومتهم وادامة لرئاستهم وتحقيقاً لميولهم النفسانيّة الخبيثة، فذهب الأشاعرة إلى أنّ كلام الله قديم، والمعتزلة وجماعة الإماميّة إلى حدوثه لأنّ صفات الباري تعالى عندهم تقسّم إلى قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، والقسم الأوّل قديم بقدم الذات والقسم الثاني حادث بحدوث أفعاله تعالى، فإنّ صفات الفعل عبارة عمّا ينتزعه الذهن بعد وقوع الفعل من ناحيته كصفة الخالق والرازق من دون أن تقوم بذاته تعالى، وحكي عن الحنابلة أنّهم قالوا بأنّ كلام الله صفة حادثة قائمة بالذات القديم، حتّى نقل في المحاضرات عن كتاب المواقف عن بعضهم القول بأنّ جلد كلام الله حادث قائم بالذات القديم فضلا عن النقوش والخطوط، ولكنّه كما ترى غير لائق بالبحث.
وكيف كان: لا إشكال في صحّة قول المعتزلة وجماعة الإماميّة، لأنّ من الواضح أنّ كلام الباري تعالى مع موسى (عليه السلام) مثلا عبارة عن أمواج صوتيّة خلقها الله تعالى فظهرت على طور سيناء عن جانب الشجرة وسمعها موسى باُذنيه، أو عبارة عن النقوش المكتوبة في كتابه الكريم بعد أن أوحى إليه (صلى الله عليه وآله) جبرئيل. فكلّ من تلك الأصوات وهذه النقوش مخلوق من مخلوقاته وفعل من أفعاله الحادثة.
وأمّا الأشاعرة فوقعوا في حيص وبيص في تفسير قولهم وبيان مرادهم من كلام الله، لأنّه لو كان المراد منه النقوش فلا ريب في حدوثها، ولذلك ذهبوا إلى أنّ للكلام معنيين كلام لفظي وكلام نفسي، والكلام اللّفظي عبارة عمّا يجري على اللسان أو القلم وهو حادث، والكلام النفسي عبارة عن المعنى الموجود في فؤاد المتكلّم (إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما ـ جعل اللسان على الفؤاد دليلا) وبالنسبة إلى الباري تعالى عبارة عمّا هو موجود في ذاته فيكون قديماً بتبع قدم ذاته، وحينئذ أورد عليهم من جانب الإماميّة والمعتزلة هذا السؤال: هل يكون الكلام النفسي بهذا المعنى غير علمه تعالى بالمفاهيم الكلّية وغير قدرته على إيجاد الأصوات (كما أنّ المراد بالسميع والبصير عبارة عن علمه بالمسموعات والمبصرات) فإن كان هو عينهما فلم تأتوا بشيء جديد، وإن كان غيرهما فما هو؟ فوقعوا في حرج ولم يأتوا بجواب واضح بل ادّعوا أنّ لله تعالى صفة اُخرى غير القدرة والعلم تسمّى بالكلام النفسي.
هذا كلّه في الأخبار والجمل الخبريّة.
وأمّا في الإنشاءات الواردة في القرآن الكريم كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء: 58] فقال المعتزلة أيضاً أنّ هذه النقوش أو الأصوات حادثة وحقيقتها هي إرادته تعالى والإرادة من الصفات المعروفة، فلا يكون في البين أيضاً صفة جديدة قائمة بالذات غير الصفات المعروفة.
وأمّا الأشاعرة فادّعوا أنّ هنا صفة اُخرى غير الإرادة تسمّى بالطلب، وهو من الصفات القديمة للباري تعالى قائمة بذاته.
فاُجيب عنهم بأنّ الطلب هو نفس الإرادة ومتّحد معها، ومن هنا وقع النزاع بينهم في اتّحاد الطلب والإرادة.
فظهر أنّ النزاع في ما نحن فيه نزاع ميتافيزيقي، له جذور في المباحث الكلاميّة والمشاجرات الاعتقاديّة بين الأشاعرة والمعتزلة، فلا يمكن أن يقال: «إنّ النزاع لفظي وإنّ من قال باختلافهما أراد من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب الطلب الإنشائي ولا إشكال في اختلافهما، ومن قال باتّحادهما إرادة من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب أيضاً الطلب الحقيقي ولا إشكال في اتّحادهما» فإنّ هذا بعيد عمّا ذكروه ومخالف لما أودعوا في كتبهم كما عرفت.
هذا أوّلا، وثانياً: ليس النزاع في لفظ الطلب والإرادة والمعنى اللغوي لهما حتّى يقال: بأنّ ما نفهم من لفظ الطلب عرفاً ولغة غير ما نفهمه من لفظ الإرادة كذلك فيمكن حلّ المسألة بالرجوع إلى العرف واللّغة، بل النزاع في الواقع في مصطلح اخترعه الأشاعرة في باب صفات الباري باسم الطلب وادّعوا أنّه غير الإرادة في باب الإنشائيات والأوامر الإنشائيّة الموجودة في القرآن، كما ادّعوا في إخباره تعالى والجمل الخبريّة الموجوة في الكتاب الكريم وجود صفة اُخرى له تعالى باسم الكلام النفسي وادّعوا أنّه غير علمه وقدرته.
دلائل الأشاعرة:
ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا لمقالتهم في باب الإنشائيات باُمور:
الأوّل: الأوامر الامتحانيّة:
حيث إنّها أوامر تصدر منه تعالى بداعي البعث والطلب فحسب ولا يكون وراءها جدّ ولا إرادة وهي تدلّ على وجود الطلب دون الإرادة وانفكاكها عنه في هذا الموارد، فهو يدلّ على تعدّدهما.
والجواب: عنه أنّه مبني على انحصار الإرادة في الإرادة الحقيقيّة مع أنّها على قسمين: إرادة إنشائيّة، وإرادة جدّية حقيقيّة، كما أنّ الطلب أيضاً ينقسم إلى الإنشائي والحقيقي، والموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي وهو لا ينافي اتّحادهما.
ولتوضيح البحث ينبغي بيان حقيقة الامتحان: فنقول: فرق بين امتحان المخلوق للمخلوق وامتحان الخالق للمخلوق فإنّ حقيقة الأوّل إنّما هو كشف المجهول كما لا يخفى، وأمّا حقيقة الثاني إنّما هو إظهار الأعمال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب (كما ورد في نهج البلاغة
لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): «... لكن لتظهر الأفعال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب»(1)) وبالنتيجة إبراز الملكات النفسانيّة في صور الأعمال لأن يستعدّ الإنسان بذلك للرشد والتكامل.
وإن شئت قلت: إنّ حقيقة الأوامر الامتحانيّة مطلقاً سواء في الخالق والمخلوق عبارة عن مجرّد إنشاءات ليست ورائها إرادة حقيقيّة، تصدر من المنشيء الآمر لإظهار الصفات النفسانيّة والسريرة الباطنية في مقام العمل بداعي كشف المجهول في امتحان المخلوق، وظهور الأفعال واستحقاق الثواب والعقاب في امتحان الخالق، فنتعلّق الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي هو العمل، وأمّا الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فلا يتعلّقان بنفس العمل، بل بكشف المجهول (في المخلوق) واستحقاق الثواب والعقاب (في الخالق).
ومن هنا يعلم أنّ الموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الأمر الإنشائي المتّحد مع الإرادة الإنشائيّة لا الأمر الجدّي ولا الطلب الواقعي ..
الثاني: تكليف العصاة:
وبيانه أنّه لا شكّ في أنّ التكاليف الإلهيّة تشمل المطيع والعاصي كما تشمل المؤمن والكافر، كما لا شكّ في أنّ حقيقة التكليف هي طلب الفعل أو طلب الترك، فهو تبارك وتعالى طلب من العصاة أيضاً إتيان المكلّف به مع أنّه لو كان الطلب هو عين الإرادة لم يمكن عصيان العصاة لأنّ لازمه تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال كما قال في كتابه الكريم: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)( سورة يس: الآية 82.) فلابدّ من التفكيك بين الإرادة والطلب، وهو المطلوب.
والجواب عنه: أنّ لله تعالى إرادتين: إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، وقد وقع الخلط بينهما هنا، فإنّ عدم إمكان تخلّف الإرادة عن المراد إنّما هو في الاُولى لا الثانيّة، فإنّ الثانيّة أي الإرادة الإنشائيّة في الباري تعالى متعلّقها هو إتيان العبد العمل باختياره وبإرادته، فإنّ المفروض أنّ العبد أيضاً مختار ومريد، تارةً يريد الفعل واُخرى يريد الترك.
وبالجملة الموجود في تكاليف العصاة إنّما هو الإرادة التشريعيّة والطلب التشريعي لا الإرادة التكوينيّة والطلب التكويني، وبعبارة اُخرى: المتعلّق لامتثال العبد وإتيان العمل هو إرادته التشريعيّة وطلبه التشريعي وأمّا إرادته التكوينيّة وطلبه التكويني فإنّما تعلّق باختيار العبد وكونه مختاراً، فوقع الخلط في الواقع في كلام الأشاعرة بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة، والاختلاف إنّما هو بين الإرادة التكوينيّة والطلب التشريعي وهو لا يلازم اختلاف الإرادة والطلب التشريعيين أو التكوينيين.
الثالث: تكليف المطيعين:
وبيانه على مبناهم في مسألة الجبر, إنّ فيها أيضاً يوجد الطلب دون الإرادة لأنّ الإرادة تتعلّق بالمقدور، والمقدور للإنسان عبارة عن ما ليس فيه مجبوراً، وحيث إنّه مجبور في تكاليفه فليست مقدورة له فلا تتعلّق بها الإرادة، وحينئذ تنفكّ عن الطلب.
والجواب عنه: أنّه لو كان المراد إرادة الإنسان وطلبه فكما لا إرادة له في غير المقدور له بناءً على كونه مجبوراً لا طلب له أيضاً، وبعبارة اُخرى: الطلب والإرادة إمّا يتعلّقان معاً بغير المقدور أو لا يتعلّقان معاً، ولا معنى لتعلّق أحدهما دون الآخر.
ولو كان المراد إرادة الله تعالى فإنّه كما طلب تشريعاً أراد أيضاً تشريعاً، ولا يمكن التفكيك بينهما كما مرّ بيانه آنفاً في الجواب عن الدليل الثاني، وبالجملة قد وقع الخلط في هذا الدليل أيضاً بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وبين إرادة الخالق وإرادة المخلوق.
هذا ـ مضافاً إلى فساد المبنى وهو كون الإنسان مجبوراً كما سيأتي إن شاء الله تعالى ومضافاً الى أنّه لا يناسب مبناهم من إنكار الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى. وأنّ تكليفه تعالى العباد بما لا يكون مقدوراً لهم غير قبيح.
الرابع: أنّ للمحقّق النائيني(رحمه الله) هنا كلاماً يكون بمنزلة دليل رابع لاختلاف الإرادة مع الطلب وإليك نصّ كلامه: «إنّ الكلام في اتّحاد الطلب والإرادة يقع في موضعين:
الأوّل: في اتّحاد مفهومهما وعدمه.
والثاني: في أنّ الموجود في النفس المترتّب عليه حركة العضلات هل هو اُمور ثلاثة: التصوّر والتصديق بالفائدة والشوق المؤكّد المعبّر عنه غالباً بالإرادة كما هو المعروف، أو هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة والحركة، ونسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى فاعله لا نسبة
الكيف إلى موضوعه (كما ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين).
أمّا الكلام في الموضع الأوّل: فحاصله أنّ المدّعي للوحدة وجداناً إن أراد أنّ المفهوم من أحدهما هو عين المفهوم من الآخر بأن يكون لفظا الطلب والإرادة مترادفين فالإنصاف أنّ الوجدان على خلاف ما ادّعوه، فإنّ الإرادة باتّفاق الجميع عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو عبارة عن التصدّي لتحصيل الشيء في الخارج فلا يقال: طالب الضالّة، إلاّ لمن تصدّى لتحصيلها في الخارج دون من يشتاق إلى تحصيلها فقط وإن لم يتصدّ لتحصيلها في الخارج، وإطلاقه على الفعل النفساني بناءً على ثبوت مرتبة اُخرى غير الإرادة فإنّما هو من باب أخذ الغايات وترك المباديء كما في إطلاق الأكل على مجرّد البلع دون مضغ، وإن أراد أنّهما مفهومان متغايران غاية الأمر أنّهما يصدقان على أمر واحد باعتبارين فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى الدعوى الاُولى إلاّ أنّه أيضاً فاسد في حدّ ذاته، فإنّ الإرادة كما عرفت من مقولة الكيف والطلب من مقولة الفعل، ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد باعتبارين لتباينهما.
وأمّا الموضع الثاني: فالحقّ فيه أيضاً أنّ هناك مرتبة اُخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات وفاقاً لجماعة من محقّقي المتأخّرين، ومنهم المحقّق صاحب الحاشية(رحمه الله)، والبرهان عليه أنّ الصفات القائمة بالنفس من الإرادة والتصوّر والتصديق كلّها غير اختياريّة فإن كانت حركة العضلات مترتّبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها فيلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس في حركاتها وهو باطل وجداناً، وللزم أن تصدق شبهة أمام المشكّكين في عدم جواز العقاب بأنّ الفعل معلول للإرادة، والإرادة غير اختياريّة وأن لا يمكن الجواب عنها ولو تظاهر الثقلان كما ادّعاه، وأمّا الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتّب على الفعل الاختياري أي الفعل الصادر عن الإرادة وإن كانت الإرادة غير اختياريّة فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بداهة أنّ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري.
والحاصل: أنّ علّية الإرادة للفعل هادم لأساس الاختيار ومؤسّس لمذهب الجبر بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانيّة من الإرادة وغيرها للفعل، وقلنا: بأنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي، وتأثيرها المسمّى بالطلب إنّما هو من
قبل ذاتها فلا يلزم محذور أصلا ويثبت الأمر بين الأمرين.
إن قلت: إنّ الأمر الرابع الذي بنيت عليه ثبوت الأمر بين الأمرين هل هو ممكن أو واجب؟ لا سبيل إلى الثاني وعلى الأوّل فهل علّته التامّة اختياريّة أو غير اختياريّة وعلى الأوّل يلزم التسلسل، وعلى الثاني يتمّ مذهب الجبر.
قلنا: لا إشكال في كونه حادثاً وممكناً إلاّ أنّه نفس الاختيار الذي هو فعل النفس وهي بنفسها، تؤثّر في وجوده فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفكّ عنها أثرها، إذ العلّية بنحو الإيجاب إنّما هي في غير الأفعال الاختياريّة، نعم لا بدّ في وجوده من فاعل، وهو النفس، ومرجّح وهي الصفات النفسانيّة، والاحتياج إلى المرجّح إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية، وإلاّ فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلا عن إيجاد ما لا يشتاقه لعدم فائدة فيه، ثمّ إنّ المرجّح المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص»(2)(انتهى ملخّص كلامه).
وهناك عدّة ملاحظات في كلامه:
الاُولى: أنّه قد ظهر بملاحظة تاريخ المسألة أنّها ليست مسألة لفظيّة لغويّة حتّى نتكلّم عن معنى الإرادة والطلب في اللّغة، فلا يمكن أن يكون النزاع في اتّحادهما مفهوماً ولغويّاً بل أنّه بحث كلامي وقع في اتّحادهما أو اختلافهما خارجاً بحسب ما اختاروه في بحث صفات الباري.
الثانيّة: أنّ الإرادة في تعريفهم ليست هي الشوق المؤكّد النفساني كما قال، كما أنّ دعوى كونه معروفاً ليست بثابتة، وإنّما الإرادة في تعريفاتهم عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فهي في الواقع عبارة عن تلك المرحلة الرابعة المحرّكة للعضلات، وهي نفس الطلب أو الاختيار أو تأثير النفس على ما جاء في كلامه، فكلّ من الطلب والإرادة يطلق على تلك المرتبة، فاللازم هو اتّحاد الإرادة والطلب فتأمّل.
الثالثة: أنّ ما ذكره من المراحل الأربعة في إرادة الإنسان خارج عن محلّ النزاع بأسره،
لأنّ النزاع في إرادة الله تعالى وطلبه لا إرادة الإنسان وطلبه، وفي الباري تعالى لا تتصوّر هذه المراحل، بل طلبه عين إرادته، وإرادته عين علمه على ما هو المعروف.
الرابعة: مع غضّ النظر عمّا ذكر، فلا ريب في أنّ الكلام في الطلب التسبيبي لا المباشري، فإنّ النزاع إنّما هو في الأوامر، وهي ما تتعلّق بفعل العباد، فتكون عبارة عن طلب الفعل بواسطة العبد، ولو سلّمنا لزوم الجبر من عدم الالتزام بالمراحل الأربعة المزبورة فهو إنّما في الطلب النفساني المباشري لا التسبيبي والإنشاء الخارجي، لأنّ انتفاء المرحلة الرابعة في طلب الآمر لا يلازم الجبر في أفعال العبد المأمور.
الخامسة: أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون اختياريّة فلا يمكن أن يقال أنّها دائماً غير اختياريّة.
وأمّا ما ورد في كلامه ممّا يتعلّق بمسألة الجبر والاختيار من الإشكال والجواب فسنتكلّم عنها إن شاء الله عن قريب عاجل، كما سنتكلّم أنّ الإرادة عين الاختيار فهي فعل إرادي بذاتها لا بإرادة اُخرى، وعلى كلّ حال فهذا مرتبط بحلّ مشكلة الجبر لا مسألة اتّحاد الطلب والإرادة.
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ما في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية حيث قال: الحقّ (كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة) هو اتّحاد الطلب والإرادة بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة فهما متّحدان مفهماً وإنشاءً وخارجاً، وفي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، ولو أبيت إلاّ عن كونه موضوعاً للطلب مطلقاً سواء كان حقيقيّاً أو إنشائيّاً فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس ذلك، فإنّ المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة واختلافهما في المعنى المنصرف إليه اللفظ ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة.
ثمّ قال في ذيل كلامه: أنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً، حقيقيّاً وإنشائيّاً،
ويكون المراد بالمغايرة هو اثنينية الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة فيرجع النزاع لفظيّاً (انتهى ملخّص كلامه).
وقد ظهر ممّا ذكرنا ما يرد عليه:
أوّلا: من أنّ النزاع ليس لفظيّاً لغويّاً بل هو نزاع متأصل موجود في علم الكلام من قديم الأيّام، كما مرّ بيانه.
وثانياً: ما ادّعاه من انصراف الطلب إلى الطلب الإنشائي عند إطلاقه دعوى بلا شاهد ودليل، كما أنّ دعوى كثرة استعماله في الإنشائي ليست بثابتة، والشاهد على ذلك موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث إنّه استعمل فيه في أربعة موارد واُريد منه في جميعها الطلب الحقيقي، كما أنّ التعبيرات الرائجة بيننا كطالب العلم وطلبة وطالب المال وطالب الضالّة يراد من جميعها الطلب الحقيقي، نعم الطلب من الغير ظاهر في الإنشائي كما لا يخفى.
ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق العراقي(رحمه الله) في توجيه مذهب القائلين بالتعدّد، وحاصله: أنّ هنا معنى آخر للطلب غير العلم والإرادة والحبّ والبغض، وهو البناء والقصد المعبّر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات حيث إنّه من جملة أفعال النفس، ولذا قد يؤمر به كالبناء في باب الاستصحاب وفي الشكوك المعتبرة في الصّلاة، وقد ينهى عنه كما في التشريع المحرّم، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وإن خالفها في أنّها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس، فيمكن توجيه كلمات القائلين بالتعدّد بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد، والإرادة على تلك الكيفية النفسانيّة(3).
ولكن يرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من البناء النفساني هو الاعتقاد الجازم بشيء فهذا ليس من الطلب في شيء، وإن كان المراد ما هو المحرّك للعضلات نحو العمل فليس إلاّ الإرادة، وإن كان المراد البناء الذي يوجد مثله في باب التشريع وشبهه كما يظهر من كلماته فهذا وإن كان من أفعال النفس وكان مبايناً للإرادة ولكنّه ليس من الطلب في شيء أيضاً، وتسميته طلباً لا يغيّر الواقع الذي هو عليه.
هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالتعدّد.
وأمّا القائلون باتّحادهما فاستدلّوا لها بوجوه:
أحسنها التمسّك بالوجدان حيث إنّا إذا راجعنا إلى أنفسها لا نجد أمرين: أحدهما: الطلب، والثاني: الإرادة، بل الإرادة من الغير إنّما هي البعث نحو العمل وتسمّى طلباً أيضاً، هذا في الإنشائيات، وكذلك في الإخباريات فلا نجد في أنفسنا شيئين: أحدهما: العلم، والثاني: الكلام النفسي، بل الموجود في النفس شيء واحد، تارةً يسمّى بالعلم (وهو التصوّر والتصديق) واُخرى يسمّى بالكلام النفسي.
هذا بالنسبة إلى أنفسنا، وكذلك بالنسبة إلى الباري تعالى، فإنّا بوجداننا لا نتصوّر ما وراء علمه وقدرته شيئاً يسمّى بالكلام النفسي حتّى نصدّقه، والتصديق فرع التصوّر وكذلك لا نتصوّر وراء الإرادة (وإرادته عين علمه) شيئاً باسم الطلب النفساني، وإذا لم يمكن تصوّره لم يمكن تصديقه، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.
بقي هنا أمران:
الأمر الأوّل: ذهب بعض الأعلام تبعاً لأستاذه المحقّق النائيني(رحمه الله) إلى اختلاف الإرادة والطلب ببيان آخر يقرب ممّا مرّ، وهو أنّ الإرادة بواقعها الموضوعي من الصفات
النفسانيّة، ومن مقولة الكيف القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار حيث إنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج، ومن هنا لا يقال: طالب الضالّة أو طالب العلم إلاّ لمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما.
وبكلمة اُخرى: أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً، فلا يصدق على مجرّد الشوق والإرادة النفسانيّة.
ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا: «طلبت زيداً فما وجدته» أو «طلبت من فلان كتاباً مثلا فلم يعطني» وهكذا، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي وليس إخباراً عن الإرادة والشوق النفساني فحسب من دون الفرق بين أن يكون متعلّقاً بفعل نفس الإنسان وأن يكون متعلّقاً بفعل غيره، فتحصّل أنّ الطلب مباين للإرادة مفهوماً ومصداقاً(4). (انتهى ملخّصاً).
أقول: يرد عليه أيضاً:
أوّلا: ما مرّ كراراً من أنّ النزاع ليس لغويّاً بل النزاع في ما اصطلح عليه الأشاعرة بالنسبة إلى الباري تعالى والتزموا بوجود صفتين له تعالى، أحدهما يسمّى بالطلب والآخر يسمّى بالإرادة، ونتيجته أنّ الطلب غير الإرادة، لا أن يكون النزاع في أنّ مفهوم الطلب في اللّغة هل هو عين مفهوم الإرادة أو لا؟
انياً: لو سلّمنا كون النزاع لغويّاً فالصحيح أنّ للطلب في اللّغة قسماً واحداً يتعلّق بالفعل الخارجي فحسب ولا يكون له قسم آخر يسمّى بالطلب النفساني فقوله «إنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً» لا محصّل له، كما أنّ ما ذكره من الأمثلة تشهد لذلك، فإنّ الطلب في جميعها متعلّق بأفعال خارجيّة كما لا يخفى.
فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لو كان النزاع نزاعاً لغويّاً فالحقّ مع القائلين بالتعدّد لأنّ الطلب فعل خارجي والإرادة أمر نفساني، وأمّا إذا كان النزاع نزاعاً اصطلاحياً فلا شكّ في اتّحادهما بل لم يقل بالاختلاف أحد من الإماميّة، وأمّا ما مرّ من المحقّق النائيني(رحمه الله)وتلميذه في المحاضرات فهو مبني على جعلهما النزاع لفظيّاً لغويّاً كما مرّ.
الأمر الثاني: فيما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) تحت عنوان «وهم ودفع» من أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من قولهم: «أنّه ليس في النفس غير العلم في الجمل الخبريّة، وغير الإرادة والتمنّي والترجّي والاستفهام في الجمل الإنشائيّة صفة اُخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً ومدلولا للكلام اللّفظي» إنّ تلك الصفات القائمة بالنفس هي المدلولات للكلام اللّفظي فيكون مدلول جملة «زيد قائم» «أعلم بقيام زيد» كما توهّمه القوشجي في شرح التجريد، بل المدلول للكلام اللّفظي هو غير تلك الصفات، فمدلول الجمل الخبريّة هو النسب الخبريّة المتحقّقة في الخارج، وأمّا مدلول الجمل الإنشائيّة فهو ما ينشأ بالصيغ المخصوصة في عالم نفس الأمر من قصد ثبوت معانيها وتحقّقها، نعم لا مضايقة عن كونها مدلولات له بالالتزام، فالجمل الإنشائيّة تدلّ بالالتزام على ثبوت تلك الصفات في النفس، (انتهى ملخّصاً).
أقول: إنّ ما ذكره من التوجيه لكلام الأصحاب خروج عن ظاهر كلماتهم، فإذا رجعنا إلى الجذور التاريخية للمسألة فسوف نجد أنّ مراد الأشاعرة من قدم كلام الله ووجود صفة اُخرى غير الصفات المشهورة في ذات الله ـ أنّ مدلول هذه الألفاظ كان موجوداً في ذاته منذ القديم مع عدم كونه عين علمه وقدرته، ومراد الأصحاب من الانكار عليهم أنّه ليس في البين صفة اُخرى غير العلم والقدرة، فليس النزاع في ما وضع له لفظ الطلب والإرادة حتّى يكون مراد الأشاعرة أنّ ما وضع له لفظ الطلب ليس هو العلم والقدرة بل هو صفة اُخرى، ويكون مفهوم قول من ينكره أنّ ما وضع له لفظ الطلب هو نفس العلم، إمّا بالمطابقة كما نسب إلى القوشجي، أو بالالتزام كما التزمه المحقّق الخراساني(رحمه الله) في ذيل كلامه، بل النزاع في أنّه إذا كان كلامه تعالى قديماً فما المقصود بالقديم؟ هل هو نفس العلم أو القدرة أو صفة اُخرى؟ فيدّعي الأشاعرة أنّه صفة اُخرى غيرهما، ويقول الإماميّة والمعتزلة: أنّه نفس العلم أو القدرة، وحينئذ لا يبقى مجال لما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في قوله: «وهم ودفع».
_______________
1. نهج البلاغة: ح93.
2. أجود التقريرات: ج1، ص88 ـ 92.
3. نهاية الأفكار: ج1، ص166 ـ 167، طبع جماعة المدرّسين.
4. المحاضرات: ج2، ص16.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
انطلاق الجلسة البحثية الرابعة لمؤتمر العميد العلمي العالمي السابع
|
|
|