أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2016
648
التاريخ: 25-8-2016
877
التاريخ: 26-8-2016
960
التاريخ: 25-8-2016
596
|
قد ذكروا للمقدّمة تقسيمات عديدة:
الأوّل: تقسيمها إلى المقدّمة الداخليّة والمقدّمة الخارجيّة:
والمراد من الداخليّة إنّما هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، أي الأجزاء التي يتركّب منها المأمور به، والمراد من الخارجيّة ما كان خارجاً عن المأمور به وكان له دخل في تحقّقه من الشرائط وعدم الموانع والمقتضى والأسباب.
ولكن قد يستشكل في كون الأجزاء مقدّمة للمأمور به بأنّ المقدّمة تجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة كما هو مقتضى تسميتها بها، والأجزاء ليست هي سابقة عليه بل أنّها نفس ذي المقدّمة، هذا ـ مضافاً إلى أنّ المقدّمة تجب أن تكون غير ذي المقدّمة ليترشّح الوجوب الغيري منه إليها على القول بالملازمة، والأجزاء ليست مبائنة مع ذي المقدّمة بل هي عين ذي المقدّمة.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله): بأنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء بما هي هي ولا بشرط، وأمّا ذو المقدّمة أي الواجب فإنّما هو الأجزاء بشرط الاجتماع وإتّصال بعضها ببعض، فتكون المقدّمة سابقة على ذيها ولو رتبة، ومغايرة معه ولو اعتباراً.
ولكن يرد عليه: عدم كفاية التغيّر الاعتباري في المقام، فإنّه أمر ذهني مجاله الذهن، والمقدّمة وذو المقدّمة هما بمنزلة العلّة والمعلول في الخارج العيني، ومجرّد المغايرة الذهنيّة غير كاف قطعاً.
هذا كلّه بالنسبة إلى إمكان تصوّر المقدّمة الداخليّة وعدمه، وقد ظهر أنّها أمر معقول يمكن تصوّرها.
ثمّ على فرض إمكان تصوّرها وقع البحث في أنّها هل هي داخلة في محلّ النزاع في المقام أو لا؟
واستدلّ لخروجها عنه بأنّ الأجزاء هي عين الكلّ خارجاً وإن تغايرا اعتباراً وحينئذ تجب الأجزاء بعين وجوب الكلّ، غايته أنّه يجب الكلّ بوجوب نفسي استقلالي ويجب كلّ واحد من الأجزاء بوجوب نفسي ضمني، أي في ضمن وجوب الكلّ، ومن المعلوم أنّه بعد اتّصاف كلّ واحد من الأجزاء بالوجوب النفسي الضمني يكون اتّصافه بالوجوب الغيري لغواً بل غير ممكن عقلا وذلك لامتناع اجتماع المثلين.
وأجاب عنه المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ اجتماع الحكمين في شيء واحد لا يؤدّي إلى اجتماع المثلين بل يؤدّي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكّداً كما في الواجبين النفسيين مثل الظهر والعصر(1).
وأورد المحقّق العراقي على المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ اندكاك أحد الوجوبين في الوجوب الآخر إنّما يصحّ في الواجبات فيما إذا كان ملاك أحدهما في عرض ملاك الآخر، وليس كذلك مورد النزاع، فإنّ ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء في طول ملاك الوجوب النفسي في الكلّ، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتّحاد المتماثلين بالنوع(2).
أقول: إنّ استحالة اجتماع المثلين بحكم العقل إنّما هو في الاُمور التكوينيّة الحقيقية لا الأمور الاعتباريّة كما في ما نحن فيه، فلا يلزم من اجتماع المثلين في المقام محذور غير اللغويّة.
وبالجملة: إنّ المستحيل عقلا إنّما هو اجتماع البياضين أو البياض والسواد مثلا في محلّ واحد لا اجتماع الوجوبين أو الوجوب والحرمة على شيء واحد كالصّلاة (مثل صلاة الظهر الواجبة بنفسها وكمقدّمة لصلاة العصر فيوجب التأكّد) وحينئذ لا مانع عقلا من اجتماع وجوب نفسي ووجوب غيري في الأجزاء.
والحقّ في المسألة أن يقال: إنّ وجوب الأجزاء ليس وجوباً مقدّمياً وإن فرضنا مقدّميتها للكلّ بنحو من التكلّف، بل وجوب كلّ واحد منها وجوب ضمني فكأنّ الأمر بالكلّ انبسط على الأجزاء، فكان كلّ جزء بعض المأمور به، وحينئذ لا تصل النوبة إلى الأمر المقدّمي الناشيء من الأمر بالكلّ، فكما أنّ الحبّ المتعلّق مثلا بدار أو كتاب أو طعام ينبسط على كلّ جزء جزء منها ويكون كلّ جزء بعض المحبوب، كذلك الحال في الأمر بالصّلاة من ناحية المولى، فالذي يتعلّق بجزء جزء من الصّلاة هو نفس ما يتعلّق بمجموعها، ولا دليل على تعلّق إرادة اُخرى بكلّ جزء غير الإرادة التي تعلّقت بالجميع حتّى يكون للأجزاء وجوب تبعي غيري غير الوجوب النفسي الضمني.
بقي هنا أمران:
الأمر الأوّل: في الشرائط، فهل هي من المقدّمات الداخليّة أو الخارجيّة؟
لا إشكال في أنّ ذات الشرط خارج عن المأمور به وإن كان التقيّد به داخلا، كما اشتهر «التقيّد جزء والقيد خارجي» وذلك نظير المعجون الذي تركّب من أجزاء مختلفة وكان لاستعماله للمريض شرائط مثل أن يكون قبل الغذاء صباحاً وشبه ذلك، فإنّ هذه الشرائط خارجة بذواتها عن المعجون، ولكن تقيّد المعجون بها داخل فيه.
وبعبارة اُخرى: إنّ استعماله مع تلك الشرائط يوجب عروض حالة وكيفية به، والداخل في المعجون إنّما هو هذه الكيفية لا ذات الشرائط، وهكذا الشرائط الشرعيّة في المخترعات الشرعيّة فانّ الوضوء مثلا يوجب عروض وصف على المأمور به كوقوع الصّلاة حال الطهارة الحاصلة منه، ويكون هذا الوصف داخلا في المأمور به لا ذات الوضوء.
فظهر أنّ الشرائط إن لوحظت بذواتها فانّها تعدّ من المقدّمات الخارجيّة، وإن لوحظ تقيّد المأمور به واتّصافه بها تكون من المقدّمات الداخليّة.
الأمر الثاني: في ثمرة البحث:
وهي ممّا قلّ من تعرّض لها ولكن نقل في المحاضرات عن بعض الأعاظم(رحمهم الله)«أنّ الثمرة بين القول باتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتّصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بدعوى أنّه على القول الأوّل لا ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل على كلّ تقدير، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي، والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي، فلا انحلال في البين، وعلى القول الثاني ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلّق بذات الأقلّ (وهي المركّب من تسعة أجزاء مثلا) والشكّ البدوي في اعتبار أمر زائد، وعندئذ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد»(3).
أقول: إنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي الضمني سواء كانت متّصفة بالوجوب الغيري أيضاً أم لا، فتجري البراءة عن الأكثر على أيّ حال: ولا صلة لها باتّصاف القدر المتيقّن من الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتّصافه.
وإن شئت قلت: الوجوب الضمني ثابت على أيّ حال: وهو السبب للانحلال، فوجود الوجوب الغيري وعدمه هنا سيّان.
هذا كلّه في التقسيم الأوّل للمقدّمة.
الثاني: تقسيمها إلى المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة:
والعقليّة مثل العلّة بالنسبة إلى المعلول، والشرعيّة مثل الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، والعاديّة كنصب السلّم للكون على السطح أو حفر البئر للوصول إلى الماء للوضوء والغسل، والمهمّ في هذا التقسيم هو أن نعلم أنّ جميعها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟ وأنّه هل يكون للتوقّف (أي توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة) في جميع هذه الثلاثة معنى واحد، أو يكون له في كلّ واحدة منها معنى على حده؟
والصحيح أنّ للتوقّف مفهوماً واحداً إلاّ أنّ الكاشف عنه تارةً يكون هو العقل واُخرى الشرع وثالثة العادة، كما أنّ الصحيح دخول جميعها في محلّ النزاع، وذلك لأنّ المقدّمة الشرعيّة
والعاديّة ترجعان في الواقع إلى المقدّمة العقليّة، والتفاوت بينهما أنّ الشرعيّة كشف عنها الشارع، والعاديّة يكون ممّا لا بدّ منها بحسب العادة فهي من هذه الجهة عقليّة.
الثالث: تقسيمها إلى مقدّمة الوجوديّة ومقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب و مقدّمة العلم:
وتعريف كلّ واحد منها واضح وكذلك مثاله الشرعي أو العرفي، إنّما الكلام في دخول كلّ منها في محلّ النزاع وعدمه.
فلا إشكال في دخول إثنان منها فيه، وهما مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة.
أمّا مقدّمة الوجود: فهي القدر المتيقّن منها، حيث إنّ أصل النزاع في مقدّمة الواجب إنّما هو فيما يتوقّف على وجوده وجود ذي المقدّمة، فكيف لا تكون مقدّمة الوجود داخلة فيه؟
وأمّا مقدّمة الصحّة: فلرجوعها إلى مقدّمة الوجود حتّى على القول بالأعمّ، لأنّ الواجب والمأمور به بأمر المولى إنّما هو الصحيح من العمل ولا إشكال في توقّفه على مقدّمة الصحّة وإن لم يتوقّف المسمّى عليها كما صرّح به المحقّق الخراساني(رحمه الله).
وأمّا مقدّمة الوجوب: فمن المعلوم خروجها عن محل النزاع، إذ قبل تحقّق مقدّمة الوجوب لا وجوب للواجب حتّى يقع البحث في ترشّح الوجوب منه إلى مقدّماته، وبعد تحقّقها لا معنى لترشّح الوجوب من الواجب إليها لأنّه تحصيل للحاصل.
وأمّا مقدّمة العلم: فقد يقال أنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الأمر الغيري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، وذلك لعدم توقّف وجوب الواجب عليها كي يستقلّ العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده، بل المتوقّف عليها هو العلم بالواجب، وذلك لإمكان حصول الواجب بدونها صدفة كما إذا غسل يده ولم يغسل شيئاً يسيراً ممّا فوق المرفق وقد صادف المقدار الواجب، أو صلّى إلى إحدى الجهات الأربع ولم يصلّ إلى سائر الجهات وقد صادفت القبلة الواقعيّة، وعليه ظهر أنّ وجوبها كان من باب استقلال العقل به تحصيلا للأمن من العقوبة لا من باب الملازمة كما ظهر خروجها عن محلّ النزاع حتماً.
وببيان آخر: «لا شبهة في خروجها عن مورد البحث، وذلك لأنّ الصّلاة التي وقعت إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدّمة له، وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا
تكون مقدّمة له وإنّما هي مقدّمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمّة والأمن من العقاب»(4)، هذا ما ذكره بعض الأعلام وهكذا غيره من سائر الأعلام، فقد أرسلوا المسألة إرسال المسلّمات، بل لم يعنونوها غالباً بزعم أنّ خروجها عن محلّ النزاع واضح.
ولكن مع ذلك كلّه فالحقّ عندنا أنّها داخلة في محلّ النزاع وذلك لرجوعها أيضاً إلى مقدّمة الوجود، فإنّ المكلّف في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيان الواجب وإيجاده في الخارج إلاّ بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي كما أنّ المولى إذا أمر عبده مثلا بجلب سارق اختفى في إحدى هذه البيوت العشرة والعبد يعلم إجمالا بإختفائه فيها، فلا إشكال في أنّ العبد ليس بقادر على جلب السارق إلاّ بالبحث عنه في تلك البيوت ويعدّ عمله هذا عرفاً من مقدّمات امتثاله وإيجاد المأمور به في الخارج، كذلك في الاُمور الشرعيّة، فإنّ المكلّف بالصّلاة في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيانها إلاّ بإيجادها إلى الجهات الأربع، ويكون إتيان الصّلاة إلى جميع هذه الجهات مقدّمة للإتيان بالصّلاة المأمور بها في الخارج، نعم قد تصادف الصّلاة الاُولى للقبلة ولكن هذا أمر خارج عن اختيار المكلّف لا يتعلّق به التكليف، ولذا لا يمكن للمولى أمره بخصوص ما يصادف في أوّل مرّة، فلا يمكن تكليف العبد بتحصيل المأمور به إلاّ من طريق أربع صلوات. وبهذا يكون مردّ المقدّمة العلمية إلى مقدّمة الوجود، أي أنها تعدّ مقدّمة العلم بلحاظ معيّن ومقدّمة الوجود بلحاظ آخر، فتكون حينئذ داخلة في محلّ النزاع.
الرابع: تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر:
والمقارن نظير القبلة والطهارة بالنسبة إلى الصّلاة، والمتقدّم نظير عقد الوصيّة بالنسبة إلى ملك الموصى له، والمتأخّر نحو الأغسال الليلية بالإضافة إلى صحّة صيام المستحاضة في اليوم الماضي عند بعض.
واستشكل في المتأخّر والمتقدّم بأنّ العلّة التامّة يجب عقلا أن تكون مقارنة زماناً للمعلول وإن كانت مقدّمة عليه رتبة، إذ لا يعقل التفكيك بينهما في الزمان، هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّا نشاهد أمثلة لهما في الشرع المقدّس كالأمثلة المزبورة كما نشاهدها في العرفيات نظير ما إذا أمر المولى عبده بإستقبال زيد واعداده مقدّمات الاستقبال قبل قدومه من السفر، فقدوم زيد في المستقبل شرط لوجوب الاستقبال وتهيئة مقدّماته في الحال، (هذا في المتأخّر) ونظير ما إذا قال: إن جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك اطعامه (وهو في المتقدّم)، إذن لا بدّ لدفع الإشكال من توجيه لمثل هذه الموارد، وقد تصدّى له المحقّق الخراساني، وحاصل كلامه ببيان منّا: التحقيق في دفع هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد التي توهّم انخرام القاعدة فيها لا تخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، أو للوضع، أو للمأمور به، أمّا إذا كان شرطاً للتكليف (وكذلك الوضع) فإنّ الإيجاب هو فعل من الأفعال الاختياريّة للمولى، والشرط له ليس نفس المجيء السابق (في المثال المتقدّم) أو قدوم زيد في اللاحق كي يلزم تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه، بل هو نفس لحاظه وتصوّره، وهو مقارن للإيجاب، وهكذا الأمر في الوضع (كالوصيّة والصرف والسلّم في المتقدّم، فالعقد سابق والملكيّة حاصلة عند الموت أو عند القبض، وكالإجازة في العقد الفضولي في المتأخّر بناءً على الكشف) فحكم المولى بالملكية فعل من أفعال الحاكم وليس شرطه نفس الاجازة المتأخّرة أو نفس الاُمور السابقة المعتبرة في الوصيّة والصرف والسلم للحكم، بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الاُمور وتصوّرها وهو مقارن للحكم بالوضع.
أقول: يرد عليه:
أوّلا: أنّه كيف يمكن أن يكون اللحاظ دخيلا في تكليف الآمر مع أنّ لازمه دخله في حصول المصلحة؟ ولا معنى له، لأنّ اللحاظ والتصوّر مرآة للمصلحة التي توجد في الخارج وكاشف عنها، فكيف يكون دخيلا في إيجادها؟ فإنّ المولى يأمر بالاستقبال مثلا لوجود مصلحة في مجيء زيد تؤثّر في إيجاب المولى بوجودها الواقعي لا بوجودها اللحاظي التصوّري، كما أنّه كذلك في الاُمور التكوينيّة، فإنّ العلّة لصناعة السرير مثلا والداعي إليه إنّما هو المصالح الواقعيّة التي تترتّب عليها بوجودها الخارجي لا بوجودها الذهني.
وإن شئت قلت: علّة الحكم حقيقة هي إرادة المولى ولكن الداعي إليه هو المصالح الموجودة في الفعل خارجاً.
ثانياً: أنّه عمّم الإشكال إلى الشرط المتقدّم، وهو خطأ جدّاً لأنّ استحالة التفكيك بين العلّة والمعلول تتصوّر بالنسبة إلى الجزء الأخير من العلّة لا سائر الأجزاء حيث إنّ شأن سائر الأجزاء شأن المعدّات في العلل الخارجيّة وتكون غالباً مقدّمة على وجود المعلول زماناً كوجود الحطب والآلة المحرقة في الإحراق.
ثالثا: يمكن النقاش في بعض الأمثلة المذكورة في كلامه أيضاً كمثال العقد في الوصيّة والصرف والسلم حيث إنّ العقد بالنسبة إلى الملكيّة المتأخّرة فيها ليس من الشروط المتقدّمة لأنّه بوجوده الإنشائي مقارن لها وإن صارت الألفاظ معدومة حين صدور الإنشاء.
والأولى أن يقال: إنّ مقامنا هذا أيضاً يكون من موارد الخلط بين الاُمور التكوينيّة والاُمور الاعتباريّة، فإنّا قد ذكرنا كراراً أنّ الأحكام الشرعيّة اُمور اعتباريّة لا واقع لها إلاّ اعتبار الشارع ولا صلة لها بالقواعد الحاكمة على الوجودات التكوينيّة الخارجيّة. وقضيّة استحالة التفكيك بين العلّة والمعلول تختصّ بالتكوينيات، وأمّا الاعتباريات فأمر وضعها ورفعها وجعل الشرائط فيها مقارنة أو متأخّرة أو متقدّمة إنّما هو بيد الشارع المعتبر، ولا يكون الشرط المعتبر فيها من مصاديق العلّة والسبب حتىّ يستلزم من تأخيره أو تقديمه محذوراً عقلا، فإنّ الشارع كما يمكن له اعتبار شرط مقارن للواجب يمكن له اعتبار شرط متقدّم عليه أو متأخّر عنه.
إن قلت: إنّ للشرائط الشرعيّة دخلا في تحقّق المصالح المترتّبة على الواجبات، ولا إشكال في أنّها مصالح واقعية تكوينيّة، إذن كيف يمكن أن يؤثّر شرط اعتباري متأخّر في مصلحة تكوينيّة متقدّمة؟
قلنا: إنّ المصالح التكوينيّة المترتّبة على الواجبات الشرعيّة الاعتباريّة إنّما تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الواجب الاعتباري بجميع أجزائه وشرائطه المقارنة والمتأخّرة والمتقدّمة، فمصلحة صيام المستحاضة مثلا تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الصّيام بجميع شرائطه ومنها الغسل الليلي المتأخّر ولم يدّع أحد تحقّق المصلحة بمجرّد تحقّق الشرط المتقدّم أو المتأخّر فحسب (أي يكون الشرط المتقدّم أو المتأخّر بمجرّده علّة في وجود المصلحة) حتّى يلزم التفكيك بين العلّة والمعلول.
توضيح ذلك: إنّ منشأ عبادات الشرعيّة أنّها تعبّر عن نهاية الخضوع للشارع المقدّس، وحينئذ نقول: كما أنّ الاحترامات العرفيّة كالقيام عند ورود الوالدين أو الاُستاذ أو المولى وكالسلام والتحيّة إذا إشترطت بشروط متأخّرة ـ تنتزع منها عناوينها الخاصة وتترتّب عليها مصالحها الواقعيّة ـ فيما لو تحقّقت تلك الشروط في ظرفها، كذلك العبادات الشرعيّة حيث ينتزع منها هذا العنوان وتترتّب عليها مصالحها الخاصّة بعد تحقّق جميع الأجزاء والشرائط، فقبل تحقّق الشرط المتأخّر لا تتحقّق مصلحة حتّى يستلزم انخرام قاعدة العلّية.
وما قد يقال: من «أنّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان بل للاعتبار واقع، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها، وبعد اعتبار شيء شرطاً لشيء وأخذه مفروض الوجود في ترتّب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه»(5)
يدفعه: أنّه من قبيل قياس الشرائط الشرعيّة بالشرائط التكوينيّة، فإنّ أخذ الشرط مفروض الوجود في ترتّب الأثر إنّما هو في التكوينيات لا في الاعتباريات كما هو ظاهر، فلا مانع من جعل المتأخّر شرطاً في الاعتباريات.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) ذهب إلى امتناع الشرط المتأخّر وأنّه يؤول إلى الخلف والمناقضة، وحاصل كلامه: أنّ القضايا في الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقية والمجعول الشرعي في القضايا الحقيقية لو قلنا بأنّه هي السببيّة دون المسبّبات عند وجود أسبابها لكان تأخّر الشرط عن المشروط به من تأخّر العلّة عن معلولها حقيقة، وهو واضح الاستحالة، وإذا قلنا بأنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب وانما تنتزع السببيّة من جعل المسبّبات عند اُمور خاصّة كما هو الحقّ فلابدّ من أن يكون نسبة الشرائط إلى الأحكام نسبة الموضوعات إليها فكما يمتنع وجود المعلول قبل وجود علّته للزوم الخلف والتناقض، كذلك يمتنع وجود الحكم قبل وجود موضوعه المقدّر وجوده في مقام الجعل(6).
وفيه: أنّه سيأتي في البحث عن الواجب المشروط أنّ الشرائط لا ترجع إلى قيود الموضوع بل أنّها من شرائط الحكم نفسه ومن قيوده، فانتظر.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ إمكان الشرط المتأخّر أو المتقدّم عقلا في الاُمور الاعتباريّة خلافاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني(رحمه الله).
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ جميع الشروط المذكورة في هذا التقسيم إنّما هي داخلة في محلّ النزاع فيما إذا كانت شروطاً للمكلّف به لا التكليف كما لا يخفى فيحكم بوجوبها بناءً على وجوب المقدّمة.
__________________
1. راجع أجود التقريرات: ج1، ص216.
2. بدائع الأفكار: ج1، ص317.
3. المحاضرات: ج2 ص301
4. المحاضرات: ج2، ص303.
5. فوائد الاُصول: ج1، ص281.
6. أجود التقريرات: ج1، ص225.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|