أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-3-2019
1128
التاريخ: 2-07-2015
1308
التاريخ: 23-10-2014
1214
التاريخ: 22-3-2018
607
|
لا بدّ لنا أوّلا من بيان قسمة عقلية ؛ هي : أنّ كلّ موجود إذا لوحظ من حيث هو إمّا ينتزع منه الوجود بنفس ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه ، أو لا ؛ بل يتوقّف الانتزاع على ملاحظة غيره. وبعبارة اخرى : كلّ موجود بنفس ذاته إمّا يجب له الوجود ، أو لا ، بل يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ؛ والثاني ـ على التقديرين ـ هو « الممكن » ، والأوّل هو « الواجب» ـ المعبّر عنه « بالوجود الحقيقي » عند المشّائين و « بالنور الغيبيّ » عند الاشراقيّين و «بمنشأ انتزاع الموجودية» عند أهل الذوق من المتألّهين و « بالمرتبة الاحدية » عند الصوفيّة و«بالوحدة الحقيقيّة» عند فيثاغورث (2)ـ.
وهذه القسمة وإن كانت ضروريّة إلاّ أنّه أورد عليها شكوك ثلاثة لا بدّ من دفعها ؛
اوّلها : انّه يمتنع أن يحكم على ماهيّة من الماهيّات بإمكان الوجود ، لانّ كلّ ماهيّة إمّا معدومة ، فلا تقبل الوجود؛ أو موجودة، فلا تقبل العدم ، وإلاّ اجتمع النقيضان! ؛
وجوابه : إنّ الحكم بالإمكان على الماهيّة من حيث هي من دون اعتبار الوجود والعدم ، فلا يلزم اجتمع النقيضين.
وثانيها : انّ العدم ليس له تميّز في الخارج ، فلا يتصوّر له نسبة إلى شيء فضلا عن تساوي النسبة ؛
وجوابه : بعد مطالبة وجه تخصيص الاعتراض بالعدم! ، لانّ الوجود مثله في عدم التميّز في الخارج وعروضه في الذهن ، لما حقّق في موضعه انّ تساوي نسبة الوجود والعدم إلى ذات الممكن انّما هو في العقل ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ الممكن والوجود والعدم يحكم بتساوي نسبتهما إليه : وهذا لا يقتضي أزيد من تمايزهما في العقل ، وثبوته فيه لا يقبل المنع. ومعنى تساوي النسبة المذكورة هو عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما ، لا اقتضاء تساويهما حتّى يرد امتناع رجحان الوجود أو العدم حينئذ لعلّة خارجة شيئا ، لانّ ما به الذات لا يتخلّف ، والمتنافيين يمتنع اجتماعهما ولو بألف علّة!
وثالثها : أنّه لو اتّصفت ماهيّة بالإمكان لوجب اتّصافها به ، وإلاّ لزم زواله عنها ، وهو محال ، لانّه من لوازم ماهيّة الممكن فلا يزول عنها. وإذا وجب الاتّصاف وجب اتصافها بذلك الوجوب أيضا وكذلك بوجوب الوجوب وهكذا ، فيتسلسل الوجوبات إلى غير النهاية. وهذه الشبهة جارية في أكثر المفهومات ـ كالقدم والحدوث والاتصاف واللزوم والوحدة والحصول إلى غير ذلك من المفهومات الاعتبارية الّتي تتكرّر نوعها ـ. مثلا يقال : لو لزم شيء لشيء للزم لزومه أيضا ، وكذا لزوم لزومه وهكذا ، فيتسلسل اللزومات إلى غير النهاية وإلاّ لزم الانفكاك بين اللازم والملزوم ؛ وقس عليه غيره! ؛
واجيب عنه : بانّ مثل هذا التسلسل التسلسل في الأمور الاعتبارية ، ولمّا كان تحقّقها بحسب اعتبار العقل فيترتّب السلسلة ريثما اعتبرها العقل يمكنه اعتبارها غير متناهية لعدم قدرته على دوام الاعتبار ، فينقطع بانقطاع اعتباره؛ على أنّ فرض دوام اعتباره غير مفيد ، لتناهى ما ينتهي إليه في أيّ وقت فرض.
قيل : توضيح ذلك يتوقّف على مقدمة ، هي : انّ نسبة العقل إلى مدركاته كنسبة البصر إلى مبصراته ، فكما انّ الناظر في المرآت قد لا يشاهدها أصالة بل يجعلها آلة ووسيلة لمشاهدة غيرها من الصور المرتسمة فيها فيلاحظ بها تلك الصور أصالة ـ بحيث يتمكّن من تعرّف احوالها واجراء الاحكام عليها ـ ويلاحظ المرآة تبعا وليس له بهذه الملاحظة أن يتمكّن من تعرّف أحوالها واجراء الاحكام عليها ، كذلك العقل قد لا يشاهد بعض مدركاته أصالة وقصدا ؛ بل يجعلها مرآة وآلة لمشاهدة بعض آخر من مدركاته ، وقد يشاهده أصالة وقصدا. مثال الأوّل أن يلاحظ الامكان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والوجود ، فهو بهذه الملاحظة آلة للعقل في معرفة حالهما ومرآة لمشاهدة صفتهما ، لانّه بهذه الاعتبار جهة القضيّة ـ وهى كيفيّة الرابطة بين الموضوع والمحمول ، اعنى : الماهية والوجود ـ والمعنى الرابطي مأخوذ مع تلك الكيفيّة ليس ملحوظا بالأصالة مدركا بالقصد. ولا يتمكّن العقل بهذا التوجّه أن يحكم عليه بنسبة ولا أن يعتبر نسبته إلى شيء ، بل ملاحظة العقل له حينئذ باعتبار ملاحظة الوجود والماهيّة ، فهو يلاحظهما أصالة ويلاحظه تبعا!. ومثال الثّاني أن يلاحظ الإمكان أصالة وقصدا ويدركه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ويقصده لتعرف حاله واجراء الاحكام عليه. وقس على الامكان غيره من المفهومات ، فانّ اللزوم قد يلاحظه العقل من حيث أنّه حالة بين اللازم والملزوم ، فهو حينئذ آلة لمعرفة حالهما وملحوظ بملاحظتهما ، فلا يقدر العقل من الحكم عليه بشيء ولا اعتبار نسبته إلى شيء ، وقد يلاحظه قصدا ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات.
وإذ ثبت هذه المقدّمة نقول : إذا اعتبر الامكان على الوجه الأوّل لم يلزم تسلسل ولا ترتّب اصلا ـ لما مرّ أنّه لا يتمكّن حينئذ من أن يحكم عليه بشيء أو ينسبه الى شيء ـ فليس له حينئذ أن يحكم بأنّه ممّا يتّصف الغير به أو ممّا يجب اتصافه به أو غير ذلك ، فلا اشكال على هذا الوجه مطلقا ؛ وإذا اعتبره على الوجه الثاني ولاحظ معه ماهيّة الممكن أيضا واعتبر النسبة بينهما حكم بوجوب اتّصافها به واعتبار وجوب الاتّصاف حينئذ لما كان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والامكان ، فيكون من الوجه الأوّل ولا يفضى الى اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ؛ فلا يلزم تسلسل ولا ترتّب. نعم! ، إن لاحظه العقل قصدا وأصالة ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة وتعقّل النسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ، فاعتبار الوجوب الآخر ـ اعنى الوجوب الثاني ـ يتوقّف على ثلاث ملاحظات ليس شيء منها ضروريا للعقل ، فله أن يلاحظه ؛ وهذا هو المراد « بانقطاع التسلسل بانقطاع الاعتبار ». ثمّ اعتبار الوجوب الثاني لمّا كان من حيث أنّه حالة بين الماهيّة والوجوب الأوّل يكون من الوجه الاوّل ، فلا يفضى إلى اعتبار وجوب ثالث بين الماهيّة والوجوب الثاني. نعم! ، إن اعتبره العقل أصالة ولاحظه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة والنسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب ثالث ، إلاّ انّه يتوقّف على ملاحظات غير لازمة للعقل ، فله أن لا يلاحظهما فينقطع التسلسل؛ وهكذا الكلام في اعتبار الوجوب الرابع والخامس وما فوقهما. وهكذا حال انقطاع التسلسل في سائر الأمور الاعتبارية من اللزوم والحصول وغيرهما.
هذا ما ذكروه في الجواب عن الشبهة المشهورة بشبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله.
وأورد عليه : بأنّ وجوب اتّصاف ماهيّة الممكن أو اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين لو كان بمجرّد اعتبار العقل فما لم يعتبره العقل لم يتحقّق ، واعتبار العقل ليس ضروريّا ، فيجوز أن لا يتحقّق وجوب اتصاف ماهيّة الممكن بالإمكان ، ولا اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين ، فيمكن الانفكاك بينهما ؛ فلا يكون اللازم لازما ولا الملزوم ملزوما. وأيضا لا ريب في أنّ وجوب اتصاف الممكن بالإمكان ووجوب اتصافه بوجوب الاتصاف واللزوم بين المتلازمين واللزوم بين اللزوم واحدهما أمور متحقّقة في الواقع ونفس الامر ـ وإن قطع النظر عن اعتبار العقل ـ ، فليست الوجوبات واللزومات أمورا اعتبارية ، بل حقيقيّة واقعيّة.
واجيب عنه : بانّ عدم كون الوجوبات واللزومات المذكورة من الأمور المتحقّقة في نفس الأمر لا يوجب امكان زوال الامكان عن الممكن وجواز الانفكاك بين اللزوم الأوّل وأحد المتلازمين ، وانّما يلزم ذلك لو لم تكن ماهيّة الممكن واجبة الاتصاف بالإمكان ، ولا اللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الامر ، وهو محال ؛ لانّ انتفاء مبدأ المحمول في نفس الامر لا يستلزم انتفاء الحمل فيه ، فغاية الامر انّ انتفاء مبدأ المحمول في الواقع يستلزم انتفاء المحمول ـ أعنى : مفهوم وجوب الاتصاف ومفهوم اللازم فيه ـ لانتفاء جزئه ؛ ولا يوجب عدم صدقه في ذلك المحمول العدمي على شيء في نفس الأمر ، فانّ صدق المفهومات العدميّة في نفس الأمر على الأمور الموجودة فيها لا ينكر ، فانّ مفهوم الأعمى غير موجود في الواقع لانتفاء جزئه فيه، مع أنّه يصدق على زيد وعمرو مثلا ، والأربعة إذا وجدت في الذهن متّصفة بالزوجيّة في نفس الأمر ، مع أنّ الزوجيّة غير موجودة فيها ـ وأمثال ذلك أكثر من أن يحصى! ـ. وغير خفىّ أنّ الضروري والمسلّم ثبوت الحمل في نفس الأمر ـ أعني : كون ماهيّة الممكن واجبة الاتّصاف بالإمكان في الواقع واللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الأمر ـ إلاّ أنّ وجوب الاتصاف واللزوم الأوّل من الموجودات الواقعيّة ، فانقطاع التسلسل في الوجوبات واللزومات الاعتبارية بانقطاع اعتبار العقل وان بقى ثبوت وجوب اتصاف الممكن بالإمكان واللزوم الأوّل في نفس الأمر ؛ إلاّ أنّه لا ينفى تحقّق الحمل المذكور فيها.
وأورد عليه : بأنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المتسلسلة إلى غير النهاية ، وكلّ واحد من اللزومات المذكورة لازم لأحد المتلازمين في نفس الامر ، اذ لولاه جاز أن لا تكون الماهية واجبة الاتصاف بالإمكان وامكن أن لا يكون اللزوم الأوّل لازما لاحد المتلازمين، فيجوز انفكاك اللازم عن الملزوم. وأيضا لا ريب في انّ الماهية واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المذكورة في نفس الامر ، وانّ كلّ واحد من اللزومات لازم لاحد المتلازمين في الواقع وإن قطع النظر عن اعتبار العقول والاذهان. والحاصل كما انّه يصدق أنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بالإمكان وانّ اللزوم الأوّل لازم لأحد المتلازمين في نفس الأمر يصدق أنّ الماهية واجبة الاتّصاف بوجوب الاتصاف ووجوب الوجوب ، وهكذا ؛ وأنّ اللزوم الثاني والثالث وما فوقهما لازم لاحد المتلازمين في نفس الامر ، فتحقّق الحمل في الواقع في الكلّ سواء. وإذا كان كلّ واحد من الوجوبات واجبا وكلّ واحد من اللزومات لازما في نفس الامر كان كلّ وجوب وكلّ لزوم متحقّقا فيه ، لأنّ البديهة قاضية بانّ ما لا ثبوت له في نفس الأمر لا يتّصف بثبوت شيء له فيه ؛ فانّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. فان كان هذا الثبوت بحسب نفس الأمر كان المثبت له ثابتا فيه ، وإن كان بحسب الخارج كان المثبت له موجودا فيه ـ فانّ الشيء ما لم يوجد في أحدهما لم يتّصف بثبوت شيء له فيه ولم يثبت له صفة فيه ، سواء كان ذلك الشيء المثبت وجوديّا أو عدميا ـ ؛ ولذا قالوا : صدق القضية الموجبة المعدولة الخارجية يستدعي وجود موضوعها في الخارج فكلّ واحد من تلك الوجوبات واللزومات كما وقع مبدأ للمحمول في قضية صادقة في نفس الأمر كذلك وقع موضوعا لها ، وصحّة الحمل في نفس الأمر توجب ثبوت الموضوع فيه وإن لم توجب ثبوت مبدأ المحمول فيه ؛ وهذا يقتضي تحقّق جميع تلك الوجوبات واللزومات الغير المتناهية في نفس الأمر ، فيلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة في الواقع ونفس الأمر لا في الأمور الاعتبارية المنقطعة بانقطاع الاعتبار.
والجواب : انّ وجود الموضوع ـ الّذي هو مقتضى صدق القضية الخارجية ـ أعمّ من أن يكون موجودا بوجود مستقلّ يخصّه أو يكون موجودا بوجود ما ينتزع هو عنه ، فانّ قولنا : « الفوقية ثابتة » قضية خارجية مع أنّ الموضوع فيها ليس موجودا في الخارج بوجود مغاير يخصّه ، بل موجود بوجود ما ينتزع عنه ـ أعني : السقف مثلا ـ ، واجزاء الجسم المتصل الواحد موجودة بوجود كلّها ، مع أنّ كلّ واحد منها قد يصير موضوعا للقضية الموجبة الصادقة في الخارج ونفس الأمر كما إذا كان بعضها حارّا وبعضها باردا ، فيقال : « بعض أجزاء هذا الجسم حارّ وبعضها بارد ». فيصدق الايجاب الخارجي مع أنّ الأجزاء المذكورة ليست موجودة في الجسم بصور مغايرة ، بل هي موجودة بوجود ما ينتزع هي عنه ـ أعني : وجود الكلّ ـ. ومن البيّن انّها ليست في الخارج ونفس الأمر معدومات صرفة بل لها نحو من الوجود. إلاّ انّها ليست لها وجود منفرد عن الكلّ بل هي موجودة بوجوده ، وكذا الحال في وجود كلّ ما هو موجود بوجود ما ينتزع عنه. وكما أنّ صدق القضية الخارجية يقتضي وجود موضوعها في الخارج بأحد الوجهين فكذا صدق القضيّة الذهنيّة يقتضي وجود موضوعها في الذهن بأحد الوجهين، فإنّ موضوع القضيّة الذهنية قد يكون موجودا في الذهن بوجود منفرد يخصّه ، وقد يكون موجودا فيه بوجود ما ينتزع عنه من المعقولات المستقلّة سواء كان جزء لها أو لا. وكما أنّ خصوص القضيّة الخارجية قد يقتضي نحوا خاصّا من الوجود ـ كالحكم بالتخيير فانّه يقتضي الوجود الخاصّ به المستقل والحكم على الجوهر بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الّذي يخصّه ، والحكم على العرض بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الخاصّ به ـ ، كذلك القضايا الذهنية قد تقتضى خصوصيات الوجود. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضي وجود الموضوع بالفعل والدائمة تقتضى وجوده بالدوام والممكنة تقتضي وجوده بالإمكان.
وإذا علمت ذلك فنقول : انّ الوجوبات واللزومات المذكورة وإن لم تكن موجودة في نفس الأمر بصور مغايرة ووجودات منفردة إلاّ انّها موجودة فيها بوجود ما ينتزع هي عنه ، وإن كان كلّ واحد منها منتزعا من آخر كان ذلك الآخر أيضا منتزعا عن مثله إلى أن ينتهى إلى الوجود المستقلّ المنفرد ـ أعني : الماهية وأحد المتلازمين ـ ، فانّ وجود المنتزع منه للموضوع لا يلزم أن يكون مستقلاّ منفردا ، بل يكفى أن يكون هو أيضا منتزعا عن غيره. ويجوز أن يكون كلّ واحد من هذه المنتزعات ـ الّتي جعلت موضوعات ـ بحيث ينتزع عنه شيء آخر يكون محمولا له ، لانّ لزوم شيء لآخر قد يكون بحسب الوجود المستقل بالفعل من كلا طرفي الملزوم واللازم بان يمتنع انفكاك الملزوم في وجوده بالفعل عن وجود اللازم بالفعل ، وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين وبحسب صحّة الانتزاع من الطرف الآخر ، كلزوم الانقطاع للجسم ؛ فانّ الانقطاع من حيث انّه منتزع لازم للجسم من حيث انّه موجود بالفعل ، وقد يكون بحسب صحّة الانتزاع من كلا الطرفين. ومن هذا القبيل لزوم اللزوم ، فانّ مرجعه إلى أنّ اللزوم لا يمكن صحّة انتزاعه الاّ وهو بحيث يصحّ منه انتزاع اللزوم للزوم، وهكذا، فثبت انّه يكفي في صدق الايجاب هذا النحو من الوجود ـ أعنى : صحّة انتزاعه من موجود وان كان منتزعا من مثلهـ، كما أنّ الممكنة يكفي في صدقها وجود الموضوع بالامكان. ولا ريب انّ الانتزاع من فعل العقل وليس هذا ضروريا له، فإذا لم يعتبره لم يتحقّق وجود منتزع منفرد في نفس الامر ، فينقطع التسلسل في الوجوبات واللزومات بانقطاع اعتبار العقل ولا يلزم تحقّقها في نفس الامر بصورة مغايرة ليلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة فيها ، وان كان لها في نفس الأمر نحو تحقّق يصحّ لأجله صدق تحقّق وجوب اتصاف ماهية الممكن بالامكان وبثبوت اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين.
واذ صحّت القسمة المذكورة للموجود وثبت أنّ الممكن ما يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ويتوقّف انتزاع الوجود منه على ملاحظة غيره ؛ نقول : يلزم منه أن يكون الممكن في وجوده محتاجا إلى علّة خارجة ، لأنّه لو لم يفتقر إليه ووجد بدونها فإمّا أن يصير موجودا بنفسه مع تحقّق تساوي النسبة المذكورة ، أو مع اولوية ذاتية ناشئة عن ذاته غير منتهية إلى حدّ الوجوب، أو اولوية خارجة ناشئة عن غيره كذلك ؛ والكلّ باطل!.
امّا الأوّل فلانّه ترجّح لأحد المتساويين من غير مرجّح ـ وقد مرّ بطلانه ـ ؛ وإن فرض انّ الوجود وجب له بذاته مع عدم كونه واجبا لذاته فهو متناقض لنفسه.
واستدلّ عليه الشيخ في الشفا : بانّ ماهية الممكن إن كانت كافية في كونه موجودا كان واجبا موجودا دائما ، وان لم يكف احتاج إلى غيره ، وهو العلّة ؛
وأورد عليه : بانّه إن اريد بالكفاية لها الكفاية في صحّة الاتصاف بالوجود فنختار الكفاية ولا يوجب كونه واجبا ؛ وإن أريد بها الكفاية في لزوم الوجود فنختار عدم الكفاية ونمنع ايجاب ذلك لعلّة خارجة ، لامكان أن يتّصف بالوجود ويعرضه الوجود فيصير موجودا بدون علّة وإن لم يبلغ حدّ الوجوب ، فانّ المتنازع فيه ليس الاّ هذا ، فلئن جوّز وجود الممكن بلا علّة فله أن يجوّز هذا ، بل هذا عين ذاك.
واجيب عنه ، بأنّ ماهيّة الممكن إن كانت كافية في صحّة الاتصاف بالوجود لكانت كافية في لزوم الوجود ، لأنّ ما ثبت للشيء بالنظر إلى ذاته يجب أن يكون لازما له غير منفكّ عنه بالنظر إلى ذاته ـ كالزوجيّة للأربعة ـ.
ثمّ هذا الحكم ـ أعني : احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة ـ ممّا اتفق عليه جميع العقلاء ولم يخالف فيه احد سوى ذيمقراطيس من الأقدمين ، فانّه ذهب إلى أنّ وجود الممكنات من السماوات وغيرها بطريق البخت والاتفاق (3) ، وقال : انّ احتياج الممكن إلى المؤثّر يوجب جواز تأثيره فيه ، اذ احتياجه إليه مع امتناع تأثيره غير معقول، لكن تأثير أمر في أمر آخر محال ، لوجوه ؛
منها : انّ التأثير إن كان بشرط عدم الأثر لزم الجمع بين النقيضين ؛ وإن كان بشرط وجوده لزم تحصيل الحاصل (4) ؛
والجواب : انّ المؤثر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو معدوم ولا من حيث هو موجود ، بل يؤثّر فيه من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، غاية الأمر انّ تحقّق التأثير في زمان وجود الأثر بمعنى أنّ التأثير يقارن وجود الأثر زمانا وان تقدّم عليه ذاتا ، فلا يتحقّق في زمان قبل زمان وجود الأثر ؛ بل تحقّقه إنّما هو في زمان وجوده. وهذا لا يوجب إلاّ لزوم تحصيل الحاصل بهذا التأثير المذكور ، ولا استحالة فيه ، انّما المحال التحصيل ـ أي : تحصيل الحاصل ـ قبل هذا التحصيل. وتوضيح ذلك انّ تأثير المؤثّر في ماهيّة ممكن ليس إلاّ ايجادها ـ أي : جعلها موجودة ـ وهذا الايجاد فعل يقارن زمان وجود هذه الماهيّة وإن تقدّم عليه ذاتا لترتّب الوجود على الايجاد ـ ولذا يقال : « اوجد فوجد » ـ ، فلا يتحقّق قبل وجودها زمانا. بل تحقّقها في زمان وجودها لا يوجب ذلك تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، بل يوجب تحصيل الحاصل بهذا الفعل ولا استحالة فيه. انّما المحال تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، وانّما يتصوّر ذلك إذا كان وجود الماهيّة شرطا للإيجاد بان تكون موجودة قبله ، وليس كذلك.
ومنها : انّه لو اثّر شيء في غيره لاتّصف بالمؤثّرية ، والمؤثّرية وصف محتاج إلى الموصوف، فيكون ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فيتحقّق مؤثّريّة أخرى ؛ وننقل الكلام إليها حتّى يلزم التسلسل ؛
وجوابه : انّ المؤثرية اعتبار عقلي غير موجود في الخارج حتّى تكون ممكنا محتاجا إلى العلّة ولا ينافيه اتصاف الشيء بها في نفس الأمر ، لانّ انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل والاتصاف به ـ وقد مرّ توضيح ذلك وتحقيقه في الجواب عن شبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله ـ.
ومنها : انّ تأثير المؤثّر امّا في الماهيّة أو الوجود ، أو في اتّصافها به ، والكلّ باطل ؛ أمّا بطلان تأثيره في الوجود والاتصاف فلانهما أمران اعتباريان لا يصلحان اثرا للمؤثّر ؛ وأمّا بطلان تأثيره في الماهيّة فلأنّ الماهيّة لو كانت ماهيّة بتأثير المؤثّر لوقع الشكّ في كونها ماهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر ، وهو باطل ، فلو كان الانسان انسانا بجعل الجاعل لوقع الشكّ في كونه انسانا إذا شكّ في وجود الجاعل ، وهو باطل. وأيضا ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فانّ الانسان في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر انسان ولو قطع النظر عن جميع ما عداه. وأيضا كون الانسان انسانا وكذا كون كلّ شيء نفسه لو كان بجعل الجاعل لم يكن الانسان انسانا ولا كلّ شيء نفسه عند عدم الجاعل ، بل كان قبل أن يفعله وبعد إن يعدمه غير نفسه ، فيلزم سلب الشيء عن نفسه ، وهو ظاهر البطلان (5)! ؛
أقول : قبل الخوض في جواب هذا الايراد لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، وهي انّ التأثير في الماهية يتصوّر على وجهين :
أحدهما : ان يجعلها الجاعل ايّاها ـ أي : يجعل الماهيّة ماهية ـ وهو الجعل المركّب في الماهيّة ؛
وثانيهما : أن يجعلها موجودة ـ أي : يجعل الماهيّة المعقولة موجودة في الخارج ـ ، وهو الجعل البسيط فيها.
والتأثير في الوجود والاتصاف أيضا يتصوّر على وجهين :
أحدهما : أن يجعل الوجود وجودا والاتصاف اتصافا ـ وهو أيضا جعل مركّب فيهما ـ ؛
وثانيهما : أن يجعل كلاّ منهما موجودا. والمورد قصر الجعل في الماهيّة على الوجه الأوّل ، وابطاله بما ذكر.
ولمّا لزم منه بطلان الجعل بالوجه الأوّل في الوجود والاتصاف أيضا تعيّن أن يحمل الجعل فيهما في كلامه على الوجه الثاني ـ كما يقتضيه دليله الّذي ذكره لإبطاله ـ.
ولا ريب في أنّ الجعل المركّب في كلّ واحد من الماهيّة والوجود والاتصاف باطل ـ للأدلّة الثلاثة الّتي ذكرها المورد ـ.
وهي وإن كانت عند التحقيق تامّة ناهضة لاثبات المطلوب إلاّ انّه أورد على كلّ منها اعتراض لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعه.
أمّا الدليل الأوّل فقد اعترض عليه : بأنّه يجوز أن يكون شيء لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ لشيء آخر مع ثبوته له بتأثير المؤثّر ، فيمكن أن يكون الانسانية للانسان لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ مع ثبوته له بتأثير المؤثر ، فلا يقع الشكّ في ثبوته له مع الشكّ في وجود المؤثر ؛
وجوابه : انّه قد تقرّر عند القوم انّ العلم اليقيني الكلّى بما له سبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه، فلو كانت ثبوت الانسانية للانسان بتأثير المؤثّر لم يتيقّن كلّيا مع الشك في وجود مؤثّره.
فان قيل : المقرّر عندهم انّ ما له سبب إذا لم يكن بديهيا لا يحصل العلم الكلّي اليقيني إلاّ من جهة سببه ، وثبوت الشيء لنفسه لمّا كان ضروريا لا يتوقّف على العلم بالسبب ، فيجوز أن يكون بتأثير المؤثر ويتيقن به كلّيا مع الشكّ في وجود مؤثّره ،
قلنا : ان اريد انّ وجوب الشيء لنفسه على فرض وجوده في الخارج ضروري ، فممنوع ، لكن الدعوى أعمّ ؛ وإن اريد انّه ضروري أعمّ من أن يكون الشيء موجودا في الخارج أو معدوما ، فممنوع ، كيف وبعضهم منع بطلان التالي في هذا الدليلـ أعني : وقوع الشكّ في كون الانسان انسانا عند الشكّ في وجود المؤثّر ـ محتجّا بانّ المعدوم في الخارج مسلوب عن نفسه ما دام معدوما ، فإذا ارتفع المؤثّر في وقت أو دائما ارتفع الانسانية كذلك ، فيصدق قولنا : « ليس الانسان انسانا » ويكون صدق السالبة الخارجة لعدم الموضوع في الخارج. وهذا وإن لم يكن حقّا عندنا ـ وسيأتي وجه اندفاعه في الدليل الثالث ـ إلاّ انّه ممّا قال به بعض المحقّقين ، فلا يكون ثبوت الانسانية لمطلق الانسان بديهيّا.
وامّا الدليل الثاني فقد اعترض عليه : بانّه إن اريد به انّا نجزم بثبوت الشيء لنفسه مع عدم العلم بغيره ، فلا يلزم منه عدم كون ذلك الثبوت بسبب المؤثّر ، بل انّما يلزم منه عدم الواسطة في التصديق ، على انّه عند التحقيق يرجع إلى الدليل الأوّل. وإن اريد انّا نجزم بثبوته لنفسه على فرض انتفاء الأغيار يرجع إلى الدليل الثالث ؛
وجوابه : انّ اختيار كلّ واحد من الشقين ممكن. والرجوع إلى الأوّل والثالث لا ضير فيه ، فانّ اختلاف الأدلّة قد يكون بمجرّد الاختلاف في التقرير. فان اختير الشق الأوّل يجاب عن الاعتراض بما مرّ من انّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بالسبب ؛ وان اختير الشق الثاني ورجع إلى الدليل الثالث فتعلم حاله.
وامّا الدليل الثالث فاعترض عليه : بمنع استحالة سلب الشيء عن نفسه إذا كان معدوما ، فانّ ثبوت الشيء للشيء يستدعي ثبوته لنفسه ـ فثبوت الانسانية للانسان يستدعي ثبوت الانسان ـ ، فإذا كان الشيء معدوما يصدق سلب جميع المفهومات عنه. فان كان انتفائه واقعا صدقت السالبة المطلقة ، وإن كان ممكنا غير واقع صدقت الممكنة فقط ، وإن كان مستحيلا لم يصدق اصلا .
وجوابه : انّا لا نسلّم صدق سلب جميع المفهومات عن المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في الذهن ، فانّ حقيقة الانسانيّة ثابتة للانسان المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في مدرك من المدارك ، لانّ العقل إذا تعقّل ماهيّة الانسان يحكم بثبوت الانسانية له ، وإن لم يوجد في الخارج. فالإنسان الموجود في الذهن دون الخارج انسان. فلا يشترط تأثير المؤثّر في كون الانسان انسانا ، إذ لو كان بتأثيره لم يثبت للانسان الذهني حقيقة الانسانية. وعدم ثبوت الانسانية الخارجية له غير قادح ، لانّ من يقول : « انّ الماهيّة ماهية بدون تأثير المؤثّر » لا يقول بانّ الانسان المعدوم مثلا ثبتت له الانسانية الخارجية ، بل يقول : « أصل هذه الحقيقة مع قطع النظر عن وجودها وحصولها ثابتة لنفسها ، وامّا وجودها وحصولها في الأكوان فمن الجاعل». ولمّا كانت هذه الماهيّة ثابتة لنفسها بدون تصوّر جعلها إذا كانت موجودة في الذهن دون الخارج يعلم منه أنّها إذا وجدت في الخارج يكون ثبوتها لنفسها أيضا بدون الجعل وإن كان وجودها من الجاعل. فالماهيّة الموجودة في الخارج وجودها وبروزها في الاكوان بتأثير المؤثّر ، ولكن كونها انسانا أو شجرا أو مثلّثا أو غير ذلك مع لوازمها الذاتيّة ليس بجعل جاعل وتأثير مؤثّر.
وممّا يدلّ على هذا انّه قد يتحقّق في بعض التقادير الحكم بثبوت الماهيّة الموجودة لنفسها مع عدم العلم بتأثير المؤثّر ؛ بيانه : انّ عدم العلم بتأثير المؤثّر قد يكون ناشئا من عدم التوجّه والالتفات من دون استلزامه لصحّة سلب جميع المفهومات لزوما بينا بالمعنى الأخصّ ، إذ اللزوم انّما هو بعد ترتيب مقدّمات. وحينئذ نقول : إذا أبصرنا زيدا مثلا يمكن أن يحصل لنا الجزم بانّه انسان مع عدم العلم بوجود مؤثّره ، وإذا كان كذلك فثبت كون الانسان انسانا عند عدم المؤثّر ، فتمّ الدليل. وأيضا يجوز أن يكون الشكّ في وجود المؤثر للشكّ في انّ هذا الشيء الموجود هل يحتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ؛ وحينئذ تجويز عدم وجوده لا يستلزم صحّة سلبه عن نفسه. مثلا يمكن أن يرى شيء وكان له مؤثّر في الواقع ويجزم لثبوته ووجوده لنفسه ويشكّ في وجود مؤثّره ـ بناء على الشكّ في انّه هل هو ممكن محتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ـ. ولا ريب انّ مثل هذا الشكّ لا ينافي القطع بثبوته لنفسه ، فثبت كون الانسان مثلا انسانا مع الشكّ في وجود مؤثّره ، ولو كان بتأثير المؤثّر لما حصل الجزم به بدون العلم بمؤثّره.
وقد علم بما ذكر انّ صدق سلب جميع المفهومات عن الماهيّة إذا كان لها نحو وجود خارجا أو ذهنا ممنوع. وكذا إذا كانت للماهيّات ثبوت في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر لم يصدق سلب جميع المفهومات عنها بحسبهما ، إذ نقول حينئذ : الانسان الثابت في الواقع ونفس الأمر لا ينفكّ عنه الانسانيّة الواقعيّة ، فماهيّة المثلّث حينئذ في حاقّ الواقع مثلّث من دون افتقار إلى الجعل والتأثير. نعم ؛ إن لم يكن للماهيّات ثبوت في الواقع ونفس الأمر وفرض انّ ماهيّة ـ كالإنسان مثلا ـ غير موجودة في الخارج ولا في مدرك من المدارك صدق سلب جميع المفهومات في نفس الأمر ، إلاّ أنّه غير قادح في المطلوب اصلا ـ كما لا يخفى ـ.
على أنّ الصدق المذكور محلّ تأمل!.
وإذ ثبت صحّة ما أورده منكر التأثير والمتأثّر من بطلان الجعل المركّب في الماهيّة والوجود والاتصاف ـ أي : جعلها ايّاها ـ نقول في الجواب عن ايراده : انّ بطلان الجعل المركّب لا يوجب بطلان مطلق الجعل ، بل هنا قسم آخر من الجعل يسمّى بـ : « الجعل البسيط » ، وهو الجعل الحقيقيّ الّذي صارت الماهيّات به عن جعل الجاعل وهو جعلها موجودة في الخارج لا بان يكون اشياء ثابتة في أنفسها ويصبغها الجاعل بالوجود كما يفعل الصبّاغ بالثوب ، فانّه ليس جعلا بسيطا بل هو أيضا جعل مركّب ، بل فعلها وفعلها هو بعينه ايجادها في الخارج ، كما انّ المتحرّك إذا تحرّك لا تجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة بل انّما يفعل الحركة وبمجرّد فعله يصير الحركة موجودة ، والخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا ، بل يفعل الخطّ ومجرد فعله هذا هو عين ايجاده في الخارج. ولمّا كان حقيقة هذا الجعل هو موجودية الماهيّة في الخارج والماهيّة الموجودة في الخارج وإن كان شيئا واحدا ليس مركّبا في الخارج من شيئين متميّزين أحدهما الماهيّة والآخر الوجود ، إلاّ أنّ العقل يحلّلها إليهما ويجعل الماهيّة متّصفة بالوجود ، فثبت هناك اشياء ثلاثة : الماهيّة ، والوجود ، والاتصاف. ولاجل ذلك يصحّ أن يقال : « أثر الجعل هو الماهيّة » ، وأن يقال : « اثره هو الوجود » ، وأن يقال : « اثره هو الاتصاف ». ومن ثمّة نجد بعض اقاويل الحكماء دالاّ على انّ تاثير المؤثّر في الماهيّة ، وبعضها دالاّ على أنّ تأثيره في الوجود. وليس هذا كما زعمه بعض المتأخّرين من انّ هنا مذهبين : أحدهما انّ التأثير في الماهيّة ـ ونسبه إلى الاشراقيّينـ، والثاني انّ التّأثير في الوجود ـ ونسبه الى المشّائين (6) ـ ؛ وعلى هذا فالتأثير في الماهيّة هو موجوديتها وليس جعل ذاتها ـ أي :
فعليّتها ـ أمرا وراء موجوديتها ولا موجوديتها امرا وراء اتصافها بالوجود حتّى يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة نفسها بمعنى تابعيتها للجاعل دون كونها موجودة ، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين وقال : « انّ الجعل متعلّق ابتداء بنفس الماهيّة لا بكونها هي ولا بكونها موجودة ، ثمّ العقل ينتزع منه كونها هي وكونها موجودة كما هو مذهب الاشراقيين.
وتحقيق ذلك انّه فرق بين جعل الشيء شيئا وبين جعل الشيء. والماهيّة ليست مجعولة ايّاها بل مجعولة في ذاتها بمعنى انّ نفسها تابع للجاعل وان صحّ أن يقال أيضا وجودها تابع له كما انّ عند من يجعل اثر الفاعل هو الاتّصاف بالوجود يصحّ ان يقال جعلهما الفاعل متّصفة بالاتصاف بالوجود أو متّصفة بالاتصاف بذلك الاتصاف. فكما انّ الاثر الأوّل عنده هو الاتصاف ـ لا بمعنى جعله شيئا بل جعله في نفسه ، والاتّصافات الأخر مرتّبة عليهـ، كذلك الأثر الأوّل عندهم الماهيّة ، لا بمعنى جعلها ايّاها أو غيرها ، بل جعلها في نفسها. وقولهم : « العقل يحكم بانّه جعله موجودا » لا يدلّ على أن ليس الماهيّة بنفسها اثر الفاعل ؛ وقولهم : « العقل يحكم بانّه لم يجعلها ايّاها» ـ على ما فيه من الكلام كما سبق ـ انّما يدلّ على نفى الجعل المركّب في الماهيّة لا على نفى جعلها في نفسها ، والفرق بين الجعلين ممّا لا ينبغى ان يخفى على من له ادنى بصيرة.
وإن شئت زيادة توضيح للمرام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام ؛ وهو : انّ التأثير قد يكون اختراعيا ـ أعني : إفاضة الأثر على قابل ، كالصور والاعراض على المادّة القابلة لها ـ ومن هذا القبيل جعل الموجود الذهني موجودا خارجيا وبالعكس ، وهذا التأثير بخصوصه يستدعي مجعولا ومجعولا إليه ؛ وقد يكون ابداعيا ـ أعني : ايجاد الأيس عن الليس المطلق ـ. ولا يقتضي مجعولا ولا مجعولا إليه ، بل هو جعل بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل متعلّق بذات الشيء فقط. وهذا هو التأثير الحقيقيّ في الشيء. والأوّل هو بالحقيقة هو تأثير في بعض اوصافه ـ أعني كونه شيئا آخر هو الموجود أو غيره ـ ، فأثره بالذات هو ذلك الاتّصاف. ولمّا كان المتعارف هو التأثير الأوّل وكان في تصوّر هذا التأثير نوع غموض لم يفهمه الكثيرون ، وقصّروا التأثير على المعنى الأوّل ولم يعلموا أنّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هويّة حتّى يمكن أن يفيده شيئا ؛ انتهى.
وحاصله الفرق بين تعلّق الجعل بذات الشيء وبين تعلّقه بموجوديّته ، وانّ الأثر الحقيقي للجعل هو الأوّل بمعنى أنّه تابع للجاعل دون الثاني. وأنت تعلم انّ تابعيّة ذات الماهيّة من دون فعليّة لها ولا وجود غير معقول ، مع أنّ الموجوديّة الّتي زعم أنّها تابعة لجعلها إمّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخّرة عنها ؛ والتأخّر ظاهر البطلان ، لاستلزام جعل ذات الماهيّة لجعلها موجودة امّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخرة عنها ، والمتأخر ظاهر البطلان لاستلزام جعل ذات الماهية لجعلها موجودة. وان سلّم المعية ففيه : انّ التابعية حقيقة حينئذ ليست إلاّ للموجودية ، واعتبار تابعية اخرى للذات غير معقول. وأمّا تابعية ذات الماهية مع فعلية لها دون الوجود فبطلانه أظهر! ، لانّ هذه الفعلية للماهية إن كانت من قبل نفسها فمع ظهور فساده لا ينفعه ـ لأنّ مطلوبه اثبات أنّ الماهية بهذه الفعلية متعلّق الجعل ـ ، وان كانت من الجاعل ففساده أظهر ـ إذ التزام انّ الجاعل يفيد الماهية فعلية سوى الوجود متقدّمة عليه ممّا لا يقول به عاقل! ـ ، فبقى أن يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة الموجودة ، وهى ليست إلاّ ما اتصف بالوجود.
فالتابعية للاتصاف ـ اي الموجودية ـ. وانت تعلم انّ الاتصاف انّما هو لحاظ العقل ، وفي الخارج لا يوجد اتصاف حقيقي يتحقّق بين شيئين. وليس جعل الماهيّة موجودة كجعل المادّة مصوّرة وجعل الموضوع ذا عرض ، لأنّه يتوقّف على وجود شيئين ؛ واتصاف أحدهما بالآخر ـ بل ايجاد الماهية ـ جعل واحد بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل ومقبول في الخارج متعلّق بالموجودية ، وهو اخراج الأيس عن الليس ؛ هذا.
وامّا ما ذكره من انقسام الجعل إلى قسمين ـ : الاختراعي والابداعي ـ وجعل افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات وكذا جعل الموجود الذهني خارجيا وبالعكس من الأوّل وقصر الثاني على ما تعلّق بذات الشيء ـ أي : إخراج الأيس عن الليس المطلق ـ ، فيرد عليه :
أوّلا : انّ في افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات جعلين كلّ منهما بسيط ، أحدهما متعلّق بنفس تلك الصور والاعراض وثانيهما متعلّق باتصاف المادّة والموضوع بهما ، وليس هنا جعل آخر يسمّى « مركّبا ». نعم! الجعل الثاني إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا ، فهما متحدان ذاتا متغايران اعتبارا. فالجعل المركّب يرجع إلى البسيط ويستلزمه. والبسيط ـ أعني : اخراج الأيس عن الليس ـ لا يستلزم المركّب.
وأمّا ثانيا : فلأنّ عدّ جعل الموجود الذهني خارجيا من الجعل المركّب دون البسيط واخراجه عن ايجاد الأيس عن الليس ظاهر الفساد ، لانّ ايجاد الماهيّة المعقولة في الخارج جعل واحد متعلّق بذات الشيء ، واخراج عن الليس إلى الأيس ، وليس هنا قابل ومقبول حقيقة وليس الوجود صفة زائدة للماهية يتّصف بها ، والاتصاف انّما هو بمجرّد اعتبار العقل ، والأثر هنا ليس إلاّ الوجود الخارجي. وليس الموجود الذهني مادّة للموجود الخارجي وليس الموجود الخارجي واردا عليه حتّى إذا وجد الموجود الذهني في الخارج كان ذلك من قبيل افاضة الاثر على القابل ؛ كيف وافاضة الاثر على القابل يوجب تغيّره عن حال إلى حال والموجود الذهني إذا وجد في الخارج لم يتغيّر عمّا كان عليه.
وأيضا : لو كان كما قال لم يكن ايجاد الواجب لشيء من الممكنات ابداعا وجعلا بسيطا واخراجا عن الليس إلى الأيس ، لانّه عالم بجميعها ، فيكون من قبيل جعل الموجود الذهني موجودا خارجيا. هذا ؛ مع أنّ نفى التأثير الحقيقيّ عن القسم الأوّل غير صحيح ، لانّه يشتمل على ما فى القسم الثاني ـ لما اشرنا إليه من أنّ ايجاد الصور والأعراض بمنزلة الابداع للأشياء وجعلها صفة للقابل زيادة لا توجد في القسم الثاني ـ ، فكيف لا يتأتّى هنا تأثير حقيقي وينحصر الأثر بالاتصاف!.
ثم قوله : « ولم يعلموا انّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يمكن ان يفيده شيئا» حاصله : انّ الجعل الأوّل ـ أي الاختراعي ـ يلزم أن يكون فيه مجعولا ومجعولا إليه ، لانّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يفاض عليه من الفاعل شيء ، فالتأثير في الأشياء إن كان من قبيل الأوّل لزم ان يكون فيه قابل ومقبول. وليس كذلك ، لأنّ أثر الجعل إذا كان هو الموجوديّة لم تتحقّق أوّلا ماهية حتّى يفاض عليها الوجود ، فيلزم أن يتعلّق الجعل أوّلا بذات الماهية حتّى تحصل لها هويّة ثمّ يفاض عليها الوجود.
وفيه : أمّا أوّلا فانّا لا نسلّم انّ الموجودية من قبيل الجعل الأوّل ـ كما أشرنا إليه ـ ، لأنّ الايجاد فعل واحد بسيط لا يقتضي مجعولا ومجعولا إليه ـ كما هو يقول فيما اخترعه من جعله ـ.
وأمّا ثانيا : فلأنّ الجعل البسيط الّذي اعتقده مستلزم لجعل الماهية موجودة ـ كما صرّح به ـ ، وجعل الماهية موجودة ليس إلاّ افادة الوجود لها ، فنقول له حينئذ : الهويّة الّتي يجب أن تكون لما يفيده الفاعل شيئا هنا امّا نفس الماهية أو الماهية الموجودة ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون حصول الهوية مقدّما على افادة الوجود لها أو يكون مستلزما لها. فان ادّعى انّ الهوية المرادة هي نفس الماهية مع الاستلزام والمعية فلا اشكال ، إذ لو افاد الفاعل الوجود للماهيّة فيما حسبه شرطا للإفادة حاصل ولا فرق في حصول الشرط حينئذ بين تعلّق الجعل بذات الماهية وبين تعلّقه بموجوديتها ، ولا محذور في أن يقال : الجعل هو افادة الوجود للماهية.
فان قيل : على ما اعتقده تحصل بالجعل فعلية للماهية ثمّ يفاد عليها الوجود ، وعلى ما اخترتم لا فعلية للماهية فلا يصلح لان تكون قابلة لشيء؟! ؛
قلنا : قد عرفت حال هذه الفعلية وفسادها ، ونزيد هنا ونقول : يلزم من قوله أن تكون افادة الفاعل هذه الفعلية للماهية مسبوقة بفعلية اخرى وهكذا ، ولا ريب انّ حصول فعليتين في الخارج لماهية واحدة ليس بأقلّ شناعة من حصول وجودين لها.
على انّ الماهية مع كلّ فعلية شيء اخر غيرها مع فعلية أخرى ، ويلزم التسلسل في الأمور المتحققة المختارة ، وهو باطل. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة هي نفس الماهية مع تقدّمها على الافادة ؛ قلنا : تقدّمها امّا مع فعلية لها سوى الوجود أو بدونها ، وكلاهما ظاهر الفساد ـ كما تقدم ـ. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة ـ اي الماهية الموجودة ـ مع الاستلزام ، فلا اشكال أيضا ؛ اذ افادة الوجود للماهيّة الموجودة بهذا الوجود ممّا لا محذور فيه ؛ وإن ادّعى انّها هي الماهية الموجودة مع تقدّمها على الافادة فلا ريب في فساده ، لانّه لا معنى لتقدّم الماهية الموجودة على افادة الوجود لها.
ولقد أطلنا الكلام في هذا المرام لانه من مزالّ الاقدام وقد بقى بعد خبايا في زوايا.
ولمّا ظهر حقيقة الجعل وثبت صحّته ، لزم منه صحّة التأثير والتأثّر وبطل منه مذهب ذيمقراطيس واتباعه. ومنه ثبت توقّف وجود الممكن على علّة خارجة وعدم امكان وجوده بنفسه ؛ هذا.
وامّا بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية فيتوقف على أن نعلم أوّلا أنّ للأولوية تفسيرين ، احدهما : أن يقتضي الممكن رجحان احد الطرفين لذاته اقتضاء لم يبلغ حدّ الوجوب ؛ وثانيهما : كون أحد طرفي الممكن أليق بالنسبة إلى ذاته لياقة غير بالغة حدّ الوجوب. ولا يكون ذلك الأليقية باقتضاء اصلا ، لا من حيثية الذاتية ولا من حيثية أخرى ، وللتفرقة يعبّر عن الأوّل «بالرجحان لذاته » وعن الثّاني « بالرجحان بذاته » ، على أن يكون « الباء » للمصاحبة. وعلى كلا التفسيرين يقع الطرف الراجح بمجرّد هذا الرجحان من غير احتياج إلى علّة خارجة. وبطلان الأولوية على التفسير الثّاني ـ أعني : كون الوجود راجحا بالنسبة إلى الممكن من دون اقتضاء واستتباع واستناد الرجحان إلى امر ـ بديهيّ لا يشكّ فيه عاقل ، لانّ ثبوت كلّ معنى لشيء لا بدّ له من علّة ـ سواء كانت ذات هذا الشيء أو غيرها ـ ، فثبوت الرجحان اذن لا بدّ له من علّة.
فان قيل : المقصود في هذا المقام اثبات افتقار الممكن في وجوده إلى علّة موجودة ، وحينئذ لقائل أن يقول : يمكن أن يكون ثبوت الوجود للممكن غير معلّل بعلّة لكن يكون ذلك الثبوت بحيث يجوز ارتفاعه جوازا مرجوحا حتّى لا يلزم وجوبه ، والمراد برجحان وجوده في الواقع من دون اقتضاء هو هذا المعنى ، ولا بدّ لنفيه من دليل! ؛
قلنا : الممكن لا يمكن أن يكون حقيقة عين الوجود ، فلا بدّ لثبوت الوجود له من علّة ، وهذا بديهيّ مستغن عن الدلالة.
ولما كان بطلان الأولوية بالتفسير الثاني بديهيا أو قريبا من البداهة أحاله الأكثرون إلى الظهور (7) ، وانّما تعرّضوا بإبطال الاولوية بالتفسير الأوّل ، ولذا ترى اكثر ادلّتهم مخصوصة به
ثمّ المتقدّمون من العقلاء لم يلتفتوا إلى احتمال الأولوية للممكن ولم يتعرّضوا لإبطالها وكأنّ بطلانها كان عندهم بديهيّا ؛ وما قيل : « انّ الشيخ تعرّض لها في الشفاء وابطلها » لم نعثر عليه. وعلى أيّ تقدير بطلانها قريب من الضرورة ومسلّم عند جميع العقلاء.
وتدل عليه وجوه من البراهين القاطعة :
منها : أنّه لو كان لأحد طرفي الممكن رجحان غير بالغ حدّ الوجوب يقع به هذا الطرف من غير احتياج إلى غيره، فلا يخلوا أنّه مع هذا الرجحان امّا أن يجوز وقوع الطرف المرجوح جوازا ذاتيا ، أولا ؛ وعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وقد فرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل إذا فرض وقوعه فأما أن يقع مع بقاء مرجوحيته فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع صيرورته راجحا على الطرف الراجح فهو مناف للفرض ولمقتضى ذات الممكن (8).
واورد عليه : بانّه يلزم المنافاة المذكورة لو كان اقتضاء ذات الممكن الاولوية لاحد الطرفين على سبيل الوجوب ، وامّا إذا كان ذلك الاقتضاء أيضا على سبيل الاولوية فلا يلزم ذلك. مثلا نقول : انّ الممكن تقتضى ذاته اولوية الوجود لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الاولوية وتقتضى الاولوية الثانية أيضا على سبيل الاولوية وهكذا تترتب الاولويات إلى أن ينقطع الترتّب بانقطاع اعتبار العقل. وحينئذ إذا صار الطرف المرجوح راجحا وواقعا لا يلزم منه إلاّ اقتضاء ذات الممكن ما ينافي مقتضى ذاته على سبيل الرجحان والاولوية. وهذا غير ممتنع ، بل هذا عين المتنازع فيه!.
وجوابه : انّ الذات الّتي تقتضي رجحان الوجود مثلا يلزم أن تقتضي مرجوحية العدم أيضا ، لانّ الراجحية والمرجوحية متضايفتان ومرجوحية العدم بالنظر إلى الذات مستلزم لامتناعه ، لانّ وقوع المرجوح محال. وإذا كان هذا الطرف ممتنعا يكون الطرف الراجح واجبا ، فأحد طرفي الممكن لو كان راجحا فأما أن يكون طرف الوجود فيكون الممكن واجبا ، أو طرف العدم فيكون ممتنعا ، وهذا خلف ، لانّ الأوّل يجب وجوده دائما والآخر يجب عدمه دائما وكلامنا في الممكن الّذي يطرأ عليه الوجود والعدم كلاهما.
ومنها : انّه قد تقرّر انّ الواجب ما كان بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى علّة وحيثية ، والممتنع ما كان ذاته منشئا لانتزاع العدم من غير احتياج إلى شيء آخر ، والممكن ما ليس ذاته منشئا لانتزاع شيء من الوجود والعدم ، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علة. وإذا علمت ذلك فنقول : الممكن الّذي كان وجوده اولى إن كان ذاته بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى ضمّ علّة فهو الواجب ـ لانه لا نعني من الواجب إلاّ هذا ، لانّ الكلام في الحقائق دون الالفاظ ـ ؛ وإن احتاج إلى ضمّ علّة فلا يكفى الاولوية في صيرورة الممكن موجودا.
ومنها : انّه لو كفى الاولوية الذاتية لوقوع احد طرفي الممكن فلا يخلوا امّا أن يمتنع وقوع الطرف المرجوح ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يكون ما فرض اولوية وجوبا وهو خلاف الفرض ، وعلى الثاني يكون وقوع الطرف الراجح موقوفا على عدم حصول سبب المرجوح وهو عدم خارج عن ذات الممكن ، فوقوع الطرف الراجح محتاج إلى سبب خارج عن ذات الممكن ، فلا يكفي مجرّد الاولوية في وقوع احد طرفيه ، وهو المطلوب.
وأورد عليه : بانّ المفروض انّ السبب الخارج عن ذات الممكن هو عدم سبب المرجوح ، فاذا فرضنا انّ الطرف الراجح هو الوجود وليس هنا سبب لعدمه لجاز حينئذ أن يوجد الممكن من غير احتياج إلى ممكن مؤثّر موجود ، فينسدّ باب اثبات الصانع.
وأجيب عنه : بانّ الطرف المرجوح لمّا كان عدما ـ كما هو المفروض ـ يكون سببه أيضا عدما، لانّ سبب العدم ليس إلاّ عدم علّة الوجود ، فيكون عدم سبب العدم وجودا ـ لأنّ عدم العدم وجودـ ، وحينئذ يكون عدم سبب المرجوح امرا موجودا ويكون وقوع الطرف الراجح ـ أعني الوجود ـ موقوفا على هذا الموجود ، فلا يلزم انسداد باب اثبات الصانع.
وفيه : انّ الممكن الّذي كلامنا فيه ليس معلولا لشيء حتّى يكون عدمه مستندا إلى عدم هذا الشيء. ثمّ إذا فرض عدم عدم هذا الشيء لزم وجوده ، فيجوز ان يكون عدم الممكن المفروض مستندا إلى شيء موجود ولا يمتنع أن يكون العدم اثرا لموجود ، بل الممتنع هو العكس ، وحينئذ عدم علّة عدمه ليس إلاّ ارتفاع هذا الشيء الموجود ؛ وعلى هذا صيرورة الممكن الّذي وجوده أولى لا يحتاج إلى شيء موجود خارج عن ذاته ، بل لا يحتاج إلاّ إلى ارتفاع سبب العدم.
والجواب : انّ سبب العدم اذا كان أمرا موجودا خارجيا عن ذات الممكن المفروض فارتفاعه يحتاج إلى علّة فعلية إن كانت شيئا موجودا ، فالممكن المفروض يحتاج في صيرورته موجودا إلى هذا الشيء ولا يكفى مجرد الاولوية. وإن حصل الارتفاع بمجرّد الاولوية ـ أي : كان هذا الممكن عدمه أولى من وجوده ـ ففيه : انّ مجرّد هذه الاولوية غير كافية لارتفاعه ، لانّه لمّا كان موجودا على ما هو المفروض فارتفاعه دفعة موقوف على ارتفاع سبب الوجود ، فان كان سبب الوجود هو مجرّد اولويّة الوجود فكيف يمكن مع ذلك أن يصير العدم أولى له في حالة اخرى؟ وإن كان سبب الوجود أمرا موجودا آخر فارتفاعه أيضا يحتاج إلى ارتفاع علّة وجوده ، ويرد الترديد ويلزم التسلسل إلى غير النهاية ، وهو باطل!.
ومنها : انّه لو كان لاحد طرفي الممكن أولوية يقع بها فامّا يجوز وقوع الطرف الآخر ، أو لا ؛ فعلى الثاني لا يكون ممكنا بل واجبا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا وقع الطرف المرجوح فاما أن يكون وقوعه مستندا إلى علّة أو لا ، والثاني باطل ـ لاستلزامه ترجّح المرجوح بنفسه ـ ، وعلى الأوّل فامّا أن يصير الطرف المرجوح لاجل العلّة اولى أو لا ، والثاني باطل ـ لانّ العلّة لا تكون علّة ما لم يصر المعلول بها أولى ـ ، والأوّل أيضا باطل لاستلزامه مرجوحية الطرف الاولى بذاته ، فيزول ما بالذات لأجل الغير (9).
ومنها : انّ الممكن إذا كان وجوده مثلا راجحا على عدمه لذاته لكان عدمه ممتنعا لذاته ، لانّ رجحان احد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر ومرجوحيّته تستلزم امتناعه ـ لضرورة امتناع ترجّح المرجوح ـ ، فرجحان الوجود لذاته يستلزم امتناع العدم لذاته وهو يستلزم وجوب الوجود ، فما فرضناه غير منته إلى حدّ الوجوب منته إليه ؛ هذا خلف!.
وأورد عليه ايرادات ضعيفة لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعها ؛
اوّلها : انّه منقوض بالممكن ، فانّه ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته والتساوي ينافى الرجحان كما إن الرجحان ينافي المرجوحية ، فلو وجد ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته لزم رجحان المساوي ، كما انه لو وجد المرجوح لزم ترجيح المرجوح ولا يظهر بينهما فرق في الخلف ؛
وجوابه : ما مرّ انّ معنى تساوي النسبة في الممكن هو عدم اقتضائه شيئا من الوجود والعدم ، لا اقتضائه التساوي حتّى يلزم الفساد ، بخلاف الاولوية الذاتية فانّ معناها اقتضاء ذات الممكن رجحان احد الطرفين أو كونه لائقا له ، وان لم يتحقّق التضاد. فاذا اقتضى الذات رجحان احد الطرفين أو تحقّق الرجحان بدون الاقتضاء يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا ولا يجوز أن يكون الراجح بالذات مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات راجحا بالغير ، لأنّ ما بالذات لا يزول والمتنافيين لا يجتمعان ولو بألف علّة.
وثانيها : انّه منقوض بسائر مقتضيات الماهيّة كبرودة الماء ، فانّها من مقتضيات ماهية الماء مع انّها قد تزول بورود ما ينافيها ـ أعني : الحرارة ـ ؛
وجوابه : انّ المدّعى انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا ـ لاستلزام راجحية احدهما مرجوحية الآخر ـ ؛ ولم ندّع في الدليل انّه يقتضي الرجحان ، فلا يجوز أن يقع خلاف مقتضاه حتّى يعارض بمثل برودة الماء ، فانّ اقتضاء الرجحان الذاتى غير الرجحان الذاتى. على أنّ الاقتضاء على قسمين : اقتضاء تامّ واقتضاء ناقص ، والأوّل كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث لا يمكن انفكاكه عنه ولا يقع خلاف مقتضاه ـ كاللوازم الذاتية للماهية ـ ، ولا ريب أنّ الممكن لو اقتضى رجحان احد الطرفين لذاته يكون رجحانه من هذا القبيل ، فلا يمكن أن يصير مرجوحا بالغير ـ لانّ ما بالذات لا يتخلّف ، كما مرّ ـ. والثاني كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث جاز انفكاكه عنه ووقوع خلاف مقتضاه من الخارج ، كالماء مثلا فانه قد يتصف بالحرارة مع انّ مقتضى طبعه البرودة ـ بناء على انّ اقتضاء طبعه البرودة ليس اقتضاء تامّا ، بل إذا خلّى وطبعه كان مقتضيا له ـ. ونظير ذلك كثير ، كالحجر المرمى إلى الفوق قسرا فان طبيعته تقتضى الحركة إلى المركز ؛ والأخلاق التابعة للأمزجة ، فانّ الامزجة تقتضيها مع انّ زوالها وحصول منافياتها ممكن بالرياضات.
وثالثها : انّ غاية ما لزم من الدليل أن يكون العدم ممتنعا نظرا إلى ذاته ، والامتناع الذاتى لا يستلزم كونه ممتنعا مطلقا بحيث لا يقع ، ولم لا يجوز أن يقع لمرجّح غالب من خارج امّا بإزالة المرجوحية أو بدونه؟! ، فانّ المرجوحية بالنظر إلى الذات لا ينافي الراجحية بالنظر إلى الغير ، فان غلب الغير المرجّح دفع المرجوح كما أنّ التساوي بالنظر إلى الذات لا ينافى الرجحان بالنظر إلى الغير.
وفيه : ما تقدّم من انّ الرّاجح بالذات لا يصير مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات لا يصير راجحا بالغير ، لانّ ما يقتضيه الذات بالاقتضاء التامّ لا يتخلّف ، والمتنافيان لا يجتمعان ولو بألف علّة. على أنّ الكلام في انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يكون الطرف الآخر مرجوحا ؛ فما دام الرجحان متحقّقا لأحد الطرفين يكون الطرف الآخر مرجوحا ، لانّ رجحان أحد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر. فاذا كان الرجحان بالنظر إلى الذات يكون المرجوحية أيضا بالنظر إلى الذات ، فالمرجوح مع كونه مرجوحا يمتنع أن يكون راجحا ، لامتناع ترجّح المرجوح. وإذا امتنع وقوع المرجوح يكون وقوع الطرف الراجح واجبا ، فما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب يكون منتهيا إلى حدّ الوجوب ، هذا خلف!. والحاصل انّ الكلام في صورة تحقّق الراجحية والمرجوحية لا مطلقا ، فاذا فرض زوال المرجوحية لمرجّح غالب من خارج يخرج الكلام عن محلّ النزاع ويصير من باب ترجيح الغير أحد طرفي الممكن، فان صيّره واجبا وأوجده فلا كلام ، وان جعله أولى وأوجده لمجرّد هذه الأولوية لكان من باب وقوع الممكن بالأولوية الخارجية ، وستعلم بطلانه
ثمّ العلاوة على فرض التنزل ، لما عرفت من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير
ومنها : انّه لا ريب في انّ الممكن الّذي وجوده اولى لو وجد بدون علّة خارجة لكان متصفا بالوجود وليس هو عين الوجود ، لانّ الممكن مهيته ماهية ممكنة وحصول الوجود له بدون علّة ضروري البطلان ـ مع انّا اقمنا عليه قواطع البراهين في ابطال مذهب ذيمقراطيس ـ ، فلا بدّ لوجوده من علة. فعلّيّته إمّا هذه الأولوية ، أو الماهية الممكنة الّتي وجودها اولى ؛ والأوّل ظاهر البطلان ـ لانّ الاولوية امر اعتباري غير صالح لان يكون معطيا للوجود وموجدا للماهيات ـ ، والثاني أيضا بديهيّ الفساد ، لاستلزامه ايجاد الشيء نفسه وتقدّم الشيء على نفسه ـ لانّ الشيء المفيض للوجود يجب أن يكون موجودا حتّى يصحّ منه افاضته الوجود ، فيلزم أن تكون الماهية الممكنة قبل وجودها موجودة حتّى يفيض الوجود على نفسها ـ ، وبطلانه من اجلى البديهيات!. على انّه يلزم صحّة عدمه بنفسه ، لانّه لمّا فرض عدم بلوغ أولوية الوجود حدّ الوجوب يجوز عدمه مع بقاء تلك الأولوية ، اذ لو لم يجز عدمه مع بقائها لكان منتهيا إلى حدّ الوجوب وهو خلاف الفرض ، فحينئذ يجوز عدمه مع بقاء تلك الاولوية.
فيلزم جواز عدمه بلا علّة ، لانّه إذا جاز عدمه مع بقاء اولوية الوجود لجاز عدمه مع بقاء علّة الوجود ، وعلّة العدم ليست إلاّ عدم علّة الوجود وعلّة الوجود قد فرض بقائها ، فيثبت جواز عدمه بلا علّة ؛ وهو أيضا ظاهر البطلان.
فان قيل : قد صرّح الشيخ وغيره من أعاظم الحكماء بانّ الماهية بنفسها لا بوجودها علّة للوازمها ، فعلّة الامكان مثلا نفس ماهية الممكن لا وجوده ، ولذا يجوز تقديم الامكان على الوجود بمراتب ؛ فيقال : امكن فاحتاج فأوجب فوجب فاوجد فوجد. وإذا صحّ ذلك فلم لا يجوز أن يكون الوجود من لوازم الماهية فتكون الماهية بنفسها علّة للوجود؟ ، فلا يلزم أن يكون معطى الموجود موجودا ؛
قلنا : هذا السؤال أورده الشيخ وقال : إذا كان جائزا أن تكون ماهية علة للوازمها لأنّها ماهية لا لانّها موجودة فلم لا يجوز أن يكون واجب الوجود ماهية وتلك الماهية توجب الوجود لنفسها حتّى يكون الوجود معلول الماهية ، فلم يكن الوجود واجبا. ثمّ اجاب : بانّ الماهية إذا كانت لذاتها علّة لشيء كان ذلك الشيء لازما لتلك الماهية كيف كانت ـ أي : سواء كانت موجودة أو معدومة ـ ، فماهية المثلّث علّة لتساوي زواياه لقائمتين. فان كانت الماهية موجودة كان التساوي موجودا ، وإن كانت معدومة كان معدوما ، فلازم الماهية كالماهية تابع لها في الوجود والعدم. فلو كانت ماهيّة بنفسها علة لوجودها لزم أن يلزمها الوجود بايّ وجه فرضت ، فاذا كانت الماهية معدومة لزمها الوجود مع العدم كسائر لوازم الماهية ، فيلزم أن تكون تلك الماهية موجودة ومعدومة معا.
وحاصله : انّ الوجود إذا كان لازما للماهيّة كلّ ممكن لزم ان يكون ماهية كلّ ممكن موجودة ازلا وابدا ، لانّ الوجود حينئذ ليس له منتظر سوى الماهية ، فيلزمها الوجود دائما. وإذا صحّ موجودية كلّ ماهية دائما على فرض لزوم الوجود لماهية الممكنات ومع ذلك يرى انّ بعض المهيات معدومة ثمّ تصير موجودة ـ كالحوادث الزمانية ـ، فيلزم أن تكون تلك المهيات موجودة ومعدومة معا.
وقال بعض اهل التحقيق : انّ هذا الجواب ـ أعني : جواب الشيخ ـ انّما ينفى كون الوجود لازما للماهيات الّتي كانت معدومة ثمّ تصير موجودة ـ كالممكنات الحادثة ـ لا مطلقا ، لانّ غاية ما لزم من كون الوجود لازما للماهية أن تكون الماهية موجودة ازلا وابدا ولم يكن لها عدم اصلا ، فلا يلزم منه نفي كون الوجود لازما للماهيات القديمة ـ كالعقول والافلاك ـ على رأي الحكماء. ثمّ قال : والجواب العامّ التامّ هو أن يقال : انّ القائل بانّ لازم الماهية لازم لها ومستند إليها ـ لانّها ماهيّة لا لأنّها موجودة ـ لا يقول انّ الماهية إذا كانت منفكّة عن الوجود ومعدومة صرفة تكون علة للازمها ، لانّها حينئذ ليست إلاّ تخمينا محضا فلا يصلح لأن يكون علة لشيء ، بل يقول : انّ الماهية الّتي تكون علة للازمها هي الماهية الّتي كانت مخلوطة بالوجود ، لكن الوجود لا مدخليّة له في ثبوت لازم الماهية بل هو مستند إلى ذات الماهية. والحاصل انّ الأمر الّذي لا يكون مخلوطا بالوجود امر تخميني لا يثبت له شيء اصلا ويسلب عنه جميع المفهومات حتى نفسه ، والأمر الّذي يكون علّة لشيء لا يتصوّر عليته إلاّ بعد تحصّله وتميّزه ، والتحصّل والتميّز لا يكونان إلاّ بعد الوجود ـ ولهذا يكون الوجود شبيها بالذاتيات باعتبار انّ الشيء كما يمتنع انفكاكه عن الذاتيات كذلك يمتنع انفكاكه عن الوجود ـ ، فلو كان الوجود لازما لماهية شيء من المهيات لزم ان تكون تلك الماهية مخلوطة بالوجود قبل كونها موجودة. وهذا الجواب ينفى كون الوجود لازما لماهية كلّ الممكنات سواء كانت حادثة أو قديمة ، لانّ كون كلّ لازم لازما إذا كان بعد كون الماهية مخلوطة بالوجود فيكون الوجود لازما أيضا يتوقّف على كون الماهية مخلوطة بالوجود ، سواء كانت تلك الماهية حادثة أو قديمة ؛ وصيرورة الشيء موجودا بعد كونه مخلوطا بالوجود بديهي البطلان.
ومنها : انّ الممكن مع اولويّة الوجود مثلا إن لم يجز عدمه فيكون واجبا ، لا اولى ؛ وإن جاز عدمه فيمكن أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما. فاذا صار موجودا لمجرّد الأولوية يلزم الترجيح لاحد المتساويين بلا مرجّح ، وهو باطل (10)
لا يقال : لا يلزم ترجيح أحد المتساويين ، لأنّ الأولوية مرجّحة ؛
لأنّا نقول : قد وقع الترديد في الدليل في جواز وقوع طرف العدم وعدمه بعد فرض الأولوية ، فالترديد إنّما وقع بعد اخذ الأولوية في ذات الممكن ، ومع ذلك لا تصلح الأولوية لان تكون مرجّحة. لانّا قلنا انّ العدم مع فرض اولوية الوجود ان كان غير جائز يكون الوجود واجبا ، وإن كان جائزا امكن وقوع كلّ من الوجود والعدم ، فوقوع أحدهما محتاج إلى مرجّح غير الأولوية ، فالأولوية المأخوذة مع ذات الممكن لا تصلح لان تكون مرجّحة. وإن كان المرجّح اولوية أخرى سوى الاولوية المأخوذة مع ذات الممكن لنقلنا الكلام إليها ، فان كانت هي أيضا مستندة إلى اولوية اخرى نقلنا الكلام إليها وهكذا ؛ فتترتّب الأولويات الغير المتناهية. ومع ذلك نقول : انّ الممكن مع جميع هذه الاولويات إن كان غير جائز العدم لكان واجبا لا ممكنا ، هذا خلف! ، وإن كان جائز العدم فصيرورته موجودا ترجّح لاحد المتساويين من دون مرجّح. ولا يمكن أن يقال : انّ اولوية الوجود مرجّحة ، لانّ جميع الأولويات اخذت مع ذات الممكن ووقع الترديد في وقوع العدم وعدم وقوعه ، فلا تبقى اولوية داخلة أو خارجة تكون مرجّحة.
واعترض عليه : بانّ اللازم من عدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب أن يحتاج الطرف الراجح على فرض وقوعه في بعض اوقات الاولوية فقط إلى اولوية اخرى ، وعلى فرض وقوعه في بعض ذلك البعض فقط إلى اولوية ثالثة وهكذا ؛ ومن البيّن انّه لا تجتمع تلك التقادير باسرها في الواقع حتّى تلزم اجتماع الاولويات الغير المتناهية في الواقع.
والجواب : انّ المحوّج إلى المرجّح ليس فرض وقوعه في بعض الأوقات الاولوية دون بعض حتّى لو فرض وقوعه في بعض ولا وقوعه في بعض آخر منها دون بعض احتاج إلى المرجّح ؛ ولو فرض وقوعه في جميعها لم يحتج إلى مرجّح ، بل المحوّج إلى الترجيح الثانى ـ أعني : الاولويّة الثانية ـ هو وقوعه مع الاولوية الاولى مع امكان عدم وقوعه معها ؛ وهكذا حكم ساير الاولويات ـ كما ظهر من الدليل ـ.
واعترض عليه أيضا : بانّ هذا الدليل لا يجري في الأمور الآنيّة ، بمعنى انّ المعلول الآني لمّا امتنع وجوده في آنين فاذا فرض وجوده في آن وعدمه في آن آخر يقول الخصم : انّ عدمه في ذلك الآن لامتناع وجوده فيه ، فلا يكون وجوده في آن وعدمه في آن آخر ترجيحا بلا مرجّح ، وانّما يلزم ذلك لو جاز وجوده في الآن الآخر.
وأجيب عنه : بانّ امتناع وجوده في الآن الآخر لا يجوز أن يكون لذاته بالضرورة ، بل لأمر آخر يوجد في ذلك الآن ـ ككونه بعد آن الحدوث مثلا ـ. فحينئذ نقول : لا بدّ من عدم سبب ذلك الامتناع في الآن الأوّل حتّى يوجد فيه ، فلا يكون مجرّد الرجحان كافيا.
وانت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الدليل راجعا إلى بعض الادلّة السابقة.
وأورد عليه أيضا : بانّ الممكن ما يجوز وجوده وعدمه جائزا نظرا إلى ذاته لا ما يجوز وجوده تارة وعدمه تارة اخرى ، فانّه قد يمتنع ذلك كما في الزمان على رأي الحكماء فانّه ممكن ، بمعنى انّ كلاّ من الوجود والعدم جائز له بالنظر إلى ذاته مع انّه يمتنع أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما ، لأنّه لا يجوز عدمه بعد وجوده ولا وجوده بعد عدمه. فانّ يوم السبت من شهر كذا من سنة كذا مثلا إذا صار موجودا لا يعدم بعد ذلك ابدا ، بل يكون موجودا خارجيا دائما ـ كما هو رأي الفلاسفة ـ ، وإن لم يكن موجودا في اليوم الأحد الّذي بعده ؛ يعنى ليس الأحد ظرفا لوجوده بل يصدق عدمه فيه ولا يجوز وجوده بعد صدق ذلك العدم. والحاصل انّ كلّ جزء من الزمان محدود بين جزءين آخرين يتعيّن وجود بينهما البتّة ، ولا يجوز عدم تحقّقه فيه ولا وجوده قبل وبعد ؛ فلا معنى لفرض وقوعه تارة وعدم وقوعه اخرى.
فالمحال الّذي هو ترجّح احد المتساويين من غير مرجّح انّما لزم من فرض وقوع الممكن تارة وعدم وقوعه اخرى. وهذا الفرض لمّا لم يكن من لوازم الامكان فالمحال المترتّب عليه أيضا ليس بلازم. فحينئذ يجوز ان يكون بعض الممكنات بحيث يكون كلّ واحد من الوجود والعدم جائزا بالنظر إلى ذاته ، ويكون الوجود اولى له بالنظر إلى ذاته وكان وقوع عدمه ممتنعا.
وقد اجاب عنه بعضهم : بأنّا نفرض وجوده مع الأولوية تارة وعدمه معها اخرى في جميع الازمنة ولا نفرض وجوده في زمان واحد وعدمه في زمان واحد آخر حتّى يلزم فرض وقوعه تارة وعدمه اخرى ، ولا استحالة في الفرضين ـ اي : فرض كلّ من الوجود والعدم في جميع الازمنة ـ لعدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب.
وانت تعلم انّ هذا الجواب في غاية الضعف ؛ لانّ الفرضين ليسا حينئذ متساويين ، لانّ الأولوية مرجّحة للوجود وغير مرجّحة للعدم ، فكيف يسلّم الخصم امكان فرض العدم في جميع الازمنة ومساواته لفرض الوجود فيه؟!.
وقيل في الجواب : انّ هذا الحكم إذا ثبت في بعض الممكنات الّتي يجوز وجودها تارة وعدمها اخرى ثبت في جميعها ، إذ العقل لا يفرق بين ممكن وممكن في هذا الحكم.
وردّ : بانّ هذه الدعوى ممنوعة ، لانّ التساوي ليس بيّنا ولا مبيّنا وقال بعض الأفاضل (11) : هذا إيراد ما تصدّى احد من القوم لدفعه وحسبوا ان لا مدفع له ، وأنا ارى انّه مدفوع. وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة غفل عنها الأكثرون ؛ وهى : انّه قد يوضع موضوع ويفرض له حال ممكن الثبوت له بما هو موضوع ـ مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع بما هو موضوع ـ ليستدلّ به على مطلوب وإن لم يكن هذه الحال ممكن الثبوت له بحسب بعض الخصوصيات الخارجة عن نفس الموضوع بما هو موضوع ، ولا ريب في انّ عدم امكان ثبوته له باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع المغايرة لها لا يقدح في امكان ثبوته للموضوع بما هو موضوع ؛ وإذا كان هذا الحال ممكن الثبوت بنفس مفهوم الموضوع بل هو موضوع لا بدّ أن لا يكون فرض ثبوت ذلك الحال لنفس الموضوع من حيث هو هو مستلزما لمحال ـ فانّ الممكن من حيث هو ممكن لا يستلزم المحال ـ ، فاذا فرض انّه لزم من فرض ذلك المحال ووضع امور اخرى محال يجب أن لا يكون المحال ناشئا من فرض ثوبته ، بل من فرض صفة وحالة أخرى في ذلك الموضوع الّذي فرض له تلك الحال. وإذا عرفت هذه المقدمة أقول : الموضوع في هذا الاستدلال « الممكن من حيث انّه ممكن » ، ولا ريب في انّ وقوع الوجود في وقت والعدم في وقت آخر حال ممكن الثبوت للممكن بما هو ممكن ؛ ألا ترى انّ بعض الممكنات يوجد في وقت ويعدم في وقت آخر. وعدم امكان ثبوته لممكن باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الممكن كالخصوصية الزمانية غير قادح ـ كما عرفت ـ ، فيتمّ الاستدلال ويندفع المنع والنقض ؛ انتهى.
وأنت تعلم انّ ما ذكره وإن كان حقا في نفسه لكنّه غير نافع في المقام ، لانّ غرض المورد انّ هذا الدليل ليس شاملا لجميع الممكنات لانّه لا يجري في بعض الخصوصيات كالزمان ، لا انّه لا يجري في الزمان إذا أخذ من حيث انه ممكن ، لانه إذا اخذ من حيث انه ممكن لخرج عن الخصوصية الزمانية فيخرج عن محلّ النزاع ، لانّ النزاع انّما هو في الزمان من حيث الخصوصية لا مطلقا ، فلا يندفع النقض. وكذا لا يندفع المنع ، لانّ المراد منه انّ المعتبر في الممكن أن يجوز له الوجود والعدم باعتبار ذاته لا ما يجوز له الوجود تارة والعدم أخرى حتّى يجري ذلك في جميع خصوصيات الممكن.
وقال جماعة من الفضلاء : يمكن أن يوجّه الدليل بحيث لا يرد عليه شيء من الايرادات المذكورة. فقرّروه بوجوه:
اوّلها أن يقال : لو جاز وجود الممكن لمجرّد الاولوية الذاتية فاذا اخذ الممكن مع هذه الاولوية بدون انضمام امر اخر إليه فامّا أن يجوز له العدم مع بقاء تلك الأولوية ، أولا ؛ وعلى الثاني يلزم الوجوب وقد فرض غير واجب! ، وعلي الأوّل يفرض وقوع عدمه مع بقاء الاولوية ، ونقول : عدمه حينئذ امّا تقع مع مرجوحيته على وجوده فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع رجحانه على وجوده فيلزم انتفاء الاولوية ؛ هذا خلف!.
فان قيل : ما ذكرتم انّما يصحّ لو كانت الأولوية الذاتية موجبة للرجحان ، امّا لو كانت مرجّحة له فلا يجوز أن يزول الرجحان الّذي تقتضيه الاولوية بعنوان الرجحان عند فرض عدم الممكن، فلا يلزم ترجيح المرجوح حال كونه مرجوحا ، انّما الممتنع زوال الرجحان إذا اقتضاه الأولوية بالوجوب ؛
قلنا : عدم الممكن مع بقاء رجحان وجوده بأىّ نحو كان محال ـ وهو ظاهر! ـ. وقد مرّ سابقا ما ينفعك في هذا المقام.
وثانيها أن يقال في الشق الأوّل : نفرض عدم وقوعه مع بقاء الأولوية ونقول : أنّ عدم الوقوع حينئذ إن كان بلا سبب لزم ترجّح الوقوع بلا سبب ، وان كان مع سبب فوقوع الطرف الاوّل ـ أعني : الوقوع ـ يتوقّف على عدم هذا السبب ، فليس مجرّد الأولوية كافيا.
وثالثها ان يقال : الممكن مع الأولوية الذاتية إن لم يجز عدمه كان واجبا ، هذا خلف! ؛ وإن جاز عدمه نفرض شخصين متساويين في رجحان الوجود ونفرض وجود أحدهما وعدم الآخر ، فيلزم ترجّح احد المتساويين.
وأنت تعلم انّ هذه التقريرات تخرج الدليل عن حقيقته وتجعله دليلا آخر ، فانّ التوجيهين الاولين راجعان إلى بعض الادلّة السابقة ، والاخير دليل على حدة لم يذكر.
فالصحيح في الجواب عن الايرادين الاخيرين أن يقال : المقصود بالذات من نفى الاولوية الذاتية امكان اثبات الصانع ، فاذا ثبت انّ بعض الممكنات لا يمكن وجودها بدون أمر موجود مغاير للممكنات ثبت المطلوب.
فان قلت : لعلّ الموجود الأوّل هو الأمر الآني أو الزمان. وتنتهي سلسلة الممكنات الموجودة إليه ، وهو يوجد بمجرّد الاولوية للإيرادين المذكورين ؛
قلنا : مجرّد الاولوية لا يكفى لوجود كلّ واحد من الأمر الآني والزماني ، إذ لو كان كافيا له لكان مستلزما له والمفروض انّ ذات الممكن مقتضية للأولوية ، فتكون مستلزمة لها. فالذات مستلزمة للأولوية والاولوية مستلزمة للوجود ، فالذات مستلزمة للوجود ، فيكون موجودا دائما ولا يجوز زوال الوجود عنها ، هذا خلف ؛ هذا!.
وأمّا بطلان الاولوية الخارجية ـ ويقال لها : « الاولوية الغيرية » أيضا ـ فاعلم أوّلا انّ المراد بها أن يجعل الفاعل أحد طرفي الممكن اولى ويوجده بمجرّد هذه الاولوية من غير أن يجعله واجبا. واذ عرفت ذلك فاعلم! انّا قد بيّنا فيما سبق انّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وبه ثبت بطلان الاولوية الذاتية بأدنى تغيير ، مثلا نقول في الدليل الاوّل : لو وجد الممكن بعلّة مرجّحة غير موجبة فلا يخلوا انّه مع هذا الرجحان امّا يجوز وقوع عدمه جوازا ذاتيا أو لا ، فعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وفرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا فرض وقوع عدمه فلا بدّ من رجحانه على طرف الوجود لانّه ما لم يترجّح لم يتصوّر له الوقوع لإيجابه ترجيح المرجوح ، فيصير الطرف المرجوح ـ أعني : العدم ـ راجحا على الطرف الآخر ـ اعنى : الوجود ـ وهذا مناف لما اقتضته العلّة ، لانّ المفروض أنّها اقتضت اولوية الوجود ، فكيف صار العدم اولى!؟.
ونقول في الدليل الآخر : الممكن إن ترجّح وجوده مثلا بالأولوية الخارجية امّا يجوز عدمه ، أو لا ؛ فعلى الثاني لم يكن ما فرضناه اولوية اولوية بل وجوبا ، هذا خلف!. وعلى الأوّل فلنفرض وقوعه معها تارة وعدم وقوعه معها اخرى ، فامّا أن لا يتفاوت رجحانه الحاصل من العلّة في الحالين اصلا لزم ترجّح احد المتساويين على الآخر
بلا مرجّح ، أو يتفاوت فيكون ذلك لأمر مختصّ بحال الوجود منضمّ إلى العلّة ويكون وجود الممكن من مجموعهما لا من العلّة فقط ، وقد فرض وجوده من العلة فقط ؛ هذا خلف!. على انّا نقول : بعد انضمام الأمر المذكور إلى العلّة إن وجب الممكن ثبت ما ادّعيناه من انّه لا يكفى مجرّد الاولوية الخارجية في وقوع الممكن بل ما لم يجب لم يقع ، وإن لم يجب فرضنا وقوعه معهما تارة وعدم وقوعه معهما اخرى ويتحقّق امر آخر ، وننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل ، وهو محال. وملزوم المحال محال. فصدور الممكن عن العلّة بدون ان يجب بها محال ، هذا.
وقد استدلّ بعض الاعلام على بطلان الاولوية الخارجية بانّه إذا تحقّقت علة وجود الشيء بتمامها فامّا أن يتساوى وجوده وعدمه ، فيكون حاله مع تمام العلّة كحاله لا معه ، فما فرض علّة ومرجّحا لا يكون علّة ومرجّحا ، هذا خلف! ؛ وامّا أن يترجّح الوجود من غير أن يبلغ حدّ الوجوب وحينئذ لا يخلوا من أن يكون طرف العدم ممكن الوقوع مع فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها أو لا يكون ممكن الوقوع ، فان لم يكن ممكن الوقوع يلزم أن يكون ما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب منتهيا إليه ، هذا خلف! ، وإن كان ممكن الوقوع مع تحقّق علة الوجود بتمامها ولا يصلح لعلية العدم إلاّ عدم ما هو علّة الوجود ـ لانّ عدم الشيء الممكن مستند إلى عدم تحقّق علة وجوده ـ وقد فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها ، فيلزم صحّة عدمه بلا سبب.
_____________
(1) راجع : الشرح الجديد ، ص 39. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص 32 ؛ شوارق الإلهام ، ج 1 ، ص 89؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 481 ؛ گوهر مراد ـ الطبعة الحجرية ـ ، ص 144 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 199.
(2) راجع : المبدأ والمعاد ـ لصدر المتألّهين ـ ، ص 11. وفيه : « ... بالنور الغنى عند الرواقيين ». والمذكور في المتن يوجد في ما بأيدينا من مخطوطتين.
(3) راجع : شرح المقاصد ، ج 1 ص 485. والقول عند صدر المتألّهين ورئيسهم منسوب إلى انباذقلس الحكيم. وهو عنده من مرموزات المتقدّمين لكتم اسرارهم الربوبية. راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 210.
(4) راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ص 211 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 484.
(5) راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 213.
(6) راجع : كتاب المشاعر ، ص 37 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 398. وانظر أيضا : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج 1 ، ص 301.
(7) راجع : المطالب العالية ، ج 1 ، ص 74.
(8) راجع : الشرح الجديد ، ص 39.
(9) راجع : تلخيص المحصّل ص 119.
(10) راجع : الشرح الجديد ص 40.
(11) في هامش « د » : هو الفاضل الحاج محمود النيريزي في شرح رسالة اثبات الواجب للدواني. منه ـ رفع قدره ـ.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|