التحذير تنبيه المخاطب على أمر مكروه ليجتنبه والإغراء تنبيهه على أمر محمود ليفعله، وإنما ذكر ذلك بعد باب النداء لأن الاسم في التحذير والإغراء مفعول به بفعل محذوف ولا يجوز إظهاره كالمنادى على تفصيل يأتي.
ص267
واعلم أن التحذير على نوعين: الأول أن يكون بإياك ونحوه. والثاني بدونه: فالأول يجب ستر عامله مطلقاً كما أشار إليه بقوله (إيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ) أي نحو إياك، كإياك وإياكما وإياكم وإياكن (نَصَبْ مُحَذِّرٌ بِمَا) أي بعامل (اسْتِتَارُهُ وَجَبْ) لأنه لما كثر التحذير بهذا اللفظ جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، والأصل احذر تلاقي نفسك والشر، ثم حذف الفعل وفاعله ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث فانتصب وانفصل (وَدُونَ عَطْفٍ ذَا) الحكم أي النصب بعامل مستتر وجوباً (لإيَّا انْسُبْ) سواء وجد تكرار كقوله:
فَإِيَّاكَ إيَّاكَ المِرَاءَ فَإِنَّهُ إلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ
أم لم يوجد نحو إياك من الأسد، والأصل باعد نفسك من الأسد، ثم حذف باعد وفاعله والمضاف، وقيل التقدير أحذرك من الأسد، فنحو إياك الأسد ممتنع على التقدير الأوّل وهو قول الجمهور، وجائز على الثاني وهو رأي الشارح وظاهر كلام التسهيل ويعضده البيت. ولا خلاف في جواز إياك أن تفعل لصلاحيته لتقدير من. قال في التسهيل: ولا يحذف يعني العاطف بعد ايا إلا والمحذور منصوب بإضمار ناصب آخر أو مجرور بمن وتقديرها مع أن تفعل كاف.
ص268
تنبيهان: الأول ما قدمته من التقدير في إياك والشر هو ما اختاره في شرح التسهيل وقال إنه أقل تكلفاً، وقيل الأصل اتق نفسك أن تدنو من الشر والشر أن يدنو منك، فلما حذف الفعل استغنى عن النفس فانفصل الضمير، وهذا مذهب كثير من النحويين منهم السيرافي واختاره ابن عصفور. وذهب ابن طاهر وابن خروف إلى أن الثاني منصوب بفعل آخر مضمر فهو عندهما من قبيل عطف الجمل. الثاني حكم الضمير في هذا الباب مؤكداً أو معطوفاً عليه حكمه في غيره نحو إياك نفسك أن تفعل، وإياك أنت نفسك أن تفعل، وإياك وزيداً أن تفعل، وإياك أنت وزيداً أن تفعل (وَمَا سِوَاهُ) أي ما سوى ما بإيا وهو النوع الثاني من نوعي التحذير (سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلزَمَا إلاَّ مَعَ العَطْفِ) سواء ذكر المحذر نحو ماز رأسك والسيف أي يا مازن ق رأسك واحذر السيف، أم لم يذكر نحو: {ناقة الله وسقياها} (الشمس: 13)، (أَو التَّكْرَارِ) كذلك (كالضَّيغَمَ الضَّيغَمَ) أي الأسد الأسد (يَا ذَا السَّارِي) ونحو رأسك رأسك جعلوا العطف والتكرار كالبدل من اللفظ بالفعل، فإن لم يكن عطف ولا تكرار جاز ستر العامل وإظهاره، تقول نفسك الشر أي جنب نفسك الشر، وإن شئت أظهرت، وتقول الأسد أي احذر الأسد، وإن شئت أظهرت. ومنه قوله:
خَلِّ الطَّرِيقَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بِهِ
تنبيهات: الأول أجاز بعضهم إظهار العامل مع المكرر، وقال الجزولي: يقبح ولا يمتنع. الثاني: شمل قوله إلا مع العطف أو التكرار الصور الأربع المتقدمة، وكلامه في الكافية يشعر بأن الأخيرة منها ــــ وهي رأسك رأسك ــــ يجوز فيها إظهار العامل فإنه قال:
وَنَحْوُ رَأْسَكَ كَإيَّاكَ جُعِل إِذِ الَّذِي يُحْذَرُ مَعْطُوفاً وُصِل
ص269
وقد صرح ولده بما تقدم. الثالث: العطف في هذا الباب لا يكون إلا بالواو وكون ما بعدها مفعولاً معه جائز، فإذا قلت إياك وزيداً أن تفعل كذا صح أن تكون الواو واو مع (وَشَذَّ) التحذير بغير ضمير المخاطب نحو (إِيَّايَ) في قول عمر رضي الله عنه: لتذك لكم الأسل والرماح والسهام، وإياي وأن يحذف أحدكم الأرنب، والأصل إياي باعدوا عن حذف الأرنب، وباعدوا أنفسكم عن أن يحذف أحدكم الأرنب.ثم حذف من الأول المحذور ومن الثاني المحذر، ومثل إياي إيانا (وَإِيَّاهُ) وما أشبهه من ضمائر الغيبة المنفصلة (أَشَذْ) من إياي كما في قول بعضهم: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، والتقدير فليحذر تلاقي نفسه وأنفس الشواب، وفيه شذوذان: مجيء التحذير فيه للغائب وإضافة إيا إلى ظاهر وهو الشواب، ولا يقاس على ذلك كما أشار إلى ذلك بقوله (وَعَنْ سَبِيلِ القَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ) أي من قاس على إياي وإياه وما أشبههما فقد حاد عن طريق الصواب.
تنبيه: ظاهر كلام التسهيل أنه يجوز القياس على إياي وإيانا فإنه قال: ينصب محذر إياي وإيانا معطوفاً عليه المحذور فلم يصرّح بشذوذ وهو خلاف ما هنا (وكَمُحَذِّرٍ بِلاَ إيَّا اجْعَلاَ مُغْرًى بِهِ فِي كلِّ مَا قَدْ فُصِّلاَ) من الأحكام، فلا يلزم ستر عامله إلا مع العطف، كقوله: المروءة والنجدة بتقدير الزم، أو التكرار كقوله:
أَخَاكَ أَخَاكَ إنَّ مَنْ لاَ أَخَالَهُ كَسَاعٍ إلَى الهَيجَا بغَيرِ سِلاَحِ
وَإِنَّ ابْنَ عَمِّ المرءِ فَاعْلَمْ جَنَاحُهُ وَهَل يَنْهَضُ البَازِي بِغَيرِ جَنَاحِ
أي الزم أخاك. ويجوز إظهار العامل في نحو الصلاة جامعة، إذ الصلاة نصب على الإغراء بتقدير احضروا، وجامعة حال، فلو صرحت باحضروا جاز.
تنبيه: قد يرفع المكرر في الاغراء والتحذير كقوله:
إنَّ قَوماً مِنْهُمْ عُمَيرٌ وَأَشْبَا هُ عُمَيرٍ وَمِنْهُمُ السَّفَّاحُ
ص270
لَجَدِيرُونَ بِالوَفَاءِ إذَا قَا لَ أَخُو النَّجْدَةِ السِّلاَحُ السِّلاَحُ
وقال الفراء في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (الشمس: 13)، نصب الناقة على التحذير، وكل تحذير فهو نصب، ولو رفع على إضمار هذه لجاز فإن العرب قد ترفع ما فيه معنى التحذير اهـ.
خاتمة: قال في التسهيل: ألحق بالتحذير والإغراء في التزام إضمار الناصب مثل وشبهه نحو كليهما وتمراً. وامرأ ونفسه. والكلاب على البقر. وأَحشفا وسوء كِيلة. ومن أنت زيداً. وكل شيء ولا هذا. ولا شتيمة حر. وهذا ولا زعماتك. وإن تأت فأهل الليل وأهل النهار. ومرحباً وأهلاً وسهلاً. وعذيرك وديار الأحباب:بإضمار أعطني، ودع، وأرسل، وأتبيع، وتذكر، واصنع، ولا ترتكب، ولا أتوهم، وتجد، وأصبت، وأتيت، ووطئت، واحضر، واذكر. ثم قال: وربما قيل كلاهما وتمراً. وكل شيء ولا شتيمة حر. ومن أنت زيد، أي كلاهما لي. وزدني، وكل شيء أمم ولا ترتكب. ومن أنت كلامك زيد أو ذكرك. والله أعلم.
ص271