المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التطور الدلالي (أنواع التطور الدلالي)
21-4-2019
سلاسل النشاط الإشعاعي الطبيعي
4-1-2016
فضل السواك.
2023-02-04
مفهوم الإعسار في القانون الوضعي
11-3-2020
شبكة الاتصالات النيابية
31-07-2015
مقر الملك الجديد.
2024-02-04


التهذيب والتأديب  
  
5835   11:55 صباحاً   التاريخ: 25-09-2015
المؤلف : إبن أبي الإصبع
الكتاب أو المصدر : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر
الجزء والصفحة : ص80-89
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / البديع /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-09-2015 1728
التاريخ: 24-09-2015 4748
التاريخ: 25-03-2015 1946
التاريخ: 26-03-2015 20791

التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح، ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل، فيغير منه ما يجب تغييره، ويحذف ما ينبغي حذفه، ويصلح ما يتعين إصلاحه، ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه، ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه، حتى تتكامل صحته، وتروق بهجته، فإنه من رزق من أرباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن، وغوص فكر، وكمال عقل، واعتدال مزاج، وحسن اختيار، ووقف على أقوال النقاد في حقيقة البلاغة، وكنه الفصاحة، وما عد من محاسن الكلام وعيوبه، ووقى شح نفسه، بحيث يسمح بطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه، كان كلامه موصوفاً بالمهذب، منعوتاً بالمنقح، وإن قل ابتكاره للمعاني، وقد كان زهير معروفاً بالتنقيح، فإنه روى أنه كان يعمل القصيدة في شهر ، وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمى شعره الحولي المحكك ولا جرم أنه قلما يسقط منه شيء، ولهذا كان عمر بن الخطاب على جلالته في العلم، وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته؛ قال ليلة لعبد الله بن العباس وهم سائرون إلى الشام: أنشدني شعر أشعر القوم، فقال: ومن ذاك؟ قال: زهير، قال: وبم استحق عندك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيته لا يعاضل بين الكلام، ولا يتبع حوشي الألفاظ، ولا يمدح الرجال إلا بما يكون للرجال، وما ذاك إلا لتنقيحه شعره، وترداد نظره في كلامه ولهذا المعنى أشار أبو تمام بقوله [كامل]:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
فإنه إنما خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات، وتسكن الحركات، فيكون الفكر فيه مجتمعاً، والخاطر خالياً، ولا سميا في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من الراحة، وتنال قسطها من النوم، ويخف عليها ثقل الغذاء، فحينئذ يكون الذهن صحيحاً، والصدر منشرحاً، والقلب منبسطاً، واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء، وخفة الغذاء، وأخذ النفس سهمها من الراحة، لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم، وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات، وتقشع الظلماء، بطلائع الأضواء. وببعض ذلك يتقسم الفكر، ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب، ويتفرق مجتمع الهم، ووسط الليل خال عما ذكرنا، ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل التي ذكرناها، وإنما دخلت لفظة الدجى على وسط الليل، لأنها جمع دجية، وطرف الليل لقربهما من الشمس لا يكون غيهبهما شديد الظلمة، والدجى شدة الظلمة، لأنه مجموع ظلمات، وإن كان الدجى قد يطلق على الليل كله، سواء كان مظلماً أو مقمراً، لكنه إطلاق مجازي حقيقته ما ذكرناه، وأبو تمام أراد هاهنا الحقيقة لا المجاز، لقصد المبالغة، ولما لحظ أبو تمام أن لفظة الدجى لعمومها وصلاحيتها في حالتي المجاز والحقيقة إلى أن تكون اسماً لليل كائناً ما كان احترس من ذلك بما جاء به التذييل حيث قال:
... ... ... ... ... والليل أسود رقعة الجلباب
ليخلص من الاشتراك الحاصل من لفظة الدجى على انفرادها، وليتبين أنه أراد الليالي السود التي سمتها العرب بالدآري، لا الليالي البيض، ولا غيرها من الليالي التي فيها وقت مضيء في الجملة فراراً من ليل لا يخلو من الأصوات والحركات، مبالغة في وصف القصيدة بالتنقيح المرضي، في الوقت المختار لذلك، وقد جمع الكتاب العزيز هذه المعاني وأتى بها في أوجز لفظ وأجزله حيث قال سبحانه :( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ) واعلم أن التهذيب لا شاهد له يخصه، لأنه وصف يعم كل كلام منقح محرر، إلا أنا نلخص فيه ما يعرف به، وهو أن نقول: كل كلام قيل فيه لو كان موضع هذه الكلمة غيرها، أو لو تقدم هذا المتأخر، أو تأخر هذا المتقدم، أو لو تمم هذا النقص، أو تكمل هذا الوصف، أو لو حذفت هذه اللفظة بتة، أو لو طرح هذا البيت جملة، أو لو وضح هذا المقصد أو تسهل هذا المطلب، لكان الكلام أحسن، والمعنى أبين، فهو خال من التهذيب، عار من التنقيح والتأديب.
ومن أمثلة ما ذكرناه قول سيف الدولة بن حمدان يخاطب أخاه ناصر الدولة [طويل]:
وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي ليغدو لك الحق
فإن سيف الدولة كما قيل: كان قد عمل أولاً: وما كان عنها لي نكول ثم فطن إلى أن هذا السبك يستثقل لقرب الحروف المتقاربة المخارج بعضها من بعض، وإذا قدم لفظة لي على لفظة عنها سهل التركيب، وحصل التهذيب، فتقول وما كان لي عنها نكول لفصل لفظة عنها بين لي وبين نكول.
ومن الأمثلة المبينة لهذا الباب قول القاضي السعيد ابن سناء الملك [طويل]:
تغنى عليها حليها طرب بها ... وفاحت فقلنا: هذه الروضة الغنا
فإنه لو لم يقدم في صدر هذا البيت لفظة مشتقة من الغناء حصل بها في هذا البيت من الرونق ما لا يحصل بدونها، لكان البيت خالياً من التهذيب، فإن بوجودها حصل في البيت تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب، وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف، وقلق القافية، وبذلك تقدم التهذيب، وذلك أنه لو كان قال [طويل]:
زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا
لتبين قلق هذه القافية وتمكن تلك القافية الأولى، بسبب ما في البيت من التصدير.
ومما جاء في الكتاب العزيز من أمثلة هذا الباب قوله تعالى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) فإن حسن الترتيب في نظم الكلام البليغ أمر مطلوب، ومن حسن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل، وتعقيبه بالفعل، ثم الإتيان بالمفعول، فإن كان في الكلام مفعولان أحدهما تعذر وصول الفعل بنفسه إليه، والآخر تعدى إليه بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وإذا علم ذلك كان لقائل أن يقول: لو توخى حسن الترتيب في عجز الآية لأتى وزن صدرها، والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع قوي، وهو مخافة أن تتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخارج، فيثقل الكلام بسبب ذلك، فإنه لو جاء الكلام فيه مرتباً لقيل: لئن بسطت يدك إلي، والطاء والتاء والياء متقاربات المخارج، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على المفعول الذي تعدى إليه بنفسه، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية بما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية، لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة، جاء الكلام على ترتيبه من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه، على المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف، وهذا من أحسن شواهد التهذيب والترتيب، والله أعلم. وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر، كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها، وإيضاح ما أشكل منها، وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره، وأضفت إليها ما تتعين إضافته، وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بني كلام قدامة وخصومه وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج إليها من ذلك، فأثبتها هاهنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها، ويجب الاعتماد عليها، وهي التي يجب على من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه، ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنباط المخترعات، فإذا وجد لها فطرة سليمة، وجبلة موزونة، وذكاء وقاداً، وخاطراً سمحاً، وفكراً ثاقباً، وفهماً سريعاً، وبصيرة مبصرة، وألمعية مهذبة، وقوة حافظة، وقدرة حاكية، وهمة عالية، ولهجة فصيحة، وفطنة صحيحة، وإن كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء، ولا يضطر إليها أكثر الشعراء، لكنها إذا كملت في الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت إليها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية، وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف، والعروض والقوافي، وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجئ إليها ضيق الوزن والتزام التقفية، ليعلم ما يجوز له استعماله، وما يجب عليه إهماله، ولينعم النظر في كتب البلاغة، ليعرف محاسن اللفظ مفرداً ومركباً، ومعانيه، ويحيط بما يتفرع من أصول النقد من البديع الذي هو رقوم الكلام، ونتائج مقدمات الأفهام، وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه أدق تمييز، فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه، ولا يظمأ فيه راكبه، منه استخرجت درر المحاسن، واستنبطت عيون المعاني، وعرف كنه البلاغة، وتحقق سر الفصاحة، وكذلك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن صاحبها بعث بجوامع الكلم، وبدائع الحكم، صلى الله عليه[وآله] وسلم، وليحفظ أشعار العرب وأمثالها، وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها، ومحاسن أثاراها، ومقاتل فرسانها الأنجاد، نوادر سمحائها الأجواد، ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء، وعلم بهيئة المساء، وتعقل الآثار العلوية، والحوادث الأرضية، والمشاركة في الطب والطبائع والحساب، وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث، ونقل التاريخ الصحيح ويكون ذلك المكتسب، من وراء أشياء لا تكتسب، ولا تحصل بالطلب، بل هي مما يجبل عليه الإنسان، ومن مواهب الرحمن، من عقل راجح، وذهن صاف، ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل ليحسن اختياره، ويجود انتخابه، فيتخير الألفاظ الرقيقة، والمعاني الرشيقة، ويتقن تأليف الكلام، وتركيب الألفاظ، وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي [خفيف]:
انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار
فإذا اللفظ رق شف عن المعـ ... ـنى فأبداه مثل ضوء النهار
مثل ما شفت الزجاجة جسماً ... فاختفى لونها بلون العقار
وأحسن من قولي ومن كل ما قيل عليّ ما بلغني في هذا المعنى قول أبي تمام في الحسن بن وهيب [كامل]:
لم يتبع شنع اللغات ولا مشى ... رسف المقيد في طريق المنطق
تنشق في ظلم المعاني إن دجت ... منه تباشير الكلام المشرق
وكقول البحتري فيه [كامل]:
فإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها في قلبه
كروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
هذا إذا أراد المتكلم أن ينعت فاضلاً، أو يسمى أديباً كاملاً، فتعلو بين العلماء درجته، وتطير بين الفضلاء سمعته، ويقبل قوله في لفظ كل كلام ومعناه، وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان، وتواتر صروف الحدثان، وتعذر المكسب، وعز المطلب وتقدم الجهال، واختصاص الأرذال بالأموال، فيكون ذلك داعياً إلى ترك الاشتغال، وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم، وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه، واستعمال خاطره، فيلحق بالأخسرين أعمالاً، والمخطئين أفعالاً وأقوالاً، بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الكمال، شديد الأنفة من مساومة الجهال، عاشق في تزكية نفسه، مائلاً للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه، وما أحسن قول القائل [طويل]:
تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل
ولا بد للمجتهد من يوم تحمد فيه عاقبة اجتهاده، ويحصل فيه على مراده، وإن كان قصير الهمة مهين النفس، قد أوتي طبعاً في العمل سليماً، وذهناً مستقيماً، فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال، ويبعد عم مماثلة الجهال، إدلالاً بطبعه، واتكالاً على حذقه، كأكثر شعراء زماننا وكتابه، والمنتظمين في سلك أرباب آدابه، حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب، والانتفاع بهذا الكتاب، فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته، ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته، ولا تهمل ذلك فإن خطره عظيم، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ، هذا وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا يستعمله، ويأمر بالعرف ولا يمتثله، غير أني أنهج الطريق، وأحض على التوفيق، لتحصل لي مثوبة الدلالة، وأكسب أجر الهداية، فإن الدال على الخير كفاعله، والمحرض على العمل كعامله، وليعتمد الراغب في نظم الشعر، وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام التي وعدت سالفاً بنشرها، وهذا أوان ذكرها، وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال:
كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة: تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، وصفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات، إذا قصدت الإنسان تأليف شيء أو حفظه، قصد وقت السحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفاً من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء، وسكنت الغمائم، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم، وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، والتعلل باستنشاق النسائم، وغناء الحمائم، والبروق اللامعة، والنجوم الطالعة، والتبرم بالعذال والعواذل، والوقوف على الطلل الماحل، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فاشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقاومه، وأرهف من عزائمه، ورغب في مكارمه، وتقاص المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الزرية، والألفاظ الوحشية، وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر أرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما استقبحوه فاجتنبه ترشد، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: الذي أوردته قبل هذه الوصية في بيت أبي تمام الذي هو:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
البيت، وما فسرت به الدجى واختياره لوسط الليل دون طرفيه يناقض قوله في هذه الوصية: واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه، أن يختار وقت السحر.
قلت: المقصد في البيت غير المقصد في الوصية، فإن المقصد في البيت التنقيح، وفي الوصية العمل والحفظ، والتنقيح يحتاج إلى خلو الخاطر وتدقيق النظر، وغوص الفكر أكثر من وقت الحفظ والعمل، والله أعلم. وما رأيت ولا رويت مثل وصية لعلي بن أبي طالب [عليه السلام] وصى بها كاتباً له يقول فيا: ألق دواتك، واجمع أداتك، وأرهف حدى قلمك إرهافاً، واحترس عند شقه احتراساً فإنك إن لم تتائم لسانه كدرت بيانه، واستصلب المقط، وحرف القط، فإن لم تسمع لقطتك طنيناً غير خفي، وتنظر لها حرفاً كذباب المشرفي وإلا أعد القطة، فالقلم حف، وقرب بين الحروف، وباعد بين الصفوف، وتصفح ما كتبته وكرر النظر فيما حبرته، ليظهر لك رأيك قبل أن يخرج عنك كتابك، فالحظ هداك الله ما اختص الله سبحانه هؤلاء القوم من الخصائص التي أطلعهم على علوم ليست علومهم والى ما لم يهتد إليه أرباب تلك العلوم، ولم يدركها فهم حاذق من أرباب الفهوم، حتى صارت كلمات أحدهم قدوة يقتدى بها أرباب المعارف من الكتاب، وعلماً يهتدى به من ضل ومن أولى الألباب.
وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العامل في البلاغتين، والواضع في الصناعتين، من عدة كتب من كتب البلاغة، وحذفت منها ما لا يحتاج إليه، ونقحتها، وحررتها، وها أنا ذا أسوقها خاتمة لهذا الباب، والله الموفق للصواب، وهي: ينبغي لك أيها الراغب في العمل، السائل فيه عن أوضح السبل، أن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ، والقوافي قبل الأبيات، ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص، وروى مقصود، وتوخ الكلام الجزل، دون الرذل، والسهل، دون الصعب، والعذب دون المستكره، والمستحسن دون المستهجن، ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل، ولا تؤلف كلاماً وقت الضجر، فإن الكثير معه قليل، والنفيس به خسيس، والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت، وإذا عنف عليها نزحت، واكتب كل معنى يسنح، وقيد كل فائدة تعرض، فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق، ولمحة الطرف، إن لم تقيد شردت وندت، وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت، والترنم بالشعر مما يعين عليه، قال الشاعر [بسيط]:
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار
وقد يتحيل الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً، كما روى عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر على الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً، فإذا كان كذلك فاتركه حتى يجيئك عفواً، وينقاد إليك طوعاً، وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ، واعمل في أحب الأغراض إليك، وفيما وافق طبعك، فالنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطى على الرهبة، واعمل الأبيات مفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر، ثم انظمها في الآخر، واحترس عند جمعها من عدم الترتيب، وتوخ حسن التنسيق عند التهذيب، ليكون كلامك بعضه آخذاً بأعناق بعض، فهو أكمل لحسنه، وأمتن لرصفه وجمل المبدأ والتخلص والمقطع، فإن ذلك أصعب ما في القصيد، واجتهد في تجويد هذه المواضع، وتجنب معارض أرباب الخواطر فيها، وتواردهم عليها، وميز في فكرك محط الرسالة، ومصب القصيدة قبل العمل، فإن ذلك أسهل عليك، وأشعرها أولاً، ونقحها ثانياً، وكرر التنقيح، وعاود التهذيب، ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر، وقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين، وينقحها في شهرين اقتداء بزهير، فإنه كان راويته، وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل، حتى قيل لشعره: المنقح الحولي، والحولي المحكك. وفي ذلك يقول عدي بن الرقاع [كامل]:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوِّم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه مُنآدها
وفي الناس من رزق بديهة حسنة، وحدة خاطر، ونفاذ طبع؛ وسرعة نظم، يرتجل القول ارتجالاً، ويأتي به عفواً صفواً، فلا تقعد به عن قوم قد أتعبوا خواطرهم، وكدوا نفوسهم في التهذيب، وبذلوا جهدهم في التنقيح والتأديب واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر، فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً، ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً، ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله، فتظهر عليه الكلفة، ويبين فيه أثر المشقة، ويتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط، واللفظ النازل، وربما اشتد عيب كلمة المقطع رغبة في السجع، فجاءت نافرة من أخواتها، قلقة في مكانها بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ، وصحة المعاني، واجتهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه، وتباينت في التقفية مقاطعة، فقد كان المتقدمون لا يحلفون بالسجع ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق عن غير قصد ولا اكتساب، وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة، وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام، ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام، كابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء، ولا تجعل كل الكلام شريفاً عالياً، ولا وضيعاً نازلاً، بل فصله تفصيل العقود، فإن العقد إذا كان كله نفيساً، لا يظهر حسن فرائده، ولا يبين كمال واسطته، وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع طبقات البلاغة الثلاث، ليظهر فضل كل طبقة في بابها، وتبين محكم أسبابها، ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها يعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء، ويربى عليها، فإن الكلام إذا كان منوعاً افتنت الأسماع فيه، ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه، واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواحا، فإذا قويت الألفاظ فقو المعاني، وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام، وتتناسب في الأفهام، واقصد القوافي السهلة المستحسنة، دون المستصعبة المستهجنة، والأوزان المستعملة الحلوة، دون المهجورة الكزة، فإن الشعر كالجواد، والقوافي حوافره، والألفاظ صورته، والمعاني سرعته، والأوزان جملته، واجعل كلامك كله كالتوقيعات، وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل، وفي المجالس أرشق وأجول، وبالأسماع أعلق، وبالأفواه أعبق، فإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه، وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت، أو معظمها، وغيرا لوزن والقافية، وزد في معناه، وانقص من لفظه، واحترس مما طعن عليه به، لتكون أملك له من قائله وإن كان التفضيل قد يقع بغير ما ذكرت، ومما يقدم به المتكلم على غيره حسن الأدب مع الممدوح، كقول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة بن حمدان عفا الله عنه [بسيط]:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
فإنه أحسن الأدب مع ممدوحه، بخلاف المتنبي، فإن المتنبي قال في هذا المعنى [بسيط]:
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي
فإن المتنبي جعل ممدوحه ممن يصح منه التمني لو كانت بقيت له أمنيته. وابن نباتة جعل مادح ممدوحه لم تبق له أمنيته، ورفعه عن أن يكون هو ممن يصح أن يتمنى شيئاً، فكل ما جعله المتنبي لممدوحه، جعله ابن نباتة لشاعر ممدوحه، وهذا الأدب من قول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فأسند أفعال الخير كلها لله، وأسند فعل الشر لنفسه، حسن أدب مع ربه. صلى الله عليه[وآله] وسلم.
ومثل ذلك قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) مقتضى الصناعة أن يؤتى بتجنيس الازدواج في صدر الآية، كما أتى به في عجزها، لكنه منع منه توخي التأديب والتهذيب في نظم الكلام، وذلك أنه لما كان الضمير الذي في (يَجْزِيَ) عائداً على الله سبحانه، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى ردفه، حتى لا تنسب السيئة لله تعالى، فقال سبحانه في موضع .. (بِالسَّيِّئَةِ) (بِمَا عَمِلُوا) فعوض عن تجنيس المزاوجة الإرداف، لما في الإرداف من حسن الأدب مع الله تعالى، ليعلمنا ذلك، ولما كان قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) قد أمن فيه هذا المحذور، أتى الكلام فيه على مقتضى الصناعة، والله أعلم.
ومن أحسن ما وقع في هذا قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) لأنه سبحانه أدمج وهو أعلم في هذا الكلام وصف نفسه بالعدل فعلق فن الفخر بفن الأدب، إذ ظاهر الآية التأدب والموعظة، ووصف نفسه تعالى بالعدل فخر متعلق بذلك، مع ما في لفظ هذا الكلام من الملاءمة التي حصل بها ائتلاف اللفظ بالمعنى ،لأن الركون إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه، ومس النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب، فكان ذلك المساس ملائماً للركون دون غيره، فانظر ما انطوى عليه نظم هذه الألفاظ السبع من المعاني، وأنواع البديع، والائتلاف الذي دلت عليه الملاءمة، والإدماج، والتعليق والافتنان، والبسط، إذ عدل عن قوله : إلى الظالمين إلى قوله: ( إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) لما يحتمل الأول من الاستمرار في الظلم على سبيل الندور، ليلائم المعنى لفظ الركون ولفظ المساس، والمبالغة، لأنه إذ نهى عن الركون إلى من وقع منه الظلم في وقت دون وقت كان النهي عن الركون لمن استمر منه الظلم بطريق أولى، لترى ما تحت نظم هذا الكتاب العزيز من الخبايا التي هذا بعضها، وما خفي منها أكثر مما ظهر، والله أعلم.
وإذا تقاربت الديار، تقاربت الأفكار، ولهذا قيل: الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر، كوقوع الحافر على الحافر. واعلم أن من الناس من شعره في البديهة أبدع منه في الروية، ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة، وقلما يتساويان، ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصر، ومنهم من بضد ذلك، ومن قوى نظمه ضعف نثره، ومن قوى نثره ضعف نظمه، وقلما يتساويان، وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب، والأعشى إذا طرب.
وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب، واستعمال اللفظ الوحشي، فإن خير الكلام ما سبق معناه إلى القلب، قبل وصول جملته إلى السمع، فإن علي بن عيسى الرماني ذكر أن أسباب الإشكال ثلاثة وكلها تغير الكلام عن الأغلب، كالتقديم، والتأخير، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك وقد جمع هذه الأسباب الثلاثة قول الفرزدق [طويل]:
وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
فإن الممدوح: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام ابن عبد الملك، فأبو أم هشام بن عبد الملك وهو المملك أبو إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي، فجد المملك وهو المملك لأمه أبو الممدوح، فالممدوح على هذا خال المملك، وحاصل معنى هذا البيت: وما مثل هذا الممدوح إلا ابن أخته، وأما التقديم والتأخير مع قوله وما مثله البيت فإن صحته وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، فلما قدم وأخر حصل التعقيد. وأما سلوك الطريق الأبعد، فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه قوله: جده أبوه. وأما المشترك ففي قوله حي لصلاحية اللفظ لضد الميت، وللقبيلة. انتهى كلام الرماني.
وليكن كلامك سليماً من التكلف، بريئاً من التعسف، وليحط لفظك بمعناك، وتشتمل عبارتك على مغزاك، واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه، فإن البلاغة لمحة دالة، وقيل: سرعة جواب في صواب، وقيل: أن تقول فلا تبطئ، وأن تصيب فلا تخطئ، والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق أسهلها، وإذا روعي الاشتقاق فيها قيل في حدها: هي بلوغ المتكلم بعبارته أقصى ما في نفسه، وإيصال ذلك لمخاطبه بأقرب الطرق وأسهلها والعي إكثار من مهدار، وإخطاء بعد إبطاء، كما جاء في المثل: سكت ألفاً ونطق خلفاً .
وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه، ولا ناقصاً عنه، كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه، وقيل في آخر: كان إذا أخذ شبراً كفاه، وإن أخذ طوماراً ملأه واستعمل التطويل في مكانه، والتقصير في مكانه، فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً، كان الطويل عياً، وإذا كان التطويل واجباً، كان التقصير عجزاً ولهذا حد بعضهم البلاغة بأنها إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، وما أحسن ما أنشده الجاحظ في هذا الموضع، وهو [كامل]:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وإياك أن تفرط فتكثر، أو تفرط فتقصر، وقد ذكر في كتابه المترجم بالبيان والتبيين أن الفارسي: سئل عن البلاغة فقال: معرفة الفصل من الوصل.
وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وسئل الرومي عنها فقال: حسن الاقتصار عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة.
وسئل الهندي عنها فقال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال مرة: التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني، أو غمض وشرد في اللفظ وتعذر، ورتبته أن تكون الشمائل مذروبة يعني المتكلم، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية، وألا يكلم سيد الأمة بما يكلم به الأمة، ويكون في قوله فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، بل يصفيها كل التصفية، ويهذبها غاية التهذيب.
ثم قال، أعني الجاحظ، وأما البراعة فقد قالوا فيها: يعني أهل اللغة: إنها الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وأما الفصاحة فمختلف فيها فمن قائل بأنها جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وقيل: الاقتدار على الإبانة عن كل معنى كامن في النفس، بعبارات جليلة، ومعان نقية بهية، والذي صح في تعريفها: أنها خلوص الألفاظ من التعقيد المبعد عن إدراك معانيها، وعن العيوب التي تعرض فيها، فإن اشتقاقها من الفصيح، وهو اللبن الذي خلص من رغوته أو لبئه، وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت تارة وجيزة، ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم [طويل]:
به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد
وطوراً بإيجاز يبث لذي حجاً ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد
وعلى الجملة، مهما كان الإيجاز كافياً، والمعنى به واضحاً، فالإطالة إن لم تكن عياً كانت عبثاً، ولم تزل الأجلاء المتقدمون يحمدون ذلك، ويذمون ما سواه، ويدلك على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب، فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يديه كتاب، وهو يعاود قراءته تارة بعد أخزى، ويصعد نظره فيه ويصوبه، قال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلى وقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكاره، وأعاذه من المخاوف، فقال: إنه لا مكروه في الكتاب، ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا، قال: فقرأته، فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قوداه وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كافة تراخت أعطياتهم، فاختلت لذلك أوالهم، والتاثت معه أمورهم، فقال: فلما قرأته قال لي: يا أحمد، إن استحساني هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله من صناعته، وروى أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يعني به إلى بعض العمل بالوصية عليه، وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد، فكتب إليه عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله، إن شاء الله تعالى. وقد كان جعفر بن يحيى من تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا.
وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له: ما عندك في حمالات داحس؟ فقال: عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى عن التقاطع، فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة، لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة، وإنهما أراد قيس الإكثار من المعاني، فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها لإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها، ومتى طال الكلام كذلك كانت إطالته بلاغة لاعيا، فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، لاسيما خطب الإملاكات، والسجلات التي تقرأ على رءوس الجماعات، فالمحمود في هذه المواضع الإطناب، والمذموم الإسهاب، وإنما كان الإطناب محموداً، والإسهاب مذموماً، لأن الإطناب تفخيم الأمر وتقويته وتوكيده وشد أواخيه، والإسهاب مأخوذ من السهب وهو المتسع من الفلاة التي لا ينتهي النظر فيه إلى علم يهتدى به، ولا معلم يؤوى إليه، فكأن المسهب اتسع في الكلام اتساعاً لا فائدة فيه، وقد شفيت الغليل في هذا الباب، وخرجت فيه عن شرط الكتاب، لاحتياج العامل إليه، واعتماد الناقد عليه.




دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.