أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-04-12
1170
التاريخ: 29-07-2015
3302
التاريخ: 31-07-2015
4110
التاريخ: 15-7-2022
2248
|
الإمام الهادي عليه السلام والخلفاء العبّاسيّون
عاصر الإمام الهادي عليه السلام ستّةً من خلفاء بني العبّاس، بعضهم من حَكَم أشهراً، وبعضهم من حَكَم سنوات عدّة. ونحن سنركّز في هذا القسم على علاقة الإمام الهادي عليه السلام ببعض الخلفاء خلال فترة إمامته، والتي ستفيدنا في فهمنا لدور الإمام عليه السلام وحركته.
1- الإمام الهادي عليه السلام والمعتصم:
بعد اغتيال الإمام الجواد عليه السلام من قبل المعتصم، اهتمّ الأخير بمتابعة أمور الإمام الهادي عليه السلام بشكل مباشر وسريع، فقد تبيّن للمعتصم مآل أمر الإمام الهادي عليه السلام وحجم الدور الذي يمكن أن يؤدّيه في المجتمع الإسلاميّ. وعليه، عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أحد عمّاله أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه السلام البالغ من العمر آنذاك ستّ سنين وأشهراً، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ليغذّيه ببغضهم.
ولمّا انتهى عمر إلى يثرب، التقى بالوالي، وعرّفه بمهمّته، فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيديّ الذي كان شديد البغض للعلويّين، فأرسل خلفه، وعرّفه بالأمر، فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهريّاً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتّصال به. بادر الجنيديّ الى ما كان أُمر به من مهمّة تعليم الإمام عليه السلام إلّا أنّه قد ذهل لما كان يراه من حدَّة ذكائه.
والتقى محمّد بن جعفر بالجنيديّ، فقال له: "ما حال هذا الصبيّ الذي تؤدّبه؟ فأنكر الجنيديّ ذلك، وراح يقول: أتقول: هذا الصبيّ؟! ولا تقول: هذا الشيخ؟ أنشدك باللَّه، هل تعرف بالمدينة من هو أعرف منّي بالأدب والعلم؟ قال: لا، فقال الجنيديّ: إنّي - واللَّه - لأذكر الحرف في الأدب، وأظنّ أنّي قد بالغت، ثمّ إنّه يملي أبواباً أستفيدها منه، فيظنّ الناس أنّي أعلّمه، وأنا - واللَّه - أتعلّم منه...، ثمّ نزع عن نفسه النَّصب لأهل البيت عليهم السلام، ودان بالولاء لهم، واعتقد بالإمامة"[1].
لقد كان لأدب الإمام الهادي عليه السلام وعلمه اللّدنيّ وحسن تعامله مع معلّمه الناصبيّ أثر كبير في تحوّله الاعتقاديّ وإيمانه بزعامة أهل البيت عليهم السلام، فقد حاول المعتصم من خلال ما فعله، تطويق تحرّكه، وعزله عن شيعته ومريديه، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتّصال الشيعة به. يُضاف الى ذلك، أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر، ومنعاً لظهور تلك الكرامة كما حدث لأبيه الجواد عليه السلام، غير أنّ الإمام عليه السلام، بخُلُقه وهدوئه، استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه، ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها اللَّه له، بل استطاع أن يقلب المشهد لصالحه، فما كان من معلّمه إلّا أن دان له واعتقد بإمامته. تلك هي أخلاق الأولياء وصفات الصالحين، التي تتكفّل بأن تقلب وجود الآخر رأساً على عقب، وتحوّل من لم يطمس على قلبه إلى جادّة الصواب.
2- الخليفة الواثق ومحنة خلق القرآن:
وهو ابن المعتصم، استولى على الخلافة بعد موت أبيه سنة 227هـ. إنّ من أهمّ القضايا الّتي تعرّض لها العالم الإسلاميّ في بداية القرن الثالث الهجريّ، وأدّت به إلى التشتّت والفرقة هي قضيّة الصراع على مسألة خلق القرآن أو قدمه. وهذه المسألة أشاعها أحمد بن أبي داود، وتبعه على ذلك المأمون، الّذي عمّت الأمّة فتنة كبرى في زمانه، وتبعه المعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن. وسعى هؤلاء الحكّام إلى إكراه جميع العلماء والمحدّثين على الاعتقاد بخلق القرآن، وسمّيت هذه القضيّة تاريخيّاً باسم محنة "خلق القرآن"، فكان الواثق يمتحن الناس في قضيّة خلق القرآن، ويسجن أو يقتل من يقول بغير ذلك[2].
لمّا كانت هذه القضيّة قضيّة فتنويّة، عمّت العالم الإسلاميّ، واستفادت منها السلطات الحاكمة، نهى الأئمّة عليهم السلام أصحابهم عن الخوض فيها، لكن في زمن الإمام الهادي عليه السلام بيّن الرأي السديد، وإن بقالب، أرشد فيه إلى عدم خوض مثل هذه النزاعات التي تذهب الأرواح ضحيّتها، ولا يستفيد منها إلّا الجهاز الحاكم في إلهاء الناس، فكتبعليه السلام إلى بعض شيعته ببغداد:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، عصمنا اللَّه وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فأعظِم بها نعمة، وإلّا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلّا اللَّه وما سواه مخلوق، والقرآن كلام اللَّه، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا اللَّه وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون"[3].
3- الإمام الهادي عليه السلام والمتوكّل العبّاسيّ:
أ- الأمر باستحضار الإمام عليه السلام إلى سامرّاء:
هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد، أظهر الميل إلى أهل الحديث، وحكم ما يقارب 14 عاماً، حيث استولى على الخلافة عام 232، ومات عام 247.
عُرف المتوكّل ببغضه لأمير المؤمنين عليه السلام ولآل البيت عليهم السلام ولشيعتهم، وأراد احتواء حركة الإمام الهادي عليه السلام، فأمر يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة، والشخوص بالإمام إلى سامرّاء، وكانت للإمام عليه السلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة، فلمّا همّ يحيى بإشخاصه، اضطربت المدينة، وضجّ أهلها، كما ينقل يحيى نفسه، حيث قال: "دخلت المدينة، فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله، خوفاً على عليّ - أي الإمام الهادي عليه السلام - وقامت الدنيا على ساق، لأنّه كان محسناً إليهم، ملازماً المسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّتهم، وأحلف لهم أنّي لم أؤمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد إلّا مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني"[4].
وهذا يبيّن عظم شخصيّة الإمام الهادي عليه السلام وتأثيره في الناس، ممّا جعل السلطة العبّاسيّة في تخوّف وخشية منه عليه السلام، فأرادوا إبعاده عن محلّ قوّته كما ظنّوا، بوضعه تحت المراقبة الشديدة، فسامرّاء مكان لا نفوذ فيه للإمام الهادي عليه السلام، بل هي مدينة أسّسها المعتصم حديثاً، وملأها بأزلامه الأتراك. كذلك، فإنّ الرواية تبيّن أنّ الإمام عليه السلام كانت متكتّماً، سرّيّ الحركة والنشاط، حيث فتّش الجند بيته، فلم يجدوا فيه أيّ شيء يُنبئ بثورة أو تمرّد، وهذا تكتيك استراتيجيّ من الإمام، ويبيّن بعد نظره، إذ إنّه لم يُبقِ في بيته ما يُدينه البتّة.
ويبدو من بعض المصادر، أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العبّاسيّ للإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء، هو وشاية إمام الحرمين آنذاك، الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت عليهم السلام، ويشهد لذلك ما قالوه من أنّه كتب بُريحة العبّاسيّ صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكّل: "إن كان لك في الحرمين حاجة، فأخرج علي بن محمّد منهما، فإنّه قد دعا إلى نفسه، واتّبعه خلق كثير"[5].
فوجّه المتوكّل بيحيى بن هرثمة سنة 234هـ، وكتب معه إلى أبي الحسن عليه السلام كتاباً جميلاً يُعرّفه أنّه قد اشتاق إليه، ويسأله القدوم عليه لاشتياقه إليه ورغبته في رؤيته ووصاله، وأمر يحيى بالمسير معه كما يحبّ، وكتب إلى بُريحة يعرّفه ذلك[6]. ولا تخفى نوايا المتوكّل الباطنة والظاهرة، فهو في الحقيقة لم يرد وصال الإمام عليه السلام بأيّ شيء فيه مودّة، وهو المعروف ببغضه لعليّ عليه السلام وآل عليّ عليه السلام، وما رسالته تلك إلّا بغية التضليل الإعلاميّ، وطمأنة أهله وشيعته أنّه لا يريد به أذًى، وهو خلاف الواقع وخلاف ما حدث. وعليه، فإنّ استقدام الإمام عليه السلام كان أمراً إلزاميّاً له، وإن كان بصيغة الاستدعاء، وإلّا فلِمَ هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظنّ بالإمام عليه السلام بعد تلك الوشايات؟!
ب- الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء:
خرج الإمام الهادي عليه السلام بولده الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام وهو صبيّ صغير مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق، وحاول ابن هرثمة في الطريق معاشرة الإمام عليه السلام بالإحسان، وكان يرى منه عليه السلام الكرامات التي ترشده الى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره، حيث قال: "رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا...، قال يحيى: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين، ولم تزل تستدلّ وتقول: معكم رجل علويّ دلّوني عليه حتّى يرقى عين ابني هذا. فدللناها عليه، ففتح عينَ الصبيّ حتّى رأيتها، ولم أشكّ في أنّها ذاهبة، فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه، ثمّ نحّاها، فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة"[7].
حجب المتوكّل الإمام الهادي عليه السلام لدى وروده سامرّاء، وأمر بإنزاله في خان الصعاليك، سعياً للنيل من مكانته وإذلاله، هذا، مع أنّ الإمام عليه السلام كان ملجأ المتوكّل الوحيد عندما يعجز فقهاؤه وعلماؤه عن حلّ المسائل[8]، وحاول المتوكّل غير مرّة إفحام الإمام عليه السلام، لكنّ السحر كان ينقلب على الساحر، حتّى قال ابن الأكثم القاضي يوماً للمتوكّل: "ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه، وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلّا دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة"[9].
ومع إجراءات المتوكّل التعسّفيّة كلّها، من تفتيش دار الإمام عليه السلام بشكل متكرّر، حتّى سجنه في نهاية المطاف[10]، إلّا أنّ نفوذ الإمام الهادي عليه السلام قد زاد في سامرّاء، واتّسعت رقعة نشاطه، مضافاً إلى سيرته الحسنة وعلمه الوسيع، فاستقطب القلوب، ممّا اضطرّ المتوكّل إلى إحراج الإمام عليه السلام بجلبه إلى مجالس شرابه ولهوه ليشوّه سمعته، وهو أمر سنشير إليه في ما يأتي.
ج- دعاء الإمام الهادي عليه السلام على المتوكّل وهلاكه:
دبّرت السلطة الحاكمة مؤامرة لقتل الإمام عليه السلام، لكنّها لم تنجح، فقد رُوي أنّ المتوكّل عزم على قتل الإمام الهادي عليه السلام فقال: "واللَّه لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق، وهو يدّعي الكذب، ويطعن في دولتي، ثمّ طلب أربعة من الخزر أجلافاً، ودفع إليهم أسيافاً، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل، وقال: واللَّه، لأحرقنّه بعد قتله...، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان، وهو غير مكترث ولا جازع، فلمّا رآه المتوكّل، رمى بنفسه عن السرير إليه، وانكبّ عليه يقبّل بين عينيه ويديه..."[11]، فاعتذر إليه إذا أحضره رسولُه، وأمر بتشييعه إلى الباب.
والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي عليه السلام إلى اللَّه تعالى، وانقطع إليه، وقد دعاه بالدعاء الشريف الذي عرف (بدعاء المظلوم على الظالم)، وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت[12] عليهم السلام. واستجاب اللَّه دعاء وليّه الإمام الهادي عليه السلام، فلم يلبث المتوكّل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيّام حتّى هلك.
د- الإمام الهادي عليه السلام والمعتزّ العبّاسيّ:
لم يدم حكم المنتصر سوى ستّة أشهر، ثمّ تولّى المستعين الحكم، وحكم نحو أربع سنوات. وقد حصلت خلافات بينه وبين الأتراك، فخلعوه وولّوا المعتزّ بن المتوكّل.
هذا، وقد ظلّ الإمام الهادي عليه السلام يعاني من ظلم الحكّام وجَورهم، حتّى دُسّ إليه السمّ، كما حدث لآبائه الطّاهرين، وقد استُشهد على يد المعتزّ[13]، وقيل إنّ المعتمد قد سمّه[14]. وقد أحضر عليه السلام أبا محمّد العسكريّ ابنه عليه السلام، فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح[15]، وأوصى إليه بالإمامة.
وما إن انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى، حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمام عليه السلام، وخيّم على سامرّاء جوّ من الحزن والحداد. وقد ظهر وقت الدفن حجم الوجود الشيعيّ، الذي استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يؤسّسه ويستقطبه في سامرّاء، حيث تقول الرواية: "وحدّثنا جماعة كلّ واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيّين والعبّاسيّين (والقوّاد وغيرهم)، واجتمع خلق من الشّيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمّد عليه السلام – العسكريّ - ولا عَرف خبره، إلّا الثّقاة، الذين نصّ أبو الحسن عليه السلام (عندهم) عليه... ثمّ فُتح من صدر الرّواق باب، وخرج خادم أسود، ثمّ خرج بعده أبو محمّد عليه السلام حاسراً، مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة (ملحمة) بيضاء...، ثمّ خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد، فنهض عليه السلام وأُخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتّى أُخرج بها الى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا، وقد كان أبو محمّد عليه السلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى النّاس..."[16]. ثمّ عادوا بالجنازة إلى الدار، ودُفن الإمام الهادي عليه السلام في داره، مع أنّه جرت العادة أن يدفن الناس في مقابر خاصّة، كما حصل مع الأئمّة عليهم السلام السابقين بأجمعهم، لكنّه، وإثر خروج الجنازة، ضجّت الناس وثارت ثائرتهم، هذا مع كون سامرّاء ليست من حواضر الشيعة الموالين لأهل البيت عليهم السلام في الأساس، لكنّ هذه الحادثة تبيّن عظيم إنجازات الإمام الهادي عليه السلام، الذي جعل من أهمّ مدينة للعبّاسيّين آنذاك تعجّ بشيعته، حتّى خاف الجهاز الحاكم الفتنة، فاضطُرَّ إلى ردّ الجنازة، ودفن الإمام عليه السلام في داره.
فأخرجت الجنازة في شارع كثر فيه الموالون لآل البيت عليهم السلام. ويقول اليعقوبي في تاريخه: وبعث المعتزّ بأخيه أحمد بن المتوكّل، فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد (بعد أن صلّى الإمام العسكريّ عليه قبل خروجه)، فلمّا كثر الناس واجتمعوا، كثر بكاؤهم وضجّتهم، فردّ النعش إلى داره، فدفن فيها[17]، فتمكّنوا بهذا الإجراء من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود التحرّك الشيعيّ على الرغم من الظروف القاسية التي كان يعاني منها أئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة.
دور الإمام الهادي عليه السلام على الساحتَين العامّة والخاصّة[18]
كان للإمام الهادي عليه السلام، كما آباؤه، دورٌ على مستوى الساحة الإسلاميّة العامّة، وآخر على مستوى الخواصّ، أي شيعته ومواليه.
1- ويمكن الحديث حول متطلّبات الساحة الإسلاميّة في عصر الإمام الهادي عليه السلام بما يلي:
أ- ترك مقارعة الحاكمين وتجنّب إثارتهم: فاتّسم سلوك الإمام الهادي عليه السلام طوال فترة إمامته بالتجنّب عن أيّ إثارة للسلطة، بدءاً بما فرض عليه من مُعلّم يتولّى أمره، ثمّ الاستجابة لدعوة المتوكّل، واستقدامه إلى سامرّاء، والإفساح في المجال للتفتيش الذي تكرّر في المدينة وسامرّاء، وليس ذلك إلّا لوعيه وحنكته ومعرفته بالظروف والواقع، حيث كان أولئك المتجبّرون على أتمّ الاستعداد للتنكيل بالإمام عليه السلام وشيعته عند أصغر هفوة، فلم يترك لهم الإمام عليه السلام مجالاً لذلك، حتّى اضطُرّوا إلى اغتياله بالسمّ في النهاية.
وقد لاحظنا كيف يتجنّب الإمام عليه السلام مثل هذه الإثارات، إلى جانب تقديمه للنصح والإرشاد والموعظة للمتوكّل، حتّى عندما كان يستدعيه ذلك اللّعين لمجالس شرابه ولهوه للحطّ من قدره وإشاعة أنّه نديمه وجليسه. فتقول الرواية إنّه تمّ استدعاء الإمام الهادي عليه السلام إلى بلاط المتوكّل الذي كان ثملاً على مائدة شرابه، حتّى إنّ المتوكّل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس، فقال له الإمام عليه السلام: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، ثمّ قال له المتوكّل: أنشدني شعراً...
فأنشده الإمام عليه السلام أبياتاً خالدة، وعظه فيها بالموت والرحيل عن الدنيا، وكان منها:
باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ
واستُنزلوا من بعد عزّ من معاقلهم فأُودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قُبروا أين الأسرّة والتيجان والحللُ
... فبكى المتوكّل، ثمّ أمر برفع الشراب، وقال: يا أبا الحسن، أعليك دَين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فدفعها إليه وردّه إلى منزله مكرّماً[19].
ب- الردّ على الإثارات الفكريّة والشبهات الدينيّة: كما حدث في محنة خلق القرآن التي أشرنا إليها سابقاً.
ج- التحدّي العلميّ للسلطة وعلمائها: فكان الإمام الهادي عليه السلام المرجع الذي يعودون إليه متى أعيتهم المسائل، ومع ذلك فقد قرّر المتوكّل امتحان الإمام عليه السلام، فقال لابن السكّيت: "اسأل ابن الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله، فقال: لِمَ بعث اللَّه موسى بالعصا، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف؟ فأجاب الإمام عليه السلام عن ذلك... حتّى اغتاظ ابن الأكثم، وقال: ما لابن السّكّيت ومناظرته؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاساً فيه مسائل، فأملى عليّ بن محمّد عليهما السلام على ابن السّكّيت جوابها"[20].
د- توسيع دائرة النفوذ في جهاز السلطة: إنّ أنصار الإمام عليه السلام وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط، وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة. وفيما يلي من خبر اعتقال الإمام عليه السلام. أيضاً - شواهد على هذه الحقيقة، فبعد رصد المتوكّل الدائم للإمام، وتفتيشه المستمرّ والمتكرّر لداره عليه السلام، أمر باعتقاله وزجّه في السجن، فبقي فيه أيّاماً، وجاء لزيارته أحد أصحابه صقر بن أبي دلف، فاستقبله الحاجب، وكانت له معرفة به، كما كان عالماً بتشيّعه، وبادر الحاجب قائلاً: "ما شأنك؟ وفيم جئت؟ قال صقر: بخير.
قال الحاجب: لعلّك جئت تسأل عن خبر مولاك؟ قال صقر: مولاي أمير المؤمنين - يعني المتوكّل -، فتبسّم الحاجب، وقال: اسكت، مولاك هو الحقّ (يعني الإمام الهادي عليه السلام، فلا تحتشمني، فإنّي على مذهبك.
قال صقر: الحمد للَّه. فقال الحاجب: تحبّ أن تراه؟ قال صقر: نعم. فقال الحاجب: اِجلس حتّى يخرج صاحب البريد. ولمّا خرج صاحب البريد، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له: خذ بيد الصقر حتّى تُدخله الحجرة التي فيها العلويّ المحبوس، وخلِّ بينه وبينه. فأخذه الغلام حتّى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام، فدخل عليه الصقر، وكان الإمام جالساً على حصير وبازائه قبر محفور، والتفت عليه السلام قائلاً بحنان ولطف: يا صقر ما أتى بك؟ قال صقر: جئت لأتعرّف على خبرك.
وأجهش الصقر بالبكاء رحمةً بالإمام، وخوفاً عليه: فقال عليه السلام: يا صقر، لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء ... فهدّأ روعه، وحمد اللَّه على ذلك، ثمّ سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعيّة فأجاب عنها، وانصرف مودّعاً الإمام، ولم يلبث الإمام في السجن إلّا قليلاً ثمّ أطلق سراحه"[21]. وهذا يدلّ على مدى اختراق الإمام الهادي عليه السلام لجهاز السلطة، حتّى إنّ سجّانه كان من مواليه، وكان يسهّل دخول الشيعة إليه.
2- أمّا على مستوى الساحة الشيعية الخاصّة، فيمكن الحديث عن المتطلّبات الآتية:
أ- قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: فالإمام الهادي عليه السلام مسؤول عن ترتيب التمهيدات اللّازمة لولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، والأعداء يراقبون بدقّة جميع تصرّفات الإمام الهادي ونشاط ابنه الحسن العسكريّ (عليهما السلام). وتشير النصوص إلى كيفية تدخّل الإمام الهادي عليه السلام لاختيار زوجة صالحة للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، بحيث تقوم بالدور المطلوب منها في اخفاء ولادة ابنها المنتظر[22]. هذا، وقد تضافرت نصوص الإمام الهادي عليه السلام على أنّ المهديّ المنتظر هو حفيده وولد الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، وأنّه الذي يُولد خفية، ويقول الناس عنه إنّه لم يولد بعد، وإنّه الذي لا يُرى شخصه، ولا يحلّ ذكره باسمه. وهكذا، تضمّنت هذه النصوص جملة من التعليمات الكفيلة بتحقيق غطاء ينسجم مع مهمّة الاختفاء والغيبة من قبل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف[23].
ب- تحصين الجماعة الصالحة وإعدادها لزمن الغيبة: إنّ هذا التحصين وإكمال البناء الذي عمل عليه الإمام الهادي عليه السلام طال جميع المجالات التي تهمّ الجماعة الصالحة التي سوف تفقد نعمة الارتباط بالإمام المعصوم عليه السلام في وقت لاحق وقريب جدّاً. فلا بدّ من أن يتكامل بناؤها بحيث تكتفي بما لديها من نصوص، وتراث علميّ، وعلماء باللَّه تعالى يمارسون مهمّة الريادة الاجتماعيّة والفكريّة والدينيّة، ويسهرون على مصالح هذه الجماعة وشؤونها لتستمرّ في مسيرتها التكامليّة باتّجاه الأهداف الرساليّة المرسومة لها، فطال التحصين المجال العقائديّ، العلميّ، التربويّ، التحصين الأمنيّ والتحصين الاقتصاديّ أيضاً.
[1] المحلاّتي، الشيخ ذبيح الله، مآثر الكبراء في تاريخ سامرّاء، انتشارات المكتبة الحيدريّة، ج3، ص 125 - 126.
[2] المازندرانيّ، الشيخ محمد صالح، شرح الكافي، المكتبة الإسلاميّة، طهران، 1424هـ، ط1، ج7، ص 306.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 546.
[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص 202.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 209.
[6] المصدر نفسه، ص 501 .
[7] المسعودي، إثبات الوصية، ص 234.
[8] الشيخ الكليني، الكافي، ج7، ص 238 و 463.
[9] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص 405.
[10] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ج2، ص 395.
[11] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، ج3، ص 396.
[12] السيد ابن طاووس، مهج الدعوات، ص 267.
[13] الطبري، دلائل الإمامة، ص 409.
[14] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص 401.
[15] المسعودي، إثبات الوصية، ص 242.
[16] المصدر نفسه، ص 243 - 244.
[17] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 503 .
[18] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية (الإمام الهادي عليه السلام)، ج11، ص 114.
[19] المسعودي، مروج الذهب، ج4، ص 10.
[20] المصدر نفسه، ص 403.
[21] راجع: العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، ج24، ص 239.
[22] راجع: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1405ه - 1363 ش، لا.ط، ص 417.
[23] الشيخ الصدوق، كمال الدين، ص 379 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|