المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4876 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



الأدلة النقلية على نظرية الشورى  
  
4946   08:29 صباحاً   التاريخ: 1-07-2015
المؤلف : الشيخ محمد السند
الكتاب أو المصدر : الامامة الالهية
الجزء والصفحة : ص120-227
القسم : العقائد الاسلامية / مقالات عقائدية /

  [ يمكن تقسيم البحث في الادلة النقلية الى  :

 

أولاً: الأدلة المتضمنة للفظ الشورى :

 

1 ـ الآيات

2 ـ سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)

3 ـ الروايات وهي على صنفين

 

الصنف الأول: روايات الشورى

الصنف الثاني: روايات الاستشارة

التقييم

أولاً: فهم آخر لأدلة الشورى والاستشارة

ثانياً: الجواب التفصيلي

الوجه الأول: المعنى اللغوي لمادة (شور)

الوجه الثاني: تحليل لقوله تعالى: (وأمرهم)

الوجه الثالث: ملاحظة: (وإذا عزمت فتوكل)

الوجه الرابع: فوائد الشورى

الوجه الخامس: سلطة الشورى وسلطة الأمة

الوجه السادس: تحليل لغزوة أحد والخندق

الوجه السابع: مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) لرأي الأكثرية

الوجه الثامن: آية الشورى وزمن النزول

الوجه التاسع: استدلال الشهيد الصدر

الوجه العاشر: طريقة انتخاب الخليفة الأول والثاني

الوجه الحادي عشر: المعارضة بأدلة النص

خلاصة الوجوه المتقدمة

مناقشة الاستدلال على نظرية التفليق بين النص والشورى

ثانياً: آيات الولاية والأمر بالمعروف :

التقييم

ثالثاً: آيات البيعة :

التقييم

نقض ودفع

رابعاً: الآيات المثبتة للوظائف الاجتماعية العامة :

التقييم

خامساً: آيات الاستخلاف :

التقييم

سادساً: آية الأمانة :

التقييم

سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول (صلى الله عليه وآله) عن الأمة :

التقييم

ثامناً: آية المائدة: 44 :

التقييم

تاسعاً: سيرة الأئمة (عليهم السلام) :

جوابها:

أولاً ـ تحليل سيرة الأئمة.

ثانياً: العلاقة بين الدين والسياسة .

ثالثاً: وظيفة الأنبياء.

رابعاً: الحاكمية.

خامساً: النص والعقل.

سادساً: النص والاستبداد

وبعد هذا الاستعراض يتم التعرض للموضوع وكالآتي :  ]

...المستدل بهذه الادلة تارة يستدل على أن الولاية لمجموع الامة وتارة للنخبة وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للامة في عصر الغيبة فقط دون عصر النص.

أولاً: الادلة المتضمنة للفظ الشورى:

1 ـ الآيات:

وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:

أ ـ قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

ب ـ {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].

فالآية الاولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات المؤمنين وبعض هذه الصفات الزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الامر في الآية الاولى تجلي الخطاب اذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافة الشؤون حتى بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها على هذا النوع من الاسلوب وهو المشورة.

اما الآية الثانية فورد فيه لفظان الأول: امرهم والمراد به الشأن او الشيء المهم، وعند اضافته الى المسلمين يكون المجموع دالاً على أن الأمر والشيء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بإدارة شؤون المجتمع؟!

اما الشورى فتعني تداول الآراء بين المجموع، وكلمة بينهم تؤكد دخالة المجموع في ابداء الرأي واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم. والآية الكريمة تعدد مجموعة من صفات المؤمنين أكثرها الزامي كإقامة الصلاة والانفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلقه بالوظائف العامة والامور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية، حيث أن بعض الامور ان شرعت وجبت ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يستدل على الزامية الشورى الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.

2 ـ الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث التزم بالشورى في عدة مواضع:

1 ـ واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً انزلكه الله ليس لنا ان تقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي اول ماء من القوم فتنزله ثم تغور ما وراءه من القُلُب، ثم تبني عليه حوضاً فتملؤه ماءً ثم تقاتل القوم فتشرب ولا يشربون، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : لقد اشرت بالرأي (1) .

2 ـ غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير على أنه (صلى الله عليه وآله) كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل (صلى الله عليه وآله) بيته وخرج لابساً لامته وصلى بهم الجمعة، ثم خرج فندم الناس وقالوا: يارسول الله استكرهنا ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال (صلى الله عليه وآله) : ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل (2) .

3 ـ غزوة الاحزاب ـ الخندق:

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) عقد الصلح مع غطفان، فأرسل الى عيينة بن حصين والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن اصحابه، فلما اراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث الى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا: يارسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك به الله لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك الا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم الى امر ما. فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً أو بيعاً. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له واعزنا بك وبه نعطيهم اموالنا. والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فأنت وذلك فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: يجهزوا علينا (3) .

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعامله مع قومه وانه كان ينزل عند رأي من يستشارهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم لكان الامر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود الى الآيتين الكريمتين فان الامر الوارد الاستشارة فيه اما ان نعممه الى رأس الهرم السياسي وهو الخليفة والزعيم او لا أقل يستفاد منها الالزام في الوظائف التي تهم المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

3 ـ الاستدلال بالعديد من الروايات الدالة على وجوب الشورى، ونحن نقسمها الى أصناف:

الصنف الأول:

روايات الشورى: قول علي (عليه السلام) في النهج / قسم الكتب / 6: "انه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانما الشورى للمهاجرين والانصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه الى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولى، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي وكان نقضهما كردهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون" وقد ذكر صدرها ابن مزاحم في وقعة صفين: "أما بعد فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني..".

ـ النبوي: "إذا كان امراؤكم خياركم واغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها" (4) .

ـ النبوي: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" البخاري كتاب المغازي باب كتابه (صلى الله عليه وآله) الى كسرى.

ـ قوله (عليه السلام) عندما اريد البيعة له: "دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وانا لكم وزير خير لكم من امير" (5) .

ـ تاريخ اليعقوبي 2: 9 في احداث غزوة مؤتة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أن أمير الجيوش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبدالله بن رواحة فإن قتل (فليرتضي المسلمون من أحبوا) .

ـ وفي الطبري 6 / 3066 عن ابن الحنفية "كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الامر منك، لا اقدم سابقة ولا اقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: لا تفعلوا فاني اكون وزيراً خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.

قال: ففي المسجد، فان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون الا عن رضى المسلمين".

ـ وفي الكامل 3 / 193: "أيها الناس عن ملأ وأذن إنّ هذا امركم ليس لأحد فيه حق الا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم الا أن اكون عليكم، ألا وانه ليس لي دونكم الا مفاتيح ما لكم وليس لي أن آخذ درهماً دونكم".

ـ كشف المحجة لابن طاووس / 180 قوله (عليه السلام) : "وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد اليّ عهداً فقال: يا ابن أبي طالب لك ولاء امتي، فان ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وان اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه".

ـ النبوي في شرح ابن أبي الحديد 11 / 11: "ان تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا".

ـ كتاب سليم بن قيس / 118 عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "ما ولت امة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه الا لم يزل امرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا الى ما تركوا".

ـ كتاب سليم بن قيس / 182 عنه (عليه السلام) ، والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يدا ولا رجلاً ولا يبدؤوا بشيء بل أن يختاروا لأنفسهم اماما عفيفاً عالما عارفا بالقضاء والسنة يجمع أمرهم".

ـ مقاتل الطالبيين / 36 عن الحسن المجتبى (عليه السلام) في خطاب لمعاوية "ان علياً لما مضى لسبيله.. ولاّني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم اني أحق بهذا الأمر منك".

ـ بحار الأنوار 44 / 65 ب 19 كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) : "صالحه على أن يسلم له ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد الى أحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين".

ـ إرشاد المفيد / 185 ـ الكامل في التأريخ ابن الأثير 4 / 20 ـ كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء (عليه السلام) : "أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الامة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها" فأجابهم (عليه السلام) : "اني باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إلي انه قد اجتمع رأي ملائكم وذوى الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني اقدم اليكم وشيكاً".

ـ الدعائم 2 / 572 كتاب آداب القضاء عن الصادق (عليه السلام) : "ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم، وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله".

ـ قوله (عليه السلام) لطلحة والزبير: "ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما" (6) .

ـ سنن أبي داود ج 2. كتاب الجهاد باب القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.

عن النبي (صلى الله عليه وآله) اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمر أحدهم. وفي مسند أحمد بن حنبل ج 2 / 177 لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم.

ـ في كتاب الوثائق السياسية ص 120 الوثيقة 33 معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه ليس عليكم أمير إلا من انفسكم او عن أهل رسول الله والسلام.

ـ في خطبة الإمام علي (عليه السلام) رقم 73. "ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار". وفي الخطبة 127: "والزموا السواد الاعظم فإنّ يد الله مع الجماعة واياكم والفرقة".

ـ وفي وقعة صفين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الامام ومعاوية قال معاوية: إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا، فقال علي (عليه السلام) : "انما الناس تتبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع حزب معاوية يحكم على الامة ويركبهم ويشق عصاهم".

فرجعوا الى معاوية فأخبروه بذلك فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في الأمر فيؤامِروه، فانصرفوا الى علي (عليه السلام) فقالوا له ذلك واخبروه فقال (عليه السلام) : "ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة وليس في الارض بدري الا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي فلا يغرنّكم معاوية من انفسكم ودينكم" (7) .

فهذا الجواب للامام يدلل على مدى قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحل والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الامصار بعد مقتل عثمان وارادوا مبايعته فقال: انما ذلك لأهل الشورى وأهل بدر.

ولا يتصور أن اجوبة الامام هي في مقام المحاجة فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن ابائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : "من جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الامة امرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه" (8) .

فهي ليست في مقام المحاجة بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الامة وهو الشورى وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني:

روايات الاستشارة: وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعنى تؤكد على ضرورة المشاورة والاستشارة في كافة الامور نحو قوله (عليه السلام) : "لن يهلك امرؤ عن مشورة"، "خاطر بنفسه من استغنى برأيه"، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار من الايمان والعقل وهي مفصلة يمكن ملاحظتها في وسائل الشيعة كتاب الحج. ابواب احكام العشرة باب 21 ـ 26 وفي بحار الانوار الجزء 72 باب 43 ـ 48.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

آ ـ ان التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاتباع لكان الامر بها والحث عليها بهذا النحو لغوا وعبثاً.

ب ـ انه قد ورد في بعض الروايات على نحو القضية الشرطية من لم يستشر هلك. فقد يقول قائل ان الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه لكن اذا عممنا الامر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهم صالح المجتمع فان الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأي نحو كان. فهي تدلّ على وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

جـ ـ بعض الروايات توجب اتباع اراء المستشارين وفي بعضها التحذير "اياك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا" (9) . فهذه تدل على لزوم الاخذ بالاستشارة.

د ـ ورد في رواية انه قيل: "يارسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم" (10) .

فالاستشارة لها ارتباط بالحزم وهو استجماع العزم والارادة فالإرادة في مثل هذه الامور التي تهم المجتمع والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم يجب أن تكون صادرة ومنبعثة عن الاستشارة.

هـ ـ ان العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة وذلك لأن عقل الانسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الافعال فإذا أراد أن يقدم على أمر ما يجب عليه مشاورة الاخرين والاخذ بآرائهم حتى يظهر له وجوه الحسن والقبح، وتزداد أهمية الاستشارة كلما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الانسان أخذ قرار فيه، فكيف اذا كان شأناً من شؤون المجتمع العامة والمصالح العامة. والحكم والعلل المذكورة في الروايات انما هي ارشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: ان الآيات والروايات الواردة في الشورى لا تدل على المطلوب وذلك لانها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الاغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحل والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ وهذا مع عظم أهمية الشورى حسب مدعى القائل ودخالتها في تلك الامور الهامة فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: انه مما لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد اتخذ عدداً معيناً للمشورة فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان ومع ذلك فانه سوف يتمسك بهذا العدد حتى مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الاف الاضعاف، فلذلك لم يشأ الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتى يكون لكل مجتمع في كل زمان ما يرتأيه طبقاً لظروفه الخاصة وحتى يكون الاسلام متلائماً مع التطورات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الاولى وهي أهم الطوائف، يبقى كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الآراء والقرارات هل يتبع الكم ام الكيف؟

فمن جهة يقال انه من اجل حفظ النظام واستقامة الامر لا يمكن طرح رأي الاكثرية فيجب أن يؤخذ به على حساب الاقلية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلية لو كانت متضمنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الاكثرية.

فذهب كثير الى محاولة التلفيق بين هذين الرأين:

ـ فقال البعض إن الامة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة وهؤلاء ينتخبون الولي.

ـ أن توضع حدود لانتخاب واختيار الامة اي لا تكون الامور مطلقة على عنانها بالنسبة للامة بل يجب أن يتقيدوا بقوانين وأحكام اسلامية.

التقييم:

أولا: رأي آخر في فهم الأدلة:

في مقام تقييم هذه الادلة من آيات وروايات وقبل أن نبدأ بالإجابة على كل نقطة من النقاط السابقة فانا نذكر ان نفس الآيتين اللتين استدل بهما على الشورى يوجد لهما تفسير آخر وهو مشهور وشائع بين المفسرين والمفكرين وحاصل ذلك:

ان المستفاد من الآيات والروايات هو حث المكلف ـ الذي هو في موضع المسؤولية عن الامة وادارة شؤونها بل حتى في اموره الخاصة ـ على الاستشارة وتوسعة افق التفكير ومنابعه، وعدم التعنت برأيه والتوحد به بل يلزم الانسان بفحص اراء الآخرين مع تمسكه بأن يكون الرأي النهائي له والا يكون متحركاً تبعاً لإرادة المجموع.

بيان ذلك:

... [توجد] قوتين مفكرتين في النفس البشرية أحدهما النظرية والاخرى العملية فالأولى تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفرة لأجل تهيئة مقدمات استكشاف المجهول وادراك النتيجة.

والاخرى عملية تقوم بدور الاذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة وتسيير القوى السفلى وممارسة دور الامير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر ان الانسان في منهجية تفكيره يتبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشورى والتشريع حيث دور البحث والتنقيب، ثم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالإذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها ثم دور التنفيذ وتوجيه القوى العمالة.

فالإنسان في تفكيره ينطوي على تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني. لذلك عبر عن المجتمع بالانسان المجموعي، وكلما دققنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الانسان الصغير سوف يتضح لنا حلاً لملابسات كثيرة في الانسان المجموعي.

فالمدعى هو أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوى الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوى العملية وسلطتها العمالة على القوى النازلة وهي الارادة، ثم ترد مرحلة الجزم والتسليم والاذعان وهي مرحلة قضائية اذ تكون فيصلاً بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية فالقضاء يقوم بتحديد الكبرى وهو عمل فكري وليس بعملي ثم تطبيق الكبرى على النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة امامه.

وعلى كل حال فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الاول من افعال العقل وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو ادراك النتيجة فهو أمر غير مسألة البحث وان اختص بها العقل النظري أيضاً إلا انه ليس عين الفعل الأول، ويبقى الفعل الثالث وهو الجزم والتسليم والاذعان وهو ما اطلقنا عليه بالقضائية.

إذن فالمشورة والتشاور ماهية لفعل ادراك المعلومات لا ماهية لفعل عملي فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوى العملية، فهناك جمع للآراء تارة واخرى جمع للارادات فالشورى عنوان للأول لا للثاني، بل ليست هي في حقيقتها ايضاً جمع للآراء ولى للجمع والاجتماع مدخلية فيها بل هي ... في اللغة تقليب الآراء لاستخراج الصواب سواء كان هو رأي الواحد أو الأقل او الاكثر فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته فهي لا تعني حسم الامر في اتخاذ قرار في مسألة ما بل هو مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

واذا عدنا الى مفسري العامة في القرون الاربعة الاولى لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشورى أو تفسير كلا الآيتين بمعنى ولاية الشورى، بل على العكس تراهم يذهبون في تفسيرها الى معنى المشورة اللغوية ويشكك الطبري انه كيف يؤمر النبيّ باتباع الشورى مع انه (صلى الله عليه وآله) غني عن المسلمين بالوحي (11) .

ويذكر فوائد الشورى من اقتداء الامة به، وتأليف قلوبهم وينقل ذلك عن قتادة وابن اسحاق والربيع والضحاك والحسن البصري، والسيوطي في الدر المنثور يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة على حسن الاستشارة واستحبابها، وان المشاورة من الامور الموصلة للحق ومنها ما عن الامام علي (عليه السلام) : يارسول الله اذا نزل بنا الأمر من بعدك وليس فيه قران وليس فيه من قولك ومن سنتك فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد فترشدون الى أصوب الآراء.

فقد يستفاد منها أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشورى. إلا ان الامر ليس كذلك بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه وتبادل الرأي للوصول الى ما هو الصواب في نفسه لا من جهة نسبته للأكثرية أو شبهها.

والزمخشري في ذيل (وأمرهم شورى بينهم) ان الشورى كالفُتيا بمعنى التشاور، وفي ذيل (وشاورهم في الامر) يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وهي لتستظهر برأيهم... ويذكر من فوائده لئلا يثقل على العرب استبداده (صلى الله عليه وآله) بالرأي دونهم، (فاذا عزمت) يعني قطعت الرأي على شيء بعد الشورى (12) .

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو قد يخالف اكثرية الآراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين على ولاية الشورى بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

اذن خلاصة ما يذهب اليه هذا الرأي انه يوجد منحى في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به اصحاب ولاية الشورى، وأن أوائل المفسرين لم يجعلوا هذه الآية دليلاً على ولاية الشورى.

مضافاً الى أن مبدأ ولاية الشورى يقترب من مبدأ سيادة الامة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبر عن حكم الامة، وتدخل الامة في ادارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الاخيرين وما زالت تتدخل فيه يد القانونيين حتى يسدوا الثغرات التي تظهر بين آونة واخرى، فلا نجد مظهراً واحداً معبراً عن هذا المبدأ مع أن اغلب دول العالم تتمسك به وان الديمقراطية هي الاساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلا ان الثغرات والعيوب الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة دعتهم الى أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخب وما ذلك إلا لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي الى مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة بسيطرة اصحاب رؤوس الاموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة:

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشورى والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين وهو الحق فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة وهي في نفسها تكون دليلاً على الفهم الآخر الذي ذكرناه وقويناه.

الوجه الاول:

وهو العمدة حيث أن المعنى اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

ـ الراغب الاصفهاني فسر الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض الى البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل اذا أخذته من موضعه واستخرجته منه (13) .

ـ وابن منظور في لسان العرب يذكر ان الاصل اللغوي هو من شار العسل اي استخرجه من الوقية واجتناه. ويقال: شرت الدابة اذا أجريتها لتعرف قوتها. وحمله البعض على قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) بمعنى لتعلم الامين والمخلص من غيره واستشاره اي طلب منه المشورة.

فالمدار في الاشتقاقات تشير الى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر والوصول الى نتيجة صحيحة (14) .

ـ تاج العروس: فلان شيّرُك وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشيّره اي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلاً واشرني على عسل أعني على جنيه وأخذه من مواضعه (15) .

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد اساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الارادي في المسألة، وهو ما اشرنا اليه وأنه الفعل الأول للفكر.

ـ وأوضح من كل من مضى ما يذكره ابن فارس ان شور وضعت لأصلين مفردين الأول: ابداء شيء وإظهاره وعرضه. والآخر أخذ شيء (16) .

وكلا المعنين شاهدان على ما ذكرناه فالاول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفح الآراء.

فتكاد كلمات اللغويين تشير الى هذه الحقيقة في الشورى ولم يرد منها ذكر واشارة الى جهة سلطة أو ارادة أو ولاية أو قدرة تتحلى بها الشورى.

ـ ومن كتب اللغة المتأخرة نرى ما ذكر في المعجم الوسيط شار الشيء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار اليه بيده، أومأ إليه معبراً عن معنى من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي او قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدث (إلا انها ليست مرتجلة بل منقولة عن الاصل اللغوي لمناسبة بين المنقول منه والمنقول اليه بل قد يقال انه نفس المعنى القديم وليس معنى جديداً منقولاً (17) .

وانما اسهبنا في استعراض كلمات اللغويين لأن عمدة ما يستدل به على عدم وجود ولاية او سلطة في مادة الشورى هو أصل وضعها اللغوي فاذا ادُعي مثل ذلك في ظهور اللفظة فيجب أن يكون بمؤنة زائدة على مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة انها شبيه ما يسمى بـ (بنك المعلومات او بنك الخبرات) .

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيدة لما ذكره اللغويون:

1 ـ ان البشرية تعتمد على نظام المستشارين في ادارة اي عمل وقلما يوجد مدير أو مسؤول خال عن المستشارين وفي نفس الوقت لا يكون لهم أية سلطة على المستشير بل وظيفتهم مجرد ابداء الرأي والنصح.

2 ـ ان الفقهاء من الفريقين يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي الاستشارة وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.

3 ـ سوف نشير فيما بعد الى التحليل الماهوي لمادة الشورى حيث نذكر انه لا ملازمة بين ابداء الرأي ووجوب الأخذ به. وانما الملزم هو حقانية الرأي واستصوابه.

4 ـ أن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلى بها المؤمنون ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لآراء الاخرين، فهي تشير الى ما يجب أن يتحلى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحريه للصواب والحكمة وهي ضالته أينما وجدها أخذها، وليس الامر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين.

5 ـ أن القران اعتنى بمسألة الولاية ومن تكون لهم الولاية على الاخرين ولذا في أي موضع ارادها أشار اليها صراحة {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال: 75].. فالولاية من الامور المهمة سواء كانت فردية أو جماعية فلو كان الشارع قد ارادها في الشورى لصرح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6 ـ قد ورد في القران الكريم في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..} [البقرة: 233] ...

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متفقون على أن الولاية للأب وأن الحضانة هي للام ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور فمع اختصاص الولاية ندب الى التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزمة للولي وهو الأب بل هي معرفة اراء الاخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7 ـ ما ورد في قصة بلقيس ملكة سبأ عندما جاءتها رسالة النبي سليمان (عليه السلام) فانها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها فاشاروا اليها: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] .

فواضح انهم عرفوا موقعهم في الدولة وان الأمر بيد الملكة ووظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، والتصميم على الحرب او السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس بل الاشارة الى أن مسألة الشورى والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الادارة متبع منذ الازمنة الغابرة. والشارع قد أكد على ذلك الامر المهم وحثّ عليه.

8 ـ في سورة الحجرات (49: 7) : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ..}.

حيث انها واضحة الدلالة في أن الرسول لو اُلزم بالأخذ بنتيجة آرائهم دائماً لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الامة الاسلامية الى كيفية التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته (صلى الله عليه وآله) ، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشيء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم لاجل تمهيد الطاعة له (صلى الله عليه وآله) .

9 ـ ما ورد في اول سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1].

اي لا تتقدموا على رسول الله في البت في الامور فضلاً عن تنفيذها فانها ليست من وظيفتهم بل هي وظيفة القيادة في حسم الامر واتخاذ القرار النهائي. فهم تابعون حتى مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدم هذه الآية من قضية اخبار وليد بن عقبة حول بني المصطلق وتريث الرسول الاكرم في الاخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين بل تصميهم على العمل بقوله، فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدم على عزم الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) .

10 ـ ان الحكمة من المشاورة بناء على هذا هو ربط القيادة بالقاعدة وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الاصل اللغوي لاصطلاح الشورى وهو مداولة الآراء وتكون جسراً للتفاهم والتحاور وايصال المرادات حتى يصل القائد والمستشير الى نتيجة أقرب الى الصواب ويقل احتمال الخطأ فيها.

وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللغوي نصل الى ان التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة الحسم واتخاذ القرار. والشورى تدل على أصل بداية المداولة الفكرية فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين فهذا تعبير ركيك وأعجمي والأعجب صدوره من ادباء عرب يدعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني:

1 ـ ما استدل به في (وأمرهم) من ان الاضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين.

فجوابه بعد بيان مقدمة ان علماء اصول الفقه واصول القانون يتفقون على أن القضية لا تتكفل اثبات موضوعها بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق، اما تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه فهو قضية اخرى لا تتصدى لها نفس القضية.

وبناء عليه فاذا نظرنا الى الآية الكريمة التي تشير الى (وامرهم) فغاية ما تدل عليه ان الامر والشأن مضاف الى المسلمين ولكي يترتب عليه المحمول كما يدعيه المدعى يجب توفر امران:

احدهما: أن يكون الامر مما يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن يكون صلاحية النظر في هذا الأمر اليهم أي مضاف اليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب ان نحرز أن هذا الأمر المجموعي مفوض وموكل الى الجماعة ومما لا شك فيه ان تعيين الامام وثبوت النص وعدم اقحام الامة في اختيار قيادتها سيما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أمر مسلم لا يختلف في الأول أحد من المسلمين ولا في الثاني أحد من الشيعة، فانه يدل على أن هذا الشأن وهو اتخاذ القائد والزعيم ليس من الامور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى وعلى كل حال فنفس الآية ومجرد تعبير (أمرهم) لا يثبت المراد.

الوجه الثالث:

ملاحظة ذيل الآية {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].

فان العزم يغاير الشور وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً اذ أنه حاصل بعد الاستشارة في سياق الآية الكريمة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثل الفعل الثالث في افعال النفس للانسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الاجرائية والتنفيذية وهي تسند العزم له وحده (صلى الله عليه وآله) دون بقية المسلمين. فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً الى أن الشورى جعلت فيها للمجموع أما هنا فانه مسند اليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة واسناداً.

وثالثاً: ان الأمر بالتوكل هو للنبيّ (صلى الله عليه وآله) والخطاب له وحده.

ورابعاً: ان مادة التوكل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على انه (صلى الله عليه وآله) لو خالف رأيهم فعليه ان يعزم عليه ويتوكل على الله.

وخصوصاً اذا ما قارنا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [الشعراء: 215 - 217].

ففيها ندب للرسول الاكرم ان يربي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح. وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه بل يبقى الامر بيده وعليهم المتابعة والانقياد. فادراة شؤون الامة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره، ولذا حرص الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) على تربية المؤمنين وحثهم على القيام بهذه المهمة وتكون الشورى وقيامه (صلى الله عليه وآله) باستشارتهم لإشعارهم أن الأمر يهمهم وان كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته ويكون له الرأي النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وان كان مخالفاً لهواهم واكثريتهم.

فاذا كانت سيرة المعصوم (عليه السلام) مع أمته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني فهو الزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وان كان اختيار الرأي النهائي راجعاً اليه وبيده زمام الامور.

الوجه الرابع:

وهو جواب عما قيل انه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا الى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتأليفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الاحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتبع هواه.

ومنها: اشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في ادارة دفة الحكم وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلا أنّ لهم دور في صنعه مما يجعلهم يتعاملون معه في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس بشكل أكبر وحماس أكثر حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للامة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي تجعل الانسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وان الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أما بني البشر فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلا من عصمه الله عز وجل، فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلا انهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم على عدم الاستبداد بالرأي وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول الى أرجح الآراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه، فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: ان الاستشارة تؤدي الى افشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون حيث انهم يستغلون الغموض الذي يكون في القرارات والاحكام للتلبيس على الامة، فالاستشارة تؤدي الى رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفياته واضحة معروفة.

فهذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل يتضح ان لا لغوية في البَين وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحث عليها...

فاتضح من خلال هذه الوجوه الاربعة أن المستدل اذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الاكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم) فهو غير دال على ما ذكر.

اما اذا استدل على مراده من خلال بيان ان الولاية هي للمجموع فإنه لم يقم الدليل عليه ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما.

... بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الامر والشأن هو لمجموع الأمة وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

الوجه الخامس:

لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلمنا أنها بمعنى الارادة والولاية للشورى فإن مقتضى استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ والحق من الوهم والسداد من الخطل، وحينئذ فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي اكثر وهواهم وميولهم الشخصية فانه كثير ما يصحح الصواب ويتبين السداد ويلتفت الاكثر الى صواب القلة لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة الى ذلك، فلازم ولاية لا شورى ليس هو نافذية رأي الكثرة وكون المدار على الاكثرية بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، والا لكان استخدام عنوان ومادة الشورى في الأدلة خاطئاً وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون املك بأمرهم او أولى به ونحو ذلك مما يعطي محض معنى السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس:

فقد استشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسك بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) برأي الاكثرية المشاورة ولم يخرج عنها. وفي مقام الجواب نشير من باب المقدمة الى حقيقة تأريخية يجب أن يلتفت اليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية , بيان ذلك:

أن المدقق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله الى الرفيق الاعلى يلاحظ ان الملتفين حول الرسول الاكرم لم يكونوا على نسق واحد من الجهة الايمانية بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وان كان وجود النبي (صلى الله عليه وآله) قد منع البعض من اظهار ما يكنّه لكنه بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) رأى متسعاً لإظهار حقيقة أمره واتباعه لأهوائه فظهر خطان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير الله عز وجل أن يتولى قيادة الامة طيلة سنوات متمادية بل قرون طويلة الخط المناوئ لعلي (عليه السلام) وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) .

ومن الساعة الاولى عمل هذا الخط الحاكم على توطيد سلطانه وملكه على حساب خط آل محمد (صلى الله عليه وآله) المتمثل بعلي (عليه السلام) وشيعته والمُعَنْوَن بـ خط الامامة، وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الامة ليست نصية بل هي شوروية. ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدِّثين والمؤرخين وكل الاجهزة الاخرى لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الاسلامي، ومن هنا فانا نقول ان التاريخ المكتوب ما هو إلا صورة لما اراده الحُكّام. وعليه لا يمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب بل يجب الرجوع الى المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية.

ويرى أحد الباحثين طرح منهجية جديدة في دراسة التاريخ، وهي مراجعة القرآن الكريم الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول (صلى الله عليه وآله) والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتى نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلاً ونقلاً , بعد ذلك نقول:

أولا: كان أهم ما استند عليه المستدل هو غزوة أحد وما قام به الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لما يراه. وخصوصاً أن آية (وشاورهم في الامر) قد نزلت في هذه الواقعة. فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة.

1 ـ أنّه لمّا سمع الرسول (صلى الله عليه وآله) بخروج قريش قال للمسلمين: اني قد رأيت والله خيراً. رأيت بقرا ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني ادخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.

ثم انه استشار قومه في قتال المشركين وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو البقاء في المدينة. وقال له: يارسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج اليهم فوالله ما خرجنا منها الى عدو لنا قط إلا اصاب منا ولا دخلها علينا أحد الا أصبنا منه، فدعهم يارسول الله فإن أقاموا بشر فحبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وان رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجال ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان قد فاته يوم بدر: يارسول الله اخرج بنا الى اعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل بيته ولبس لامته ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم قالوا: يارسول الله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) : ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل. فخرج النبي في ألف من اصحابه حتى اذا مشوا مسافة رجع عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني (18) .

هذا هو التقرير الرسمي لما جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أحد. ونشير مصادر اخرى كما في الكامل في التاريخ ابن كثير في (3: 23) وأبى كثير من الناس إلا الخروج الى العدو ولم يتناهوا الى قول رسول الله ورأيه ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر وعامة من أشار اليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه والشباب المتحمس هو الذي أصر على الخروج.

اذن فالآية وردت في هذه الغزوة وقد طبقها الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث استشار قومه ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

وهذا هو ما ادعي في المقام. وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها آيات عديدة فيجب الرجوع إلى عرض هذه الحادثة على ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها ليحصل الغرض النهائي وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الاخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق ومن خلال تشعبنا واستخدامنا لهذا المنهج اعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة نستنتج:

1 ـ ان رأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) لم يكن البقاء في المدينة بل الخروج منها.

2 ـ ان الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3 ـ ان سبب هزيمة المسلمين في أحد لم يكن الخروج من المدينة ـ كما يظهر من بعض الكتّاب ـ بل هو تخلف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) .

4 ـ أن البقاء في المدينة كان رأي عبدالله بن اُبي بن سلول وهو رأس المنافقين والذي اثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) . وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي بكر وهم اصحاب الصحيفة السبعة، اثنين من الانصار وخمسة من المهاجرين.

5 ـ ان القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذم البقاء داخلها.

6 ـ أن الله عزوجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزر قبل غزوة أحد اذا هم خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المدعيات:

القرينة الاولى: ما ورد في تفسير علي بن ابراهيم في ذيل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا..} [آل عمران: 122] .

حيث يذكر انها نزلت في عبدالله بن أُبي بن سلول واصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، عن الصادق (عليه السلام) قال: وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر الى مكة وقد أصابهم ما اصابهم من القتل والاسر. قال أبو سفيان: يامعشر قريش لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم فان البكاء والدمعة اذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ويشمت بنا محمد واصحابه. فلمّا غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أحد أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا ارادوا أن يغزوا رسول الله في أحد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم على حرب الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأخرج أبو سفيان هند بن عتبة وخرجت معهم عمرة بنت علقمة فلمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن الله عزوجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث اصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبدالله بن ابي بن سلول: يارسول الله لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا وما خرجنا على عدو لنا قط إلا كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون بنا وانت فينا، لا حتى نخرج اليهم فنقاتلهم. فمن قتل منا كان شهيداً ومن نجا كان في هدى. وقبل رسول الله قوله.

فيلاحظ من هذا النص:

ـ أن رأي بعض الاكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ وهو من الانصار.

ـ ان دعوى الانصار كانت مستندة الى دلائل على أن الخروج افضل منها:

أ ـ أن بقاءنا يطمع فينا أعدائنا ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب ـ أن ذلك سوف يحرمنا من الاراضي التي حول المدينة حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها مضافاً الى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

جـ ـ ان عدتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم.

هذا مضافاً الى أن بعض كتب السير قد عبرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي وعن اصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين فكيف يكون الصواب هو المكث وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) .

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب وهي في سورة آل عمران (121 ـ 160) .

وهذه الآيات الكريمة تتحدث عن الواقعة بنحو مفصل وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1 ـ {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] حيث أن الله عزوجل يذكّر النبي (صلى الله عليه وآله) عندما خرج يهيئ أماكن القتال، ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزوجل الى أنه سميع لأقوالكم وما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم عليم بنياتهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2 ـ {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة اما عبدالله بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه. أو بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس أرادا الرجوع الى المدينة مع ابن سلول إلا أن الله عزوجل اثنى ذلك عن قلوبهما. وعلى كل حال فالآية تذم المتخاذل والمتراجع الى المدينة، فكيف يُدّعى أن البقاء في المدينة هو الصائب.

3 ـ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ... لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 123 - 128] ، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار وكانوا قلة ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار وذلك بالإمداد الغيبي وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وان كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة وتخاذل بعض المسلمين وتذكير الرسول لهؤلاء ان الخروج للقتال هو الافضل حيث ان الامداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يصر عليه من ضرورة البقاء في المدينة لأنه أحفظ للأنفس وأمنع لا داعي له إذ أن المدد الإلهي متيقن والله يعد رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثم تتعرض الآيات (129 ـ 138) الى مواضيع اجنبية عن البحث ويعود الى محل الكلام في الآية 139.

4 ـ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139، 140].

وفي هذه الآية بيان لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي ابانها الرسول (صلى الله عليه وآله) لهم فسيطر الكفار على ساحة المعركة فحثهم على الصبر وعدم الضعف عن الجهاد اذ مع هذه الخسارة المؤقتة فانتم الاعلون، وان كنتم قد أصبتم فقد اصاب الكفار في بدر أكثر مما أصبتم الان، ويذكر سنة من سنن الله في الكون وهي أنّ الايام يصرّفها بين الناس فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.

5 ـ ثم يبين الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة فانها امتحان للمسلمين {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140, 141, 142] فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر، فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الايمان والاعتقاد فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتى صنوف الاختبار واذا ما انتصر الظالمون يوماً فهذا مؤقت ولا يدل على حب الله لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالإيمان اللفظي بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين يجابهه القرآن ويرفعه ويذكرهم {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [آل عمران: 143] وقد ورد ان المؤمنين عندما اخبرهم الله تعالى بمنزلة شهداء بدر قالوا: اللهم ارنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين الى لقاء الله.

5 ـ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144].

وهذا هو الامتحان الأهم فبعد أن سيطر الكفار على ساحة المعركة لأسباب سوف تشير اليها الآيات القادمة. ولم يبق مع الرسول الاكرم إلا الخلّص مثل أمير المؤمنين وأبو دجانة سماك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قتل وهنا انقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير اليه رواية الطبري (19) قال: انتهى انس بن النضر عم انس بن مالك الى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والانصار وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل.

وفشا في الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً الى عبدالله بن أبي فيأخذ لنا أمنه من أبي سفيان، يا قوم ان محمداً قد قتل فارجعوا الى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم" (20) .

ومنهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان وهما رجلان من الانصار فقد فروا حتى بلغوا الجلَعب جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً (21) ومن اراد المزيد (الصحيح من سيرة الرسول الاعظم 2 / 240 ـ 250) .

فالآية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين.

احدهما المنقلبة والاخرى الثابتة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد وصف الله عزوجل الاولى انها لا تضر الله شيئاً بل الضرر لأنفسهم أما الثانية فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم الله.

وفي الآيات التالية يؤكد على ذلك ويكرر الباري تعالى (وسنجزي الشاكرين) ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي (صلى الله عليه وآله) على قول الحق ولا يصيبهم الضعف والحزن والوهن ولا يقعدوا عن الجهاد.

6 ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 149 - 151] فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا للمسلمين: ارجعوا الى اخوانكم وارجعوا الى دينهم، فالله هو الناصر وهو المؤيد والمعز.

ومع سيطرة المشركين على المعركة إلا أن الله قد ألقى في قلوبهم الذعر والخوف وعادوا الى مكة.

7 ـ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } [آل عمران: 152] فهذا يدل على وعد سابق من الله لرسوله بالنصر، وبالفعل تحقق هذا النصر في بداية المعركة وقُتل عدد كبير من المشركين {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} اي ملتم الى الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول وكان الرسول الاكرم قد نبههم وأمرهم عند بداية المعركة فقال للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تغيثونا يجب عليكم الثبات في مواقعكم (22) لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وهم الثابتون عبدالله بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتى قتلوا {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} تفضلاً {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة ولا مجال حينئذ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

8ـ {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153].

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشائعة موت الرسول (صلى الله عليه وآله) فاذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم يقول: إلىّ عباد الله ارجعوا أنا رسول الله الي اين تفرون عن الله وعن رسوله، مَن يكر فله الجنة. ثم تبين صفة هؤلاء الذين {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، وهو الاعتقاد بأن الله لا قدرة له وأن يد الله مغلولة ولابد من الاستعانة باللات والعزى وهبل فهذا هو اعتقاد الجاهلية , {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وهو مالك كل شيء.

فيتضح أن الله قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1 ـ عصيان الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وتركهم لمواقعهم.

2 ـ الفرار عندما أُشيع موت الرسول (صلى الله عليه وآله) .

3 ـ ظن البعض بالله ظن الجاهلية ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلى علواً كبيراً.

9 ـ ثم يتعرض الحق تعالى لما يقولون {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرروا قولهم أن لو كنا في المدينة لكنّا أمنع وأحصن متناسين تقدير الله وقضاءه الذي لا راد له حتى لو كان في أمنع الحصون فهذا ذم لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة بل العصيان، والموت والأجل أمر محتوم وقضاء الله.

وبعد هذا التوبيخ تبين الآيات مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الالهي، ثم في هذا السياق ترد آية وشاورهم في الامر في سياق بيان صفات النبي التي تحلى بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10 ـ تعود الآيات للتذكير بين واقعة أحد وواقعة بدر.

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 160، 161] حيث نسب البعض الى النبي هذه الخيانة في المغنم {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 161، 162].

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } [آل عمران: 165] وذلك في غزوة بدر حيث انكم قد اصبتم الكفار بعض ما اصابوكم الان {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} اي من أين هذا اصابنا وظننتم بالله ظن الجاهلية {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } اي بسبب فعلكم وعصيانكم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ...} [آل عمران: 166 - 168] ثم تبين الآيات صفات المؤمنين من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف ثم يذكر صفة اخرى لها صلة بما تقدم {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] .

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة اخرى بأمر الله لرسوله بالخروج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلا من به جراحة، فنادى مناد: يامعشر المهاجرين والانصار مَن كانت به جراحة فليخرج به ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله) حمراء الاسد، وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا الى مكة وسميت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة 121 ـ 174 خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الاكرم في استخبار نيات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون اليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل وان المنافقين ارادوا الايقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل الله.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، من استشارهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غياً" (23) .

ثانياً: غزوة الخندق فقد استدل بها على الشورى والزاميتها في موطنين، الاول: في حفر الخندق حيث نزل الرسول عند رأي سلمان الفارسي، والعجيب اعتبار ذلك من الشورى بالمعنى الذي اصطلحوا عليه حيث أنه رأي فرد واحد وليس اكثرية مضافاً الى أنه دليل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يختار دائماً الرأي الصائب وإن قلّ قائله. ومنه يتضح الجواب عن سائر الموارد التي استشهد بها لمتابعة الرسول لرأي الأكثرية.

الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف لاستجلابهما ومساومتهما على تمر المدينة ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك. ونزوله عند رأيهما.

والجواب: أنه بعيد عما يدعونه من ولاية الشورى بل أن الرسول الاكرم انما اراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وازالة الحصار شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنه عندما رأى عزيمة وثبات الاوس والخزرج لم يجد أي داعي الى مثل هذه المساومة فالموضوع قد تبدل والامر بعيد عن ولاية الشورى.

الوجه السابع:

انه توجد حوادث تاريخية تثبت ان الرسول (صلى الله عليه وآله) استشار اصحابه ولم يتبع رأي الاكثرية كما في:

ـ صلح الحديبية حيث تنقل كتب السير ان كثيراً من المسلمين كانوا على خلاف الصلح بينما أصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الصلح مع تعنت الكفار ورفضهم ذكر اسم الله تعالى في بداية الصلح واصرارهم على كتابة اسم النبي مع ابيه دون عبارة (رسول الله) ومع ذلك كان يرى ان في الصلح خير المسلمين، مع ان الصلح لم يكن أمراً سماوياً بمصطلح الوحي حتى تمنع المعارضة، وان كان اصل التوجه للعمرة أمراً إلهياً اما الصلح وما تضمنه من بنود فإنها من تدبير النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) .

ـ تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة ويدل عليها ما ذكره الرسول الاكرم عند تأمير اسامة حيث خالفه عدد من المسلمين فقال (صلى الله عليه وآله) " ما تلوموني في تأمير اسامة إلا كما لمتموني في تأمير أبيه زيد.

ففيه اشارة الى مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وابنه اسامة فهذا يُظهر أنه (صلى الله عليه وآله) لا يرى نفسه ملزماً بالشورى.

 

الوجه الثامن:

ان آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] مكية كما ينص عليه المفسرون ومن المعلوم انه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعنى الذي يحتاج فيه الى اعتماد الشورى كتنظيم يستند عليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشورى مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً اذا لاحظنا أن الآية تعدد الصفات الفعلية للمسلمين فهذا يدل على أن هذه الصفة فعليه أيضاً، مضافاً الى أن حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك الوقت بجعل الهي وليست نابعة من تولية المسلمين له وهذا أمر لم يختلف فيه أحد فهذه الامور تدلل على أن المراد من الشورى هو نفس المفاد اللغوي، وهو المداولة الفكرية وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الاخرين وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.

وما يذهب اليه البعض في الاستدلال بهذه الآية على أحد صياغات نظرية الشورى مجانبة عن الحق.

 

الوجه التاسع:

مضمون ما ذكره الشهيد الصدر وحاصله:

ان نظرية الشورى بالمصطلح المزعوم تعبر عن نظام حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع وهو سلطة الجماعة، وهو نظام نشأ في القرنين 19 و20 الميلادي وكان المجتمع الغربي مهد هذا النظام ومازال حتى الان يتطور بين آونة واخرى وتتعدد صياغاته. ويبقى منه الاطار العام فقط وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها أما كيفية هذا الحكم وكيف يتم تداول السلطة وكيف يتم التشريع؟ واسئلة كثيرة اختلف الجواب فيها.

وقد تصل أشكال النظم التي تطبق هذا المبدأ الى ما يزيد على سبعة اشكال تتمركز في دول العالم الجديد أوروبا وامريكا. وما تعدد هذه الاشكال الا دليل على ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات اثناء التطبيق.

وبناء عليه فانه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي بل لم يعرف مثل هذا النظام على العكس كان النظام السائد هو النظام الفردي حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي المطلقة ومن غير المعقول أن يقوم الاسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك ولا يبين فيه سوى آية أو آيتين تثبتان الإطار العام بل تثبت العنوان فقط، اما المعنون والطريقة والكيفية فلا نرى لها اثر لا في القرآن ولا في السنة، فيُعلم من ذلك بل يجزم بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد، وانما أرادت الآيتين أن ترشد الانسان المؤمن الى طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.

وقد حاول البعض الاجابة من هذا الامر:

ان الدين الاسلامي حينما يصوغ قاعدة فانه يؤطرها بعنوانها العام تاركاً التفاصيل والجزئيات لكي يتم استنباطها بِما يتوافق مع زمان مسار التطبيق، والسر في هذه الطريقة ان الاسلام لو جعل التفاصيل الجزئية فان القاعدة سوف تكون موافقة لتلك التفاصيل ولشرائط ذلك الزمان ولا تستطيع مواكبة كل الاعصار.

ولكن هذه الاجابة مدفوعة من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وان كانت مقبولة في بعض القواعد إلا ان الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها، أما ان يكتفي بذكر العنوان فقط فهذا مما لا نظير له في الفقه الاسلامي بل لا نظير له في القانون الوضعي. لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.

وما نحن بإزائه في مسألة الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم من هذا القبيل بل ان القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشورى يعني ان الشارع مع حكمته قد جعل المجتمع يتخبط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الاسلامية التي يريد لها البقاء حتى قيام الساعة.

فمن البعيد عن الانصاف القول ان الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل ومن دون أن يعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة وذلك من خلال نظرية النص لكن لا بالمعنى المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي بل من خلال التنصيص على الفرد الاكمل على الاطلاق والاشبه بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو حكم فردي يقوم على اساس اشراك الناس في مهمات الامور من دون ان يكون لهم السلطة والولاية بل الرقابة والمتابعة.

 

الوجه العاشر:

من الادلة التاريخية الثابتة والتي تدلل على عدم دلالة الآيتين على ولاية الشورى هي طريقة اختيار الخليفة الاول والثاني والثالث.

فما جرى في سقيفة بني ساعدة واحتجاج ابي بكر بالقرابة من النبي الاكرم، فإن هذه الجهة تعتمد على أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلا أنّهم أعادوا استخدامها خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وايجاد جو من الارهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم احد.

وهكذا طريقة انتخاب الثاني فإنها كانت بتعيين الاول، أما الآن بعد ما وقع ما جرى فترتفع اصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الامة وأنها أوكلته في الاختيار بدليل البيعة التي لا تدل على الشورى المصطلحة بأي نحو كما سوف نشير فيما بعد الى مدى دلالة البيعة فضلاً عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً ولا يحق لأحد الاعتراض فأين هي الأكثرية وأين هي سلطة وولاية الشورى.

فمن الجهل ان نعتبر المنحى القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات هو تنظير لنظام عصري وهو نظام سلطة الجماعة.

 

الوجه الحادي عشر:

مع التنزل عن جميع الاشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشورى، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع آيات كثيرة تبين أن الولاية في الأصل لله عزوجل ثم للرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص (لأمرهم) اي ان الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشورى بالمعنى المزعوم. أو نقول بتقديم الطائفة الاخرى على آيتي الشورى.

أما طوائف الروايات التي استدل بها على نظرية الشورى وعمدتها ما ورد عن امير المؤمنين في بعض احتجاجاته حيث يستند الى الشورى واختيار الأمة. وقبل الدخول في تفصيل هذه الخطب واجوبتها نذكر ثلاث نقاط مهمة:

1 ـ أن ما يظهر من كلام الامام مؤيداً به للشورى ومعتبراً أن سلطة الجماعة هو ما أسسه الاسلام في الفقه السياسي هو من باب التنزل والجدل مع الخصم والزامه بما التزم به من نظرية الشورى، حيث إن الامام في كل هذه الموارد كان يواجه من يتشبث بالشورى فهو (عليه السلام) يبين أحقيته حتى على مذهب الشورى.

2 ـ أن المستدل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الامام (عليه السلام) بينما نجده يترك القسم الاوفر من كلامه (عليه السلام) الذي يبين أحقيته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ (عليه السلام) ببيان أحقيته ووجود النص على امامته ثم يتعرض بعد ذلك لاثبات أحقيته على فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.

فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق نلاحظ انه يجب اعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تنسب اليه الاستدلال بالشورى والتي يتمسك بها بدلالة النص. لكن المستدل حتى هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وان الامام ما كان يترك أي فرصة الا ويبين فيها ذلك.

3 ـ من الثابت تاريخياً والذي لا مجال لإنكاره أن الإمام (عليه السلام) امتنع عن البيعة لأبي بكر حتى وفاة الصديقة الزهراء، وانه لم يبايع إلا مكرهاً، وهذا يدل على أنه لم يقبل شورى بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بنظرية الشورى مع هذه المخالفة الشديدة.

ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:

ـ مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب: 1: 72 / 5: 153، الاستيعاب وأسد الغابة في ترجمة أبي بكر ـ كنز العمال 3: 140، أنساب الأشراف 1: 586. تاريخ ابن عسكر 3: 174 مسند بن حنبل 1: 55، فتح الباري في شرح صحيحة البخاري 5: 143. سيرة ابن هشام 4: 338، الإمامة والسياسة 1: 12، مضافاً الى المصادر الخاصة التي تطبق على هذا الأمر.

ـ في الخطبة (2) : "هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه بهم اقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائص دينه.." ثم يصف آخرين اعداء آل محمد.. "زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه ابداً، هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذا رجع الحق الى أهله ونقل الى متنقله".

وهذه الخطبة كانت اثناء انصرافه من صفين ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً والان قد عاد الى أهله، فهو تنديد بما كان قد جرى سابقاً مما يسمى بالشورى.

ـ وفي الشقشقية: "فيا لله وللشورى" فاذا كان هذا تعبيره عن الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم وتقريعه لها فكيف يكون قد أقر بالشورى. فالشورى في نظر الامام (عليه السلام) استصواب الرأي في الامر المجهول الحال. "ومتى اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتى صرت أُقرن الى هذه النظائر". اما اذا كان الامر بيّن ومعالمه واضحة لا غبار عليها فلا حاجة الى استصواب الرأي وما بعد الحق الا الضلال.

ـ وفي خطبته (عليه السلام) : "بنا اهتديتم في الظلماء وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار.." (خطبة 4) .

فبأي مناسبة يتعرض (عليه السلام) لحقه وحقوقه آله المغصوبة.

ـ خطبة 87: "فأين تذهبون وأنى تؤفكون والاعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمّة الحق. وهم أعلام الدين وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن. وردوهم ورود الهيم العطاش..

ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر وأنزل فيكم الثقل الاصغر (اشارة الى حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام.

انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم عن هدى ولن يعيدوكم في ردى فإن بعدوا فابعدوا وان نهضوا فانهضوا ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فما أرى أحد يشبهه منكم".

ـ خطبة 100: "ألا ان مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء اذا هوى نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصناع واراكم ما كنتم تأملون".

ـ خطبة 74 حينما عزموا البيعة لعثمان: "لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".

ـ خطبة 109: "نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة".

فهنا يظهر الامام وجود صنفان في المجتمع الاسلامي وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسياً ودينياً.

ـ خطبة 152: في بيان صفات الله جل جلاله وصفات أئمة الدين:

"قد طلع طالع ولمع لامع وراح رائح واعتدل مائل واستبدل الله بقوم قوماً وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الائمة قوام الله على خلقه وعرفائه على عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. وهذا معنى: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية".

ـ الخطبة 154: في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) :

"فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن ان نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله وليحضر عقله وليكن من ابناء الآخرة فإن منها قِدم واليها ينقلب".

ففيها دلالة على العصمة وهي محصورة بهم.

ـ الخطبة 172: "الحمد لله الذي لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، وقد قال قائل: انك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل انتم والله لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب، وانما طلبت حقاً لي وانتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني. اللهم اني استعديك على قريش ومَن اعانهم فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي على أمر هو لي ثم قالوا: الا أنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه"..

فهل يوجد اصرح من هذا البيان على أحقيته ورفضه للشورى وما يسمى بسلطة الجماعة.

خطبة 178: "أيها الناس ان الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلد لها ولا تَنْفَسُ من نافس فيها، وتغلب من غلب عليها وأيم الله ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الا بذنوب اجترحوها وإني لأخشى عليكم ان تكون في فترة (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ولان رُدّ عليكم أمركم انكم سعداء وما علي إلا الجهد ولو أشاء أن اقول لقُلت عفى الله عما سلف".

وانظر ايضاً الى كتاب (62) لأهل مصر مع مالك الاشتر وكتاب (28) الى معاوية. وفيه يقول: "فإسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا ترفع وكتاب الله يجمع لنا وما شذ عنا وهو قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]".

وما ورد في كتاب سليم بن قيس ص 182 في جواب كتاب معاوية حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم قال لمن حمل كتاب معاوية: "ان عثمان بن عفان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين اما هو امام هدى حرام الدم. وواجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه أو امام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته فلا يخلو من احدى خصلتين والواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل ضالاً او مهتدياً مظلوماً كان او ظالماً، حلال الدم او حرام الدم، ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلا ولا يبدؤا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماماً عفيفاً عالما ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة.. ان كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه وان كانت الخيرة الى الله عزوجل والى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ورسول الله قد رضى لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والانصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان وعقد إمامتهم، ولى ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والانصار غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وان بيعتي كانت بمشورة من العامة فان كان الله جل اسمه جعل الاختيار الى الامة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعة وبيعة هدى وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني بإجماع منهم وان كان الله عزوجل الذي يختار له الخيرة فقد اختارني للامة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي".

فهذه تدل على أن حجاجه بالشورى حجاج تنزيلي وان الشورى يجب أن تكون على ميزان، والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة وانما تكون وظيفة الامة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار فليست الولاية والسلطة للشورى بل هي استكشاف. ففي هذه الرواية يبين الامام أن البيعة على نحوين بيعة هدى وبيعة ضلال، فالبيعة اذا كانت على الموازين وكان الامام واجداً للشرائط فتكون بيعة هدى أما اذا كانت على خلاف الضوابط فانما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به على الشورى تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف الامام (عليه السلام) .

ومما استدل به في المقام ما ورد في شرح النهج للمعتزلي ج 7 / 41 ان طلحة والزبير قالا للامام (عليه السلام) : اعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الامور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا. فقال (عليه السلام) : "ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما".

وقد استدل بها أيضاً على أن الشورى مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ ـ.

وهذا الاستدلال ممنوع ـ بيان ذلك:

1 ـ أن لو تقيد الامتناع للامتناع اي امتناع الجواب لامتناع الشرط فالعبارة تقيد أن مشاورتكما قد انتفت لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب الله والسنة والذي اوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو ان الخلفاء السابقين على الامام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام وفي كيفية اعمال المرجحات، أما الإمام فلم يقم بهذا العمل، والسر في ذلك ان الاعتقاد الحق هو انه ما من شيء يقربكم الى الله إلا وقد امرتكم به، وما من شيء يبعدكم عند الله إلا وقد نهيتكم عنه، فالقاعدة ان لا تخلو واقعة من حكم لله إلا أن هذا الحكم قد يخفى على العقول القاصرة غير المطلعة، أما من له احاطة بأحكام الله وسنة نبيه ومن عايش النبي في حلّه وترحاله لا يخفى عليه حكم حتى يحتاج فيه الى مشاورة البعض، نعم قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الاحكام الكلية على مصاديقها واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود إلا ان هذا بعيد عن مرام القائل اذ لا تكون الشورى منشئة للحكم حينئذ.

ومما ذكره (عليه السلام) فيه تعريض لمن كان قبله حيث كثر جهلهم بالاحكام الشرعية وليست المسألة بالنسبة اليه (عليه السلام) من باب الاستبداد في شيء.

ـ ومما استدل به ايضاً ما أشرنا اليه من محاولة توسط بعض القرّاء بين الإمام ومعاوية والكتاب السادس في نهج البلاغة والجواب عنه مضافاً الى ما مضى وإلى الاجوبة العامة وانه لم يرض بمن بايعه الانصار في سقيفة بني ساعدة انه اشترط لتحقق البيعة "فان اجتمعوا وسموه اماماً" فان الشرط المهم هو حصول الاجتماع المطلق ولا أقل عدم الاعتراض وهذا لم يحصل فيمن سبقه، أما معه (عليه السلام) فقد حصل ذلك الاجتماع ومن سكت فانه لم يعترض كعبدالله بن عمر وابو موسى وسعد بن أبي وقاص. ففي هذا التعبير تعريض بمن يشترط الاكثرية.

ـ ومما استدل به قوله (عليه السلام) : "اذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحائكم وأموركم شورى بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها".

الظاهر ان هذا النص مقتطع من جواب الامام (عليه السلام) المتقدم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.

مضافاً الى أنه ذكر عنوانين امراؤكم خياركم وأموركم شورى بينكم فمورد الأمراء غير مورد الشورى وهما من واديان يختلف احدهما عن الاخر، وفي هذه العبارة ايضاً يرد البحث الذي ذكرناه في (وأمرهم شورى بينهم) وان الاضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شيء بل ما يضاف اليهم فقد يكون في بعض الصور لا تكون لهم القابلية في البحث في هذا الأمر وهو خارج عن اختصاص الامة، كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشورى وقد ذكرنا انها ندب وارشاد الى صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الامور المختلفة واستصوابها.

ـ ومما استدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : من جاء يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الامة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه فان الله قد أذن بذلك:

وهذا الحديث لا يدل على مرادهم أيضاً، وذلك لأنه مهما كانت النظرية المدعاة فيجب على الأمة أن تقاوم امام الضلال الذي يتولى امورها غصباً بقوة السلاح، وفي هذا جواب على أحد نظريات العامة التي اجازت تولي السلطة بالسيف، فالغاصب مهدور الدم حيث أنه قد غصب أعظم وأخطر الامور في المجتمع الاسلامي وهو ولاية الامر، وقد عنى (عليه السلام) (من غير مشورة) الغصب وعدم رضا الناس به، لا أنّ للشورى سلطة وولاية في هذا الأمر، و لا دلالة فيه على ارادة اعطاء الشورى سلطة وولاية، وذلك لان نفي الشيء لا يعني إثبات ما عداه، لاسيما إذا كان محتملا لوجوه لكنه ذكرها من باب الحجاج مع القوم، والتعريض بسلطة بني العباس وغيرهم الذين تولوا الامور بالسيف والقوة والقهر.

ـ ومما استدل به على الشورى ما ورد عن الصادق (عليه السلام) : "من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه" "من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام جاء الى الله تعالى اجذم" اصول الكافي 1 / 405.

وما ورد في النهج خطبة 127 "والزموا السواد الاعظم فإن يد الله على الجماعة واياكم والفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب".

وهذه الروايات يتضح المقصود منها اذا عرفنا المقصود من الجماعة.

ففي رواية عن ابي عبدالله (عليه السلام) : سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جماعة امته؟ فقال: جماعة امتي أصل الحق وإن قلّوا.

وفي اخرى قيل: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ما جماعة امتك؟ قال: من كان على الحق وإن كانوا عشرة.

وفي رواية عن الامام علي (عليه السلام) : الجماعة أهل الحق وان كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وان كانوا كثيرا.

وعن الرسول (صلى الله عليه وآله) : ان القليل من المؤمنين كثير (24) . وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو على الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.

ـ ومما استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحث عليها في كتاب الوسائل في كتاب الحج في أبواب أحكام العشرة باب 21 ـ 26 ويُلاحظ على الاستدلال:

آ ـ انها واردة بعموم يشمل الامور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي حيث لا توجد سلطة للجماعة على الفرد، فيجب ان يكون معناها الوحداني العام هو الاراءة نحو: "من لا يستشر ندم" "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" "ولا ظهير كالمشاورة" "خاطر بنفسه من استغنى برأيه" فحينئذ الاستشارة هي اصابة الواقع والوصول الى نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الانساني بالآراء الاخرى فتمكنه من استكشاف اصوب الآراء.

ب ـ ان الروايات المذكورة تورد صفات في المستشار من الورع والعقل و"ان مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا" وانها تارة تكون نافعة وتارة ضارة، واذا كانت بمعنى سلطة الجماعة فأي معنى للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط ان يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة وانما تريد الروايات بيان مَن له اهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وان يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الاخرى. ولذا ورد "من استشار اخاه فلم ينعمه محض الرأي سلب الله عزوجل رأيه".

ـ ومما استدل به ايضاً: "اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم".. ونحوها مما ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود 2: 34.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: انها من باب الندب فينظر الى ارجح القوم عقلاً فيؤمره ويستهدي برأيه، وفي كتاب الوثائق السياسية ص 120 في معاهدته مع أهل مصر "وان ليس عليكم امير إلا من انفسكم او من اهل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ".

وواضح منها ان الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني على أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ امير عليهم، ومفاده يدلل على أن الامر لا يكون بيدهم ابتداءً بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة الاستفعال والمشورة مفعلة والشورى فعلى وهي كلها بمعنى واحد لاتحاد المادة. وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكد ما ذكرناه من معنى الاستشارة:

1 ـ صحيحة معمر بن خلاّد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد، فقال: أشر علىّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك؟ فقال ـ شبه المغضب ـ: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد.

2 ـ صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني ابو عبد الله (عليه السلام) في أمر فقلت: اصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال: نعم اذا استشرتك.

3 ـ في موثقة الحسن بن جهم قال: كنا عند ابي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر أباه (عليه السلام) فقال: ان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الاسود من سودانه فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان.

4 ـ وفي النهج ان الامام (عليه السلام) قال لابن عباس وقد اشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير عليّ فإذا خالفتك فاطعني (25) .

فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشورى والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول الى نتيجة أكثر دقة واقرب الى الصواب لا ان للمستشار سلطة وولاية على المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالى:

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } [النساء: 65] فالآية تتناول قضية مهمة وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين افراد المجتمع حاكماً ومحكوماً فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر نشير إلى ان الوظائف والتكاليف سواء الاجتماعية او العبادية على نحوين:

أحدهما ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة. والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة حيث لا يكفي وجود الامام العادل لإقامتها بل يجب أن يتواجد افراد المجتمع لإقامتها، ويقع على عاتق كل طرف منهم قسم من اداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد فهو وظيفة مشتركة بين الافراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع فلابد من اجتماع واتحاد ارادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل فإن الرسول الاكرم هو المنصوب من قبل الله قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين، لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلا اذا التزم المسلمون بذلك وهي وظيفتهم إذ عليهم واجب الرجوع الى الرسول فيما شجر بينهم وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم اليه تنصيب منهم له (صلى الله عليه وآله) ولا انه الذي اعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند الله عزوجل وهذا مما اتفق عليه كل المسلمين فليس المراد من (يحكموك) هو انشاء منصب الحكومة لك، بل يعني اقدارك خارجاً تكويناً ومعاونتك على تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.

ونفس المعنى الوارد في الآية الكريمة يذكر في مسألة الشورى وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: "ولاّني المسلمون الامر بعده" "فانّ ولّوك في عافية..." "ان تولوها علياً". فهو لا يعني انشاء الامة للولاية وتنصيبهم للوالي بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي على كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصبه الله عليهم والياً وحاكماً، فالانصياع لأحكامه والانقياد لأوامره وظيفة افراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا ان نعود لأية: (وامرهم شورى بينهم) فنضيف اشكالاً مهماً الى الاشكالات السابقة وهو أن الامر المهم المسند الى المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فاذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية فذلك بمفرده لا يدل على سلطة الأمة في امر الولاية بل يبقى السؤال والاجمال أنه ما هو طبيعة الامر المهم المسند اليهم وما هي وظيفتهم اتجاهه هل بنحو الفاعلية والاصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو ان الآية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع وقد جاءهم التأنيب على التقصير في ذلك {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87].

فتقاعسهم عن اقامة صرح الهداية واستكبارهم عن متابعة الرسول سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف على نحو الفاعلية ومن طرف آخر على نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة (عليهم السلام) الناس بأنكم وليتمونا فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها وهي انكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها الله عليكم وهي الرجوع الينا، والامام علي (عليه السلام) في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين ان كانت الخيرة للامة وان كانت الخيرة لله. وأنه الحق فالأمة قد عملت بوظيفتها من الإئتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة الله.

فهذان خطان متقابلان أحدهما يسند الامر للأمة على نحو يكون لها الولاية وهو ما رفضناه منذ بداية البحث والاخر أن الامر بيد الله يجعله حيث يشاء وعلى الامة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر من نصبه الله. وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلى ضوء ذلك اذا فسرنا (امرهم) بهذا النحو يكون كيفية تقبل هذا الامر وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة تكون بالتداول والتشاور، والانصياع والمتابعة للقائد المنصوب ويجب أن يكون برضاهم.

وقد ورد عن الصادق (عليه السلام) : ان الأئمة أهل العدل الذين امر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله (26) .

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشورى.

وقد ذكرت بعض الاشكالات:

1 ـ انه لو كان المراد من الشورى هو المداولة الفكرية فقط من دون لزوم اتباعهم فان عقد الاستشارة في الامور المهمة سوف يؤدي أوّلاً الى عدم تفاعل المستشارين في ابداء الرأي. وثانياً سوف يخلق مشكلة اجتماعية حيث تتعدد الآراء ولن يكون هناك حسم لهذا الامر المهم، بخلاف ما اذا قلنا بولاية الشورى والاكثرية فسوف تكون ضابطة وميزان الاكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامة.

والجواب عن هذا الاشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الاسرة الى القبيلة الى القرية الى البداوة الى التحضر والتمدن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الانسان خلال فترات التطور هذه، حتى أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوى حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهى به المطاف حالياً الى حضارة المعلومات من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدلل أن أحد ابرز وسائل السيطرة هي الهيمنة على المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد على الالف عام ندب الى هذا الأمر المهم، وأن يكون القائد مهيمناً على افكار الناس جامعاً لمعلوماتهم ومستمعاً لآرائهم فهذا منهج مهم في حد ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فقد عولجت من جهتين، الاولى: ان أحد ثمار الشورى هو كون الجميع على مستوى من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع على طريق الرقي، وبعد استقصاء الآراء المختلفة سوف يتضح لدى المستشير ولدى الاطراف الرأي المتين من الهزيل.

ومن جهة أخرى تعمل الاستشارة على توحد الارادة في مجتمع المستشارين فقد عالجته نظرية الولاية بحصر الارادة والعزم بالشخص المنصوب خليفة لله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فإرادته هي التي تكون لها السيطرة على جميع الارادات وتخضع لها كل الارادات، وكذلك الحال في نائبه العام وهو الفقيه، وإن كانت ولايته على نطاق محدود بدائرة التطبيق للأحكام الشرعية في مجال القوى الثلاث.

2 ـ وقد يشكل انه اذا كان المراد (وامرهم شورى بينهم) هو الامر المهم الذي يمس المجموع فهذا يعني انه من الامور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة في نفسها مستحبة.

والجواب عنه ان الشورى تكون في كل مورد بحسبه فان كانت في الامور التي طبيعتها خطيرة وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فان الشورى والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم النائب من قبله أن يستبد برأيه، كما لاحظنا في فتوى الفقهاء في باب الجهاد فمع ان الافتاء بالجهاد هو بيد الفقيه الا أنه ملزم بالرجوع الى اهل الخبرة العسكرية في ذلك، وإذا لم يكن الامر المجموعي بهذا الوقع والخطورة فتكون الاستشارة ندبية وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.

3 ـ وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشورى على سلطة الجماعة وولاية الشورى وذلك بقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} حيث ان متعلق العزم غير مذكور فهو مطلق، لكن لما كانت الآية في صدد بيان ما يميز رأي الجماعة فيكون المراد منه هو رأي الجماعة اي فاذا عزمت على ما يرون وما يريدون فتوكل على الله.

وهذا مردود حيث انه من الواضح ان العزم فاعله هو الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والظهور العرفي (27) شاهد على ان المراد هو تصميم نفس فاعل العزم اي بعد ان نظرت أنت الى هذه الاقوال المختلفة والآراء المتضادة فاختر منها ما شئت واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الامر بالتوكل على الله وعدم خشية الآخرين، أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه اراء الاكثرية فتوكل على الله فيما عزمت مهما كان ذلك وان كان على خلاف ما يرونه، وواضح ان الآيات الكريمة وردت في غزوة احد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلف البعض الاخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنهم بالله بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهذا كله يدل على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الاكرم وما عزم عليه بغض النظر انه وافق الاكثرية ام لا.

مضافاً الى أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره الله عزوجل {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان على خطأ.

الخلاصة:

ان التعبير بلفظ الشورى المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشيء يفهم من النطق.

فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الاخرى لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس على علمه، فهي توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفاوضة في الكلام ليظهر الحق.

سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هو الحال في سلطة الانسان على أمواله اذا اراد ان يقدم على بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الى الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.

وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشورى، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهات النظر يكون للولي على الشيء بعد استطلاعه على الآراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في الزعامات الوضعية البشرية حيث تعتمد على لجان وخبرات ـ مستشارين ـ (28) في كل حقل ومجال مع عدم افادة ذلك لدى المدرسة العقلية البشرية ولاية لأفراد تلك اللجان يشاركون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عد الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة بل افضلها، والاستخارة هي طلب الخير لا تولية المشيرين مع المستشير، فلا يتوهم ان فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي لغو اذا لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أي فائدة أبلغ واتم من استكشاف الوالي واقع الاشياء وحقائق الامور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم الى علمه، فان ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أو على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.

فمجيء مادة المشورة في قوله تعالى يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخرى، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الآية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع (وامرهم شورى) حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.

ومما يعزز ما تقدم قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] فانه تعالى ندب الى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان ولاية الرضاعة ذات الاجرة بيد الزوج فقط، وان كانت الحضانة في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ففيه ندبة من الله للرسول (صلى الله عليه وآله) الى مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه (صلى الله عليه وآله) (والعياذ بالله) إذ ذيل الآية صرّح بان العزم على الفعل مخصوص به (صلى الله عليه وآله) .

بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه (صلى الله عليه وآله) وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.

احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: ان يقتدى به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره (صلى الله عليه وآله) قبل واقعة بدر ـ الكبرى والصغرى ـ وغيرها من الوقائع.

الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم على الادوار المختلفة والتسابق الى الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكى يتعرفوا على حمة قرارات الرسول وافعاله (صلى الله عليه وآله) .

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له (صلى الله عليه وآله) ، بدعوى أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الى جبل أحد...

ومما يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) المطلقة، ولذلك ترى أن كثيرا من مفسري العامة فسروا الآية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى :

قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب ـ ككثير من الآيات القرآنية الدلة على ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي (عليه السلام) وذريته ـ وبين ما يزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولى هو مع وجود المعصوم (عليه السلام) وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده (عليه السلام) كما في زمن الغيبة.

وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشورى عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي (عليه السلام) مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن (عليه السلام) الى عصر الغيبة، حيث انهم (عليهم السلام) لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.

وان جعل المدار على وجودهم (عليهم السلام) وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض "اللهم بلى لا تخلو الارض من قائم لله بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج الله وبيّناته" (29) .

ولا فرق بين حضور الامام وغيبته بعد كون عدم تقلده زمام الامور بالفعل غير مؤثر في كونه اماما بالفعل ـ بما للإمامة من عهد معهود إلهي ذات شؤون عظيمة بالغة ـ كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين "الحسن والحسين امامان ان قاما او قعدا" فقعودهما عليهما السلام بسبب جور الامة لا يفقدهما الجعل الالهي والخلافة الالهية على الامة.

وهل من الامكان ابداء الاحتمال انه (عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الالهي، اذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين، ومن هنا كان تمسك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبرى بنصبه لهم نوابا في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي "واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله" فقوله (عليه السلام) "فانهم حجتي عليكم" استنابة منه (عليه السلام) للفقهاء.

وهل يتعقل ان يكون لله حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالأصل، ومنتخب الامة حجة اخرى بالأصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية على ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه (عليه السلام) وعجل الله فرجه الشريف في الغيبة لا انها للفقيه بالأصالة مع خلعه (عليه السلام) عن ذلك المنصب.

هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم وعدم الظهور هو المذكور في قوله (عليه السلام) "لو كنتم على اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج" ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.

نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك الله البشر وحالهم مع قوانين دينه على اوراق وتكون يد الله مغلولة ـ والعياذ بالله تعالى ـ امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.

ومن الطريف ان الدعوى المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب من الفقاهة والكفاءة والامانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس الى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الاطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه الا في المعصوم (عليه السلام) ، وكأن ذلك أوْبٌ الى النص مرة أخرى، اذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم نصبه (عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استفيد من قوله "فارجعوا" الايكال للامة في اختيار احد مصاديق النائب العام الجامع للشرائط ولا يعني ذلك أن النصب بالأصالة من الامة بالذات، بل منه (عج) بالأصالة ومن الامة بتبع ايكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والافتاء عند التساوي في الاوصاف.

ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة على نفسها بالأصالة من الله تعالى في اختيار خليفة الله في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحى ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللا بدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي (عليه السلام) في النهج تقتضي تنصيب الامير على الناس بالذات بالأصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع الله تعالى واذنه اذ الولاية لله تعالى الحق، والامارة تجري على يد الفرد البشري المخول منه تعالى في ذلك.

ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء (قدس سرهم) استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة في كلماتهم.

وبذلك ننتهي الى أن الآية هي في صدد الاشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الافق، وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية وأين هي منطقة السلطة الفردية ومن هو من هم فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات وهو الله تعالى ومن ثم رسوله (صلى الله عليه وآله) وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالا في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز على هذه الجهة في الآية ان مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الاخرين وبين جمع ارادة الاخرين، فالاول هو موازنة بين الافكار والآراء من المستطلع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والارادة، وان الشركة في الاول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الآية هي في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الى ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعد كون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.

بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الامر ـ كما استظهره كثير من المفسرين ـ أي بمعنى شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الاضافة الى ضمير الجماعة هي وحدة سوق الافعال في الآيات كما في {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [الشورى: 37]، وأما لفظة (بينهم) فهي ظرف لغو متعلق بمادة الشورى لكونها مداولة بين الآراء ومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطول للطائفة الاولى من ادلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة توصلنا الى نتيجة ان مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الاخرين. وان لا يكون اقدام على مهام الامور الا بعد المداولة الفكرية وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة بل تبقى السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الآراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح الان منهجاً حضارياً متبعاً بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف :

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ ـ قوله تعالى: {لْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71].

أن الظاهر من الآية الكريمة اسناد الولاية الى الكل فالمولى هو الكل والمولى عليه كذلك فهي ولاية الكل على الكل وهذا يعني أن أمر الامة بيدهم، وهذه الولاية تعم ولاية النصرة (30) وولاية الاخوة والمودة. والامر بالمعروف معنى عام شامل (ويذهب محمد رشيد رضا الى ان الولاية معنى عام يشمل كل معنى يحتمله ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معنى الولاية كما في الانفال 8 / 73.

ب ـ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفة الامور حيث ان الامر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الاسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مثبت لنحو من الولاية من للآمر وللناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب او المنع الخارجي بالقوة.

وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتى تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.

بل ان محمد رشيد رضا (31) يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى اصل الحكم في الاسلام اقوى من دلالة آيتي الشورى.

وفي كل ما ذكر نظر بيان ذلك:

1 ـ مادة (اولياء) و (ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً (32) عديدة واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة الى تلك الموارد القول ان اكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة. والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية فإنها قد وردت ضمن آيات يقارن فيها الحق تعالى بين فئتين من الناس هم المنافقون والمؤمنون ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك (33) حيث تخلفوا عنه (صلى الله عليه وآله) واستهزأوا به فذكر ابتداءً وصف المنافقين بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالى والعذاب في الاخرة.

وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون وهم كالبنيان المرصوص في توادهم وتناصرهم وتحابهم. ويذكر صفاتهم التي هي على طرف النقيض من المنافقين فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال المؤمن ولي المؤمن معناه أنه ينصر اولياء الله وينصر دينه والله وليه بمعنى أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله. والنتيجة الأخروية وهي رحمة الله تعالى والوعد بالجنة وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا الله فنسيهم والمؤمنون يطيعون الله ورسوله وسيرحمهم الله.

والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها الانهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء والمؤمنون ينصر بعضهم بعضاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة الى الولاية بمعنى الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

ومما يدل على ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض على البعض، مضافاً الى أن ذيل الآية ويطيعون الله ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وانصياعهم ومتابعتهم.

2 ـ اما الآية الثانية فإن غاية ما تدل عليه أن الامة يجب عليها تشكيل مثل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الامة بل السلطة تكون من قبل الله تعالى وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الامة وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل الله تعالى وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

3 ـ أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور انها داعية الى الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او الاجتماعي في كل المجالات والشؤون، ومن الظاهر ان الداعي الى كل سبل الخير والآمر بكل معروف دق او جل وعظم وتوقفه خبر بماهية المنكر، وحائزاً على العصمة العملية كي لا يتوانى عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر لا تأخذ في الله لومة لائم، ولا يعدل به هوى عن ذلك. فتنحصر وظيفتهم أي الامة في التكوين والرجوع الخارجي الى تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

4 ـ ان الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسرة وحاكمة في الدلالة ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع اليها وتمكينها خارجاً.

5 ـ ان في الآية احتمالاً آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب الحج الكفائي غير المشروط على كل المسلمين في كل سنة أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت هو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشروط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت الله الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.

وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى اقامة العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة وتارة ننظر اليه بنحو شامل وعام لجميع الافراد والآية ناظرة الى الثاني والدليل على ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ... وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 102، 103] وهذه كلها ناظرة الى تكاليف اجتماعية يقوم بها افراد المجتمع ويتوجب على المجتمع اقامتها والعمل على ايجادها خارجاً، وان الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله (عليه السلام) : "انما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم". فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوباً كفائياً وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: البيعة :

1 ـ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].

2 ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] .

تقريب الاستدلال:

ينطلق المستدل من المعنى اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة على ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه واعطاه خالصة نفسه (34) .

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري ونقل الولاية على هذه العين للمشتري ولا يصح البيع إلا ممن له الولاية والصلاحية للتصرف في المبيع. والبيعة هي انشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، واسناد هذه المبايعة للامة يدل على أن الولاية هي للأمة وهي تنقلها الى الرسول (صلى الله عليه وآله) او للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

ـ عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة (35) .

وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضى السبر التأريخي حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولى والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين (عليهم السلام) . ومبايعة الامام الرضا (عليه السلام) وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) (36) .

وتقريب الاستدلال بالروايات:

1 ـ نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث ـ فصل 29 ان البيعة هي العهد على الطاعة كأنما المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وامور المسلمين وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد فأشبه فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.

2 ـ ما ورد من التعبير انه عهد الله وهذا ينسجم مع قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124] . ومنه يعلم ان الامامة والحاكمية تنوجد وتتولد من البيعة.

3 ـ ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم. وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الاسلام.

4 ـ من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص الله عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البيعة له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعى ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:

1 ـ اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء (37) نصوا على ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو ليس كالحيازة والابتكار والارث. بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب ان يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين على مورد المبايعة ثم ينقله الى آخر. فنفس دليل البيعة لا يدل على وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة. اي اذا فرض كون سيادة موجودة فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الامة الى الحاكم (38) ، ويؤيد ذلك ان نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن انشاء الامرة والحاكمية بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة، وفي مسند أحمد بن حنبل قلت لسلمة بن الاكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية؟ قال: بايعته على الموت. فلم تكن المبايعة على الترشيح او التولية.

2 ـ لو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وان المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا وان المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن، هل بايعوا على امور لهم صلاحية تركها والالتزام بها فاختاروا الثاني. ام ان المبايعة كانت على الحاكمية.

اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية على الاطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام.

فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هي من الله، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية على الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ في البيع.

3 ـ النقض بالنذر والعهد واليمين فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر وحينئذ يكون الوجوب آكد ويكون وجوبان، أحدهما: سابق على النذر، والآخر: لاحق عليه. ويفسر الفقهاء ذلك بانه انشاء عهد لله عزوجل ومورد البيعة قد لا يكون امراً اختياره بيد المكلف بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهداً زائداً. والبيعة كذلك فالمبايع يُنشأ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن اصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة وليس سبب الحاكمية هو المبايعة بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله) والامام (عليه السلام) .

فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغليظ التكليف والثبات على مَن نُص على ولايته. وغاية ما يفرق بينها وبين النذر واخويه، أن الاخير في الامور العبادية، والاول في الامور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات منها موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: انه قال له: ان الايمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: ان كان ذلك كما تقول فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنا لا ندري بزعمك لعل ضميره الايمان فهذا القول نقض لامتحان النبي (صلى الله عليه وآله) من كان يجيئه يريد الإسلام، واخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد، قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة من حيث لا يعلم. (البحار ج 68 / 241 نقلا عن قرب الاسناد للحميري) ومفاده: ان الايمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجه النقض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ والعياذ بالله ـ في قتاله للمشركين اذ قد يكون آمن وتحقق الايمان في قلبه دون لسانه، ونقض آخر أنه لم يطالب (صلى الله عليه وآله) من أتاه يريد الاسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

4 ـ ان ما ذكر من موارد المبايعة في الآيتين أمور يجب على المبايع الالتزام بها عند انشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام ولا تحتاج الى البيعة لأجل ايجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً على المسلمين قبلها وكان واجباً عليهم الاطاعة مما يدل على أن البيعة لم تنشأ اصل الالتزام بل هو تغليظ وتعهد ظاهري.

5 ـ من المسلمات والبديهيات الدينية ان منشأ السلطة هو الله عزوجل {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [الأنعام: 57]، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايع وهذا يعني وجود سلطنة للفرد على مورد البيعة في رتبة سابقة وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وان السلطنة لله عزوجل وقد استخلف الرسول (صلى الله عليه وآله) في أيام حياته.

6 ـ ان القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق بل يجعلها مقيدة بقيود أوجبها الشارع والعقل فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين هما الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفاتان لا تكونان بنحو واحد عند كل الأفراد بل تختلف بنحو متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر فإن العقل سوف يعين من هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال الى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة ـ طبقاً لنظرية النص ـ فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلى كل حال فإنّ التعيين إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الامر الى ان الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

7 ـ ان الروايات طافحة بعبائر امثال "الأمر لله يضعه حيث يشاء"، وهذا يعني ان البيعة ليست تولية وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين عامر بن صعصعة حيث دعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك. قال (صلى الله عليه وآله) : الأمر لله يضعه حيث يشاء.

8 ـ ان البيعة نوع من العقود والعهود وهذا يعني انها تصنف في باب المعاملات فيجب ان نعود قليلاً الى الادلة الواردة في باب المعاملات، فإن الفقهاء يصنفون الادلة هناك الى قسمين أدلة صحة وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة هي الأدلة التي تتعرض الى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرض الى المعاملة الصحيحة وانها لازمة ولا يجوز فسخها. وبتعبير آخر الفرق بينهما موضوعاً ومحمولاً.

أما موضوعاً فموضوع ادلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع ادلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع. أما محمولاً ففي ادلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة واثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع أما ادلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها، والتفريق بين هذين الصنفين من الادلة مهم جداً حيث لا يمكن التمسك بـ "المؤمنون عند شروطهم"، اذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة. بل من ادلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل بأن ادلة البيعة اين يمكن تصنيفها في أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضى التعاريف اللغوية وانها بمعنى العهد فانها تصنف في الثانية وهذا يعني أن هذه الادلة لا تتعرض لمورد البيعة وان المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا؟ بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة ومن أدلة اخرى أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط تعرض على ماهيات اولية مفروغ عن صحتها.

والخلاصة ان البيعة انشاء الالتزام بمفاد ثابت صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع:

وهنا قد يورد نقض او تساؤل ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من اهل المدينة، وأن امير المؤمنين (عليه السلام) لم يرض أن يستلم السلطة إلا بعد البيعة، وهذان التصرفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) قبل اخذ البيعة قام بالدعوة الى نفسه وبيان حقيقة رسالته فحصل انجذاب افراد المجتمع اليه ومن ثَمّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في امير المؤمنين (عليه السلام) فبعد ايمان العامة بالإمام علي وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكك والانهيار الذي صادف الدولة الاسلامية حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الاكرم حيث أنه ينتقل الى مرحلة المواجهة مع المجتمع المكي، فيجب ان يطمئن الى التزام جماعته وتعهدهم بذلك الالتزام.

وهكذا يقال في ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) وولاية الحسن (عليه السلام) وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين (عليه السلام) بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير اخذ البيعة للحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

ـ واما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الاكرم في الحديبية فسببه ان المسلمين لم يريدوا ايقاع الصلح مع المشركين خلافاً لرأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) الذي كان يرى فيه انتصاراً للمسلمين واذلالاً للكافرين حيث اعترفوا للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسلمين لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطن لذلك، وازدادت الشقة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة أراد الرسول أن يجدد المسلمون التزامهم وتعهدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذكر من الروايات الاخرى تؤكد كلها هذا المطلب.

ـ واما خطب الامام (عليه السلام) ففي بعضها يقيم الامام الحجة على مبنى الخصم وهو اعتبار البيعة شرط في تولي الحاكم وان كانت على خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به (عليه السلام) .

ـ واما قوله للذين تخلفوا عن بيعته: ايها الناس انكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وأن الخيار للناس قبل ان يبايعوا فاذا بايعوا فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الاسلام واتبع غير سبيل اهله.

فبالإضافة الى ذلك الجواب فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم حيث يبتدأها: ان كانت الإمامة خيرة من الله ورسوله فليس لهم ان يختاروا وان كانت الخيرة للناس فقد بايعني الناس بالشورى..

رابعاً:

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالى الناس عموماً بوجوب الجهاد واقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء واقامة الحدود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة: 38] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] فاجلدوا ولا تأخذكم اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] . وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها ان هذه الآيات تحدد وظيفة الانبياء والرسل بالتبليغ أما نفس الحكومة وادارة أمور المجتمع والوظائف العامة فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها :

1 ـ قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافة، وبتعبير آخر إن الدولة والحكم جهد مشترك بين الناس والحاكم ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده، ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

2 ـ لو سلمنا بدلالة الآيات على المدعى فنتساءل كيف يمكن للناس ان يقوموا بتلك المهام فهل يؤدونها بنحو المجموع وهذا غير ممكن بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولى هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل ان الواجب هل يسقط عن الامة وبقية الناس؟ الجواب بالطبع لا، فالواجب يبقى مع وجود هذا الجهاز.

وبتعبير آخر ان وجوب هذه الأمور على الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام فانه يبقى على الناس الطاعة والالتزام بما يقرره هذا الجهاز. فهذه الآيات على فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

3 ـ إن أي فعل له جهات ثلاثة أحدها ماهية الفعل وكيفية ادائه وشرائطه. والثانية الذي يقوم بالفعل، والثالث الذي يقع عليه الفعل (القابل) .

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان احدى هذه الجهات ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الاخرى فقوله (عليه السلام) : نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر، لبيان الجهة الاولى ولا يمكن الاستفادة منها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الآيات في صدد بيان الجهة الاولى وهي ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الاسلامي. أما مَن هو الذي يقوم بهذا العمل فإن الآيات غير متعرضة له. فهذه وظائف خاصة واجبة على عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً على الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي على عامة المسلمين ولا ينافيه كونه واجباً عينياً على الولي او الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشورى.

4 ـ ورد في ذيل آية سورة الحديد: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد: 25] فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلغين عن الله وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة وليميز الله الخبيث من الطيب.

5 ـ إن المستدل استدل بظاهر هذه الآيات وأن هذه الاوامر عامة للناس لكن غفل عن آيات اخرى كان المخاطب فيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وحده (جاهد الكفار ـ فاحكم بينهم بالعدل) .

وهذا يعني انه لا يمكن الاغفال عن هذه الآيات، ووضعها بجانب تلك الآيات حتى يظهر لنا ما هو الواجب على الامة، وما هو الواجب على المرسلين، ولا يمكن النظر اليها بنحو منفصل عن بقية الآيات التي تثبت الولاية ووظائف الولاة، وادلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات بل تكون قرينة على تعيين مفادها.

 

خامساً: آيات الاستخلاف :

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } [الأنعام: 133] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ } [الأنعام: 165] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72]. {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 39].

وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلوا عمارة الارض من قبل الله جل وعلا ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي احدهم وتأميره واعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر طبقاً لنظرية النص أن هذه الآيات هي اذن عام بالاستفادة من خيرات الارض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. اما الولاية الخاصة والتأمير فهو أمر آخر لا يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة :

1 ـ ان غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الامة بالوظائف العامة فيرد عليها ما أوردناه هناك والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم اعمار الارض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الافساد والاهمال.

2 ـ يصرح كثير من المفسرين ان هناك نوعين من الاستخلاف احدهما عام يشمل جميع البشر والاخر خاص وهو الذي يتعرض فيه للولاية وهو خاص بمن يصطفيه الله تعالى (البقرة: 30 ـ 35) وخص من اصطفاه بخصوصيات منع منها الاخرين كالعلم اللدني واسجاد الملائكة له. وكذلك راجع سورة ص اية 26 والنور آية 25, والآيات المذكورة في هذا الوجه هو في الاستخلاف العام وهو غير ناظر للولاية.

3 ـ ان آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض اعمار الارض للبشر تكويناً، اما تشريعاً فانه لم يفرضها لمطلق البشر بل لمن توفرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام الله وطاعته، وأن الله لا يريد صرف ومجرد الاعمار البشري المادي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 38، 39]. وهذا وجه التعبير بالفيء على ما استولى عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب بمعنى المال الراجع فلم يعتبر للكفار صلاحية التملك، واعتبر لخليفة الله نبيه (صلى الله عليه وآله) ولاية الاموال العامة في الارض.

سادساً: آية الامانة :

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .

يوجد للآية تقريبان:

الاول: ان يكون المراد من الامانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع {وَإِذَا حَكَمْتُمْ} بمعنى ان الحكم بين الناس امانة، وأن من يملك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث أنهم المخاطبون بذلك، فاذا وُلي بعضهم على بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: ان الامانة وهي الحكم بين الناس بالأصالة، وعند وجود المعصوم فان الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه فإنها تعود للامة.

وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

وقد فسرت الامانة تارة بالتكاليف وأخرى بالأحكام وعلى كليهما ينفع في المقام، اذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالأمانة بيد الأمة اما بالأصالة مطلقة أي في عرض النص أو انها في طول النص.

والجواب عن هذا كله :

لو لاحظنا آية سورة النساء لوجدنا انها ابتدأت بضمير المخاطب {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [النساء: 58] وفي ذيلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقد تغير الاسلوب إلى الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في الأولى هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب الى عامة الناس لطاعة أولي الأمر. وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر (عليه السلام) : " إن احدى الآيتين لنا والاخرى لكم" وقد ذهب بعض الكتّاب إلى تفسير الرواية ان الآية الاولى هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب إذ أن الخطاب في الثانية بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهو خطاب عام، والآية الاولى وان كان الخطاب فيها عاماً إلا انه لا يعقل توجيهه لكل الناس لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلى فرض التنزل وان المخاطب في الآية الاولى هم عامة الناس فهي أصرح على نظرية النص حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عمليا ويمكنوا من هو أهل لذلك وهم الواجب طاعتهم.

أما بقية الآيات فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرض الى ولاية الامر بالخصوص.

وبعبارة أخرى أن ذيل الآية من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله ـ مما يدلل على أنها متفرعة منهما لا من تنصيب الناس ـ شاهد على أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم لان اللازم على الناس المتابعة والانقياد، ومن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد الله الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة لا العهد من الناس.

سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول عن الامة:

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] ، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] وغيرها من الآيات ق 45، النحل 125، الغاشية 21، يونس 99.

وتقريب الاستدلال أن هذه الآيات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الامة وانه ليس مسؤولاً عنهم اذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل على انه ليس من مهام الرسول الولاية في الاصل.

والجواب عن هذا الاستدلال انه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة على بيان معناها، حيث ان الآيات بصدد الإشارة الى مطلب مهم بعيد عما يشهدون بها عليه، وهو أن الايمان الذي هو مدار النجاة في الآخرة لا يمكن للرسول أن يُلجأ أو يُقسِر عليه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يتألم لما يرى من صدود المنافقين وهو الذي أرسل رحمة للعالمين، وما يتحلى به من رأفة وشفقة عليهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .

مضافاً الى ان الرسول كان رحمة للناس وكان يظهر شفقته وحزنه حتى على المنافقين، وان الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الايمان والدين لا في مورد ادارة المجتمع ونحوه، كما ان هذا التفسير لا ينسجم مع الآيات الصريحة بأن على الرسول اقامة العدل سواء في مجال الاقتصاد والاموال أو في الحقوق والمنازعات السياسية أو الفردية، والحكم بين الناس والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة. والآيات التي تأمر النبي بالجهاد {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] فإنها صريحة في وجوب اقامة الحكم الاسلامي وحمل الناس على العيش في ضمن قوانين الدولة الاسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والايمان الباطني فإن هذا أمر غير قابل للإكراه فيه، وفي هذا المجال نرى تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول (صلى الله عليه وآله) عنهم، أما الجانب الاول فإن الآيات صريحة في وجوب اقامة الحكم على الرسول (صلى الله عليه وآله) وجعل كلمة الله هي العليا.

ثامناً:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

استدل البعض بهذه الآية الشريفة على ان الحكم عن طريق الشورى، وأنه يكون في طول النص حيث أن الآية ذكرت انه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم وهو غير الهداية بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولاً ثم يأتي دور الربانيين وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب الى الرب وهم المطيعون لله عزوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهم أوصياء كل نبي، ثم يأتي ثالثاً دور الاحبار وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة الحكم وان هذه السنة الالهية في تولي الحكم جارية في جميع الاديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

آ ـ قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [المائدة: 44] فالمخاطب بها المسلمون وهذا يدل على جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب ـ ان القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به الله عزوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم ينص على خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني اسرائيل غير مختصة بهم بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل ان ذكرها للدلالة على ارادتها من المخاطبين.

جـ ـ الآيات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الانجيل إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص على وجوب الحكم بما جاء في الانجيل {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] ومن ثم تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول (صلى الله عليه وآله) بما أنزل الله.

والخلاصة:

ان الآيات تبين سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان وأنه اذا انزل كتاباً سماوياً فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً على الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم على كافة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية فهي للنبي ثم لوصيه ثم للأمة والاحبار اي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفر العلم والكفاءة والأمانة وهى امور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل بـ:

1 ـ إن الآية لا تنافى نظرية النص بل تدل عليها، وذلك: لأن ايكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالأصالة عرضا مع الربانيين ام بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح للانطباق على كلا المعنين.

2 ـ أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً بل هو للدلالة على نيابة المتأخر عن المتقدم بمقتضى ولاية المتقدم ذكراً على المتأخر لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرعة عن المتقدم، وحيث ان العلماء مستقى علمهم من المعصومين فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل على تسنمهم سدة الفتيا هو آية النفر (39) فإسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول، حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان تشريع فتياهم أي الفقهاء هو من قبل الله عزوجل لكنها عن المعصوم (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله) .

ان قلت: ظاهر الآية ان ولاية الاحبار ليست نيابة وذلك لأن الله عزوجل اسند الحكم اليهم فالتخويل هو من قبل الله.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة الله وطاعة الرسول، وولاية الله ولاية الرسول، فان المزاوجة بين الولايتين لا يدل على انهما في عرض واحد بل انها جعلت للمعصوم بتخويل من الله عزوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها فان الولاية على الأموال هي للرسول والمعصوم لا للأصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية على اموال الزكاة.

ان قلت: هل تتصور ـ بناء على نظرية النص ـ ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) على المعصومين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) .

قلت: إن ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) باقية على مَن بعده حتى بعد وفاته وذلك لان الرسول الاكرم هو الطريق لوصول العلوم اليهم (عليهم السلام) ويذكر مضافاً الى نفوذ أحكامه (صلى الله عليه وآله) في كل المجالات على من بعده الى يوم القيامة كمثال على ذلك ما جرى بين الحسين (عليه السلام) وابن عباس عندما سأله الاخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه (عليه السلام) : إنه قد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام وأخبره بالخروج الى العراق، حيث أن رؤيا المعصومين صادقة فهذه تمثل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

3 ـ قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار بل متعلقة بالنبيين والربانيين وذلك:

ـ ان مادة الحفظ واردة في القرآن غالبا بمعنى الايكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من الله عزوجل الى الملائكة المسمون (بالحفظة) ، ولفظة (استحفظوا) لم ترد الا في هذا المورد وهذا يدل على أن المراد منه هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] فالتعبير بالحمل هو بمعنى التكليف وهو غير الاستحفاظ والثاني ورد في علمائهم لا الأول.

ـ ورد عن الصادق (عليه السلام) في ذيل الآية: "الربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين". قال: "ثم أخبر عنهم فقال: بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ولم يقل بما حملوا منه ـ تفسير الصافي 2: 38.

وهذا أيضاً يدل على أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من الله عزوجل.

ـ وقد يتساءل عن السر في تأخير (بما استحفظوا) وايرادها بعد الاحبار وكان الانسب ذكرها بعد الربانيين.

والجواب عن ذلك:

أ ـ مثل هذا التعبير وارد في مواضع اخرى في القران مثلا في سورة النساء (72 ـ 73) : {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73]. فجملة كَأَنْ {لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون إذا هُزم المسلمون الحمد لله الذي لم نكن معهم فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب ـ ان هذا التعليل بين ان المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل الله عزوجل، ويكون موضع الاحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الايدي والاعوان ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر بل يصدر الأمر عنهم، نعم يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر فقد زوده بالخطوط العامة للحكم وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطى لكل أحد بل لمن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة ولذا عبر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع الى عدم توفر التعليل فيهم حيث ان منحصر في النبيين والربانيين.

4 ـ واخيراً يرد على المستدل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشورى والنص وانه مع انتفاء النص تصل النوبة للشورى، ان ذلك يتنافى مع ما هو مقرر في العقيدة الشيعية من أن الارض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة وان الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني ان موضوع النص لا ينتفي اصلاً حتى يمكن أن نفرض الشورى عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلم الامام لسدة الحكم لجور الامة وضلالها لا يعني انتفاء النص فهو كما في تصريح الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) : الحسن والحسين امامان إن قاما وان قعدا.

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص لأنه موجود ومؤثر بتسديده للامة وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله (عليه السلام) : اني لازلت راع لكم ولست بغافل عما يدور حولكم. فضرورة المذهب السائدة ان الفقهاء هم نواب الامام وشرعيتهم من شرعية الامام، لا أن لهم ذلك بالأصالة مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً، وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام لا الخاص لجماعة واشخاص بخصوصهم، نعم أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل سواء كان هذا الانتخاب بنحو مفرد أو لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه (عليه السلام) إلا أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعنى ليس ايكالاً للأمة باختيار القائد بمعنى ان الامة تختار من ينوب عنها، بل هو تفويض للامة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من ان للفقهاء الولاية بالأصالة في عصر الغيبة مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة (عليهم السلام) :

وقد ذكرت وجوه اخرى للدلالة على الشورى بعضها قد مضى في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة.

1 ـ الاستدلال بالسيرة: ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والامام (عليه السلام) جرت سيرتم وعملهم على عدم استلام سدة الحكم إلا بعد حصول البيعة ورجوع الناس اليهم وإن الامام نقل عنه انه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون اميراً. وأن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل ان الموروث من الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسس به دستور لدولة سواء في الجانب القضائي او التشريعي او التنفيذي.

ـ ان الائمة (عليهم السلام) كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لإقامة الحكم بل على العكس كانوا يدفعون من يأتي ليبايعهم. فالإمام علي (عليه السلام) عندما اتاه الناس لمبايعته صدهم وامتنع اول الأمر وهذا يعني ان الامر بيد الامة فان انتخبتهم فقد اصابت طريق الرشاد والصلاح. كما ان أبا مسلم الخراساني قد عرض الحكم على الامام الصادق (عليه السلام) وقد رفض ذلك، والامام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض فهذا يعني انهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل الله.

2 ـ ان السياسة وتدبير الامور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي امور عامة ترجع الى تقدير الناس وحسن رويتهم فالحكومة تستمد مشروعيتها من الامة والمجمتع.

3 ـ ان المعصومين مبشرون ومبلغون وهداة، والنص على امامتهم يعني وجوب الرجوع اليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وان الحكومة ليست تكليفاً الهياً وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة واوضح مثال على ذلك انبياء بني اسرائيل اذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

4 ـ ان الكتاب الكريم لم يحتوي الا على جزء قليل من أحكام الدولة.

5 ـ ان مفهوم النبوة والامامة يعتمد على العلم الخاص وليس فيه دلالة او ايماء الى الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه:

أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا :

ـ ان الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الاسلامي كثيرة وهذه خطابات لا تصلح إلا للحاكم والوالي، واما البيعة فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول الوثوق والاطمئنان وقد ذكرنا ان البيعة ليست تفويضاً او توكيلاً بل هي اظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

ـ وهكذا في سيرة الامام علي (عليه السلام) فإنه في كثير من كلماته يشير الى احقيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمن له أقل تتبع في التاريخ، حيث أنه أراد قطع العذر لمن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه وحتى لا يكون هناك مجالاً لمن أراد أن ينكث البيعة.

ـ وقد يشكل بما روي عن الامام الحسين (عليه السلام) من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: وإني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.

وجوابه: أن الامام الحسين واجب النصرة لأنه مظلوم فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة منها انه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه (عليه السلام) حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: ان اصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات انه قد ذهب بعض منهم ـ ولكن يسير جداً ـ فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: ان الاستشهاد معه (عليه السلام) مرتبة لا ينالها إلا من اُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم (عليهم السلام) ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه (عليه السلام) . وهؤلاء كانوا يظنون ان بقاءهم معه (عليه السلام) مرتبط ببيعتهم له فعاملهم الامام (عليه السلام) على اعتقادهم.

ـ اما بالنسبة للامام الصادق (عليه السلام) فلقد عرض عليه ابو مسلم الخراساني البيعة ولكن الإمام رفض ذلك وسره واضح لأن ابا مسلم لم يرد تحكيم وتولية الامام، وانما اراد التستر والاستفادة من شخصية الامام (عليه السلام) لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلا إذا كانت هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس والامام (عليه السلام) كان له احاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلى دراية بخبايا ابي مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الامام فبادر ودعى الى بني العباس.

ـ اما بالنسبة للرضا (عليه السلام) فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقق هدفاً مهماً وهو اتضاح أن المأمون ولايته لا أساس شرعي لها.

وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة فانه يتجنب امضاء مشروعية افعال السلطة الحاكمة حيث يتضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الامام الدينية في دعم شرعية سلطته.

ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة (عليهم السلام) عن الجانب السياسي وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

آ ـ ان الأئمة (عليهم السلام) انصرفوا الى اعمال تعتبر أهم ملاكا من إقامة الحكم عند التزاحم وهى بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس وهي مقدمة على تدبير الابدان، واضح أن نشر الدين وبيان الاحكام تعم منفعته جميع المسلمين في كافة الازمنة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الاجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الاطول زمانا مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا فالتقديم للأول.

ب ـ ان المجمتع الاسلامي قد توسع بشكل كبير في القرنين الاول والثاني وانفتح على حضارات مختلفة واختلط بأمم متعددة مما اثار جملة كبيرة من الاسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجب الى اجوبة شافية دامغة لكل ما يمس الدين الحنيف، وقد عجزت الاذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الاجابة عليها واحتاجت الى من يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً ان الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً على ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الاطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم الله عزوجل ومعاجز النبي (صلى الله عليه وآله) و...

جـ ـ ان إقامة الحكم ورئاسة الامة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة فاذا لم تتمثل الامة للواجب الملقى على عاقتها من رجوعها الى الامام المعصوم فإنه لا يجب على الامام اجبارهم على ذلك. وقد تخاذلت الامة عن القيام بواجبها فاتجه الامام الى الوظيفة الاخرى.

ـ ان الائمة لم يغفلوا الجانب السياسي البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لاثبات أحقيتهم بالخلافة. فالإمام الكاظم (عليه السلام) عندما حج هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الاخير يسلم على الرسول: السلام عليك يابن العم. قال (عليه السلام) في السلام: السلام عليك ياجداه. للاشارة الى ان المشروعية اذا كانت بالاقربية فإنا اقرب اليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم (عليهم السلام) مع سلاطين بني أمية وبني العباس.

ـ ان الائمة (عليهم السلام) كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية ويأمرون وينهون شيعتهم ومن هذه المواقف:

أ ـ نهي الكاظم (عليه السلام) لصفوان عن ايجار جماله ـ والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الاسلامي آنذاك ـ للدولة الحاكمة آنذاك.

ب ـ جباية الاموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فانهم (عليهم السلام) كانت تجبى إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء على أنه مع حضور الامام لا تبرأ ذمة شخص إلا بتسليمها للامام (عليه السلام) . لما كان علي بن يقطين يدفع زكاته للامام الكاظم (عليه السلام) مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتى ان جواسيس بني العباس خاطب يوما هارون بما مضمونه هل للمسلمين خليفتان تجبى لكل منهما الاموال، وان الثاني هو موسى بن جعفر عليهما السلام، وان معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره. مما ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم (عليه السلام) في المجتمع الإسلامي.

ب ـ نصب الوكلاء في المناطق المختلفة وهؤلاء يرجع اليهم الناس في كل من معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء من انفاذ الاوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وادارة اموال القصّر وأخذ القصاص أو الديات وغيرها.

وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الافتاء ـ القضاء ـ المرجعية، حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الاخر وقد تتداخل بعضها وهذا التفصيل استفيد من روايات الائمة (عليهم السلام) فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية ـ يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي ـ يصف الشيعة في الكوفة انهم على ثمان طوائف أحدها زرارية بن أعين والاخرى مسلمية اتباع محمد بن مسلم وهشامية اتباع هشام بن الحكم وبصيرية أتباع ابي بصير وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع الى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) كما نجد أن الائمة قد أجازوا اقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالأب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.

جـ ـ الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الاموية والعباسية كما في رواية زين العابدين (عليه السلام) في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته والله تعلى يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111] فأجابه (عليه السلام) اكمل الآية فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] فقال (عليه السلام) : إذا وجدت من هذه أوصافهم من المجاهدين فحينها لا ندع الجهاد والقتال"، وهو (عليه السلام) يشير الى أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الاسلام بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والاموال والجواري...

د ـ ما ورد في رواية ابن حمزة عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من احللنا له شيئاً اصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمناه ذلك فهو له حرام.

وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت تقوم بجباية الاموال من خراج وزكاة ومقاسمة.

هـ ـ الاشراف على تولي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتى يسهل ادارة امور الشيعة. كما في الامام الصادق (عليه السلام) مع داود الزربي والكاظم (عليه السلام) مع علي بن يقطين، والصادق (عليه السلام) مع النجاشي في توليه للأهواز والامام الرضا مع محمد بن اسماعيل بن بزيع.

و ـ الاذن لأصحابهم في التصدي للفتيا.

ز ـ تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية وليست تشريعات ثابتة. فكما في احياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية وليس تشريعاً ثابتاً بدليل ما في بعض الروايات المشيرة الى أنه عند ظهور الحجة (عليه السلام) سوف يتغير هذا النظام في الاراضي.

حـ ـ اعفاؤهم شيعتهم من اعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد (عليه السلام) . وما ورد عن الباقر (عليه السلام) في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الاجير.

ط ـ حث الشيعة على التمسك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولي والتبري، وعدم الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، واقامة الاحكام الفقهية الخاصة في الاعمال اليومية. وحث الامام الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) لأصحابه على اقامة الجمعة فيما بينهم.

وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة أو لكتاب الوسائل مثلاً يجد الناظر مشجرة كاملة في الابواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة (عليهم السلام) في المجال التنفيذي الولائي والقضائي فضلاً عن التشريعي، فرسم صورة كاملة عن انشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.

ثانياً: الدين والسياسة :

اما ما ذكر من ان السياسة ليست من الدين وان الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الالهي وان الكتاب غير حاو لاحكام السياسة فيجاب عنه:

أ ـ ان القران عالج جوانب عدة من كيفية اقامة النظام في المجتمع، فوضع نظام الاحوال الشخصية، وقواعد القضاء وهذه القواعد التي تتفرع منها الاف القضايا الفرعية، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة اقتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف) ونظام المنابع المالية العامة، وقد أعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.

فهل يعقل ان يقال ان من اهتم ببيان هذه الموارد اغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه.

ب ـ ينقض على المستشكل بأن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) في تلك الفترة الحرجة وصلت وحققت الكثير من الاهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام مع وجود الشخصية المؤهلة قادر على تأدية وظائف الحكومة وتنفيذها بأحسن حال.

كيف وقد انتشلت المجمتع البدوي القبلي المتخلف الى درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العُظميين حينذاك الكسروية والقيصرية.

جـ ـ إن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة، لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرعه الشارع واعتبره وصحّحه والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة أي اعتبرها الشارع، فكيف لا تتعرض الشريعة للحكم السياسي، وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع، وبعبارة أخرى ما المعنى المحصل للمشروعية في كلامه ان لم ترجع الى عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معنى للحديث عن المشروعية حينئذ.

ثم ان مقتضى أن الله سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم أن مبدأ وأصل الولاية هو لله تعالى وان كل الولايات تتشعب من ولايته "الولاية لله الحق" و "ان الحكم الا لله"، وهذا أصل غاية الأمر حيث جعل للإنسان الاختيار لا القسر كانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الالهية يبنى على أن أصل الولاية لله وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي الى ذلك الأصل.

نعم، المنطق الوضعي غير المتقيد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الانسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط) فبين المنهجين بعد المشرقين.

د ـ إن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير الى أن تعيين القائد الذي تنتخبه الامة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفر في القائد المواصفات والاهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والامانة وغيرها. وحينئذ فاذا رشح من له هذه الصفات وانتخبته الامة يكون الانتخاب صحيحاً، فحقيقة الانتخاب هي استكشاف من ترى الامة ان توفر هذه الصفات فيه بنحو اكمل وافضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه لا اختيار الامة وانما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعي ان السماء هي التي تتكفل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الامة تشخيصهم في الخارج.

وقد أثار هذا وأن الباحثون من فقهاء القانون الوضعي أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة سواء على الأفعال أو الأعيان، بل السلطة التكوينية على الأولى والحيازة أو العمارة للثانية هو المنشأ، وأما فقهاء الشرع من الفريقين فقد نصوا على لزوم امضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة اذ ان لله ما في السموات والارض. فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الافعال والاعيان الا ما حدده الشرع له، لأن الشارع الاقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الانسان فاعل ومالك لما يشاء ومطلق العنان، الا ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي او العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) الى الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن اساس الحكومة في المجتمع بين المنهجين مختلف، فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية الله تعالى على المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد على أنفسهم.

بل ان الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل كما ذكرنا آنفا الى هذه النتيجة وهي أن الاساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية على الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي وليس هو من وضع سلطة الأفراد على أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة واذا ترقت أصبحت عصمة) لابد منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث على المذهب الفردي.

ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي (سواء الانتخاب أو البيعة) ليس الا عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء على المنهج التوحيدي الديني او الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي بل هو توفر شرائط القانون الالهي فيه، أو الوضعي الالهي حيث انه يشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يعين المصداق الذي تتوفر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو الا زيادة تعهد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

وأما المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الامة لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الرباني الالهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [القصص: 68] .

فكون العقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهد، لا انه عملية مولدة لصحة الشيء الذي تم التعاقد عليه بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، وكون العقد هذا مفاده من اوليات الأبحاث القانونية فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخب والمبايع، وانما الذي يؤمنه تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

ثم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الالهية في المعصوم (عليه السلام) هي تجسيده للقانون الالهي على كل الاصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً على الأمة، وهل يكون ناطقاً حياً بالقانون الا بجعل الزعامة له على الامة.

هـ ـ إن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الالهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والانسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور الله جل وعلا أو الفرد بما هو عبد لله، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.

ففي القانون الالهي يكون الالتفات الى القوى الناطقية والالهية في الانسان، وفي الوضعي يكون الالتفات الى القوى النازلة والحيوانية له، ولذا تكون نظرية النص اكثر انسجاماً مع القانون الالهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي حيث تجعل السلطة للفرد.

وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الالهي تراعى الكمالات التي توصل الى الحق تعالى وهي غير محدودة.

 

ومن هنا يمكننا القول ان هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشورى:

ـ ان نظرية الشورى تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة، حيث ان الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد على أسا الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.

ـ ان أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع اذ انهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ، أما أصحاب نظرية النص فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين على يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الاسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.

و ـ ما ذكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج الى كياسة وخبرة وتجربة والسائس يكون مؤهلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.

والجواب عن هذا:

ـ أن السياسة كما لها جانب عملي فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه اصول كلية وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح) ثم ان الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط بل يرتبط بالجانب العملي وفروع الدين تمثل هذا الجانب.

ـ إن السياسة علم يدرس في الجامعات الاكاديمية ويحتوي على كليات مسطورة في الكتب. نعم الجانب التطبيقي منها يعتمد على الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة حيث أن علمه اللدني لا حاجة معه الى اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لما قد يصوره البعض في غيبة الحجة (عليه السلام) {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، والعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء وما التجارب والممارسات إلا معدات لذلك الفيض الالهي. هذا بجانب علمه المحيط بالموضوعات بتسديد من البارئ وتوفره على كمال الصفات في قواه النفسية الاخرى.

ثالثا :

ان الانبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط بل يديرون دفة الحكم والآية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل على ذلك غاية الأمر ان الانبياء في اداء هذه الوظيفة بالذات يحتاجون الى مؤازرة الناس واقدارهم وبدون رجوع الناس اليهم لا تتم هذه الوظيفة.

رابعاً :

ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الامامة والنبوة باطل وجوابه يتضح من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء: 64]، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ، {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [المائدة: 49]، { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } [النساء: 105] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } [الأنفال: 1]، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } [الأنفال: 41]، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [الحشر: 7] ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103] فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام، مضافاً الى آيات الولاية العامة الكثيرة {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وغيرها.

خامسا: النص والعقل :

ان القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلى الحجر على عقل الانسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج الى انتخاب الناس وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر فإن النص يحمل في طياته التناقض وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض ان الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة التبليغ والهداية لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الانسان أمر دنيوي لا يرجع فيه الى السماء والحاكم ليس إلا وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها.

وجوابه: ان يكون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة على نفسه وعلى كل جزء من بدنه، بل ان الولاية المطلقة هي لله عزوجل وتتصل به ولاية الرسول والامام أي المعصوم فبمجرد كونه عاقلاً لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل ينقصه الكثير الكثير لكي يحيط خبرا بكافة الامور غير المتناهية سواء المحيط به أو داخل ذاته، فولاية الله ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق على العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.

فلو قلنا ان الولاية تابعة لمدى عقلائيته لازمه أن تعطى الولاية للآخرين في الامور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الاخر محجور عليه. بل للفرد العاقل ولاية في حدود عقلائيته، والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور فولايته أقوى من ولاية الانسان على نفسه. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، مضافاً الى أن المستشكل يرى أن الفرد عندما ينتخب اخر ويعطيه الولاية على نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض فراراً من هذا الاشكال ذهب الى ان الحكم والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح انه لا يمكن تصوير الوكالة بالمعنى المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات وذلك لأن الحاكم يقوم بالزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات ولا يمكن تصوير ان الوكيل يُلزم الموكل بما لا يريده فضلاً عن لزوم هذه الوكالة.

إذ مقتضى أن الوكالة جائزة هو أن الامة يمكن ان ترجع في اختيارها حتى من دون سبب وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.

مضافاً الى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية. والقَسَم الدستوري الذي يؤديه الحاكم، وعدم امكان الحاكم الثاني ابطال أعمال الحاكم الأول. وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلا عن الفرد.

وعلى كل تقدير يبقى المجال امام الولاية فاذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد على نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته فكذلك جعل الوالي من قبل الله لا ينافي عقلائيته.

سادساً: النص والاستبداد :

إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي الى الاستبداد والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة، اذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل المحور ذات الفرد ولذا قال البعض فراراً من هذا الاشكال ان المعصوم ملزم بالشورى والاستشارة وملزم ايضاً بنتيجة الشورى.

والجواب عنها:

آ ـ ان الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية. ولأجل ابطال النظرية يجب اثبات الاول.

ب ـ ان المشرع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد وذلك عن طريق ضمانات اجرائية:

منها: ان المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات...

ومنها: لزوم التقيد بالأحكام الالهية بعيداً عن الهوى والاحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرف مخالف لها.

ومنها: رقابة الامة تحت اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة الى حكومة نائب المعصوم ظاهرة وأما بالنسبة الى حكومة المعصوم فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الامة معينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي (عليه السلام) .

ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والامانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه وإلا فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد الى العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الامام (عليه السلام) : لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة.

ومنها: ان الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي ـ مضافاً الى الجانب التكويني الخاص ـ حيثيتان حقوقية بما هو رسول او امام او نائب امام، والاخرى حقيقية ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر افراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذا لما مر في النائب عن المعصوم واما فيه فانه كذلك سوى ما خصّ به من امتيازات في التشريع الالهي مما شرّف وفضّل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الاخرى لا يكون نافذاً هذا في النائب غير المعصوم والا ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر ان ولاية شخص ما ينوب عن المعصوم هي لعقيدته وفقاهته وعدالته أنيب في الولاية لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النص الحاكم (المعصوم او نائبه) ينظر الى الحكم كمسؤولية وامانة وخدمة ووظيفة.

ومنها: المساواة أمام القانون فالجميع يقفون أمام القانون على حد سواء وتطبق العدالة عليهم، وهو لا يعني ان يتساوى الجميع في العطاء ـ مثلا ـ بل يعطى كل على حسب ما هو مقدر له في الشرع فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنه تمايز وتفاضل رضى عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الاخرة لا عالم الدينا.

ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو بل بما هو عبد الله بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو ، و ...أنها في التقنين تُؤمن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية.. وهذه كلها تعتبر من درجات الانسان السفلى.

بينما في التقنين الالهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية أي قوى الانسان العليا وهى المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في اشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة، والاستبداد يأتي من حرص الانسان على نفسه وخصوصيته وهذا إنما يرد في النظريات الاخرى لا نظرية النص التي تجعل الله هو الأصل والمقصد والغاية.

فهذه الأمور والضمانات الاجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي يبطل كل تصرف يخالفها.

أما الاستبداد فإن نشأته تعود الى عوامل:

آ ـ جهل وقلة وعي بالقانون.

ب ـ وجود طبقة من العلماء والمفكرين يروجون لمحورية ذاتهم والصلاحيات المعطاة لأصحاب المناصب. ومحورية الفرد.

جـ ـ التفكك والاختلاف في صفوف الامة.

د ـ اشاعة الرعب والرهبة من الولاة.

هـ ـ جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة مما ينشأ استبداد طبقي.

وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الانظمة الغربية المدعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها حيث تجد الفارق الطبقاتي شديد واسع الهوة والمال دُولة بين الاغنياء وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى) ، وهذا ما اطلعنا عليه التاريخ قديما فان اكثر من جاء تحت هذا الغطاء الى سدة الحكم كان في الحقيقة بالتغلب والفتك بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والامنية هي بيد من عصم علما وعملا كما بيناه مفصلاً وكما اطلعنا التاريخ على حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) والامير (عليه السلام) وبرهة من حكم الحسنين عليهما السلام.

______________________________

1- السيرة النبوية لابن هشام 1 / 620.

2- المصدر السابق 3: 63.

3- المصدر السابق 2: 223.

4- تحف العقول / 36 ـ سنن الترمذي 3 / 361 ب الفتن 64.

5- النهج خ 92 ـ تاريخ الامم والملوك الطبري 6 / 3076 ـ الكامل في التاريخ ابن الاثير 3 / 193.

6- شرح ابن أبي الحديد 7 / 41.

7- وقعة صفين ص 189 ـ 190.

8- عيون أخبار الرضا ح 2 / 62 ـ ب 31.

9- وسائل الشيعة ابواب العشرة ح 5 / باب 22.

10- وسائل الشيعة ابواب العشرة/ باب 21 ح 1.

11- جامع البيان الطبري ـ ذيل سورة آل عمران ج4، ص101.

12- الكشاف ـ الزمخشري ج 1 / 242.

13- المفردات مادة شور ص 270.

14- لسان العرب 4: 335.

15- تاج العروس الزبيدي ـ مادة (شور) .

16- معجم مقاييس اللغة مادة (شور) .

17- المعجم الوسيط ـ المجمع اللغوي القاهرة ص 499.

18- راجع السيرة النبوية لابن هشام 2 / 63 ـ الكامل في التاريخ لابن الاثير 2: 15 ـ تاريخ الامم والملوك للطبري 2: 14.

19- تاريخ الامم والملوك 2 / 19.

20- تاريخ الامم والملوك للطبري: 2 / 201.

21- تاريخ الامم والملوك 2 / 21.

22- تاريخ الامم والملوك 2: 14.

23- الشورى بين النظرية والتطبيق 27 ـ 30.

24- بحار الانوار: 2: 265 ح 21، 22، 23، 26.

25- وسائل الشيعة: باب 24 من ابواب احكام العشرة من كتاب الحج، الحديث: 1 و2 و3 و4.

26- دعائم الاسلام: 2: 527، الارشاد ص 185.

27- بقرينة ما قدمناه مفصلاً مثل العفو عنهم والاستغفار لهم الدال على خطئهم مثل قوله تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [الحجرات: 7] فهذه شهادة من الله تعالى بخطأهم في كثير من الموارد، وكذا لينه لهم المذكور في الآية الدال على مقام المربي لمن تحت يده (صلى الله عليه وآله) وغيرها من القرائن فراجع، مع أن المعنى على ادعاء صاحب تفسير المنار مؤداه لزوم طاعته (صلى الله عليه وآله) لما يريدوه، وهو باطل. وكلٌّ لما ذكرناه من أن الشورى معنى ومادة عنوان للفعل الفكري للنفس، وهم يجعلونه عنواناً للفعل العملي للنفس كالإرادة والسلطة والقدرة، فيتناقض عندهم الكلام.

28- كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.

29- رواه الصدوق في الاكمال بأسانيد مستفيضة عن كميل عن علي (عليه السلام) ، واسانيد اخرى في الخصال والأمالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات، بل هذا المضمون روي في احاديث متواترة في اكثر كتبنا الروائية.

30- المنار 10 / 542، 105.

31- المنار: 4: 45.

32- راجع معجم الفاظ القرآن الكريم 2: 840.

33- البيان في تفسير القرآن 5: 257.

34- لسان العرب 8 / 26 مادة بيع.

35- بحار الأنوار: 2 / باب 32 ح 26.

36- سيرة ابن هشام 2: 66 / 73 ـ الكامل لابن الاثير 2: 252 ـ الارشاد ص 116 / 170 / 186 , الاحتجاج 1: 34 ـ نهج البلاغة الخطب 137 / 229 ـ وفي الغيبة للنعماني ص 175 ـ 176 في أمر الحجة (عليه السلام) : فوالله لكأني انظر اليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء.

37- يراجع المكاسب للشيخ الانصاري في أول كتاب البيع، كما نص على ذلك السنهوري في الوسيط.

38- ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين فإنه لا يعارض ذلك الدليل لأنه لا يتعرض للموضوع بل للمحمول فقط.

39- راجع في تفصيل ذلك كتابنا دعوى السفارة في عصر الغيبة.




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.