أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-1-2016
2992
التاريخ: 29-12-2015
6623
التاريخ: 28-6-2021
3199
التاريخ: 13-08-2015
2210
|
كنيته أبو محمد وكان الرشيد إذا أراد أن يولع به كناه أبا صفوان وموضعه من العلم ومكانه من الأدب والشعر لو أردنا استيعابه طال الكتاب وخرجنا عن غرضنا من الاختصار ومن وقف على الأخبار وتتبع الاثار علم موضعه وأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوصف به وإن كان الغالب عليه لأنه كان له في سائر علومه نظراء ولم يكن له في هذا نظير لحق فيه من مضى وسبق من بقي فهو إمام هذه الصناعة على أنه كان أكره الناس للغناء والتسمي به ويقول: وددت أني أضرب كلما أراد مني من يندبني أن أغني وكلما قال قائل إسحاق الموصلي المغني عشر مقارع ولا أطيق أكثر من هذا وأعفى من الغناء والنسبة إليه. وكان المأمون يقول لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس وشهر به من الغناء عندهم لوليته القضاء بحضرتي فإنه أولى به وأحق وأعف وأصدق تدينا وأمانة من هؤلاء القضاة. قال: بقيت زمانا من دهري أغلس إلى هشيم فأسمع منه الحديث ثم أصير إلى الكسائي فأقرأ عليه جزءا من القرآن واتي الفراء فأقرأ عليه جزءا ثم اتي منصورا زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة ثم اتي عاتكة بنت شهدة فاخذ منها صوتا أو صوتين ثم اتي الأصمعي فأناشده واتي أبا عبيدة فأذاكره ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت ومن لقيت وما أخذت وأتغدى معه وإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد وقال الأصمعي خرجت مع الرشيد، فلقيت إسحاق الموصلي بها فقلت له: هل حملت شيئا من كتبك فقال: حملت ما خف فقلت كم مقداره فقال ثمانية عشر صندوقا فعجبت وقلت إذا كان هذا ما خف فكم يكون ما ثقل فقال أضعاف ذلك.
وكان الأصمعي يعجب بقول إسحاق: [الطويل]
(إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي
خازم وابن خازم)
(عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا
غير قائم)
وقال جعفر بن قدامة حدثني علي بن يحيى المنجم
قال سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا
مع المغنين فإذا أراد الغناء غناه فأجابه إلى ذلك ثم سأله بعد ذلك بمدة أن يكون
دخوله مع الفقهاء فأذن له في ذلك فكان يدخل ويده في يد القضاة حتى يجلس بين يدي
المأمون وقال ولا كل هذا يا إسحاق وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم،
وأمر له بها.
وحدث المرزباني عن محمد بن عطية الشاعر قال كنت
عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع إليه فيه أهل العلم وحضره إسحاق فجعل يناظر أهل
الكلام حتى انتصف منهم ثم تكلم في الفقه فأحسن واحتج ثم تكلم في الشعر واللغة ففاق
من حضر فأقبل على يحيى بن أكثم وقال أعز الله القاضي أفي شيء مما ناظرت فيه تقصير قال لا والله قال
فما بالي أقوم بسائر العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه قال
العطوي فالتفت إلي يحيى بن أكثم وقال جوابه في هذا عليك قال وكان العطوي من أهل
الجدل والكلام فالتفت إلى إسحاق وقلت يا أبا محمد أخبرني إذا قيل من أعلم الناس
بالشعر واللغة أيقولون إسحاق أم الأصمعي وأبو عبيدة فقال بل الأصمعي وأبو عبيدة
قال فإن قيل من أعلم الناس بالنحو أيقولون إسحاق أم الخليل وسيبويه قال بل الخليل
وسيبويه.
قال فإن قيل من أعلم الناس بالأنساب أيقولون
إسحاق أم ابن الكلبي قال بل ابن الكلبي قال فإن قيل من أعلم الناس بالكلام أيقولون
إسحاق أم أبو الهذيل والنظام؟ قال: بل أبو الهذيل والنظام قال فإن قيل من أعلم
الناس بالفقه أيقولون إسحاق أم أبو حنيفة وأبو يوسف فقال بل أبو حنيف: وأبو يوسف
قال فإن قيل من أعلم الناس بالحديث أيقولون إسحاق أم علي بن المديني ويحيى بن معين؟
قال: بل علي المديني ويحيى بن معين قال فإذا قيل من أعلم الناس بالغناء أيجوز أن
يقول قائل فلان أعلم من إسحاق قال لا قلت فمن ههنا نسبت إلى ما نسبت إليه لأنه لا
نظير لك فيه وأنت في غيره لك نظراء. فضحك وقام وانصرف. فقال لي يحيى بن أكثم لقد
وفيت الحجة وفيها ظلم قليل لإسحاق لأنه ربما ماثل أو زاد على من فضلته عليه وإنه
ليقل في الزمان نظيره.
وكان إسحاق قد روى الحديث عن جماعة منهم أبو
معاوية الضرير وهشيم وابن عيينة وغيرهم وكان مع كراهيته للغناء أحذق خلق الله به
ممن تقدم وتأخر وأشد الناس بخلا به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ
عنه منتسبا إليه متعصبا له فضلا عن غيره وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه وميزها
تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلق به أحد بعده ولم يكن قديما مميزا على هذا
الجنس.
وكان إبراهيم بن المهدي يأكل المغنين أكلا حتى
يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته ومعاوضته ولا يدع إسحاق يكبته وكان
إسحاق آفته كما أن لكل شيء افة وله معه عدة مشاهد قال إسحاق كنت يوما عند الرشيد
وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي فقال لي الرشيد يا إسحاق تغنَّ: [الوافر]
(شربت مدامة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت)
فغنيته فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال ما
أصبت يا إسحاق ولا أحسنت فقلت له ليس هذا مما تحسنه وتعرفه وإن شئت فغنه فإن لم
أجدك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال.
ثم أقبلت على الرشيد فقلت يا أمير المؤمنين هذه
صناعتي وصناعة أبي وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا إليك وأوطأتنا بساطك فإذا
نازعناها أحد بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح والذب فقال لا غرو ولا لوم عليك وقام
الرشيد ليبول فأقبل علي إبراهيم وقال: ويلك يا إسحاق تجترئ علي وتقول ما قلت يا
ابن الزانية فداخلني ما لم أملك نفسي معه فقلت له أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك
وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة ولولا ذلك لقد كنت أقول لك يا ابن الزانية كما قلت
لي يا ابن الزانية ولكن قولي في ذمك ينصرف إلى خالك الأعلم ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه
قال إسحاق وكان بيطارا.
وعلمت أن إبراهيم يشكوني إلى الرشيد وأن الرشيد
سيسأل من حضر عما جرى فيخبره ثم قلت له أنت تظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال
تهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر وأنت
تضعف عنه وعنهم وتستخف بأوليائهم تشيعا وأرجو ألا يخرجها الله تعالى عن يد الرشيد
وولده وأن يقتلك دونها وإن صارت إليك والعياذ بالله فحرام علي العيش يومئذ والموت
أطيب من الحياة معك فاصنع حينئذ ما بدا لك
فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال
يا أمير المؤمنين شتمني وذكر أمي واستخف بي فغضب الرشيد وقال ما تقول ويلك قلت لا
أعلم سل من حضر فأقبل على مسرور وحسين الخادم فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه
ووجهه يربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسري عنه ورجع لونه وقال لإبراهيم ما له
ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا.
فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر ألا أبرح
وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري فساء ظني وهمتني نفسي فأقبل علي وقال لي ويحك يا
إسحاق أتراني لا أعرف وقائعك قد والله زانيته دفعات ويحك لا تعد ويحك حدثني عنك لو
ضربك أخي إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل أتراه لو أمر غلمانه أن
يقتلوك فقتلوك أكنت أقتله بك فقلت قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام
ولئن بلغه ليقتلني وما أشك في أنه قد بلغه الآن.
فصاح بمسرور الخادم وقال علي بإبراهيم الساعة
وقال لي قم فانصرف فقلت لجماعة من الخدم وكلهم كان لي محبا وإلي مائلا أخبروني بما
يجري فأخبروني من غد أنه لما دخل عليه
وبخه وجهله وقال له لم تستخف بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن خادمي وصنيعة أبي في
مجلسي وتقدم علي وتصنع في مجلسي وحضرتي هاه هاه تقدم على هذا وأمثاله وأنت مالك
والغناء وما يدريك ما هو ومن أخذ لحنه وطارحك إياه حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ
إسحاق الذي غذي به وهو صناعته ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه ويدعوك إلى إقامة
الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل
وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه أليس تعلم ويحك أن
هذا سوء رأي وأدب وقلة معرفة ومبالاة بالخطأ والتكذيب والرد القبيح ثم قال له
والله العظيم وحق رسوله الكريم وإلا فأنا نفي من أبي لئن أصابه سوء أو سقط عليه
حجر من السماء أو سقط من دابته أو سقط عليه سقف أو مات فجأة لأقتلنك به والله
والله والله وأنت أعلم فلا تعرض له قم الان فاخرج.
فخرج وقد كاد يموت فلما كان بعد ذلك دخلت عليه
وإبراهيم عنده فأعرضت عنه فجعل الرشيد ينظر إلي مرة وإلى إبراهيم أخرى ويضحك ثم
قال له إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه والأخذ عنه وإن هذا لا تقدر عليه كما
تريد إلا أن يرضى والرضا لا يكون بمكروه ولكن أحسن إليه وأكرمه وبره وصله فإذا
فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق. ثم قال لي قم إلى مولاك
وابن مولاك فقبل رأسه. فقمت إليه وأصلح بيننا
وحدث المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال دخلت أنا
وإسحاق بن إبراهيم يوما على الرشيد فرأيته لقس النفس فأنشده إسحاق: [الطويل]
(وامرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما
إليه سبيل)
(أرى
الناس خلان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل)
(وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن
يقال بخيل)
(ومن خير أخلاق الفتى قد علمته ... إذا نال يوما
أن يكون ينيل)
(فعالي فعال الموسرين تكرما ... ومالي كما قد
تعلمين قليل)
(وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير
المؤمنين جميل)
قال: فقال الرشيد لأكفيك إن شاء الله.
ثم قال لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها
وأحسن فصولها وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم فقال له إسحاق وصفك والله يا
أمير المؤمنين لشعري أحسن منه فعلام اخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال اجعلوها لهذا
القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني.
وحدث إسحاق قال: قال لي الرشيد يوما بأي شيء يتحدث الناس قلت يتحدثون أنك تقبض على
البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة
فغضب وصاح وقال وما أنت وذاك فأمسكت فلما كان
بعد أيام دعا بنا فكان أول شيء غنيته: [الهزج]
(إذا نحن صدقناك ... فضر عندك الصدق)
(طلبنا النفع بالباطل ... إذ لم ينفع الحق)
(فلو قدم صبا في ... هواه الصبر والرفق)
(لقدمت على الناس ... ولكن الهوى رزق)
والشعر لأبي العتاهية.
قال فضحك الرشيد وقال لي يا إسحاق قد صرت حقودا. وحدثت شهوات جارية إسحاق التي كان أهداها إلى الواثق أن
محمدا الأمين لما غنى إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره: [المنسرح]
(يأيها القائم الأمير فدت ... نفسك نفسي بالأهل والولد)
(بسطت للناس إذ وليتهم ... يدا من الجود فوق كل يد)
أمر له بألف ألف درهم فرأيتها قد أدخلت إلى
دارنا يحملها مائة فراش. وحدث إسحاق قال أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لم
يسمع حرفا من الأغاني ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد ثم واظب على
السماع متسترا في أول أمره بالرشيد فأقام على ذلك أربع حجج ثم ظهر للندماء
والمغنين وكان حين أحب السماع سأل عني فخرجت بحضرته وقال الطاعن علي ما يقول أمير
المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة فقال ما بقى هذا شيئا من التيه إلا استعمله.
فأمسك عن ذكري وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر في فأضر ذلك بي حتى جاءني
علوية يوما فقال لي أتأذن لي في ذكرك فإنا قد دعينا اليوم فقلت لا ولكن غنه بهذا
الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا فإذا سألك انفتح لك ما تريد فكان الجواب
أسهل عليك من الابتداء وألقيت عليه لحني في شعري: [البسيط]
(يا مشرع الماء قد سدت موارده ... أما إليك طريق
غير مسدود)
(لحائم
حام حتى لا سبيل له ... محلأ عن طريق الماء مطرود)
قال فلما استقر بعلويه المجلس غناه الشعر الذي
أمرته فما عدا المأمون أن سمع الغناء حتى قال ويلك يا علويه لمن هذا الشعر قلت يا
سيدي لعبدك الذي جفوته واطرحته لغير جرم، فقال إسحاق تغني قلت نعم. فقال يحضرني
الساعة فجاءني رسوله فصرت إليه فلما دخلت عليه قال ادن فدنوت منه فرفع يديه مادهما
إلي فأكببت عليه فاحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهر صديق مؤانس لصديق
لسره.
وقال إسحاق: غنيت المأمون يوما: [الطويل]
(لأحسن من قرع المثاني ورجعها ... تواتر صوت
الثغر يقرع بالثغر)
(وسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... من الشرب
بالكاسات من عاتق الخمر)
فقال لي المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن
الفراغ والشباب والجدة. وحدث إسحاق قال ذكر المعتصم وأنا بحضرته يوما بعض أصحابه
وقد غاب عنه فقال تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت فقال قوم كذا وقال اخرون
كذا فبلغت النوبة إلي فقال قل يا إسحاق قلت إذا أقول فأصيب.
قال أتعلم الغيب قلت ولكني أفهم ما يصنع وأقدر
على معرفته قال فإن لم تصب قلت وإن أصبت قال لك حكمك وإن لم تصب قلت لك دمي قال
وجب قلت وجب قال فقل قلت يتنفس قال وإن كان ميتا قلت تحفظ الساعة التي تكلمت فيها
فإن كان مات قبلها أو فيها فقد قمرتني، قال: قد أنصفت، قلت: فالحكم؟ قال: فاحتكم
ما شئت قلت ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين قال فإن رضاي لك وقد أمرت لك بمائة
ألف درهم أترى مزيدا فقلت ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك قال فإنها مائتا ألف
أترى مزيدا فقلت ما أحوجني إلى ذاك قال فإنها ثلاثمائة ألف أترى مزيدا قلت ما
أولاك يا أمير المؤمنين بذاك فقال يا صفيق الوجه ما نزيد على هذا.
وحدث إسحاق قال كنت جالسا بين يدي الواثق وهو
ولي عهد إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان أحسن من رأته عيني يقدمها عدة وصائف
بأيديهن المذاب والمناديل ونحو ذلك فنظرت إليها نظر دهش وهي ترمقني فلما تبين
إلحاح نظري إليها قال لي مالك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك فلجلجت
فقال رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك فقلت غير ملوم فضحك وقال أنشدني شيئا في
هذا المعنى فأنشدته قول المرار: [الطويل]
(ألِكني
إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما قالت متى أنت رائح)
(وآية ما قالت لهن عشية ... وفي الستر حرات
الوجوه ملائح)
(تخيرن أرماكنّ فارمين رمية ... أخا أسد إذ
طوحته الطوائح)
(فأرسلن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة لها طفل
برمان راشح)
فقال الواثق: أحسنت وحياتي وظرفت فاصنع فيه لحنا
فإن جاء كما أريد فالوصيفة لك. فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه فانصرفت بالجارية.
وحدث إسحاق قال: غنيت الواثق في شعر قلته عنده
بسر من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي وهو: [الكامل]
(يا حبذا ريح الجنوب إذا بدت ... في الصبح وهي
ضعيفة الأنفاس)
(قد حملت برد الندى وتحملت ... عبقا من الجثجاث والبسباس)
فاستحسنه وقال يا إسحاق لو جعلت مكان الجنوب
شمالا ألم يكن أرق وأغذى وأصح للأجساد وأقل وخامة وأطيب للأنفس فقلت ما ذهب علي ما
قاله أمير المؤمنين ولكن التفسير فيما بعد وهو:
(ماذا يهيج للصبابة والهوى ... للصب بعد ذهوله والياس)
فقال
الواثق فإنما استطبت ما يجيء به الجنوب لنسيم بغداد لا للجنوب وإليهم اشتقت لا
إليها فقلت أجل يا أمير المؤمنين وقمت فقبلت يده فضحك وقال قد أذنت لك بعد ثلاثة
أيام فامض راشدا فأمر لي بمائة ألف درهم.
وحدث إسحاق قال ما وصلني أحد من الخلفاء بمثل ما
وصلني به الواثق ولا كان أحد يكرمني إكرامه ولقد غنيته: [الطويل]
(لعلك إن طالت حياتك أن ترى ... بلادا بها مبدى
لليلى ومحضر)
فاستعادة مني جمعة لا يشرب على غيره ثم وصلني
بثلاثمائة ألف درهم ولقد استقدمني إليه فلما قدمت عليه قال لي ويحك يا إسحاق أما
اشتقت إلي فقلت بلى والله يا سيدي وقد قلت في ذلك أبياتا إن أمرتني أنشدتك إياها
قال هات فأنشدته: [البسيط]
(أشكو إلى الله بعدي عن خليفته ... وما أعالج من
سقم ومن كبر)
(لا أستطيع رحيلا إن هممت به ... يوما إليه ولا
أقوى على السفر)
(أنوي الرحيل إليه ثم يمنعني ... ما أحدث الدهر
والأيام في بصري)
وإنما قال ما أحدث الدهر والأيام في بصري لأن
إسحاق لما كبر ضعف بصره ثم أضر واستأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي
فأنشدته: [البسيط]
(لما أمرت بإشخاصي إليك هفا ... قلبي حنينا إلى
أهلي وأولادي)
(ثم اعتزمت ولم أحفل ببينهم ... وطابت النفس عن
فضل وحماد)
(فلو
شكرت أياديكم وأنعمكم ... لما أحاط بها وصفي وتعدادي)
فقال أحمد بن إبراهيم لعلي بن يحيى وقد أخبر
بهذا الخبر أخبرني لو قال الخليفة أحضرني فضلا وحمادا أليس كان إسحاق يفتضح من
دمامة خلقتهما وتجلف شاهدهما قال إسحاق وانحدرت منه إلى النجف فقلت له يا أمير
المؤمنين قد قلت في النجف قصيدة، قال هاتها فأنشدته: [البسيط]
(يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف ... نحيِّ دارا
لسعدى ثم ننصرف)
حتى انتهيت فيها إلى قولي:
(لم ينزل الناس في سهل ولا جبل ... أصفى هواء
ولا أغذى من النجف)
(حفت ببر وبحر في جوانبها ... فالبر في طرف
والبحر في طرف)
(وما يزال نسيم من يمانية ... يأتيك منها بريا
روضة أنف)
ثم مدحته فقلت:
(لا يحسب الجود يفني ماله أبدا ... ولا يرى بذل
ما يحوي من السرف)
ومضيت فيها حتى أتممتها فطرب وقال أحسنت والله
يا أبا محمد. وكناني يومئذ وأمر لي بمائة ألف درهم وانحدرت معه إلى الصالحية التي
يقول فيها أبو نواس:
(فالصالحية من أطراف كلواذى ...)
فذكرت الصبيان وبغداد فقلت: [الطويل]
(أتبكي
على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا)
(لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو أنا وجدنا
من فراق لها بدا)
(إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو
كادت تهيم بها وجدا)
(كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها ... وداعا ولم
أحدث بساحتها عهدا)
فقال لي يا موصلي اشتقت إلى بغداد فقلت لا والله
يا أمير المؤمنين ولكن من أجل الصبيان وقد حضرني بيتان فأنشدته: [الوافر]
(حننت إلى أصيبية صغار ... وشاقك منهم قرب المزار)
(وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار
من الديار)
فقال لي يا إسحاق سر إلى بغداد فأقم مع عيالك
شهرا ثم سر إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم.
وحدث حماد بن إسحاق عن إسحاق قال دخلت يوما دار
الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا فسمعت صوت عود من بيت
وترنما لم أسمع أحسن منه قط فأطلع خادم رأسه وصاح فدخلت وإذا الواثق فقال لي أي
شيء سمعت فقلت الطلاق كاملا لازم لي وكل مملوك لي حر لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط
حسنا فضحك وقال ما هو الأفضل أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم والتابعون بعدهم وكثر في حرم الله عز وجل ومهاجر رسوله صلى الله
عليه وسلم أتحب أن تسمعه قلت إي والذي شرفني بخطاب أمير المؤمنين وجميل رأيه. وقال
يا غلام هات العود وأعط إسحاق رطلا. فدفع الرطل إلي وضرب وغنى في شعر لأبي
العتاهية بلحن صنعه فيه: [البسيط]
(أضحت قبورهم من بعد عزتهم ... تسفي عليها الصبا
والحرجف الشمل)
(لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب
بالقاع منجدل)
فشربت الرطل ثم قمت ودعوت له فأجلسني وقال
أتشتهي أن تسمع ثانية قلت إي والله. فغنانيه ثانية وثالثة وصاح ببعض خدمه وقال
احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم. ثم قال يا إسحاق قد سمعت ثلاثة أصوات
وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلاثمائة ألف درهم فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسروا معك.
فانصرفت بالمال.
وحدث إسحاق بن إبراهيم قال جاءني الزبير بن
دحمان يوما مسلما فقلت له إلى أين فقال إن الفضل بن الربيع أمرني أن أبكر إليه
لنصطبح فقلت له أنت تعرف أن صبوح الفضل غبوق غيره فأقم عندي نشرب ثم قلت له: [الطويل]
(أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ... ونله مع
اللاهين يوما ونطرب)
(إذا ما رأيت اليوم قد بان خيره ... فخذه بشكر
واترك الفضل يغضب)
قال فأقام عندي وسررنا يوما ثم صار إلى الفضل
فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه الحديث وأنشده الشعر فعتب علي وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة إليه.
فقلت وكتبت بها إلى الفضل: [الطويل]
(يقول أناس شامتون وقد رأوا ... مقامي وإغبابي
الرواح إلى الفضل)
(لقد كان هذا خص بالفضل مرة ... فأصبح منه اليوم
منصرم الحبل)
(ولو كان لي في ذاك ذنب علمته ... لقطعت نفسي
بالملامة والعذل)
وتوصلت حتى عرضت الأبيات عليه فلما قرأها قال
أعجب من ذنبه وأشد أنه لا يرى من نفسه ذنبا بذلك الفعل
فقلت في نفسي لا أرى أمره يصلحه إلا حاجبه عون
فقلت لعون: [الخفيف]
(عون يا عون ليس مثلك عون ... أنت لي عدة إذا
كان كون)
(لك عندي والله إن رضي الفضل ... غلام يرضيك أو برذون)
فقال اكتب رقعة وقل شعرا لأعرضه لك عليه فقلت: [الطويل]
(حرام علي الراح ما دمت غضبانا ... وما لم يعد
عني رضاك كما كانا)
(فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل ... تعودني عند
الإساءة إحسانا)
قال فأتى الفضل بالشعرين جميعا فقرأهما وضحك
وقال ويحك وإنما عرض بقوله غلام يرضيك بالسوءة فقال قد وعدني بما سمعت فإن شئت أن
تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني ووفيت لعون.
وحدث إسحاق قال عتب على جعفر بن يحيى وقال إني
لا أراك ولا تغشاني فقلت إني أتيتك كثيرا فيحجبني خادمك نافذ فقال إذا حجبك عني
فنكه فكتبت إليه بعد أيام: [المتقارب]
(جعلت فداءك من كل سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا)
(يحولون بيني وبين السلام ... فلست أسلم إلا اختلاسا)
(وأنفذت أمرك في نافذ ... فما زاده ذاك إلا شماسا)
قال فأحضرني ودعا نافذا وقرأ الأبيات عليه وقال
له فعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي وجعفر يضحك ويصفق ثم لم يعد بعدها
إلى التعرض.
وحدث علي بن الصباح قال كانت امرأة من بني كلاب
يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده وكانت تميل إليه وتكني عنه في شعرها إذا ذكرته
بجمل قال فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه: [البسيط]
(وجدي بجمل على أني أجمجمه ... وجد السقيم ببرء
بعد إدناف)
(أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها ... أو وجد
مغترب من بين ألاّف)
قال
فأجبتها: [البسيط]
(إقر السلام على زهراء إذ ظعنت ... وقل لها قد
أذقت القلب ما خافا)
(أما رثيت لمن خلفت مكتئبا ... يذري مدامعه سحا وتوكافا)
(فما وجدت على إلف فجعت به ... وجدي عليك وقد
فارقت ألافا)
وحدث محمد بن عبد الله الخزاعي قال أنشدني إسحاق
لنفسه: [الطويل]
(سقى الله يوم الماوشان ومجلسا ... به كان أحلى
عندنا من جنى النحل)
(غداة اجتنينا اللهو غضا ولم نبل ... حجاب أبي
نصر ولا غضب الفضل)
(غدونا صحاحا ثم رحنا كأننا ... أطاف بنا شر
شديد من الخبل)
فسألته أن يكتبنيها ففعل فقلت ما حديث يوم
الماوشان فقال لو لم أكتبك الأبيات ما سألت عما لا يعنيك
ولم يخبرني.
قال وكان ابن الأعرابي يصف إسحاق ويقرظه ويثني
عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه ويستحسن قوله: [الخفيف]
(هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم
عهد طويل)
(غاب عني من أسمي فعيني ... كل يوم وجدا عليه تسيل)
(إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحب القليل)
وكان إسحاق إذا غنى هذه الأبيات تفيض عيناه
ويبكي أحر بكاء فسئل عن بكائه فقال تعشقت جارية فقلت
لها هذه الأبيات ثم ملكتها وكنت مشغوفا بها حتى كبرت واعتلت عيني فإذا غنيت هذا
الصوت ذكرت أيامه المتقدمة وأنا أبكي على دهري الذي كنت فيه. قال إسحاق وأنشدني
بعض الأعراب لنفسه: [الطويل]
(ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا
هيجت حين غنت)
(تغنت بصوت أعجمي فهيجت ... من الوجد ما كانت
ضلوعي أجنت)
(فلو قطرت عين امرئ من صبابة ... دما قطرت عيني
دما وأبلت)
(فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت أرى هذي
الحمامة جنت)
(ولي زفرات لو يدمن قتلنني ... بشوق إلى هاتي
التي قد تولت)
(إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت ... فمن لي
بأخرى في غد قد أظلت)
(فيا منشر الموتى أعني على التي ... بها نهلت
نفسي سقاما وعلت)
(لقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من
سافي التراب لضنت)
(فقلت ارحلا يا صاحبي فليتني ... أرى كل نفس
أعطيت ما تمنت)
(حلفت لها بالله ما أم واحد ... إذا ذكرته اخر
الليل أنت)
(ولا وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من
حيث لم تك ظنت)
(إذا ذكرت ماء العذيب وطيبة ... وبرد حصاه اخر
الليل حنت)
(بأكثر مني لوعة غير أنني ... أطامن أحشائي على
ما أجنت)
قال وحدث حماد بن إسحاق لما خرج أبي إلى البصرة
وعاد أنشدني لنفسه: [البسيط]
(ما
كنت أعرف ما في البين من حزن ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن)
(لما افترقنا على كره لفرقتنا ... أيقنت أني
قتيل الهم والحزن)
(قامت تودعني والدمع يغلبها ... فجمجمت بعض ما
قالت ولم تبن)
(مالت علي تفديني وترشفني ... كما يميل نسيم
الريح بالغصن)
(وأعرضت ثم قالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي
إياك لم تكن)
وحدث إسحاق قال دخلت على الأصمعي فأنشدته أبياتا
قلتها ونسبتها إلى بعض الأعراب وهي:
(هل إلى أن تنام عيني سبيل ...)
الأبيات،
وهي متقدمة. قال: فجعل يعجب بها ويرددها فقلت له إنها بنات ليلتها. فقال: لا جرم
إن أثر التوليد فيها بين فقلت ولا جرم أن أثر الحسد فيك ظاهر.
وكان إسحاق يقوم على ابن الأعرابي ويبره فكان
ابن الأعرابي يقول إسحاق والله أحق بقول أبي تمام: [المنسرح]
(يرمي
بأشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه)
ممن قد قيل فيه.
وحدث إسحاق قال: بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف
من وقعة الشراة وقد أصابته ضربة في وجهه فقال غنني فغنيته من شعر بعض الأعراب: [البسيط]
(إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... وباسم أودية عن
إسم واديها)
(عمدا ليحسبها الواشون غانية ... أخرى وتحسب أني
لست أعنيها)
(ولا يغير ودي أن أهاجرها ... ولا فراق نوى في
الدار أنويها)
(وللقلوص ولي منها إذا بعدت ... بوارح الشوق
تنضيني وأنضيها)
فقال: أحسنت والله أعده فأعدت عليه وهو يشرب حتى
صلى العتمة وأنا أغنيه إياه فأقبل على خادم له فقال له كم عندك فقال مقدار سبعين
ألف درهم فقال تحمل معه فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألونني فوزعت
المال بينهم فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا فكتبت إليه: [المنسرح]
(علمني جودك السماح فما ... أبقيت شيئا لدي من صلتك)
(لم أبق شيئا مما سمحت به ... كأن لي قدرة كمقدرتك)
(تتلف في اليوم بالهبات وفي الساعة ... ما
تجتبيه في سنتك)
(فلست أدري من أين تنفق لو...لا أن ربي يجزي على
هبتك)
فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي فصرت إليه
فدخلت فسلمت ورفع بصره إلي ثم قال اسقوه رطلا فسقيته فأمر لي
باخر واخر فشربت ثلاثة ثم قال غنني: (إني لأكني بأجبال عن اجبلها ...) فغنيته إياه
ثم أتبعته الأبيات التي قلتها .فقال لي: ادن فدنوت فقال لي أعد الصوت فأعدته فلما
فهمه وعرف المعنى قال لخادم له أحضرني فلانا فأحضره فقال له كم قبلك من مال الضياع
قال ثمانمائة ألف درهم فقال أحضرها الساعة فجيء بثمانين بدرة فقال جئني بثمانين
مملوكا فأحضروا فقال احملوا المال ثم قال يا أبا محمد خذ المال والمماليك حتى لا
تحتاج إلى أحد تعطيه شيئا.
حدث علي بن يحيى المنجم أن إسحاق لما انحدر إلى
البصرة كتب إلى علي بن هشام القائد جعلت فداك بعث إلي أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي
يرتفع عن قدري ويقصر عنه شكري فلولا ما أعرف من معانيه لظننت أن الرسول غلط بي فيه
فما لنا ولك يا أبا عبد الله تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة
من شرها أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا فلا أنت تريدنا ولا أنت تتركنا فأما ما ذكرته
من شوقك إلي فلولا أنك حلفت عليه لقلت: [الكامل]
(يا من شكا عبثا إلينا شوقه ... شكوى المحب وليس
بالمشتاق)
(لو كنت مشتاقا إلي تريدني ... ما طبت نفسا ساعة
بفراقي)
(وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق)
(هيهات قد حدثت أمور بعدنا ... وشغلت باللذات عن
إسحاق)
قد تركت جعلت فداك ما كرهت من العتاب في الشعر
وغيره وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأستقبل الشمال وأتنسم أرواحكم
فيها ثم يكون ما الله أعلم به وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله: [الطويل]
(ألا
قد أرى أن الثواء قليل ... وأن ليس يبقى للخليل خليل)
(وأني وإن مليت في العيش حقبة ... كذي سفر قد
حان منه رحيل)
(فهل لي إلى أن تنظر العين مرة ... إلى ابن هشام
في الحياة سبيل)
(فقد خبت أن ألقى المنايا بحسرة ... وفي النفس
منه حاجة وغليل)
وأما بعد فإني أعلم أنك وإن لم تسأل عن حالي تحب
أن تعلمها وأن تأتيك عني سلامة فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن مريض القلب وبعد
فأنا جعلت فداك في صنعة كتاب ظريف مليح فيه تسمية القوم ونسبهم وبلادهم وأسبابهم
وأزمنتهم وما اختلفوا فيه من غنائهم وبعض أحاديثهم وأحاديث قيان الحجاز والكوفة
وقد بعثت إليك بنموذج فإن كان كما قال القائل قبح الله كل دن أوله دردي لم نتجشم
إتمامه وإن كان كما قال العربي إن الجواد عينه فرارة أعلمتنا فأتممناه مسرورين
بحسن رأيك فيه.
وكان إسحاق يألف عليا وأحمد ابني هشام وسائر
أهلهم إلفا شديدا ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة في أمر لم يقع إلينا فهجاهم هجاء كثيرا.
فحدث أبو أيوب المديني عن مصعب الزبيري قال: قال
لي أحمد بن هشام أما تستحي أنت وصباح بن خاقان المنقري وأنتما شيخان من
مشايخ المروءة والعلم والأدب أن يذكركما إسحاق في شعره فيقول: [المديد]
(قد نهانا مصعب وصباح ... فعصينا مصعبا وصباحا)
(عذلا ما عذلا ثم ملا ... فاسترحنا منهما واستراحا)
فقلت له: إن كان قد فعل فما قال إلا خيرا إنما
ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها أو امرأة عشقها وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا
قال بماذا قلت: بقوله: [الطويل]
(وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في
الدنان وعام)
(أدرنا بها الكأس الروية موهنا ... من الليل حتى
انجاب كل ظلام)
(فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي
أحمد بن هشام)
قال أوقد فعل العاضّ بظر أمه قلت: إي والله قد
فعل.
ومن شعر إسحاق عند علو سنّه: [الطويل]
(سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني
والمدامة والشرب)
(سلام أمرئ لم يبق منه بقية ... سوى نظر العينين
أو شهوة القلب)
(لعمري لئن حلّئت عن منهل الصبا ... لقد كنت ورّادا
لمشرعه العذب)
(ليالي أغدو بين بردي لاهيا ... أميس كغصن
البانة الناعم الرطب)
وحدث أبو بكر الصولي عن إبراهيم الشاهيني قال
كان إسحاق يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه فأري في
منامه كأن قائلا يقول له قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكن تموت بضده فأصابه
ذرب فمات منه في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين في خلافة المتوكل على الله
فبلغ المتوكل نعيه فغمه وحزن عليه وقال ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته.
ثم نعي إليه بعده أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي الخارج عليه. فقال:
تكافأت الحالان. ثم قال: قام الفرح بوفاة أحمد وما كنت امن وثبته علي مقام الفجيعة
بإسحاق والحمد لله على ذلك.
ورثاه أودّاؤه وأصدقاؤه بأشعار كثيرة منها قول
إدريس بن أبي حفصة: [الطويل]
(سقى الله يا ابن الموصلي بوابل ... من الغيث
قبرا أنت فيه مقيم)
(ذهبت فأوحشت الكرام فما يني ... بعبرته يبكي
عليك كريم)
(إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني ... وإن كنت شيخا
بالعراق يتيم)
وقال مصعب بن الزبير يرثي إسحاق: [الطويل]
(أتدري لمن تبكي العيون الذوارف ... وينهل منها
مسبل ثم واكف)
(لفقد امرئ لم يبق في الناس مثله ... مفيد لعلم
أو صديق يلاطف)
(تجهز إسحاق إلى الله رائحا ... فلله ما ضمت
عليه اللفائف)
(وما حمل النعش الولي عشية ... من الناس إلا
دامع العين كالف)
(فلقيت في يمنى يديك صحيفة ... إذا نشرت يوم
الحساب الصحائف)
(تسرك يوم البعث عند قراتها ... ويفتر ضحكا كل
من هو واقف)
وحدث الصولي قال كان لإسحاق من الولد حميد وحماد
وأحمد وحامد وإبراهيم وفضل ولم يكن في ولد إبراهيم من يغني إلا إسحاق وطياب أخوه
ومات إسحاق وله من التصانيف التي تولى هو بنفسه تصنيفها كتاب أغانيه التي غنى فيها،
كتاب أخبار عزة الميلاء، كتاب أغاني معبد، كتاب أخبار حماد عجرد، كتاب أخبار حنين
الحيري، كتاب أخبار ذي الرمة، كتاب أخبار طويس، كتاب أخبار المغنين المكيين، كتاب
أخبار سعيد بن مسجح، كتاب أخبار دلال، كتاب أخبار محمد ابن عائشة، كتاب أخبار
الأبجر، كتاب أخبار ابن صاحب الوضوء، كتاب الاختيار من الأغاني للواثق، كتاب اللحظ
والإشارات، كتاب الشراب يروي فيه عن العباس بن معن وابن الجصاص وحماد بن ميسرة،
كتاب جواهر الكلام، وكتاب الرقص والزفن، كتاب النغم والإيقاع، كتاب أخبار الهذليين،
كتاب الرسالة إلى علي بن هشام، كتاب قيان الحجاز، كتاب القيان، كتاب النوادر
المتخيرة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أخبار حسان، كتاب أخبار الأحوص، كتاب أخبار
جميل، كتاب أخبار كثير، كتاب أخبار نصيب، كتاب أخبار عقيل بن علفة، كتاب أخبار ابن
هرمة .
وأما كتاب الأغاني الكبير فقال محمد بن إسحاق
النديم قرأت بخط أبي الحسن علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الكوفي الأسدي حدثني فضل
بن محمد اليزيدي قال كنت عند إسحاق بن إبراهيم الموصلي فجاءه رجل فقال له يا أبا
محمد أعطني كتاب الأغاني فقال أيما كتاب الكتاب الذي صنفته أو الكتاب الذي صنف لي
يعني بالذي صنفه كتاب أخبار المغنين واحدا واحدا ويعني بالذي صنف له كتاب الأغاني
الكبير الذي بأيدي الناس. قال محمد بن إسحاق: وحدثني
أبو الفرج الأصبهاني قال أخبرني أبو بكر محمد بن خلف وكيع قال سمعت حماد بن إسحاق
يقول ما ألف أبي هذا الكتاب قط يعني كتاب الأغاني الكبير ولا راه والدليل على ذلك
أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جمعت لما ذكر معها من الأخبار وما غني فيها إلى
وقتنا هذا وأن أكثر نسبة المغنين خطأ والذي ألفه أبي من دواوين غنائهم يدل على
بطلان هذا الكتاب وإنما وضعه وراق كان لأبي بعد وفاته سوى الرخصة التي هي أول
الكتاب فإن أبي ألفها إلا أن أخباره كلها من روايتنا. وقال لي أبو الفرج: هذا
سمعته من أبي بكر وكيع واللفظ يزيد وينقص.
قال وأخبرني جحظة أنه يعرف الوراق الذي وضعه
وكان يسمى سندي بن علي وحانوته في طاق الزبل وكان يورق لإسحاق فاتفق هو وشريك له
على وضعه وهذا الكتاب يعرف في القديم بكتاب السراة وهو أحد عشر جزءا ولكل جزء أول
يعرف به فالجزء الأول من الكتاب الرخصة هو من تأليف إسحاق لا شك فيه ولا خلف.
قرأت في كتاب ألف في أخبار أبي زيد البلخي أن
أبا زيد قال وذكر كتاب الأغاني لإسحاق فقال ما رأيت أعجب من الموصلي جمع علم العرب
والعجم في كتاب ثم أنشده بالاسم. قال: وكان إسحاق أديبا فاضلا متقدما في كل شيء
بلغني أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يعزيه بعبد الله بن طاهر فقال: [الخفيف]
(لم تصب أيها الأمير بعبد ... الله لكن به أصيب الأنام)
(فسيكفيكم البكاء عليه ... أعين المسلمين والإسلام)
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|