المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24



قصة البيئات الثلاثة  
  
2217   04:37 مساءً   التاريخ: 10-6-2021
المؤلف : الدكتور محمود البستاني
الكتاب أو المصدر : قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة : ج2 ، ص 399 - 419
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014 5907
التاريخ: 2023-03-16 1128
التاريخ: 9-10-2014 2146
التاريخ: 9-10-2014 1868

لاحظنا أن سورة الرحمن تتضمن عنصرا قصصيا ينتسب إلى ما أسميناه بــ : قصص البيئة الاخروية ، لاحظنا أيضا أن هذه القصة تتناول ثلاثة أصناف ، أحدها : الصنف الكافر ، الآخران الصنفان المؤمنان ، هما : أصحاب الجنتين العاليتين «لمن خاف مقام ربه جنتان» أصحاب الجنتين الدانيتين ، هما :

للدرجة الأدنى من سابقتها ... هنا في سورة الواقعة نجد تصنيفا ثلاثيا مماثلا لما سبق ، لكنه وفق عمارة قصصية خاصة ، آن لنا أن نحدثك عنها ، فنقول :

سورة الواقعة التي نحن الآن في صددها تنتسب كما قلنا إلى قصص البيئة في الحياة الآخرة .

قد قسمت هذه البيئة إلى ثلاثة :

القسم الأول : بيئة السابقين هم : النخبة البشرية التي اعد لها مكان خاص من جنات النعيم .

القسم الثاني : بيئة أصحاب اليمين أو الميمنة ، هم : أقل امتيازا من الطبقة المتقدمة ، فيما اعد لها مكان متميز عن المكان المخصص للسابقين .

القسم الثالث : بيئة أصحاب الشمال أو المشأمة ، هم : أصحاب النار الذين اعد لهم مكان يتناسب مع مواقفهم في الحياة الاختبارية : الحياة الدنيا .

بيئة السابقين

لنقرأ النص القصصي ، أولا :

{السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}

{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}

قبل أن نتقدم إلى وصف البيئة التي رسمت لهذه الطبقة من الشخوص ينبغي أن نقف على سماتهم التي حكتها القصة ذاتها .

لقد وصفهم الله سبحانه تعالى بأ نهم : السابقون ، بأ نهم : المقربون .

من حيث العدد ، وصفوا بأنهم جماعة كبيرة من الأوائل ، جماعة صغيرة من الأواخر .

السؤال هو : كيف اتيح لهذه الطبقة أو الصنف الحصول على امتيازات خاصة ـ سنلاحظها بالتفصيل عند حديثنا عن البيئة التي اعدت لهم ـ بحيث وصفوا بكونهم سابقين بالقياس إلى سواهم ، بكونهم كثيري العدد في سابق الزمان ، وضئيلي العدد في لاحق الزمان ؟

النصوص المفسرة متفاوتة في تحديد السابقين إلى طاعة الله ، تطبيق مبدأ الخلافة في الأرض .

فبعضها يحدد أسماء بأعيانها ، ... بعضها يكتفي بالتعميم ثالث يفصل في هذا الصدد .

بيد أن النص الذاهب إلى أن السابقين هم : رسل الله خاصته من خلقه ـ فيما اثر ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ . مثل هذا النص يظل متسقا مع الامتياز الممنوح للرسل الأئمة (عليهم السلام) بصفتهم يمثلون قمة التجسيد لمفهوم العبادة ، كما هو واضح .

طبيعيا أن يضاف إليهم كما ألمحت إلى ذلك بعض النصوص المفسرة ، كما يقتضيه ظاهر النص القصصي النماذج التي سارعت قبل سواها إلى التصديق برسالات السماء ، أو النماذج التي أخلصت في ممارساتها العبادية بنحو أشد من سواها ، سواء أكان ذلك يعني عددا كبيرا من الامم الماضية عددا قليلا من امة محمد (صلى الله عليه وآله) ، أو العدد القليل في اخريات الزمان بالقياس إلى أوائله مطلقاً .

الآن لنتجه إلى وصف البيئة المخصصة للسابقين .

لقد هيأت السماء لهم الوسائل الثلاث المعروفة : الأكل ، الشرب ، الجلوس ، أولا .

ثم نوعت هذه الوسائل ، ثانيا .

أخيراً أخضعتها لانتقاء خاص من حيث الترف في الإشباع .

قد رافق هذه الوسائل المادية إشباع عقلي ، أو نفسي يتصل بالعلاقة القائمة بين الأطراف .

أما الوسائل المادية الثلاث المعروفة ، فأولها هو : المكان المعد للجلوس ، حيث تم على النحو الآتي :

{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}

إن مجرد جلوسهم مستندين ، متكئين بدلا من الجلوس العادي ، كاف في تحقيق دلالة الترف . فإذا أضفنا إلى ذلك جلوسهم على السرير بدلا من الجلوس على أرض الجنة ، ... حينئذ يبلغ الترف درجة عالية .

ثم إذا أضفنا إلى ذلك ، أن السرير نفسه قد وصف بأ نه موضون أي : منسوج ، محبوك ، متشابك الحلقات ، حينئذ فإن الترف يبلغ ذروته من حيث توفر مثل هذه الحاجة الجمالية .

لكي يتم الإشباع بنحو لا مماثل له ، نجد أن وصله بتهيئة المناخ النفسي للجالسين على السرر ، قد تحقق بنحوه الذي لا مزيد عليه ، ... نعني به كونهم متقابلين ، يجلس كل منهم قبال الآخر ، لا أ نهم منفردون ، أو مبعثرون .

واضح أن الجلوس واحدا قبال الآخر ، لا يكلف الجالس أدنى حركة أو أدنى جهد مبذول في التوجه إلى صديقه الذي يحدثه ... هذا منتهى الترف الذي يمكن أن نتصوره في هذا الميدان .

هذا كله فيما يتصل بنمط الجلوس ، لقاء الأحبة فيما بينهم .

لكن هل أن مثل هذه الجلسة تمضي بشكلها المترف المذكور ، دون أن يرافقها زاد من الأكل الشرب ؟

إن الزاد بشكليه : الأكل الشرب مهيأ تماما ، كما سنرى ذلك مفصلا .

غير أن مجرد الأكل الشرب ، لا يحققان النمط العالي من الترف ، ما لم يقترنا بــ الوسائل الجمالية العالية أيضا .

لعل أول ما يتحسسه الجالسون على السرر الموضونة هو : العنصر البشري الذي يخدمهم ، هم جالسون على أسرتهم .

ها هو العنصر البشري الخادم يتقدم إليهم بتهيئة ما يشتهونه ، واحدا واحدا :

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ...}

سواء أكان هؤلاء الولدان قد هيأتهم السماء خصيصا لخدمة الجالسين على السرر الموضونة ، أم كانوا أطفال الدنيا الذين لم تكن لهم حسنات ، أم كانوا أطفال المشركين الذين اعفوا من الحساب ماداموا غير مكلفين ... أيا كان هؤلاء الولدان ، فإنهم في الحالات جميعا قد هيأتهم السماء ، لكي يخدموا هؤلاء الجالسين على السرر الموضونة ، ... يطوفون عليهم بما يشتهونه من الزاد ، حتى لا يكلفوا أنفسهم أدنى نصب في الجلسة الأبدية التي يلتقي الأحبة فيها بعضهم بعضا .

ها هم السابقون في (جنات النعيم ...) ، متكئين على السرر ، ... متقابلين : واحدا حيال الآخر ، في أعلى سلم من الترف ، لا يكلفون أنفسهم أدنى تعب أو حركة في إشباع حاجاتهم المتصلة بالجلوس بلقاء الأحبة .

الزاد أيضا ، ... يهيأ لهم بالمستوى ذاته من الترف ، حيث يتطوع الولدان المخلدونلخدمتهم في تهيئة الزاد أكلا شربا .

الآن ما هي مستويات التناول لكل منهما ؟ ما هي درجة الترف الذي يصاحب إشباع حاجاتهم لكل من الشرب الأكل ؟

فيما يتصل بالشرب ، يقول النص القصصي :

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ}

الملاحظ أن تناول الشرب من الممكن أن يتم بأية أداة ، ... بأي إناء متاح في هذا الصدد .

بيد أن السماء تأبى إلا أن تحقق لعبادها المخلصين ، السابقين إلى الخيرات أعلى أدوات الترف التي تتساوق مع نفس درجة الترف الذي حقق لهم الجلوس على السرر ، لقاء الأحبة .

لقد هيأت السماء لهم بدلا من آنية واحدة ، ثلاثة أشكال من الأواني تتسم جميعها بمظهر جمالي يحقق للسابقين إشباعا مزدوجا لكل من حاستي الجمال التذوق .

لقد هيـئت لهم هذه الأشكال الثلاثة : بأكواب أباريق كأس من معين .

فهناك أكواب ، أي أقداح واسعة الرؤوس .

هناك ثانيا أباريق أي الأواني ذات الخراطيم العرى ... ذات المظهر البراق في صفاء لونها .

هناك ثالثا كؤوس ، هي واضحة الشكل كما هو بين .

من البين أيضا أن كلا من الأواني المذكورة يقترن بإشباع جمالي مختلف عن الآخر ، فالأكواب غير الأباريق ، الأخيرتان غير الكؤوس ، كل منها متميز عن الآخر ، ليس في مظهره الخارجي فحسب ، بل في مظهره الحركي في اليد في عملية التناول . فالأباريق مثلا ذات عرى تـتناول باليد . . قد تكون الكؤوس مثلها ...

قد تكون الكؤوس أيضا ... قد لا تكون كذلك ... غير أ نهما متميزان بالضرورة عن الأباريق في اشتمالها على خراطيم للشرب مثلا ... هكذا .

إذن هناك مظهر جمالي يتصل بشكل الأواني ، هناك مظهر حركي يتصل بطريقة التناول : حملا باليد ، شربا بالفم . كلها تحقق مستويات تمثل الذروة من الترفالذي أعدته السماء لعبادها السابقين إلى طاعة الله .

لقد تساوق كل من مظاهر الجلوس الشرب في بيئة جنات النعيم التي اعدت للسابقين إلى طاعة الله .

الأكل أيضا يتساوق بدوره مع درجة الترف التي لحظناها في الشرب الجلوس .

لنقرأ :

{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}

الزاد هنا نمطان : فاكهة لحم .

حين ننقل هذين النمطين من تناول الطعام إلى خبراتنا في الحياة الدنيا ، حينئذ يمكننا أن نقرر بوضوح أن لحوم الطير هي أشد جذبا من لحوم الأنعام مثلا ...

فإذا أضفنا إلى ذلك أن لحوم الطير متنوعة ، إلى أن كلا منا من الممكن أن يتناول نوعا منها بالقياس إلى الأنواع الاخرى ... حينئذ فإن تناول ما نشتهيه من هذا النوع أو ذاك ، يحقق أعلى درجات الإمتاع الذي ننشده .

إذن إختيار لحوم الطير على سواها من جانب ، ثم إختيار ما نشتهيه من أنواعها من جانب آخر ، يمثل ذروة الإشباع المتصل بحاجاتنا الحيوية .

هكذا كله فيما يتصل بما هو ملح في خبراتنا الدنيوية .

أما ما يتصل بما هو أقل إلحاحا نعني به الفاكهة ، ... فإنها موسومة بنفس الطابع : ما نشتهيه نختاره :

{فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ...}

الآن لا نزال مع القصة في سردها لبيئة الزاد : أكلا شربا .

لا نزال أيضا نتناول النص القصصي من زاوية خبراتنا في الحياة الدنيا .

فالسابقون إلى طاعة الله يتناولون بالأكواب الأباريق الكؤوس ما هو جار مثل النهر أو النهر ذاته .

لا نغفل أن صفة الجري تحمل بدورها إثارة بالغة المدى في إشباعها للحس الحيوي الجمالي .

إن ما هو جار بمثل الأنهار ، ما هو ظاهر للعيون ينطوي على جملة من الدلالات :

فأنت حينما تمد عينيك إلى مجرى ثر ، غزير لا نضوب فيه ، ... عندها تحقق توازنا داخليا لا يصحبه أي توتر محتمل في حساب المستقبل ...

المجرى الثر ... ، الغزير ... ، الدائم ... يحقق في الآن ذاته إشباعا جماليا بما ينطوي عليه مرأى النهر من جمال جذب ...

لكن يضاف إلى ذلك كله أن القصة عقبت على ذلك بما يلي :

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ}

هذا التعقيب لو نقلناه إلى خبراتنا الدنيوية ، لأمكن أن ندرك بوضوح قيمة الشرب الذي لا نتفرق عنه ، أو لا يصيبنا أذى منه ، لا ننزف عنه حينما نتناول ماء أو لبنا أو عسلا دون أن نقيده بالمقادير الملائمة مثلا ...

القيمة النفسية لمثل هذه الخبرات التي يدعنا النص القصصي ننقلها من خبرة دنيوية إلى خبرة اخروية مع ملاحظة أن التركيبة الآدمية قائمة على دوافع تبحث عن الإشباع من جانب ، ثم تشبع فعلا من جانب آخر .

لكننا لو تصورنا أن الإشباع عملية استمرارية لا يسبقها توتر مثلا ، أو أن التوتر غير مصحوب بما نألفه في حياتنا الدنيا باحتمالات الإحباط أو مجرد التوجس من الإحباط مثلا ... أقول : لو أمكننا أن نتصور أمثلة هذا التركيب الدافعي الجديد للآدميين في جوار الله سبحانه ... لأدركنا بوضوح ضخامة العطاء الذي تمنحه السماء لعبادها السابقين إلى طاعته ...

اللهم احشرنا مع هؤلاء السابقين ، بمحمد آله الطاهرين .

المهم أن الوصف القصصي لبيئة السابقين شرباً أكلا جلوساً تلاقياً مع الأحبة ... يظل من حيث عنصر الإشباع مجسداً لذروة الترف الذي يمكن أن نتمثله في هذا الصدد ...

لكن الأمر لا يقف عند التخوم المذكورة ، بل يتجاوزه إلى عنصر جديد ، ثم إلى نمط التعامل الأخلاقي فيما بين السابقين إلى الطاعة ، إلى العبادة ، إلى الخلافة في الأرض .

لقد هيأت السماء لعبادها السابقين إلى الطاعة حاجات حيوية من النمط الأشد ترفا كما لحظنا . شراباً يدار بأكواب أباريق كؤوس ، فاكهة مما يتخيرون ، لحم طير مما يشتهون ، حورا كأمثال اللؤلؤ المكنون .

هذه الحاجات الحيوية ، أردفتها السماء بحاجات نفسية كان أولها هو لقاء الأحبة يقابل الواحد منهم الآخر في جلسته على السرر الموضونة .

الآن يتوج النص القصصي هذه الحاجة النفسية بظاهرة خاصة من السلوك ، هي أن السابقين إلى الطاعة في مقرهم (جنات النعيم) يطبعهم نوع من التوافق الاجتماعي عبر العلاقة القائمة بين الأطراف على هذا النحو :

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}

قبل أن نتحدث عن هذه الظاهرة الاجتماعية في بيئة جنات النعيم ، ينبغي أن ننتبه إلى تعقيب القصة على الحاجات الحيوية التي هيأتها للسابقين إلى الطاعة فيما يتصل بحاجات الجوع العطش الجنس الحاسة الجمالية ، حيث عقبت القصة على ذلك ، بقولها :

{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

هذا التعقيب هو الحصيلة الفكرية لكل ما رسمته القصة من حاجات حيوية .

فالطعام منعزلا عن مفهوم العبادة أو الخلافة في الأرض ، لا يعني إلا حاجة تنتفي أهميتها أساسا . هكذا سائر الحاجات المتصلة بالشرب الحاسة الجمالية .

نحن الآن قبال بيئتين : بيئة الحياة الدنيا بيئة الحياة الاخرى .

أما بيئة الحياة الدنيا ، فقد ألغتها القصة بطريقة فنية غير مباشرة من ذاكرة الإنسان ، لخصتها في هدف فكري نفسي واحد هو قولها : {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أي أن العمل لله هو المسوغ الوحيد لتهيئة الحاجات الحيوية بنحوها المترف في الحياة الآخرة .

إذا كان الطعام مثلا في بيئة الدنيا يشكل مجرد وسيلة لاستمرار الكائن الآدمي في ممارساته العبادية ، فإنه يتحول في بيئة الآخرة إلى كونه أيضا وسيلة للعبادة ، لكنها من نمط آخر .

ترى : كيف يمكن إدراك مثل هذا الفارق بين الوسيلتين ؟

إن علاقة الكائن الآدمي بالله ، تظل متصلة بحاجة عقلية أو نفسية صرف ، سواء أكانت هذه العلاقات بين الفرد الله في بيئة الدنيا ، أو في بيئة الآخرة .

أما الحاجة الحيوية ـ أي : البيولوجية ـ من طعام نحوه ، فإنها في نطاق الدنيا تظل وسيلة يكتنفها صراع في نطاق الحياة الآخرة ينتفي عنصر الصراع فيها .

فأنت حينما تؤجل رغبتك في تناول طعام شهي ، تكون قد اجتزت مرحلة صراع بين تناول الطعام بين تأجيله ، كأن تصوم مثلا ، أو تمضي إلى جبهات القتال دون أن تحس بقيمة ما هو زائد على الحاجة ، أو تمتنع عن تناوله ، نظرا لشوبه بما هو محرم ... إلى آخره .

كل ذلك يتطلب تأجيلا للذة حيوية اجتياز مرحلة الصراع بين الحصول على اللذة تأجيلها ، حتى ينتهي بك المطاف إلى يقين تام ، أن الطعام لا ضرورة له إلا بما يسد الحاجة . أن الصوم ، التوجه نحو جبهات القتال ، الإمتناع عن الشبهات الحائمة على زاد مشتبه به ، هو الخيار الإيجابي الذي يتسق مع دلالة مفهوم الخلافة في الأرض .

أما في الحياة الآخرة ، فإن الصراع لا وجود له البتة ، كما لا وجود للخيار مادام لا صراع في الموقف . كل ما في الأمر أن الطعام يظل وسيلة تلقائية ، كعملية الدورة الدموية مثلا ، لا يصاحبها خيار في التوقف أو الجري .

يضاف إلى ذلك ، أن هذه الوسيلة أو الأداة إنما اكتسبت هذا النمط من الإشباع ، فلأ نها جزاء لممارسات العمل العبادي في الحياة الدنيا ، مما يعني أن العمل العبادي ـ هو حاجة عقلية نفسية ـ هو الدلالة الوحيدة لمعنى الإنسان .

من هنا ، فإن العلاقات الاجتماعية في بيئة الآخرة بما يطبع هذه العلاقات من دلالة نفسية عقلية ، تظل هي السمة التي تغلف السلوك ، فيما توج بها النص القصصي رسمه لبيئة جنات النعيم ، قائلا عنهم :

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}

إننا لو نقلنا طبيعة العلاقات الاجتماعية التي قالت القصة عنها بأ نها مطبوعة في بيئة جنات النعيم بعدم سماع اللغو الإثم ، بأن التحية السلام الحب هو الطابع الذي يسود العلاقة بين الأطراف الاجتماعية ...

أقول : لو نقلنا هذه الدلالة إلى خبراتنا في الحياة الدنيا ، حينئذ سندرك أهمية مثل هذه العلاقات الاجتماعية ، مثلما سندرك الأهمية الفنية لمثل هذا الرسم القصصي .

فالقصة بدلا من أن تطالبنا بشكل مباشر بأن نختط لأنفسنا سلوكا قائما على الحب في نشاطنا الدنيوي ، ... سلكت منحى فنيا غير مباشر في مطالبتنا بالسلوك القائم على الحب ، الابتعاد عن لغو الكلام ، تجريح الآخرين .

قالت القصة لنا : إن أهل الجنة لا يتكلمون بكلام لا فائدة فيه .

قالت لنا : إن أهل الجنة لا يسيء أحدهم إلى الآخر ، لا يتهمه .

قالت لنا : إن أهل الجنة ، يسلم بعضهم على الآخر يحييه ، يفيض عليه مشاعر الحب .

هذا السلوك الذي يطبع أهل الجنة ، تطالبنا القصة بمثله في سلوكنا الدنيوي أيضا ، دون أن تقول لنا ذلك مباشرة ، بل جعلتنا نستوحي نستخلص نستنتج بأنفسنا ضرورة أن ندرب أنفسنا في الحياة الدنيا على الابتعاد عن لغو الكلام الابتعاد عن الإساءة ، إبداله بلغة الحب ، بالكلام الهادف .

كل ما في الأمر أن أهل الجنة لا يحيون صراعا في ابتعادهم عن لغو الكلام ، الإساءة . في حين أن السلوك الدنيوي قائم على تركيبة الصراع الذي تطالبنا السماء باجتيازه ، تأجيل اللذة العابرة ، التدريب على ممارسة العلاقة القائمة على حب الآخرين على الابتعاد عن الكلام الذي لا فائدة فيه .

كل هذه الدلالات أوحتها القصة لنا إيحاء وفق طريقة فنية غير مباشرة على نحو ما تقدم الحديث عنه .

الآن بعد أن أوضحنا الطريقة الفنية التي سلكتها القصة في حملنا على استخلاص ما فيها من دلالة فكرية ، يتعين علينا أن نتحدث بالتفصيل عن كل من مفهوم عدم اللغو عدم التأثر التحية أو السلام ، في خاتمة الوصف الذي شمل بيئة السابقين إلى طاعة الله ، في جنات النعيم التي اعدت لهم . حيث بدأ وصف بيئتهم بأ نهم :

{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}

{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}

{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}

حيث انتهى ذلك بأ نهم :

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}

قلنا : إن السابقين إلى طاعة الله لا يتكلمون في بيئة الجنة بكلام لا فائدة فيه :

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ...} .

إذا نقلنا هذه الظاهرة إلى بيئة الدنيا لحظنا أن اللغو من الممكن أن يتجسد في عدة أنماط من السلوك ، منها :

الكلام غير الهادف ، الكلام زائدا عن الحاجة ، المزاح ، الغناء ، الجدال العقيم ، ... إلى آخره .

مثلما قلنا أيضا : فإن القصة من وجهة نظر فنية تستهدف إيصال هذه الحقيقة إلى نشاطنا الدنيوي أيضا بنحو غير مباشر ، بغية حملنا على تعديل السلوك ضبطه عبر مرحلة الصراع الذي يطبع السلوك البشري في الحياة الدنيا .

إن النصوص المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، تطالبنا بالصمت عندما لا نجد ثمة ضرورة إلى الكلام .

في حقل الأمراض النفسية يشير أهل البيت (عليهم السلام) إلى أن حب الكلام يشكل واحدا من هذه الأمراض التي ينبغي أن ندرب ذواتنا على التخلص منها .

فمن الواضح أن أية شخصية عندما تحاول أن تـتكلم في ما لا ضرورة له ، إنما تحاول لفت الانتباه إلى ذاتها المريضة التي تـتحسس الضعة الهوان ، محاولة سدها بأية وسيلة تؤكد هوية الذات .

أما الشخصية السليمة ، فإن إحساسها بالثقة الاستقلال الكفاءة ، جدير بأن يلغي لديها أي حافز إلى الكلام الذي لا ضرورة له .

القيمة الفكرية الثانية في القصة ، هي عدم التأثيم :

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا}

واضح أن الكلمة المجرحة ، القاسية ، المتهمة ، الكلمة التي تسيء إلى الآخرين ، إنما تعبر ـ في حقل المرض النفسي ـ عن وجود نزعة عدوانية لدى صاحبها ، ملأى بالحقد الضغينة الحسد الكراهية .

لا حاجة بنا إلى التذكير بنصوص أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الحقل ، مادام المشرع الإسلامي ـ أساسا ـ يشدد على تنقية الشخصية تدريبها على الحب بدلا من الحقد .

هذا ما ألمحت القصة إليه في القيمة الفكرية الثالثة التي طرحتها في القصة ، عبر رسمها للسابقين إلى طاعة الله في بيئة الجنة ، نعني بذلك هذه الفقرة :

{إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}

فالسلام أو التحية لا يشكل مجرد سلوك لفظي خال من الدلالة ، بل حتى في حالة الافتعال يظل تعبيرا ـ أو على الأقل ـ محاولة في التدريب على الحب ، يمسح من الأعماق بقايا الكراهية أو التوتر الذي يطبع أحد الأطراف الاجتماعية في السلوك الدنيوي .

خارجا عن القيم الفكرية للقصة ... نجد أنها قد ختمت بالوصف الحائم على ما هو نفسي قبال ما هو حيوي متصل بالطعام الشرب الحاسة الجمالية ، مما تشعرنا ـ هذه النهاية القصصية ـ بأن القيمة الحقة التي تتوج بيئة السابقين إلى طاعة الله هي : الحب الذي يطبع العلاقة القائمة بين الأطراف .

المهم أن السابقين إلى الطاعة يشكلون صفوة أو نخبة رسمتهم القصة في الذروة من النعيم : حيويا نفسيا .

يليهم في بيئة الجنة : أصحاب اليمين أو الميمنة .

هم المجموعة الأقل امتيازا من السابقين .

طبيعيا أن نتوقع إشباعا أقل حجما عند أصحاب اليمين بالقياس إلى السابقين ، ما دامت عملية الاختبار الدنيوي الذي اجتازه السابقون قد اقترن بتأجيل أكبر حجما من التأجيل الذي مارسه أصحاب اليمين في مواجهتهم للحياة الدنيا لذائذها .

 

بيئة أصحاب اليمين

 الآن لنقرأ نصوص القصة في رسمها لبيئة الجنة التي اعدت لأصحاب اليمين :

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}

{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}

{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}

{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا}

إن المتأمل لهذه البيئة التي اعدت لأصحاب اليمين ، يجدها عبر المقارنة بالبيئة التي اعدت للسابقين ، ذات فارقية كبيرة دون أدنى شك فيما يتصل بدرجة الإشباع ، أو درجة الترف ، مع ملاحظة غياب العنصر الاجتماعي المتمثل في تحديد العلاقات القائمة بين الأطراف .

وواضح أن لهذا الفارق بين البيئتين مسوغاته المتصلة بالفارقية بين الفريقين في ممارساتهما لمهمة الخلافة في الأرض .

كما أن الطرائق الفنية التي سلكتها القصة في هذا الصدد يجلي حقائق جديدة ينبغي أن نقف عندها مفصلا .

الملاحظ أن أول عنصر يختفي في الجنة التي يرفل فيها أصحاب اليمين ، هو عنصر المكان من حيث وسائل الترف الذي يصاحبه . فليس ثمة إشارة إلى السرر التي وصفت بأنها محبوكة موضونة ، متكئين عليها متقابلين .

هذه الأوصاف : السرر ، كونها موضونة ، الإتكاء عليها ، مقابلة الأحبة واحدا حيال الآخر . هذه الأوصاف التي لحظناها ـ فيما يتصل بعنصر المكان ـ قد اختفت هنا عند أصحاب اليمين ، بحيث لم يرد أي وصف لمكان الجلوس ، عدا : الظل الممدود والفرش المرفوعة التي لا نملك يقينا بأنها تعني المكان المفروش ، مادام ظاهر النص و بعض النصوص المفسرة تذهب إلى أن المقصود بها النساء

والسؤال هو : هل أن القصة اعتمدت عنصر الاقتصاد في عملية السرد القصصي بحيث لم تكن ضرورة لوصف سبق أن قدمته لأصحاب السبق السابقين ، فحذفته هنا ، اعتمادا على كشف القارئ لهذه الحقيقة ؟

هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه بحسم و يقين ، ما دمنا بالضرورة ندرك بأن فارقا بين درجات الإيمان يطبع المؤمنين دون أدنى شك .

وتبعا لذلك ، فإن درجات الإثابة لابد أن تـتفاوت بدورها أيضاً ، بحيث تنعكس على مستويات الترف في الجنة .

بيد أننا في نصوص قرآنية كريمة اخرى نجد تعميما لأصحاب الجنة فيما يتصل بوسائل الجلوس ، من نحو قوله تعالى :

{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}

{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}

{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}

{نَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ...}

فالأرائك والسرر والفرش اتكاء عليها أو جلوسا ، قد وردت في سياق أصحاب الجنة دون أن تشير هذه النصوص القرآنية إلى الفارقية بين الأصحاب .

والملاحظ أن أصحاب اليمين قد اختفى مثل هذه الأوصاف من بيئاتهم في الجنة قبال الوصف التفصيلي لأصحاب السبق .

والسؤال للمرة الجديدة ، لماذا لم يرد وصف المكان لأصحاب اليمين ؟

وهل أنهم داخلون في التعميمات الواردة في وصف أهل الجنة ، فيشملهم هذا الوصف للمكان ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا اختفى وصف المكان هنا قبال الوصف التفصيلي للسابقين ؟

لقد وصفت بيئة أصحاب اليمين في الجنة ، بأن ما يكتنفهم هو :

1 ـ سدر مخضود : منزوع الشوك لا يكلف صاحبه رشحة تعب يبذله في نزع الشوك عند تناوله .

2 ـ طلح منضود : نوع من الأثمار أو الأشجار يتميز بجمال الطعم أو الشكل .

3 ـ ظل ممدود : ظل باق لا يزول .

4 ـ ماء مسكوب : لا ينقطع عنهم .

5 ـ فاكهة كثيرة : لا تنقطع في موسم دون آخر ، و لا تمنع عليهم بسبب أو بآخر .

6 ـ فرش مرفوعة : قد تكون بسطا عالية و قد تكون رمزا للحور .

ويعنينا من هذا الوصف صلته أولا بسلوكنا الدنيوي ، والفارق بين السابقين وأصحاب اليمين ثانيا ، من حيث صلته أيضا بسلوكنا الدنيوي .

أما الفارق بين الجنتين ، أو البيئتين ، أو المكانين اللذين خصصا لكل فريق أو طبقة فمن الوضوح بمكان كبير .

إن مستويات الترف التي لحظناها في وصف السابقين قد اختفت هنا تماما ، سواء أكان ذلك متصلا بالمكان ، أو الأكل و الشرب ، أو الخدمة .

على سبيل المثال : لم يرد وصف في كل نصوص القرآن الكريم من حيث المكان ، بأن السرر موضونة أي محبوكة ، منسوجة ، متشابكة إلا في مورد واحد هو وصف السابقين .

ومن حيث الخدمة لم يرد وصف للكؤوس ، والأباريق ، و الأكواب مجتمعة ، إلا في مورد واحد هو وصف السابقين .

ومن حيث الأكل فإن لحوم الطير لم ترد إلا في مورد واحد هو وصف السابقين .

إن ذلك يعني ـ من حيث الدلالة الفكرية ـ أن الاشباع الاخروي يقابله جوع دنيوي يتناسبان طرديا أحدهما بالنسبة إلى الآخر .

فالسابقون : هم خاصة البشر ، أولياء ، متقون . لم يصدر عنهم سلوك خاطئ ، إلا ما لا يطلق عليه مصطلح الخطأ .

أما ما دونهم فقد يتراوحون بين الصواب و الخطأ على نسب مختلفة ، لكنهم بعامة متجهون نحو الله ، يوظفون طاقاتهم للخلافة في الأرض .

فالمهم أن المتمحض في نشاطه لله ، غير الممتزج برائحة الذات .

فالمـجاهد في سوح القتال غير القاعد .

والمجاهد بدمه غير المجاهد بأمواله فحسب .

وهكذا فيما يتصل بجهاد النفس .

المهم ـ للمرة الجديدة ـ أن الدلالة الفكرية للقصة ، مؤشر إلى أن الشخصية الإسلامية بقدر ما تـتنازل عن ذاتها في الحياة الدنيا ، تحقق إشباعا اخرويا يتناسب مع درجة تنازلها عن الذات ... وفي هذا كفاية لكل معتبر .

ولعل ما يعزز هذه الدلالة المستخلصة من أن حجم التنازل عن الذات في الدنيا يتناسب مع حجم الإشباع في الاخرى ، هو الوصف الذي بدأت القصة به في بيئة أصحاب الشمال ، بعد أن انتهت من وصف البيئة للسابقين وأصحاب اليمين .

 

قصة أصحاب الشمال

لقد بدأت القصة ـ أول ما بدأت به في وصف أصحاب الشمال ـ على هذا النحو :

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}

والترف يعني : قمة الإشباع للحاجات الدنيوية .

ومع أن القصة تحدثت فيما بعد عن شخصيات أصحاب الشمال وربطتهم بالسلوك المنكر لليوم الآخر ، إلا أن الترف الدنيوي في حقيقة الأمر هو السبب الكامن وراء الإنكار . وهذا ما يفسر ـ من حيث الدلالة الفنية ـ صياغة مفهوم الترف بمثابة بداية قصصية قبل الحديث عن السلوك المنكر لليوم الآخر ، مما يعني أن الترف أو البحث عن إشباع الذات يقف وراء كل سلوك سلبي ، سواء أكان هذا السلوك إنكارا فكريا لليوم الآخر ، أو إيثارا لمتاع الحياة الدنيا .

إن القاعد عن الجهاد بلا عذر مثلا مع إيمانه بمشروعيته ، يظل مؤثرا ترف الحياة الدنيا بما يواكب هذا الترف من تشبث بالحياة ، وتدفق حاجاته فيها .

كما أن الذي يمارس الخديعة والغش و الكذب والافتراء والتجريح ، ... والكبر و السيطرة و التعالم ، وسوء الظن ، وتخريب العلاقة بين الأطراف ، و ... و ... و ... إلى آخره ، اولئك جميعا يجسدون دون أدنى شك بحثا عن ترف الحياة في متاعها العابر .

بيد أن قمة الترف تظل متجسدة في الإنكار لليوم الآخر ، لكن دون أن يعني ذلك إعفاء المؤمنين بالله من مسؤولية ايثارهم ترف الحياة الدنيا في مفردات السلوك اليومي الذي يمارسونه .

ولعل الفارقية التي رسمتها القصة بين السابقين إلى الطاعة ، وبين أصحاب اليمين من جانب ، وصلة ذلك بدرجة التنازل عن الذات ... عن الترف ... ، ثم وصل ذلك بظاهرة الترف الذي بدأت به قصة أصحاب الشمال ، ... لعل ذلك يوحي ـ بطريقة فنية غير مباشرة ـ بضرورة إدراك مثل هذه الدلالة الفكرية التي تظل مؤشرا إلى أن المعيار في السلوك الدنيوي ، هو : التنازل عن الذات ، وإلى أن البيئة الاخروية تـتعامل مع الشخوص بقدر حجم التنازل عن الذات في المتاع الدنيوي العابر .

وحين نتجه إلى متابعة بيئة النار ـ أعاذنا الله منها ـ نجد أن أصحاب الشمال ينتظمهم وصف يقابل تماما ، من حيث الايغال في العذاب الإيغال في الترف .

فقد تقدمت القصة بكل مشخصات البيئة الحسية التي يواجهها صاحبها :

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}

{فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}

فهناك ثلاثة مثيرات أو منبهات هي : سموم وحميم ويحموم ، أي : ريح وماء ودخان .

فالحاسة اللمسية التي تظل هي المادة التي يصب العذاب عليها ، قد اقترنت بكل من حاستي السمع و البصر ، فضلا عن حاسة الشم ، الريح والدخان . ويكفي أن يقترن هول الحريق بهول الريح اللافحة ، وبهول الدخان ، حتى يتحسس صاحبها مدى ضخامة الهول الذي تـتحسسه أربعة حواس : اللمس ، الشم ، البصر ، السمع .

يضاف إلى ذلك ، أن الحاسة الخامسة : الذوق ، قد خصص لها النص شريحة خاصة ، عندما خاطب المكذبين :

{لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}

و هذا فيما يتصل بالأكل . أما ما يتصل بالشرب :

{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}

إذن كل أجهزة الحس التي تـتسلم المنبهات ، وتـترجمها إلى ردود فعل حركية ونفسية ، كل هذه الأجهزة تـتآزر في صب العذاب على صاحبها ، مما يكشف عن مدى الهول قبال مدى الترف ، أو مدى الفارق بين الطاعة والعصيان والدرجات القائمة بينهما في السلوك الدنيوي ، وانسحابه على البيئة الاخروية .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .