أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2019
1785
التاريخ: 2-5-2021
1999
التاريخ: 27-8-2019
2087
التاريخ: 7-1-2020
1105
|
الجانب المالي
ذكرنا في (الفصل الأول) أن فلسفة الحكم عند الإمام فلسفة أخلاقية جوهريا، وأن الجانب المالي منها (وهو موضوع هذا الفصل) ما هو إلا تطبيق للمثل الأخلاقية العليا عند الامام في مجال الثروة والخدمات الاجتماعية، وما يتعلق بذلك من صلات إجتماعية في شتى ميادين الحياة.
وللناحية الأخلاقية، في فلسفة الحكم عند الامام، أهمية خالدة تتخطى حدود الزمان والمكان. ويتجلى أثرها إذا تذكرنا أن السياسة (من حيث هي نظرية في الحكم وأسلوب في العمل) تقترن - في العادة - عند كثير من الناس ببعدها عن المستويات الأخلاقية الرفيعة، وباستنادها إلى المداهنة والمراوغة، أو على الدس والتضليل أو الانتهازية والوصولية - كما هو معروف. ويصدق الشيء نفسه على الاقتصاد في نواحيه النظرية والعملية على السواء.
وقد شذ عن ذلك علي بن أبي طالب في فلسفته الاقتصادية كما سنشرحها، وفي فلسفته السياسية التي شرحناها.
وقد لخص الإمام الجانب الاقتصادي في فلسفته في الحكم في يوم السبت لاحدى عشر ليلة يقين من ذي الحجة سنة ٣٥ هـ، وهو اليوم الذي تلا اليوم الذي بويع فيه خليفة للمسلمين، حين قال:
(أما بعد: فإنه لما قبض رسول الله استخلف الناس أبابكر. ذلك لأنه يمتد إلى مراكزهم الإجتماعية فيضعضعها. وينعكس الأمر عند طبقة العامة. ولعل الحرمان المادي لم يثرا متعاض ذوى المصالح ولم يثر أحقادهم (نظراً للإثراء الفاحش الذي كانوا يتمتعون به) بمقدار ما أثار تطبيق مبدأ المساواة نفسه في التقسيم ذلك الامتعاض وهذا الحقد.
فقد عومل أولئك السادة كما يعامل غيرهم من المسلمين، وفي هذا ما فيه (بنظرهم ونظر كثير من الناس) من تصديع لهيبتهم وخدش لكرامتهم.
على أن الأمر لم يقف عند هؤلاء وحدهم لأن مبدأ المساواة قد شمل الأنصار كذلك، فلم يصبح هناك فضل لأحد على أحد.
ولهذا نجد علياً بعد أن فرغ من المهاجرين يخاطب عبد الله بن أبي رافع، كاتبه، على مرأى ومسمع من الناس بقوله:
(ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك) أي أعط كلا منهم ثلاثة دنانير:
قلة في العطاء لم يألفوها منذ وفاة النبي، وضعضعة في النفوذ والجاه.
ثم انتقل الخليفة إلى موضوع المسلمين من غير العرب فقال لكاتبه:
(ومن حضر من الناس كلهم - الأحمر والأسود - فاصنع به مثل ذلك).
إعط ثلاثة دنانير لكل مسلم بغض النظر عن الجنس والمركز الاجتماعي وما شاكلهما من الاعتبارات الجاهلية التي مسخها الإسلام. فارتاع أصحاب المصالح المركزة (كما ذكرنا) وفرح بذلك أغلب المسلمين.
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن سهل بن حنيف (الصحابي الجليل المعروف) جاء مع المسلمين لتسلم حصته من المال (وجاء معه غلام له كان قد أعتقه في يوم القسمة، فقال للإمام: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم. فقال علي: نعطيه كما نعطيك. وأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ولم يفضل أحداً على أحد).
ومما يروى في هذا المجال أن طلحة والزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم (ومن هم على شاكلتهم من أصحاب المصالح المركزة) قد امتنعوا عن تسلم الدنانير الثلاثة التي فرضها لهم الإمام. (فعلوا ذلك بالطبع لعدم حاجتهم إليها أولا، ولأن ذلك يجرح كرامتهم ثانياً). فاجتمع هؤلاء في ناحية من المسجد - على مرأى من الإمام - وتحدثوا نجياً مدة من الزمان، ثم أرسلوا الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليعاتب الإمام على تصرفه في التقسيم. فجاء الوليد وشرح للخليفة وجهة نظر القوم، وبين له سابقة بعضهم في الإسلام وما كانوا يمتازون به من العطاء في عهد عمر وعثمان، وناشده الرأفة بهم وبأحسابهم العربية الأصيلة...
وبعد أن انتهى ابن أبي معيط من حديثه مع الخليفة ارتقى على منبر النبي وخاطب الحاضرين:
أما بعد: فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره وأعملهم بطاعته وأتبعهم لسنته وأحياهم لكتابه. ليس لأحد عندنا فضل إلا بإطاعة الله وإطاعة رسوله).
فأسقط في أيدي القوم وتأكدوا أن ابن أبي طالب لا يحيد عن تطبيق خطته التي رسمها له القرآن وسار رسول الله وفق مستلزماتها. فأسر بعضهم في نفسه الشر، ولجأ إلى تدبير المؤامرات وإحداث القلق والفوضي في جسم المجتمع الإسلامي آنذاك. فكانت حرب الجمل وصفين والبهروان فالتحكيم فمصرع الإمام كما هو معروف
الحق إن الخليفة لم يقم بشيء يستوجب تلك الضجة.
إنه سار في التقسيم وفق ما نص عليه القرآن وسار عليه رسول الله. وكان المفروض بطلحة والزبير (بصورة خاصة) أن يكونا عوناً للإمام في ذلك. (فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة. وقد فرغ الله من قسمته. فهو مال الله وأنتم عباده).
أمر على جانب كبير من البساطة والوضوح. فالمال لله والمسلمون عباده، والخليفة واسطة لتوزيع المال (بالطريقة التي عينها صاحبه) على عباده - لأن التقسيم على طريقة أخرى خروج على إرادة صاحب المال، وهو أمر يأباه الإمام. (فمن لم يرض به فليقول كيف شاء.) وله كل الحق في ذلك، فإما أن يمتنع عن تسلم العطاء، أو أن يطلب من الإمام عدم التقيد بالقرآن وسنة النبي في هذا الباب. كل ذلك كان بابه مفتوحا أمام الممتعضين.
وهناك، بالإضافة إلى ذلك، باب للشر انفتح أمام على على مصراعيه: هو باب الكيد للخليفة والدس عليه وتأليب البسطاء والحاقدين على الوضع القائم فاتخذ (قميص عثمان) رمزاً لذلك.
وروى أن علياً - بعد أن فرغ من إلقاء كلمته التي ذكرناها - نزل عن المنبر فصلى ركعتين وأمر عمار بن ياسر أن يستدعى طلحة والزبير - وكانا قد انتحيا ناحية من المسجد كما يرأينا - لمواجهته. فقال لهما الإمام:
(نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها!؟) قالا نعم. قال: (فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟) فقالا إنك استبددت دوننا بالأمر ولم تستشرنا في ما يعرض لك من الأمور، ولم تحفظ لنا مكانتنا الاجتماعية والمالية التي حصلنا عليها في خلافة عمر وابن عفان فخاب ظننا فيك.
فأجاب على: (نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً). فإذا كانت سياستي في القسمة (التي نص عليها القرآن وسار عليها النبي) لا توافقكما، فإن هناك أموراً أخرى كثيرة في سياستي لا تزعجكما وخاصة في القضايا التي لا تتعلق بمصالحكما:
لقد تناسيتم ذلك كله فامتعضتم من طريقتي في العطاء!! (ألا تخبراني! - أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه!) لكي أرتدع عن ذلك - في حالة حدوثه - لتعيدا النظر في موقفكما الذي يخالف نص القرآن وسيرة النبي. (افوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أوضعفت عنه؟) لكي استشير كما أو أستشير غيركما من ذوى السابقة في الإسلام فأستعين بهم على تفهمه في حالة الجهل به، أو على تنفيذه في حالة ضعفي عن القيام بما يستلزمه إنجازه من متاعب وصعوبات؟ وإذا لم يحصل شيء من هذا القبيل أيجيز الإسلام لكما أن تقفا مني هذا الموقف الغليظ؟ وأنا سائر على نهج الإسلام القويم. أسوق الناس مساقاً واحداً، ولا أرفع ولا أضع إلا وفق نصوص القرآن والسيرة المحمدية؟
فقال طلحة والزبير: معاذ الله أن يحصل جهلك بنصوص القرآن أو سنة النبي. أو أن يحدث ضعفك في وضع الأمور الاسلامية العليا في أماكنها المشروعة - وأنت من نعرف من العلم والاستقامة والحزم.
فقال على: (فما الذي كرهتماه من أمري حتى رأيتما خلافى؟) بينا ذلك لي وتدوالا معي. فإن كان رأيكما وجيهاً - من الناحية الاسلامية - كيفت سلوكي وفقاً له، وإن لم يكن كذلك وجب عليكما - إن كنتما مسلمين حقاً - الإقلاع عن منابذتي ومحاولة صدى عن تطبيق مبادئ الدين الحنيف.
إني أتوقع منكما أكثر من ذلك - أكثر من عدم معارضتي - وهو الجانب السلبي من الوقوف من سياستي. إنني أتوقع أن تكونا لي عوناً في تنفيذ تلك السياسة والحد من نشاط من يحاول عرقلتها - هذا إذا كنتما جادين في اعتناق الاسلام واتباع أوامره ونواهيه.
فتململ الرجلان ووجما فترة من الزمن كأن على رؤوسهما الطير. ثم قالا في صوت واحد:
إننا ننقم عليك اختلافك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في القسمة.
فقد حطمت آمالنا وأهنت عزتنا وجرحت كرامتنا بمساواتنا بالدهماء والرعاع من العرب والعجم.
فارتاع الامام وغضب لله أشد الغضب. ولكنه كعادته كظم غيظه وضغط على أعصابه التي عودها على ذلك في أمثال تلك الأمور (وما أكثرها في حياته).
ثم قال بكل هدوء ورقة مشيراً إلى موقفه وموقفهما من بيعته وزعمهما أنه لم يستشرهما في تنفيذ سياسته العامة:
(فأما ما ذكرتما من استشارة فو الله ما كان لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة).
وموقفكما من عثمان - الذي تساهل معكما في العطاء إلى درجة الافراط - معروف فلقد ألبتما الناس عليه حتى لقي حتفه، وبقي المسلمون بعد ذلك دون خليفة زمني يصرف شؤونهم. ومن ثمة انثال الناس على من كان جانب، وأنتما في المقدمة، مع علمكما برأيي في السياسة والاقتصاد. (فلما أفضت الخلافة إلى نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلني عليه واتبعته. ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأى غيركما ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه.) ولعلى، في المستقبل ن واجد شيئاً من هذا القبيل، فأنتما عندئذ من أولى الناس بالاستشارة.
أما الآن (ولم يحدث ما يستلزم الاستشارة) أو الاستعانة لفهم حكم من الأحكام أو لتنفيذه فلا مبرر لهذا الامتعاض وهذه الضجة الفارغة المفتعلة.
وأما القسم والأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء. قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به.) فليس هناك وجه للاعتراض.
وإنني لم أضع التشريع المذكور ولم أكن البادئ بتطبيقه - فقد وضعه الله وطبقه رسوله، وأنتما تعرفان ذلك كما أعرفه. فإذا كان لكما اعتراض فليوجه إلى الله عن طريق نقد شريعته، أو إلى رسول الله عن طريق نقد سيرته. فإذا حصل ذلك كان موقفكما صريحاً وجريئاً، ويكون للخليفة عندئذ معكما شأن آخر.
أما إنكما تتظاهران بالموافقة على المبدأ النظرى كما جاء في القرآن، وبالاستسلام لتطبيقه في عهد النبي، وتنقمان على في الوقت نفسه سيرى في ذلك الاتجاه فأمر لا يقره العقل ولا ترتضيه الشريعة ولا يتفق مع الانصاف والمروءة.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول أن المبدأ العام لفلسفة الامام في الحكم (من الناحية الاقتصادية) هو المساواة بين المسلمين في العطاء من بيت المال.
والسبب الذي دعا الإمام إلى اتباع مبدأ المساواة في التقسيم هو، كما ذكرنا، نص القرآن وسيرة النبي.
وقد سار الإمام على ذلك بـ كل صراحة وحزم على الرغم من عتاب العاتبين وتذمر المتذمرين وحقد الحاقدين من ذوي المصالح المركزة. وكان الإمام في ذلك كله عادلا إلى أقصى حدود العدل فلا غرو أن خاطب الحاقدين وذوي النفوس المريضة بمرض الجاهلية الخبيث فقال:
(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه!! والله لا أطور به ما سمر سمير -... ولو كان المال مالي لسويت بينكم، فكيف وإنما المال مال الله!! إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، أما إذا كانت المطالبة (بتغيير سياسة الإمام) مبنية على الدعوة إلى إحداث تغيير في أسس التشريع الذي جاء به الإسلام فذلك أمر آخر.
غير أن المتذمرين لم يطلبوا ذلك، وإنما دعوا الإمام إلى الخروج عليه من الناحية العملية. وسبب ذلك واضح وبسيط: هو أن تلك المطالبة تخرجهم – عند الناس - من حضيرة الإسلام لذلك فقد صمتوا عن نص القرآن واكتفوا بمطالبة الخليفة بمخالفة ذلك النص.
وعندي لو أن الخليفة انصاع لما أرادوه وخالف القرآن والسيرة النبوية لما رضى عنه أولئك المتذمرون الحاقدون - بل لاتخذوا (على العكس من ذلك) خروجه على القرآن والسنة وسيلة جديدة من وسائل التأليب عليه.
لقد مر بغا القول أن الإمام سار في سياسته العامة، من الناحية الاقتصادية، على مبدأ المساواة في التقسيم بين بين المسلمين جميعاً بما فيهم الخليفة نفسه وخاصة أهله وذوو قرباه. وقد فعل ذلك كله ليقيم العدل بين الناس.
قال عبد الله ابن عباس: دخلت على على بذى قار (وهو يخصف نعله) فقال لي ما قيمة هذه النمل؟ فقلت لا قيمة لها. فقال والله لهي أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.
وذكر الشعبي: (قال دخلت الرحبة بالكوفة - وأنا غلام - فإذا أنا بعلى قائماً على صبرتين مر فضة وذهب - ومعه مخفقة - وهو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه حتى لم يبق منه شيء. ثم انصرف ولم يحمل معه إلى بيته قليلا ولا كثيراً.
ورجعت إلى أبى فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس (أو أحمق الناس).
قال: من هو يا نبي؟ قلت علي بن أبي طالب. رأيته يصنع كذا - فقصصت عليه. فبكى وقال يا بني بل رأيت خير الناس.
وروى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة عن زادان قال انطلقت (مع قنبر غلام علي) فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئة! قال وما هو ريحك؟ قال قم معي.
فقال وانطلق به غلى بيته وإذا بغرارة مملوءة جا مات ذهباً وفضة، فقال يا أمير المؤمنين رأيتك لا تترك شيئاً غلا قسمته. فادخرت لك هذا من بيت المال، فقال على: ريحك يا قنبر! لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة. ثم سل سيفه وضرب ضربات كثيرة فانتثرت: من بين إناء مقطوع نصفه وآخر ثلثه ونحو ذلك، ثم دعا الناس فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال فقسم ما وجد فيه...
وروى مجمع التميمي قال: كان على يكنس بيت المال كل جمعة ويصلى فيه ركعتين...
وروى هرون بن سعيد قال: قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلى:
يا أمير المؤمنون لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فو الله مالي نفقة إلا أن أبيع دابتي. فقال على لا والله ما أجد شيئاً إلا أن تأمر عمك فيسرق فيعطيك(١) .
وروى إسحق الهمداني أن امرأتين أتيا علياً: إحداهما من العرب والأخرى من الموالي - فسألتاه: فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء. فقالت إحداهما إني امرأة من العرب والأخرى من العجم.
فقال إني والله لا أرى لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحق...
وروى علي بن يوسف المدائني أن طائفة من أصحاب على مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين إعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره - وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال. فقال لهم: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور!! لا والله لا أفعل ذلك ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم. والله لو كان المال مالي لو اسيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم!!(2) ).
يتضح مما ذكرنا أحد الجوانب العامة لفلسفة الحكم عند الإمام من الناحية الاقتصادية. وكتب التاريخ الإسلامي والأدب العربي طافحة بأمثلة من جنس ما رويناه.
وبما أن دراستنا منصبة من حيث الأساس (في الفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة) كما ذكرنا في المقدمة، على نهج البلاغة، فقد اكتفينا بذكر طائفة من الأمثلة التي وردت في الكتاب المذكور. وباستطاعة الذين يريدون المزيد من ذلك استشارة أمهات كتب التاريخ والأدب.
فالأمثلة على ذلك تنطق جميعها بأن الإمام حرم على نفسه (وعلى أو فرد من أفراد المسلمين) الاستئثار بدرهم واحد من أموال المسلمين - وكان باستطاعته (لو أراد) أن يستأثر بالمال والجاه والنفوذ كما فعل غيره. (ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثي وأكباد حرى!! وأكون كما قال القائل:
وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر!! أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها).
لقد كان الإمام سائراً على ذلك المنوال (المساواة في العطاء) تجاه المسلمين وتجاه نفسه وذوى قرباه كما رأينا، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق أمرين: تطبيق مبادئ الدين على شئون الحياة تطبيقاً تاماً عادلا، وتشجيع المسلمين على الاقتداء به على قدر ما يستطيعون. لأن: (لكل مأموم إماما يقتدى به... ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك: ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد).
وكان على يقول وهو يروى قصة أخيه عقيل: (لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أجر في الأغلال مصفداً أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله، يوم القيامة ظالماً لبعض عباده وغاصباً لشيء من الحطام.
وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها!!
والله لقد جاءني عقيل(3) وقد أملق حتى استماحتى من بركم صاعا. ورأيت صببانه شعث الشعور غير الألوان: عاودني مردداً وكرر على القول مؤكداً - فأصغيت إليه - سمعي، فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي. فأحميت له حديدة ثم أذيتها من جسمه ليعتبر بها. فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد يحترق من مسها.
فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل!! تئن من حديدة حماها إنسانها للعبه!! وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه.
ومن طريف ما يروى عن عقيل بن أبي طالب (من جنس ما ذكرناه) ما كتبه ابن الأثير (أسد الغابة ج ٤ ص ٤٢٣ - ٤٢٥) وملخصه: أن عقيلا (لزمه دين فقدم على على بن أبي طالب في الكوفة - أثناء خلافته - فأمر على ابنه الحسن فكساه. فلما أمسى دعا على بعشائه فإذا خبز وملح وبقل...
فقال عقيل: فتقضى ديني؟؟ قال قال وكم دينك؟ قال أربعون ألفاً. قال ماهي عندى ولكن إصبر حتى يخرج عطائي فإنه أربعة آلاف فأدفعه إليك.
فقال له عقيل بيوت المال بيدك وأنت تسوقنى بعطائك؟ فقال أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟
قال فإني آت معاوية. فأذن له. فأتى معاوية فقال له (معاوية) يا عقيل كيف تركت علياً وأصحابه؟ قال: كأنهم أصحاب محمد إلا إني لم أر رسول الله فيهم. وكأنك وأصحابك أبو سفيان وأصحابه إلا إني لم أر أبا سفيان فيكم).
ذلك ما يتصل بفلسفة الحكم عند الإمام من الناحية الاقتصادية بقدر ما يتعلق الأمر بالعطاء.
أما ما يتعلق بصلة الإمام بموظفى الدولة، وصلة الحكومة بالشعب - من الناحية الاقتصادية - فهو ما سنبحثه في الفقرات التالية:
تتكون الرعية بنظر الإمام من طبقات يعتمد بعضها على بعض (ولا يصلح بعضها إلا ببعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب الخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجات والمسكنة.) فليس المجتمع (بنظره) مكونا من طبقتين: مستغلة (بكسر الغين) ومستغلة (بفتحها) كما ذهب إلى ذهب بعض المفكرين الحديثين. بل هو مكون، في زمنه على كل حال، من الطبقات الكثيرة التي ذكرناها.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المجتمع (بطبقاته المذكورة) ليس متنافراً بطبيعته - إذا ساد العدل بين أبنائه - وإنما هو متعاون ومتضامن. وقد ذكر على هذا المعنى (من الناحية السياسية العامة) مخاطباً رعيته - كما سلف أن ذكرنا - حين قال:
(أما بعد: فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم: ولكم على من الحق مثل الذي لي عليكم. والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقا في التناصف. لا يجرى لأحد إلا جرى عليه. ولا يجري عليه إلا جرى له.. ثم جعل الله من حقوقه حقوقاً لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.
وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي... فليست تصلح الرعية إلا بصلاح ولاتها ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إلى الرعية حقها عز الحق بينهم وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور... فليس أحد وإن اشتد على رضي الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة. ولكن من أوجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون في إقامة الحق بينهم.
وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته... بفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه. ولا امرؤ وإن حقرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه).
يتضح من العبارة السالفة الذكر الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه صلة الحكومة بالشعب وواجبات كل منهما تجاه الآخر. فللحكومة على الشعب حقوق معينة في المقدار وفي النوع. ولأفراد الشعب على بعضهم وعلى الحكومة مثل ذلك.
على أن تعيين حقوق أفراد الشعب على بعضهم، وتعيين حقوق الحكومة على الشعب، وتحقيق ذلك من الناحية العملية الواقعية لا يتم إلا عن طريق الحكومة نفسها. فنقطة البداية في الإصلاح الاجتماعي الشامل عند الإمام إذن - كما سلف أن ذكرنا - هي صلاح الحكام. فليست تصلح الرعية على حد قوله إلا بصلاح ولاتها. وصلاح الولاة لا يتحقق - على وجه الأتم - بنظر الأيام (كما ذكرنا) إلا إذا كانوا صالحين، بالمقاييس الإسلامية المعروفة التي نص عليها القرآن وأعلنتها سيرة النبي، في القلب واللسان واليد.
ولا يستطيع الحاكم - كما هو معروف - أن يسير وفق ما ذكرناه إلا إذا ارتفعت الرعية في سلوكها - عقيدة وقولا وفعلا - من حضيض العنعنات الجاهلية والمصالح الفردية الضيقة إلى المستويات الرفيعة التي جاء بها الإسلام. ولهذا قال الإمام (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية) أي أن الولاة لا يستطيعون أن يستجيبوا للعدل الاجتماعي من حيث تطبيقه على الناس إلا إذا استجاب الرعية إلى ذلك فيما يتصل بما لها وما عليها.
على أن سلوك الرعية - بمظاهره الثلاثة - أو بأحدها - إذا كان ملوثاً (نتيجة تعرض الرعية لفترة من الحكم غير المستقيم في السابق) فغن تلك الرعية تعمل بدورها على تلويث سلوك حكامها. وقد تنجح محاولتها تلك (إذا صادفت هوى في الفؤاد) كما يقول المتنبي.
وقد جرت تلك المحاولة عبثا في عهد الامام. فأشار إلى ذلك بقوله:
(إني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي). يصلحكم أي يجعلكم أقل تمرداً على النظام. ولا يتم هذا إلا إذا روعيت مصالحهم الخاصة على حساب الدين.
ولو أن الإمام (أصلحهم) بتلك الطريقة لما حصل هذا البون الشاسع بينه وبين مناوئيه ولما أصبح من الفضيلة إنسان عينها أو عين إنسانها كما ذكرنا. فليس أمره وأمرهم واحداً. (إني أريدكم لله وتريدوني لأنفسكم).
أيها الناس (أعينوني على أنفسكم. وأيم الحق لانصفن المظلوم من ظلله ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً).
فلا تصلح الولاة إذن إلا باستقامة الرعية. فإذا استقامت الرعية، في القلب واللسان واليد، للحاكم الصالح وانصاعت لأوامره ونواهيه العادلة سار المجتمع في طريق التقدم والفلاح من الناحيتين المادية والفكرية. وإذا غلبت الرعية وإليها، أي إذا ترمدت على القانون العادل (في تطبيقه عليها خاصة) وسدرت في طريق الغواية والضلال أو إذا تنكر الحاكم لمبادئه الإنسانية و (أجحف برعيته) ساد الشقاق في المجتمع (وظهرت معالم الجور).
فالتعاون بين الحاكم والمحكوم إذن في نشر العدل وإشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، دون تمييز من أي نوع كان، ضروري لاستدامة الحياة من هذه الناحية. والحاكم (مهما سمت منزلته المادية والمعنوية) محتاج لكي يحقق ما ذكرناه إلى معاونة أبسط فرد من رعاياه. والعكس صحيح بالطبع.
ويجري مجرى ما ذكرناه قوله:
ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. فلا تثنوا على بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وغليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرص عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل. فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك في فعلي).
إن في هذه العبارة جملة أمور تسترعى انتباه الباحثين - أهمها أن الإمام (رغم انصرافه الكلي إلى تطبيق مبادئ الحق والعدالة الاجتماعية بين الناس (يعلن - وهو على حق - أن هناك حقوقاً أخرى وفرائض سياسية واجتماعية واقتصادية في بعض نواحي الحياة آنذاك قد حال بينه وبين تحقيقها - مؤقتاً - انشغاله بتحقيق أمور من نوعها استلزمتها الظروف العامة كما قدرها.
ومع ذلك فالامام يحث رعيته على تنبيهه بصورة مستمرة إلى الأمور التي يرون أن الخليفة ملزم - بحكم القرآن والسنة المحمديه - بتنفيذها من الناحية الشرعية في مختلف مجالات الحياة. كما أنه يطلب إليهم أن لا يظنوا أنه يمتعض من ذلك التنبيه لأن من يمتعض من سماع قول الحق فهو من فعل الحق أكثر امتعاضاً.
وقد حل الإمام من الفضيلة في ذؤايتها حين قال - وهو الواثق من تصرفاته:
إن الإنسان الذي هو بمنزلته ربما ساقه اجتهاده إلى رأى لم تساعده الظروف والملابسات إلى التوصل إلى أحسن منه في القول وفي العمل ولهذا فهو يحتاج إلى التنبيه المستمر من جانب الرعية.
فكل فرد من أفراد المجتمع إذن قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده وفريضته في كتابه وسنة نبيه.) أي إن لكل صنف من أصناف المن في المجتمع سهماً مالياً يتناسب مع طبيعة عمله نص عليه الله في كتابه. فإذا فهم ذلك وأعطى الناس حقوقهم كما هي كاملة غير منقوصة ساد العدل المجتمع وانتشر بين أبنائه النظام والتعاون. وإذا حدث العكس شاع التذمر وسادت الفوضى وتزعزع النظام (فالجنود - بإذن الله حصن الرعية وسبل الأمن. ثم لاقوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج. ثم لاقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوى الصناعات... ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم).
(أما الخراج فتفقد أمره بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لسواهم. ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم. لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله).
ولما كانت الأرض هي المصدر الوحيد للإنتاج آنذاك فلا غرو أن تعهدها الخليفة بعطفه ورعايته.
(ولكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج. لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أرمه إلا قليلا.) ولا تتم عمارة الأرض إلا بالعناية بالفلاحين وسد حاجاتهم الزراعية وفي مقدمتها العناية بالري. (فإن شكا الفلاحون ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك).
والعناية بالفلاح - كما لاحظنا - لا تتم عن طريق تخفيف ما يدفعه للحكومة من عوائد فقط، أو إعفائه عن ذلك، بل تم أحياناً عن طريق مد الحكومة يد المساعدة له بالمقدار الذي يحتاج إليه من المال، وبالشكل الذي يستلزمه وضعه الاقتصادي والزراعي. على أن ثمرة ذلك كله تعود - في المدى البعيد - على الحكومة وعلى للشعب بالنفع العميم. (فلا يثقلن عليك - أيها الحاكم - شيء خففت به المؤنة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك).
ثم أوصاه بالتجار وذوى الصناعات القريبين منهم والبعيدين على السواء. أي الذين يتعاطون أعمالهم التجارية في دار الخلافة - وهم القريبون منه - أو خارجها في الأطراف.
وقد نص الإمام على البعيدين لعلمه أن الحكومة تميل في العادة إلى العناية بشكان العاصمة أكثر من العناية بسكان الأطراف أحياناً، وعلى حصابهم أحياناً أخرى.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن التجار وذوى الصناعات التريبين منهم يكونون أكثر خوفاً من الحكومة - إلا إذا سندهم المتنفذون من رجال الحكومة لسبب من الأسباب - وأكثر تعرضاً لمراقبتها وعقابها من البعيدين - اللهم إلا إذا سندهم المتهنفذون من رجال الحكم لسبب من الأسباب وهو ما لا ينبغي أن يحدث من وجهة نظر الإمام كما رأينا.
ولكي يتحقق العدل الاجتماعي على مقياسه الكبير - بنظر الإمام - يجب أن يشمل في هذه القضية مراقبة التجار وذوى المهن في شتى أرجاء العالم الإسلامي آنذاك.
ثم قال له واعلم مع هذا (أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات - وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالطرفين من البائع والمبتاع).
أي أن الضيق الفاحش والشح القبيح واحتكار المنافع والتحكم في البياعات توجد في بعض التجار وذوى الصناعات لا فيهم كلهم. وسبب ذلك راجع دون شك إلى تقصير الحكومة عن أداء واجبها في هذا الشأن في الماضي القريب والبعيد. هذا مع العلم أن ذلك الضيق الفاحش والشح القبيح إلخ... يظهر في الأسعار أحياناً كما يظهر في المكاييل أحياناً ثانية وفيهما أحياناً ثالثة. وفي هذا ما فيه من ضرر للمستهلك وخاصة طبقة العامة من ذوى الدخل الضئيل.
هذا بالإضافة إلى كونه مظهراً من مظاهر فساد الحكم - وهو أمر يتنافى مع مبادئ الحكم السليم. فيجب إذن أن تراقب الحكومة النجار وذوى الصناعات - القريبين منهم والبعيدين - من حيث الأسعار ومن حيث الأوزان ولتضع ذلك كله بشكل لا يجحف بأي فريق من الفرقاء الذين يعنيهم الأمر.
ولا يتم تحقيق ذلك إلا إذا أعلن ذلك للناس ومن ثم روقبوا. فإذا خالف بعضهم ذلك تحتم تطبيق القانون عليه وعقابه من غير إسراف.
وهذا يعني أن يأخذ المخالف عقوبة تتفق هي ونوع مخالفته، لا أن يشبع الحاكم عاطفة الغضب عنده فيأخذ الناس بالأحقاد والضغينة، وهو أمر نهى الإمام عنه كما سلف أن ذكرنا.
على أن العقوبة التي تناسبب المخالفة يجب أن لا تأخذ بحراها إلا بعد أن يثبتها التحقيق النزيه.
(ثم الله الله في الطبقه السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين. اجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى... ولا يشغلنك عنهم بطر.) لأنهم أحوج إليك من غيرهم.
(فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم) لأن ذلك يعمل على تشجيعهم على مقابلتك والاتصال بل للتداول معك في حاجاتهم ومشاكلهم.
(وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال) لأن فيهم من العقد النفسية ما يمنعهم من الوصول إليك. (ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع. ليرفع إليك أمورهم). لأنهم كثيرون وليس من السهل عليك تفقد أحوالهم بنفسك مع ما لديك من مشاغل كثيرة تتصل بهم وبغيرهم من الرعية. فأوكل أمرهم (لأهل الخشية والتواضع) ممن تعتمد عليهم وتثق بإخلاصهم وصدقهم، أما خشيتهم وتواضعهم فيعملان على جعلهم يخفضون (لأولئك المساكين) جناح الرحمة والشفقة، ويجعل أولئك المساكين - بدورهم - يطمعون في ذلك فلا يترددون عن التصريح بخوالج النفس ومتاعب الحياة. (فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم). وذلك لضيق ذات يدهم وضآلة مراكزهم الاجتماعية وتفاهة حياتهم بصورة عامة.
ولا تنس أن تتعهد (أهل اليتم وذوى الرقة في السن ممن لا حيلة له.) كل ذلك صعب عليك دون شك (والحق كله ثقيل).
(واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرغ فيه لهم شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما تتواضع فيه لله الذي خلقك.) كي تشجعهم على حضور مجلسك وعرض ظلاماتهم عليك.
ولا تنس أن في حاشيتك وحرسك أحيانا من الغلظة والشدة ما يزم أولئك المحتاجين عنك فاقعد (عنهم جندك وأعوانك من حرسك وشرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متعتع). وتذكر أن في بعضهم تردداً وتلكؤاً في الحديث (فاحتمل الخرق منهم والعى ونح عنهم الضيق والأنف).
(وهناك أمور أخرى لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيي عنه كتابك. ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. وامض لكل يوم عمله فإن لكل ما فيه... واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت. وأجزل تلك الاقسام - وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية...
وإذا قمت في صلاتك فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة) فلا تعطل عمل اليوم إلى الغد ولا تهمل عمالك بعدم إجابتهم أو تأخير تلك الإجابة، فإن في ذلك ما لا يشجعهم على الاستمرار في الكتابة إليك، وفيه أيضاً ما لا يردعهم عن الرذيلة إذا علموا أنك مشغول عنهم بغيرهم.
ولا تنس عبادتك - مع العلم أن قيامك بواجباتك حسب مستلزمات الدين الحنيف هو عبادة في حد ذاته. أما صلاتك في الجماعة فلا ينبغي أن تكون ثقيلة أو طويلة أو مملة...
تلك هي أهم جوانب فلسفة الحكم من الناحية الاقتصادية عند الإمام.
أما جوانبها الأخرى فتتضح في الوصايا التي يزود بها عمال الصدقات. (لا تروعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً) أي لا تفزعن مسلما ولا تمرن على منازل لا يجوز لك أن تمر بها لتتجنب الاعتداء على الناس وتتوخى ممانعتهم إياك بسبب ذلك.
(فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم). أي كن بعيداً عنهم ولا تفاجئهم فتدخل بيوتا لا يجوز لك أن تدخلها. أو تطلع على أمور عائلية لا يجوز لك أن تطلع عليها نتيجة لدخولك المفاجئ الذي ربما لا نقصد به الاطلاع على أغراض الناس وأموالهم، وما شاكلها من أمور لا يرغب أصحابها في أن تطلع عليها بحكم كونك غريباً عن أهلها من جهة، وموظفا مالياً للحكومة من جهة أخرى.
ثم امض إليهم بالسكينة والوقار - حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولى الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم. فهل في أموالكم لله حق فتؤدوه إلى وليه؟.
أي إن الإمام أمر عامل الصدقات - بعد الذي ذكرناه - أن يمضى إلى القوم بهدوء وتؤدة فيسلم عليهم سلاماً كاملاً غير منقوص، ثم يخبرهم بمهمته (بذلك الشكل المؤدب الرفيق) ليشعرهم بأن الموظف خادم للشعب لا سيد كما هي الحال في الحكومات الظالمة المستبدة. ثم ينتظر إجابتهم. (فإن قال قائل لا، فلا تراجعه) فلعله دفع ما عليه لجاب قبلك، أو لعله متمرد على الحكومة فليس من حقك الدخول في جدل معه أو إلزامه دفع ما عليه من الصدقات (في حالة التمرد) أو مطالبته فالبينة في حالة زعمه أن دفع ما عليه إلى غيرك.
إن ذلك من واجبات الوالي: فارفع إسمه إليه بعد فراغك من ذلك.
وهناك جانب آخر في هذا التصرف الحكيم. هو عدم تأليب الآخرين من أبناء الحي على الجابي، بحكم العصبية التي تربطهم بالشخص الممتنع، وتتجسم الحكمة في ذلك إذا علمنا أن الجابي أعزل من السلاح، وإن الغاية من قدومه ليست إجبار القوم على الدفع بل تنبيههم بحلول موسم الدفع، وأخذ ما يعطيه إباه بعضهم من الأموال وإيصال ذلك إلى الجهة المسئولة أما الممتنعون عن الدفع فلا يعنيه أمرهم لأن هناك جهة مسئولة أخرى غيره تحاسبهم على ذلك.
(وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه. فخذ ما آتاك من ذهب أو فضة). سر معه بلطف فإنه أخوك في الدين وزميلك في المواطنة ومصدر من مصادر عيشك وعيش عائلتك. وخذ منه ما أعطاك دون تبرم أو تخويف أو توعد أو إظهار شك في نواياه.
وإن (كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذن منه فإن أكثرها له). فإذا دخلت على الماشية أو الإبل أماكنها (فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به). ليشعر بأنك لا تريد إرغامه أو إهانته، وإنما تطلب منه بلطف ومروءة تأدية ما عليه من واجبات فرضها الإسلام في ما تملكه يمينه من ثروة وماشية. وليس لك أن تروع الحيوان فتربكه عليه: (فلا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوأن صاحبها فيها).
ثم اقسم الحصص، واترك له الخيار (فاصدع المال صدعين. ثم خيره. فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله. فاقبض حق الله منه). وقبل أن تتوجه إلى غيره (فإن استقالك فأقله).
فإذا أخذت حق الله منه فلا تأخذن عوداً ولاهرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عوار). أي لا تأخذ المسن من الإبل ولا العجوز من إناثها ولا المريضة.
فإذا انتهى ذلك فابعث ما حصلت عليه مع من تثق به. (ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين. حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم. ولا توكل بها ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف ولا مجف ولا مغلب ولا متعب أي لا ترسل الماشية أو الإبل مع ذي عتف (الذي هو ضد الرفق) أو مع المجحف الظالم أو المتعب المعيي. بل أرسلها مع ذي الرفق والشفقة. (فإذا أخذها أمينك فأوعز له أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يحصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهد بها ركوباً، ويعدل بينها وبين صويحباتها في ذلك. وليرفه على اللاغب، وليستأن بالتعب والضالع ويوردها ما تمر به من الغدر ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليميليا عند النطاف والأمشاب) أوصاه أن لا يسوقه جشعه أو تدفعه قساوته (في حالة وجودهما) إلى الحيلولة بين الناقة وطفلها، وأن لا يستنزف جميع لبنها فلا يترك منه ما يكفى لرضاع الطفل ثم أمره أن لا يتبعها في الركوب ولا يسير بها بمشقة دون راحة، وأن يداري التعب في الركوب وفي السير، وأن يفعل مثل ذلك مع الضالع...
وأوصاه أيضاً أن يتبع الطريق التي يمر بها الماء ويتوافر فيها العشب.. حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات غير متعبات ولا منهوكات). أي أن تجلب لنا إبلا سمينة سليمة مستريحة (لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه بين المسلمين).
والخلاصة - أن الجانب المالي لفلسفة الحكم عند الإمام يتضح جوهره (في خطوطه العامة) في وصيته إلى عماله على الخراج. وهذا نصها: (أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة. ولا تحتشموا أحداً عن حاجته لا تحبسوه عن طلبه ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا تضربن أحداً سوطاً مكان درهم ولا تمسن مال أحد من الناس من مسلم ولا معاهد. ولا تدخروا أنفسكم نصيحة ولا الجند حسن سيرة ولا الرعية معونة).
لابد أن القارئ قد لاحظ معنا الجوهر الأخلاقي الذي تستند إليه أقوال الإمام الآنفة الذكر في معرض تحدثه مع الجباة وغيرهم من المختصين بالنواحي المالية لبلاد المسلمين.
ولا شك أن السير وفق مستلزماتها يجنب الحكومة أو الشعب كثيراً من المتاعب ويبعد الجانبين عن كثير من أوجه الكفاح السلبي الهادم، الذي نشاهده منتشراً في كثير من الأقطار في التاريخ القديم والحديث.
________________
(١) وتتجلى روعة موقف الإمام - في هذه القضية - إذا وازناه بموقف عثمان بن عفان من ذوى قرباه في أمثال هذه الأمور أثناء خلافته آخذين بنظر الاعتبار أن عبد الله - المار ذكره - هو ربيب على وزوج ابنته وابن أخيه جعفر بن أبي طالب الذي كناه رسول الله بأبي المساكين لما رآه من عطفه عليهم واتصاله بهم.
وفي معرض التحدث عن حب رسول الله جعفراً - وجهاده في سبيل الإسلام - يقول الأصبهاني في مقاتل الطالبيين. (ص ١١): (لما فتح النبي خيبر قدم جعفر من الحبشة فالتزمه رسول الله وجعل يقبل يبن عينيه ويقول: ما أدرى بأيهما أنا أشد فرحا!! بقدوم جعفر! أم بفتح خيبر!...
ولما قدم جعفر من أرض الحبشة بعثه رسول الله إلى مؤته... لسنة ثمان من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيذ فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس. (وقد قتل جعفر آنذاك كما هو معروف. أقول نتجلى روعة موقف الإمام في هذه القضية إذا وازناه بموقف عثمان بن عفان - أثناء خلافته - من دوى قرباه في أمثال هذه الأمور. فقد أغدق عثمان العطايا غير المشروعة إلى الاسراف على ذوى قرباه، مع مواقفهم الخشنة من الاسلام ومن رسول الله وامتنع على بإحجام عن تلبية أبسط الطلبات لمن هم على شاكلة نجل من كان سرور النبي بعودته من الحبشة (التي هاجر إليها في سبيل الاسلام) لا يقل عن سررره بفتح خيبر وما نتج عنه من نتائج بعهدة المدى في النصر المؤزر لرسول الله على المشركين.
(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، المجلد الأول ص ١٨١ - ١٨٢.
(3) كان لأبي طالب أربعة أولاد: طالب وعقيل وجعفر وعلى. وكان أبو طالب يحب عقيلا أكثى من سائر بنيه، لذلك قال للنبي وللعباس - حين أتياة ليقتسما بنيه في عام المحل فيخففا عنه ثقلهم - دعوا إلى عقيلا وخذوا من شئتم. فأخذ العباس جعفراً وأخذ النبي علياً. وكان عقيل يكنى أبا يزيد. قال رسول الله يا أبا يزيد إني أحبك حبين: حباً لقرابتك مني، وحباً لما كنت أعلم من حب عمى إياك. أقبل عقيل مسلماً مهاجراً قبل الحديبية وشهد غزاة مؤنة مع أخيه جعفر، وتوفى أثناء حكم معاوية في سنة ٥٠ هـ. ولم يشهد مع أخيه على شيئاً من حروبه أيام خلافته، وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه. وكان أنسب قريش وأعلمهم بأيامها، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله فيصلى عليها وبجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب، وكان حينئذ ذهب بصره وكان أسرع الناس جواباً وأشدهم عارضة. قال معاوية لعقيل: يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم؟ قال إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعاً لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية. وكان في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم الأنساب وفي أيام العرب وهم: عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو الجهم ابن حذيفة العدوى وحو يطب بن عبد العزى العامري.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|