أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2019
2049
التاريخ: 22-4-2021
1635
التاريخ: 16-8-2020
2379
التاريخ: 21-8-2020
2500
|
الفتنة:
فتنة: تعبير قرآني يدلّ - حين يسند إلى اللّه تعالى ويصدر عنه - تارة على الاختبار والامتحان الرّبّاني بالنّعمة، ومن هذا ما ورد في قوله تعالى:
( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (١) .
أو يدلّ في موارد أخرى على الاختبار والامتحان الرّبّاني بالمصاعب والشدائد، ومن هذا ما ورد في قوله تعالى:
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (٢)
وهذه الفتن ذات وظيفة تربويّة تعزّز صلابة المؤمنين، وترفع درجة وَعْيهم، وتميّز عنهم الدّخلاء والمنافقين.
هذا التعبير القرآني ذو المضمون التربوي الإيجابي، غدا عند الإمام عليّ مصطلحاً سياسيّاً - تاريخيّاً ذا مدلولات متنوّعة يتّصل بالحركة التّاريخيّة للمجتمعات في الحاضر وفي المستقبل.
وهو ذو مدلول سلبي بالنّسبة إلى حركة التّقدّم النّبويّة.
إنّ الفتنة عند الإمام - باعتبارها ظاهرة سياسيّة - معوّق لحركة التّقدّم، ونكسة في سير حركة النبوّة، وهي - والحال هذه - ليست من صنع اللّه تعالى، وإنّما هي من صنع البشر.
قسّم الإمام الفتنة إلى قسمين:
أحدهما:
الفتنة بالمعنى القرآني التّربوي، واعتبر أنّ الفتنة بهذا المعنى ذات دور إيجابي، بشرط أنْ تكون استجابة الإنسان لها بروح إيماني ملتزم، ووعي أخلاقي مسؤول، ولذا فلا معنى للاستعاذة باللّه من الفتنة بهذا المعنى فإنّ ذلك سخف؛ لأنّها تلازم طبيعة الحياة ووجود الإنسان، فلا توجد حياة مكتملة دون أنْ توجد معها فتنة بهذا المعنى.
وثانيهما:
الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وهذه هي الفتنة التي يُحذر منها ويُستعاذ منها، وهي الّتي أعطاها الإمام في تعليمه الفكري مدلولاتها السّياسية - التّاريخية. وسمّاها: (مضلاّت الفتن) .
وقد شرح الإمام ذلك بقوله:
(لا يقُولَنَّ أحدُكُم: اللّهُم إنَّي أعُوذُ بِك من الفِتْنَةِ؛ لأنَّهُ ليس أحَد إلاّ وهُو مُشتمِل على فِتْنَةٍ، ولكِن مَنْ استعاذ فَلْيَسْتَعِذ مِن مُضِلاّتِ الفِتنِ، فإنّ اللّه سُبحانهُ يقُولُ:
( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) .
ومعنى ذلِك أنَّهُ سُبحانَهُ يختبِرُ عِبادَهُ بِالأَموالِ والأولادِ لَيتَبيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزقِهِ والرَّاضيَ بِقِسمِهِ، وإنْ كان سُبحانهُ أعلمَ بِهم مِن أنفُسِهِم، ولكِن لِتُظْهَرَ الأفعالُ التِي بِها يُستَحقُّ الثَّوابُ والعِقابُ، لأنَّ بعضهُم يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الإناثَ، وبعضهُم يُحِبُّ تثمِير المالِ ويكرهُ انثِلامَ الحاِلِ) (3) .
وليس من أهداف هذه الدّراسة البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً تربويّاً، وإنّما الهدف منها هو البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً (سياسيّاً / تاريخياً) فلنرَ فيما يأتي تقسيم الإمام لها باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وتحليله لآليّة حركتها: كيف تبدأ وتنمو وتنتشر؟ وتوجيهه في شأن الموقف الّذي ينبغي اتخاذه حين تقع.
ولنرَ دور عليّ في مواجهة الفتنة الّتي بدأت طلائعها في عهده.
وأخيراً رؤيته لفتنة بني أميّة بعده.
يبدو من تحليل النصوص الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة بشأن الفتنة والمقارنة بينها أنّ ثمَّة ثلاثة أنواع من الفتن :
١ - الفتنة الشّاملة.
٢ - الفتنة العارضة.
٣ - الفتنة الغالبة.
وهذه التّسميات وضعناها نحن، ولم تَرِد في كلمات الإمام عليّ، على ضوء ما لاحظناه عن اتساع المساحة الفكريّة الّتي تطبعها الفتنة بطابعها، وتؤثّر بالتّالي على الوضعيّة السّياسيّة والعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة داخل المجتمع.
أ - الفتنة الشّاملة:
تكون الفتنة شاملة حين تكون نظاماً فكريّاً يسود مجتمعاً من المجتمعات ذات الحضارة أو البدويّة / الرّعويّة، فالحضارة التي تقوم الحياة فيها على قِيَم الضّلال في الفكر والأخلاق والضّياع، وتنبني مؤسّساتها السّياسيّة والاجتماعيّة على الاعتبارات الّتي تنشأ من هذه القِيَم، وتحكم المجتمع السّياسي فيها علاقات فاسدة... هذه الحضارة تكون فتنة شاملة تصل إلى كلّ إنسان، وتنشر ظلالها خارج حدودها. إنّها الجاهليّة، قديمها وحديثها في ذلك سواء.
وكذا الحال فيما إذا كان نظام فكري كهذا يكوّن روح وعقل مجتمع (بدوي / رعوي) ، لم يبلغ مرحلة الحضارة ذات الإنجازات في مجال التّعامل مع الطّبيعة والمؤسّسات التّنظيميّة.
وقد صوّر الإمام (عليه السّلام) هذه الفتنة الشّاملة في حديثه عن حال العالَم - والعرب بوجه خاص - قبل بعثة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قال:
(... وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عبدُهُ ورَسُولُهُ، أرسلَهُ بالدِّينِ المشهُورِ، والعلَمِ المَأثُورِ، والكِتابِ المسطُورِ... والنّاسُ في فتنٍ انجذَمَ (4) فِيها حبلُ الدِّينِ، وتزعزعَت سوارِي اليِقين (5) واختَلَف النَّجرُ (6) وتشتَّتَ الأمرُ، وضاقَ المخرجُ، وعمِي المصدرُ، فالهُدى خامِل، والعمى شامِل. عُصِي الرَّحمانُ، ونُصِرَ الشَّيطانُ، وخُذِلَ الإيمانُ فانْهَارَتْ دَعَائمُهُ وتنَكَّرت مَعَالِمُهُ، ودُرِسَتْ سُبُلُهُ(7) وعفَتْ شُرُكُهُ (8) ، أطاعُوا الشَّيطانَ فَسَلكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ (9) ، بِهِم سَارَت أَعْلامُهُ وَقَامَ لِواؤُهُ، في فِتَنٍ دَاسَتْهُم بِأخفافِها وَوَطِئَتْهُم بِأَظْلاَفِها (10) وَقَامَتْ على سَنَابِكِها (11) ، فَهُم فيها تَائِهُونَ حائروُن جاهِلُون مفتُونُونَ، فِي خَيْرِ دارٍ وشّرِّ جِيرانٍ. نَوْمُهُم سُهُود، وكُحْلُهُم دُمُوع، بِأرضٍ عَالِمُهَا مُلْجَم، وَجَاهِلُهَا مُكرَم) (12) .
في هذا النّصّ فصّل الإمام عليٌّ نظرته إلى نموذج من نماذج الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة لمجتمع ما.
والسّمات الّتي تميّز الفتنة الشاملة فيما يفيده هذا النّصّ هي:
١ - مجتمع لا يحكمه نظام أخلاقي، وخالٍ من الحياة الرّوحيّة السّليمة. وهذا لا ينفي أنْ يتمتّع المجتمع المذكور بنظام سياسي.
وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام: (انجذَمَ فِيها حبلُ الدِّينِ) فالمجتمع منقطع الصّلة بالوحي، ومِن ثمّ فهو لا يتمتّع بنظام روحي وأخلاقي.
٢ - مجتمع تسيطر على أفراده وفئاته روح الشّك. ويتبع فيه - في مجال القِيَم - المقياس الذّاتي؛ لأنّه لا يتمتّع بمقياس موضوعي، نتيجة لخلوّه من النّظام الأخلاقي والحياة الرّوحيّة.
وهذه السّمة الثّانية يدلّ عليها قول الإمام في النّصّ الآنف: (وتزعزعَت سوارِي اليِقين).
٣ - مجتمع منقسم على نفسه إلى شِيَع وأحزاب، تُمزِّقه الصّراعات والنّزاعات، وتجعله خالياً من روح التّضامن والتّكافل. ومِن ثمّ فلا توجّه حركتَه آمالٌ متّحدةٌ وهدف أخلاقي كبير، وإنّما توجّهه الرّغبات الفرديّة والفئويّة بسبب عدم وجود نظام أخلاقي من جهة، وانتشار روح الشّك واتّباع المقياس الذّاتي في القِيَم من جهة أخرى.
وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام: (واختَلَف النَّجرُ، وتشتَّتَ الأمرُ، وضاقَ المخرجُ، وعمِي المصدرُ...).
هذه هي السّمات الّتي تميّز الفتنة الشّاملة، وتطبع المجتمعات المفتونة بطابعها. وما جاء من أوصاف للمجتمع في الفقرات التالية من النّصّ الآنف هي نتائج لهذه السّمات الثّلاث الكبرى:
- فقدان النظام الأخلاقي والحياة الروحيّة.
- شيوع روح الشّك واتّباع المقياس الذّاتي في القِيَم.
- الانقسامات الطبقيّة والفئويّة والعائليّة، وعدم وجود هدف عظيم ونبيل يوجّه حركة المجتمع التاريخيّة.
هذه هي الفتنة الشّاملة.
وتسميتنا لهذه الفتنة بـ (الشّاملة) ناشئ من ملاحظة أنّها مستوعبة لكلّ المجتمع، بحيث لا يخلو منها أيّ مستوى من مستوياته وأي مظهر من مظاهر الحياة فيه، فهي روحه وعقله: روحه الملهمة، وعقله الموجّه.
ب - الفتنة العارضة:
الفتنة العارضة: عثرة تعترض سَيْر المجتمع أثناء حركته التّقدُّميّة فتشيع الحيرة والالتباس في بعض المواقف، وتعرّض بعض الأشخاص القياديّين وبعض فئات المجتمع لاختبارات حَرِجَة، وتحفّز بعض القِيَم القديمة للتّعبير عن نفسها، ولكن قوّة اندفاع المجتمع في حركته التّقدّميّة، وقوّة المبادئ الّتي تحكم سيره في قلوب وعقول أفراده تحول بين الفتنة وبين أنْ تنتشر وتتعمّق وتضرب بجذورها في ثنايا المجتمع، فسرعان ما ينكشف وجه الحقّ فيها، وتذبل حركتها، ويخفت صوت الدّاعين إليها بين الناس، بل يغدون موضعاً للنقد والتّجريح، وتجفّ الرّوافد الرّجعيّة الّتي تمدّها بالحياة والحَرَكة، ويتعافَى المجتمع من نَكْسته، ويخرج من التّجربة أكثر وَعْياً ويقظةً.
وقد مرّت على المسلمين في عهد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بعض الفتن العارضة الّتي تجاوزوها - بتوجيه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) - بنجاح، وخرجوا منها دون أنْ تؤثّر على حركة المجتمع الإسلامي المندفعة إلى الأمام.
ولعلّ أشدّ هذه الفتن العارضة الّتي واجهت المجتمع الإسلامي في عهد النّبي (صلّى الله عليه وآله) خطورةً كانت (فتنة الإفك) ، في سنة (ست للهجرة) ، في أعقاب غزو رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين لـ (بني المصطلق) من خزاعة.
وقبل الإفك ما حدث أثناء العودة من الغزوة المذكورة، حين أدّى تزاحم على الماء في بعض منازل الطّريق بين أجير لـ (عمر بن الخطّاب) من بني غفار اسمه (جهجاه) ، وبين أحد حلفاء الخزرج واسمه (سنان بن وبر الجهني) ، واقتتلا، فصرخ حليف الخزرج: (يا معشر الأنصار).
وصرخ أجير (عمر بن الخطاب) : (يا معشر المهاجرين).
ونشط المنافقون، وعلى رأسهم (عبد اللّه بن أبي سلول) ؛ لاستغلال التّوتّر الّذي وَلَّده هذا النّزاع البسيط بين المهاجرين والأنصار، وهدّد (ابن أبي سلول) بأنّهم إذا عادوا إلى المدينة ( لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) ، وكادت الفتنة أنْ تجرف كثيرين...
ولكن حكمة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قضتْ على الفتنة في مَهْدِها.
وأنزل اللّه في شأن هذه الفتنة الصّغيرة العارضة سورة المنافقين (رقم ٦٣ في المصحف) فضح فيها نوايا المنافقين وأساليبهم، وجعل منها درساً تربويّاً إيمانيّاً وسياسيّاً للمسلمين عمّق وَعْيهم، وزاد يقظتهم، وعزّز صلابتهم أمام أساليب النّفاق.
أمّا فتنة الإفك فكانت أشدّ خطورة وأوسع انتشاراً.
لقد كانت مرتعاً خصباً للمنافقين يوهنون من خلالها مقام رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)، ويشوّهون سمعته، ويلقون ظلالاً من الرّيبة على طهارة بيته، في مجتمع يقوم على قِيَم صارمة فيما يتعلّق بالطّهارة الجنسيّة، بما يؤدّي إليه الهمس الخفي في شأن كهذا في مجتمع كهذا من سخريات وظنون، والإشاعات تضعف التّأثير النّفسي لتوجيهات رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله).
___________________
(1) سورة الأنفال: (مدنيّة / ٨) الآية: ٢٨ ووردت آية أخرى مماثلة في سورة التّغابن: (مدنيّة / ٦٤) الآية: ١٥.
(2) سورة العنكبوت: (مكِّيّة / ٢٩) الآية: ٢ - ٣.
(3) نهج البلاغة: باب الحكم / رقم النّص: ٩٣.
(4) انجذم: انقطع.
(5) السّواري: جمع سارية، وهي الدّعامة.
(6) النّجر: الأصل.
(7) درستْ: انطمستْ.
(8) عَفَتْ شُرُكُهُ: عفت: انمحت، وشركه: جمع شراك: الطّريق.
(9) المناهل: جمع منهل، هو مورد النّهر.
(10) الخف: للبعير، والظلف: للبقر، والشّاء: كالقدم للإنسان.
(11) السّنابك جمع سنبك: طرف الحافر.
(12) نهج البلاغة: الخطبة رقم: ٢.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|