التاريخ عند الإمام (عليه السلام) في المجال الوعظي، وفي المجال السّياسي الفكري |
1930
09:19 مساءً
التاريخ: 15-4-2021
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-8-2020
3048
التاريخ: 16-8-2020
2103
التاريخ: 2023-05-23
1033
التاريخ: 2023-04-11
1122
|
التاريخ عند الإمام (عليه السلام) في المجال الوعظي، وفي المجال السّياسي الفكري
* استخدم الإمام عنصر التّاريخ في مجالَين:
أحدهما: مجال السّياسة والفكر.
وثانيهما: مجال الوعظ.
وهنا يواجهنا سؤال هام:
لماذا يُدخل الإمام عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظيّة، أو في أحاديثه وخطبه و كتبه السياسيّة والفكريّة، أو في غير ذلك من مجالات توجيههِ كرجل رسالة وعقيدة وحاكم دولة؟ لماذا التاريخ؟
ونقول في الجواب على هذه المسألة الّتي تثير الشك حول جدوى التاريخ، باعتباره مادّة أساسيّة في البُنْيَة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، أو باعتباره عاملاً مساعداً في الأعمال الفكريّة الّتي تتناسب مع مادّة التاريخ...
نقول في الجواب:
إِنّ الحياة الإنسانية لدى جميع الناس في جميع الأزمان والأوطان واحدة في أصولها العميقة، ومكوّناتها الأساسيّة، وحوافزها، فهي نهر متدفِّق من التجارب والآمال والإنجازات وخيبات الأمل، وهذا ما يجعل الأسئلة الّتي تثيرها مشكلات الحاضر حافزاً نحو استرجاع الماضي، باعتباره عملاً مكمّلاً وضروريّاً في البحث الصحيح الموضوعي عن أجوبة أكثر سداداً وحكمة، تؤدّي إِلى حلول صائبة أو مقاربة للصواب للمشكلات الّتي تواجه الإنسان في حاضره، أجوبة معجونة بالتّجارب الإنسانيّة السّابقة.
وقد يثير هذا التحليل حفيظة فريق من أهل الفكر المشتغلين بالسياسة، أو فريق من أهل السياسة يدّعون لأنفسهم صلة بالفكر، يرون - أولئك وهؤلاء - أنّ النزعة التاريخيّة، أو العقليّة التاريخيّة (السلفيّة) تُعيق نموّنا في الحاضر وتقدّمنا في المستقبل؛ لأنّها تشدّنا دائماً إلى الماضي، إلى قِيَمِهِ وتصوّراته. إنّ التاريخ عند هؤلاء مرض يشوّه الحاضر ويقضي على المستقبل.
ولكن هذا الرأي بعيد عن الصّواب.
بطبيعة الحال نحن - في فَهْمنا لدور التاريخ كعامل مكوّن في البنيّة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، ومساعد في عمليّات الفكر - لا ندّعي أنّ من الحكمة أنْ يجعل الإنسان نفسه سجين التاريخ، لسنا في فَهْمنا لدور التاريخ مع غلاة النزعة التاريخيّة الّذين يَرَون أنّ التاريخ هو الحقيقة كلّها، لا مرحلة من مراحل نمو الحقيقة التجريبية فقط. فهذا الموقف الفكري يتّسم بالغلوّ والشَطَط.
ولكن ليس من الحكمة أيضاً أنْ يواجه الإنسان حاضره ويتّجه نحو مستقبله وهو بلا جذور، إنّه حين لا يستشعر تاريخه الخاص بأمّته أو تاريخ الإنسانيّة يفقد القدرة على الرؤية الصحيحة، ويفقد القدرة على تقويم المواقف الّتي تواجهه في خاطره تقويماً سليماً، سواء في ذلك ما يتعلّق منها بالحاضر نفسه أو ما يتعلّق منها بالمستقبل، إنّه في هذه الحالة يتحرّك في الفراغ.
لهذا وذاك نرى أنَّ الاستخدام المُتّزِن للتاريخ، الاستخدام المُتّسم بالحكمة والاعتدال يجعلنا أقدر على التحرّك في حاضرنا وأكثر شعوراً بخطورة قراراتنا فيما يتعلّق بشؤون المستقبل؛ لأنّ التاريخ في هذه الحالة يُعمّق حِسَّنا الأخلاقي حين اتخاذنا قرارات مستقبليّة تمسّ نتائجها حياةَ أجيال، نصنع بهذه القرارات - المستقبليّة بالنسبة إلينا - حاضرها هي، الّذي هو مستقبلنا المظنون الّذي قد لا نشاركها فيه؛ لأنّنا نكون حينئذٍ قد غادرنا الحياة، ومِن ثمّ فلا نواجه نتائج قراراتنا الماضية، بدون استرجاع الماضي وما يمنحنا ذلك من عمق في الرّؤية، وغنى في التجربة الإنسانيّة، ووعي لاستمرار الحضارة الإنسانيّة فينا وفيمن يأتي بعدنا من الأجيال، بدون ذلك لن يكون في وسعنا تفادي أخطاء وقعتْ في الماضي، كما لنْ يكون مِن حقّنا التمتّع بنتائج تجارب ناجحة أُنجزتْ فيه، كما أنّنا في هذه الحالة قد نتّخذ بالنسبة إلى المستقبل الّذي لا نملكه وحدنا قرارات متهوّرة، شديدة الخطورة بالنسبة إلينا، وإلى وضعيّة ومصير الأجيال الآتية.
إنّ الغلوّ في استرجاع التّاريخ، فكراً وعملاً، قد يجعل من التّاريخ مقبرة للحاضر والمستقبل، ويجعل الإنسان غريباً في العالم الّذي يعاصره ويحيط به ويتدفّق بالحياة نحو المستقبل مِن حوله.
كما إنّ الغلوّ في رفض التاريخ، والانقطاع عنه والانصراف عن تجاربه ومآثره قد يجعل الإنسان (ريشة في مهبّ الريح) عاجزاً عن التماسك في الحاضر، ويفقده القدرة على ممارسة دوره الأصيل في بناء الحضارة، ويجعل منه مجرّد ممثّل لأدوار يضعها الآخرون، يعكس هو بتمثيله إراداتهم وأفكارهم وموجاتهم.
إذنْ لابدّ للإنسان من أنْ يتعامل مع التاريخ باعتدال، يجعله دليلاً في حركته، وتربةً ينمو فيها الحاضر الأصيل والمستقبل الأكثر يُمْناً وأصالةً.
واستجابةً لهذه الضّرورة تعامل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع التّاريخ في مجال الوَعظ وفي مجال السّياسة والفكر.
وأكبر همِّنا في هذه الدراسة هو التّعرف على النظرة التاريخيّة للإمام في مجالَي السّياسة والفكر، مكتفين بالنسبة إلى المجال الوعظي ذي المحتوى التاريخي بتقديم نموذج واحد من النصوص الوعظيّة في كتاب نهج البلاغة، وتحليله مع تسليط الأضواء على الجانب التاريخي فيه.
التّاريخ في مجال الوعظ
حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) (١) ، مواعظ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الّتي كانت تسيطر وتوجّه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام (عليه السّلام).
وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زُهْدِي، يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة الدنيا والعمل لها والاستمتاع بها، وإنّما كان في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعيّة وصدق، محذِّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة، الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.
وكشفْنا النّقاب أيضاً عن أنّ النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثّرت بالتّيَّار الزُهْدِي السّلبي، الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الانحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيّات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثِّل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.
والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنّه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصّة في مجتمعه الّذي بدا غافِلاً عن مصيره التَعِس، مُهْمِلاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، مُتلهِّفاً على المُتَع والثراء اللّذَين لا يستحقّهما إلاّ مجتمع مستقر، أحكم وضعه الأمني والسّياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يَكُنْه مجتمع العراق في عهد الإمام (عليه السلام) بل كان مُجْتَمَعاً قلِقاً يعاني من اضطراب أَمْنِهِ الخارجي وتدهور أَمْنه الداخلي، كما يُعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجةً لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.
* ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظيّة الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها:
قال (عليه السّلام):
(أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبتْ بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّتْ بِالآمالِ، وتزيَّنتْ بِالغُرُور، لا تدُومُ حَبرتُها (2) ، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائِلة (3) زائِلة نافِدة (4) بائِدة، أكَّالة غوَّالة (5) ، لا تعدُو إذا تناهتْ إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَنْ تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ:
( كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا (6) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) (7) ، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ إلاّ أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً (8) ، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة (9) رخاءٍ إِلاّ هتنتْ (10) عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحتْ لهُ مُنتصرةً أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإنْ جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى (11) لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً (12) إلاّ أرهقتْهُ مِن نوائبِها تَعَبَاً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أَمْنٍ إلاّ أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ (13) . غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مِن أزوادِها إلاّ التقوى).
(مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ (14) ، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ).
(كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتْهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتْهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتْهُ حقِيراً (15) ، وذِي نخْوةٍ قد ردَّتْهُ ذلِيلاً (16) .
(سُلطانُها دُوَّل (17) وعيشُها ريق (18) ، وعذبُها أُجاج (19) ، وحُلوها صَبِر (2٠) ، وغِذاؤُها سِمام (2١) وأسبابُها رِمام (2٢) .
(حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ(2٣) وجارُها محرُوب (2٤).
(ألستُم فِي مساكِنِ مَن كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ (2٥) ).
(فهل بَلَغَكُم أنَّ الدُّنيا سختْ لهُم نفساً بِفِديةٍ (26) أو أعانتْهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً..؟ بل أرهقتْهُم بالقوادِحِ (27) وأوهقتْهُم بِالقوارِعِ (28) وضَعْضَعَتْهُم بِالنَّوائبِ (29) ، وعفَّرتْهُم لِلمناخِرِ (30) ، ووطِئتْهُم بِالمناسِمِ (31) ، وأعانتْ عليهِم ريبَ المنُون).
(فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمَن دان لها (32) وآثرها وأَخْلَدَ إليها (33) حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون؟ أَمْ إِلَيْهَا تطمئنُّونَ؟ أَمْ عليها تَحرِصُون؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمَنْ لم يتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنه).
(فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعِظُوا فِيها بِالَّذِين قالُوا ( ... مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ... ) (34) حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعَون رُكباناً (35) ، وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً (36) ، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ (37) أجنانُ (38) ومِن التُّرابِ أكفان...
استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...) (39) .
ركّز الإمام (عليه السّلام) في هذه الخطبة الوعظيّة - كما هو شأنه في معظم مواعظه - على عامِلَيْن ثابتَين في طبيعة الحياة على هذه الأرض:
١ - عامل التغيّر والتقلّب في الحياة:
الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كلّ شيء ومِن حول كلّ شيء في الكون المادِّي كلّه - الحياة بما هي كلّ هذا متقلِّبة متغيِّرة متحوِّلة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.
٢ - عامل الزّمن:
أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكلّ ذي بصيرة، فالزّمن يُفتِّت الحياة باستمرار، فما إنْ يبدأ وجود الحياة في شيء، بل ما إنْ يبدأ وجود شيء - حيّاً كان أو غير حيّ - حتّى يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولكنّ الزّمن يغتالها باستمرار.
وهذان العاملان - التّغيّر والزمن - لا يختصّان بعالَم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في كلّ شيء، ويحُولانِ دون ثبات كلّ شيء:
- الجماد.
- والنّبات.
- والحيوان.
- والإنسان.
ويتميّز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالِم الأُخرى بأنّه - لِمَا أُوتي مِن عقل وإدراك - يستطيع أنْ يَعِي الوجه المأساوي لعمل هذَيْن العامِلَيْن، وأثرهما في حياته، وفي الوجود مِن حوله.
ووعيُ الإنسان لهذين العاملَين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً على مواجهة الحياة ومباهجها المؤقَّتة، ووُعُودها السّخيّة، وآمالها اللامعة، بعقلٍ صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعيّة في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا، هذه النّزعة الّتي من شأنها أنْ تجعل الآمال أقلّ بريقاً وجذباً واستهواءً، والانتصارات أقلّ مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقلّ إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالَمه من جديد؛ لأنّه لم يُفَاجَأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهيّأ النفس لتقبّلهما، ومِن ثمّ فقد كان مهيّأ النفس لتجاوزهما، واستئناف العمل مرّة أخرى بأملٍ واقعي جديد.
بالإجمال:
إنّ وعيَ الإنسان لهذَين العاملَين، وإدراكهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً على مواجهة الحياة بكلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق يواجهها بروح واقعيّة.
وحين يُدخل الإمام (عليه السّلام) في وعظه عنصر التاريخ، فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من كوارث وآلام، وما انتهتْ إِليه حياتهم على عظمة توهّجها من انطفاء، فإنّه يقدّم لتحليله النظري - الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم - يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.
فهذه المدن والمساكن، وهذه الضِياع والمزارع، وهذه القِلاع والحُصون، عمّرها في عصور سابقة أناسٌ تقلّبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سَعِدُوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثمّ ماتوا وانقطعوا عن كلّ ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني، ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...
وكان هؤلاء أطول أعماراً، وأكثرُ قوّةً (وأعد عديد)، وقد وجّهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدّوا لها واستعدّوا، ولم يشغلْهم عنها تفكيرٌ بالآخرة أو عمل لها، ولكن كلّ ذلك لم ينفعهم ولم يَعُدْ عليهم بطائل؛ لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملاً دائماً - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموّها وازدهارها بذور تقلّصها وذبولها وانطفائها في آخر المطاف.
هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضيء الحاضر؛ لأنّه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك - أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعيّة وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يَهِن ولا يستسلم تحت وطْأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوّح به الغرور وهو في ذُرى النجاح.
___________________
(1) (محمّد مهدي شمس الدّين): دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص ٢٤٧.
(2) الحبرة: بالفتح - النّعمة.
(3) حائلة: متغيِّرة.
(4) نافدة: فانية.
(5) غوّالة: مُهْلِكَة.
(6) الهشيم: النَبْت اليابس.
(7) سورة الكهف (رقم ١٨/ مكيّة) الآية: ٤٥.
(8) البطن: كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر: كناية عن الإدبار.
(9) الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.
(10) هتنتْ: انصبّت.
(11) أوبَى: صار كثير الوباء.
(12) الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.
(13) القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.
(14) يُوبِقهُ: يُهلكهُ.
(15) أبّهة: عظمة.
(16) النّخوة: الافتخار.
(17) دُوَّل - بضم الدال - المنحول.
(18) الريق: الكدر.
(19) أُجاج: شديد الملوحة.
(20) الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.
(21) سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.
(22) الرُّمام: جمع رُمّة - بالضم - القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).
(23) موفورها: مَن كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.
(24) محروب: المحروب مَن سلب مالُه.
(25) ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.
(26) لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.
(27) أرهقتْهم: أتْعَبَتْهُم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.
(28) الوهق: حبل تُصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنّهم أسرى مشاكلهم المادِّيَّة والاجتماعيّة.
(29) ضَعْضَعَتْهُم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الاستقرار وطنب العيش.
(30) عَفّرَتْهم: العفر التراب، مرّغتْ آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.
(31) المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.
(32) دَانَ: خضع.
(33) أَخْلَدَ: اطمأنّ.
(34) سورة فُصّلت: (رقم ٤١ / مكّيّة) الآية: ١٥.
(35) لا يُدعَونَ رُكباناً ؛ لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحمَلُوا مختارين، ولا يُدعون ضيفاناً ؛ لأنّهم يُقيمون في قبورهم.
(36) الأجداث: القبور.
(37) الصَفِيْح: الوجه من كلّ شيء له مساحة، والمراد هنا الأرض.
(38) أَجْنَان: جمع جَنَن - بالفتح - القبر.
(39) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ١١١.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|