أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2014
2639
التاريخ: 2024-09-15
250
التاريخ: 14-10-2014
9815
التاريخ: 13-10-2014
4754
|
لقد أوضح الطباطبائي في كتابه : «الشيعة في الإسلام» أن القرآن الكريم هو حجة بالذات وسند لحجّية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (1) ، فيما عرض له من تفسير لقوله تعالى : ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ ، مبيناً أنه إذا لم تكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّية فيما يأتي به عن الله تعالى ، فما يكون معنى هذه الآية وقد أوضحنا بما فيه الكفاية ما يرمي إليه الطباطبائي من ذلك في حديثنا عن أُسلوبه في التفسير ، ولهذا ، فهو يرى أنه لا يمكن أبداً الوصول إلى معارف وأحكام القرآن فيما لو استغنينا عن سنّة المعصومين (عليهم السلام) ، لأن آيات القرآن تنطق بحجيتهم ، وقد جعل لهم هذا المقام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر ، ما يؤكد ضرورة التمسك بحبلهم والاعتصام بهم ، لقوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [الاحزاب : 33] .
وإذا كان الطباطبائي قد تميز في منهجه في كونه سلك سبيل تفسير القرآن بالقرآن كما بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فذلك إنما كان من الطباطبائي بهدف البحث في الفضاء القرآني دون سواه لاكتشاف الحقائق والمعارف القرآنية ، وبرأيه لو أن المفسرين الذين سبقوه إلى هذه المهمة سلكوا هذا المسلك لاستبان لهم الكثير من أبكار الحقائق القرآنية ، ولكنهم سلكوا مسالك شتى ، فانتهى الأمر بهم إلى أن يكونوا أسرى مناهج الكلام والفلسفة والتاريخ والرواية ، وما إلى ذلك مما هو معهود في كتب المفسرين . . .
لذا ، فإن الطباطبائي يركز على مبدأ في منهجه ، وهو أنه ليس بالإمكان تفسير آية من دون الاستعانة بآية أخرى ، وثالثة للوصول إلى معاني الآيات وما ترشد إليه ، لقوله تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [النساء : 82] .
وبما أن القرآن هو كتاب هداية ونور وتبيان لكل شيء ، وبما أنه بيّن بنفسه ، ويشهد بعضه على بعض ، ويفسر بعضه بعضاً ، فإنه من غير الممكن أن يلجأ المفسر إلى تبيان حقيقة ومعارف القرآن من خارجه ، أو مهتدياً بغيره إليه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما يكون هذا الشيء الذي نهتدي به إلى القرآن ، كما يسأل الطباطبائي؟ (2) .
فالطباطبائي في منهجه ، كما نلاحظ ، ينبه في بداية كل سورة إلى سبب نزولها ، وما إذا كانت مكية أم مدنية ، ثم يبين الغرض الأساسي الذي عالجته ، والأهداف التي حملتها وتعرض لها ، ثم يوزع آيات السورة المراد تفسيرها على مقاطع قرآنية ، وقد يكون المقطع آية واحدة ، أو بضع آيات ، مع عرض مقتضب للمفردات ووجوه البيان والإعراب ، وغالباً ما يأتي على أقوال المفسرين ليخلص في النتيجة إلى حقيقة ما تتضمنه الآيات من حقائق ومعارف على أساس منهجه في تفسير القرآن بالقرآن . وهو في ضوء هذا المنهج يقوم بتحديد جملة من المفاهيم القرآنية برؤية موضوعية لآيات أُخرى موافقة لها أو معارضة ، دون أي تعويل على الروايات المتناقضة ، أو المنافية للعقل ، وكما يقول الدكتور الأوسي : إن السياق له أثر واضح في تفسير الطباطبائي ، باعتباره أحد القرائن الحالية على فهم الكلام ، فهو اعتمد أساساً في الكشف عن معاني الآيات وتوضيح ما لابس التفاسير من ذلك ، آخذاً بعين الاعتبار ما جاء من روايات عن الأئمة (عليهم السلام) في تأكيد رأيه من خلالها ، لكونها حجة كما بينا سابقاً ، ثم يخلص من ذلك كله إلى قبول أو رفض ما روي من مظنون السنة التي تعني لديه قول المعصوم وفعله وتقريره (3) ، ولأجل أن يتضح ذلك في تفسير الطباطبائي ، نلاحظ أنه لم يُدخل البحوث الروائية في صميم تفسيره ، بل اختار له الاستقلالية ، وإيراد ما روي حول الآيات من تفسير أثري ، أو أسباب نزول وغير ذلك ، معلقاً على ذلك بقوله : أقول فإن وافقت نتائجه التفسيرية نبه عليها بالتأكيد ، وإلاّ كانت موضع ضعف لديه .
لقد استعان الطباطبائي بأقوال الصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات رغم قناعته بأنها فاقدة للحجية بذاتها (4) ، هذا فضلاً عما استعان به من رؤية عقلية ومنهج عقلي ، إيماناً منه بأنه لا تناقض بين العقل والشرع ، وخاصة العقل القطعي لكونه حجة ، وإلاّ بطل الوحي ، كما بين في كثير من بحوثه العقلية (5) ، وأكثر ما يبرز ذلك من الطباطبائي في سياق عرضه لأقوال المفسرين في الجوانب الكلامية والفلسفية ، التي أفردها أيضاً في تفسيره ، تماماً كما فعل في البحوث الروائية ، حيث نجده يبقي على المعنى التفسيري في سياق الآيات القرآنية دون أية ملابسات في الكلام والفلسفة والتاريخ والرواية ، إلى غير ذلك مما احتشدت به التفاسير السابقة على الطباطبائي (6) . ولعل من أهم ما يميز منهج الطباطبائي ، هو أنه خلا من التعصب ، أو الجمود عند الرؤية المذهبية ، إذ هو في مناقشته لمسائل التوحيد والإعتقاد والجبر والتفويض ، وفي ردوده على المجسمة والمشبهة ، وغير ذلك لم يتعصب ، أو يقدح فيما يراه مجانباً للحق ، وإنما هو يبين أسس وقواعد ووجوه ما يذهب إليه الآخرون عارضاً له بكل موضوعية ليبين تهافته . . . أما موقفه من النظريات العلمية الحديثة ، فإنه ينطلق في موقفه التفسيري من كون القرآن معجز من جميع الجهات ومطلق ، فهو آية البليغ والفقيه والإجتماعي والعالم ولجميع الناس ، وهو رغم إيمانه بذلك ، فلم يُرد لتفسيره أن يُثقل بالنظريات العلمية تأكيداً أو تسويغاً في ضوء الآيات القرآنية ، بل اكتفى بعرض الآيات ومدلولات الألفاظ والظواهر مبسطاً القول فيها دونما اكتراث بما حققه العلم الحديث من إنجازات علمية وفرضيات علمية حديثة لأن القرآن ، بنظره ، ليس كتاب علم أو تاريخ ، وإنما هو كتاب هداية وتغيير رغم ما يتضمنه من إشارات علمية .
إن الطريقة التي ارتضاها المفسّر الطباطبائي ، هي تفسير القرآن بالقرآن ، وتشخيص المصاديق والتعرّف إلى خواص الآيات ، ثم فصل الآيات الرئيسية التي تدعم الظواهر عن الآيات الأساسية التي تمثل بواطن القرآن الكريم ، والتمييز بين التفسير والتأويل ، إلى غير ذلك مما عرض له الطباطبائي في سياق حديثه عن المفهوم والمصداق ، وكما يرى الطباطبائي ، أن هذا اللون من التفسير ليس غريباً عن المفسرين مطلقاً ، إذ قد مارسه المعصومون (عليهم السلام) فيما جاء عنهم لجهة تفسير القرآن بالقرآن ، من حيث كونه ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ، كما بين مفسرُنا في مقدمة الميزان (7) . وهذا ما عدّهُ العلماء ، قديماً وحديثاً ، أول الطرق في تفسير القرآن لقولهم أنه من أراد تفسير الكتاب طلبه أولاً من القرآن ، فإن لم يجده طلبه من السنة ، فهي شارحة للقرآن وموضحه له ، يقول الطباطبائي : «إن تفسير الآية بالآية والتدبر فيها وفي غيرها ، والإستفادة من الأحاديث ، هو المنهج الأساس الذي توصلنا إليه ، وهو حث عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار فيما أثر عنهم . . . وقد جاء في الحديث النبوي المشهور : من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (8) ، وهناك فرق كبير بين تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالرأي ، فهذا الأخير هو المنهى عنه لكونه لا يفي بالحاجات غير المحدودة ، وهي المسماة بالطريقة الحديثة» (9) .
وهكذا ، فإن المحصّل من كلام الطباطبائي ، أن المنهى عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن ، والإعتماد على الرأي من غير رجوع إلى القرآن أو إلى السنة القطعية ، ولازم ذلك وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة ، وكونه هو السنة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه ، وعرض الأخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه إلاّ القرآن نفسه (10) .
وانطلاقاً مما تقدّم ، نرى أنه يمكن لأي باحث أن يهتدي إلى عبقرية المفسّر الطباطبائي فيما ارتضاه من طريقة للتفسير أبعدته عن الإطناب في عرض النصوص والشروحات ، وأغنته عن مطولات المفسرين ، ومن هذه الطريقة كما سيتبين لنا يتفرّع مناحي كثيرة جعلت من منهج الطباطبائي منهجاً أكثر وضوحاً ، ويمكن أن نعرض لذلك على الشكل الآتي :
أ - في بيان المبهم والجزئي في التفسير
لقد أورد الطباطبائي كثيراً من الآيات التي تحتاج إلى مزيد من التدبر في الفضاء القرآني للاهتداء إلى ما تنطوي عليه من مدلولات ، من هذه الآيات قوله تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴾ [المائدة 68] ، ومن أجل فهم وبيان معنى الآية ﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾ لما فيها من غموض ، يرى الطباطبائي أن الاستعانة بآيات أخرى يكشف عن معناها ، والذي هو كناية عن عدم اهتمام واعتماد أهل الكتاب على شيء تثبت عليه أقدامهم ، بحيث يقدرون على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم ، على اعتبار أن من يريد أعمال قوة وشدة وجب عليه أن يعتمد على مستوى يستوي عليه ، أو يتصل به ، كمن يريد أن يجذب ، أو يدفع ، أو يحمل ، أو يقيم شيئاً ثقيلاً ، فإنه يثبت قدميه على الأرض أولاً ، ثم يضع ما يشاء ، ويضيف الطباطبائي أن هذا يجري في الأمور المعنوية كأفعال الإنسان الروحية ، مثلاً ، فإن العبودية يتوقف نجاحها على حق التقوى والورع عن محارم الله تعالى لمتانته وقوته ، ولا سيما في الرسالات التي هي من الثقل ما لا يتيسّر حمله للإنسان حتى يعتمد على أساس ثابت ، ولا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه ، كما أشار تعالى إلى ذلك بالنسبة للقرآن الكريم :
﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل : 5] ، وقوله تعالى : ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر : 21] ، وقوله تعالى : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ [الاحزاب : 72] ، وقوله تعالى : ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الاعراف : 145] ، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل : ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ [البقرة : 63] ، إلى كثير من الآيات التي إذا ما أضيفت إلى بعضها استفاد منها المفسر أن إقامة الدين لا تتيسر إلاّ بهداية منه تعالى ، ولا يصلح لها إلاّ المتصف بالإنابة التي هي الاتصال بالله تعالى وعدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد أخرى ، يقول الله تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ [الشورى : 13] ، وعليه ، فإن الطباطبائي يخلص من ذلك كله إلى القول ، بأن أهل الكتاب فاقدو العماد الذي يجب عليهم أن يعتمدوا عليه في إقامة الدين (11) ، الذي هو من الثقل والقوة ما لا يتيسر حمله لكل إنسان ، وهذا هو معنى : ﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴾ [المائدة : 68] .
ومن المناحي التي ارتضاها الطباطبائي في تفسيره أيضاً ، هو ذهابه إلى المعنى في الآية ، ثم يلجأ إلى تعزيزه بقرائن مستفادة من الآية نفسها ، أو من آيات أخرى ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ . . . ﴾ [البقرة : 30] ، نرى أن المفسّر اختار أن تكون الخلافة في الآية لله تعالى ، وليست لنوع من الموجودات الأرضية ، كانوا قبل الإسلام في الأرض ، وأن الخلافة ليست مقصورة على شخص آدم (عليه السلام) ، بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص ، وقد أيد الطباطبائي ، عموم الخلافة بآيات من القرآن كقوله تعالى : ﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [الاعراف : 69] ، وقوله تعالى : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس : 14] ، وقوله تعالى : ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل : 62] . وكما نلاحظ الطباطبائي في تفسيره يستعين ببعض الآيات زيادة في الإيضاح للمعنى واستكشافاً للمراد ، كما في قوله تعالى : ﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ [القيامة : 12] ، فهو استعان ببعض الآيات لحصر المستقر إليه تعالى يوم القيامة ، إذ لا مستقر إلى غيره ولا ملجأ يلتجأ إليه ، وذلك أن الإنسان سائر إليه كما قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق : 6] ، وقوله تعالى : ﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ [العلق : 8] ، وقوله تعالى : ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [النجم : 42] ، إلى غير ذلك من الآيات التي فسرّها بالآيات دونما حاجة إلى منهاج آخر لاستبيان معانيها .
إن المتتبع والمتدبر بتفسير الميزان للطباطبائي يجد الكثير من هذا التفسير الذي يرتكز إلى القرآن من دون الاشارة إلى الرواية ، أو إلى غيرها مما قد يحتاجه المفسر من لغة وبلاغة وتاريخ ، ولكن الطباطبائي ارتضى لتفسيره هذه المنهج لكونه يؤدي بالمفسر إلى الكشف عن المعارف والحقائق القرآنية أكثر من أي نهج آخر ، ولعل هذا هو الذي ميز تفسير الميزان عن سواه ، وجعل منه تفسيراً جديداً في بابه ، حتى أننا نجد الطباطبائي في كثير مما يستطرد فيه من شواهد قرآنية لتأكيد رؤيته وصوابية منهجه ، وقد تقدم الكلام في نماذج على سبيل المثال لا الحصر ، ويمكن مراجعة تفسير الميزان للوقوف على هذه الحقيقة المتجلية فيه والمميزة له .
ب - في بيان المحكم والموضوعي
يرى الطباطبائي أنه يمكن الاستعانة بالقرآن الكريم لتعين مصطلح معين يرد في بعض آياته ، كتعيينه معنى الدعاء والاستجابة والتوبة والتوحيد والرزق والعبادة والجهاد ، ويعتمد في تعيين ذلك على تجلية الآيات التي تعرضت لها ، وهذه الطريقة بالذات تعد من النظرة الموضوعية في التفسير ، إذ كثير ما انتقل الطباطبائي في تعيين هذه المواضيع (المفاهيم) ضمن أبحاث قرآنية اعتمد فيها النظرة الموضوعية في القرآن ، والتي تسمى بالتفسير الموضوعي ، وهو المنهج السليم للكشف عن معاني القرآن (12) ، ولهذا المنهج شواهد كثيرة في تفسير الميزان يمكن أن نشير إلى بعضها فيما عرض له الطباطبائي في موضوع الجهاد ، حيث رأى أن الله تعالى أمر بالقتال ، فقال الله تعالى : ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة : 190] ، وقال تعالى : ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة : 191] . فالطباطبائي ، بموضوعيته المعهودة ، يرى تحت عنوان الجهاد الذي يأمر به القرآن ، أن القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال ، والصبر على الأذى في سبيل الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون : 1-6] . وقال الله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ . . . ﴾ [النساء : 77] ، وكأن هذه الآية تشير إلى قوله تعالى : ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة : 109] .
ثم نزلت آيات القتال ، فمنها ما نزل بالقتال مع مشركي مكة ، ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى : ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج : 39] ، ومنها ما نزل بالقتال مع أهل الكتاب ، كما قال الله تعالى : ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة : 29] ، ومنها ما نزل بالقتال مع مطلق الكفار ، كما قال الله تعالى : ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [التوبة : 123] ، خلاصة الأمر ، أن القرآن يبين أن الإسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة ، وهو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها ، كما قال الله تعالى : ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم 30] ، وهكذا ، فإن إقامة الدين والحفاظ عليه هو أهم حقوق الإنسانية المشروعة ، ثم يذكر القرآن أن الدفاع عن هذا الحق فطري ومشروع ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة : 251] ، وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الانفال : 24] ، وكما نلاحظ أنه تعالى سمى الجهاد والقتال ، الذي يُدعى إليه المؤمنون محيياً لهم ، ومعنى ذلك أن القتال ، سواء أكان بعنوان الدفاع عن المسلمين ، أم كان قتالاً إبتدائياً كل ذلك في الحقيقة هو دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ، على اعتبار أن الشرك بالله تعالى هو هلاك للإنسانية وموت للفطرة (13) . . . مما تقدم ، يمكن القول : أنه ينبغي ، كما نفهم من تفسير الطباطبائي ، أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من الشرك والوثنية ، وإخلاص الإيمان لله تعالى . فالقتال الذي تذكره الآيات ليس عدواناً ، وإنما هو إماتة للشرك ، أو لإعلاء كلمة الحق ، على كلمة الشرك والكفر . وعلى أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله تعالى ، وهذا ما تلحظه الآية المباركة لجهة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق ، فهم وإن كانوا على التوحيد ، ولكنهم مشركون بالحقيقة ، والدفاع عن حق الإنسانية يوجب حملهم على دين الحق (14) والقرآن وإن لم يشتمل على حكم صريح في ذلك ، لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلاّ بانجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال ، وهو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد ، كما قال الله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة : 33] .
وهنا ، ربما يتوهم متوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة ، لكن هذا ينافيه قوله تعالى : ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النور : 55] ، فإن الاستخلاف ، إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال . . .
وكيف كان ، فإن منهجية الطباطبائي في التفسير تتظهّر فيما اعتمده من تفسير موضوعي في باب الجهاد من خلال تفسير القرآن بالقرآن ، وربما يتوهم البعض أن الإسلام في تشريعه للجهاد يخرج عن طور النهضات الدينية المأثورة من الأنبياء السالفين ، وهذا ما قد تلخص جوابه في أن الدين والإسلام ، إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المتتبع للقتل ، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من غير المسلمين بدين السيف والدم ، أو دين الإجبار والإكراه ، وكيف يكون ذلك ، وقد قال الله تعالى : ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة : 256] .
إن التتبع لتفسير الميزان ولمنهج الطباطبائي في هذا التفسير في أي باب من أبوابه ، سواء في باب التوحيد والإيمان ، أم في باب العمل الصالح ، أم في مجال القصص القرآني ، لا بد أن يلحظ الانسجام التام في منهجه ، وخاصة فيما اعتمده من تفسير موضوعي إلى جانب منهجه الأساس الذي هو تفسير القرآن بالقرآن ، وعموماً يمكن القول : إن الطباطبائي فيما ارتضاه من طريقة في تفسير القرآن بالقرآن ، استطاع أن يقدم خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في ما كشف عنه من حقائق ومعارف قرآنية ، هذا فضلاً عما قام به في تفسيره من ترجيح وموازنة بين الأقوال والآراء السابقة على تفسيره ، وهي الموازنة ذاتها التي اعتمدها لرفض الروايات أو قبولها ، وذلك كله إنما يكون بسبب علمه الواسع ، وإحاطته الكبيرة بالعلوم والمعارف الدينية ، وكما يقول الآملي في طريقة الطباطبائي : «كانت الطريقة الفذة التي اعتمدها تفسير الميزان تتمثل في تحديده وتعيينه للآيات الرئيسية والجذرية في القرآن ، الأمر الذي كان من شأنه أن يفتح أبواب العلوم في الآيات الأخرى ، وهو ما يمكن ملاحظته في روايات المعصومين (عليهم السلام) ، ونادراً ما وجد في تفاسير السابقين ، وبالتعرّف على الآيات الرئيسية والجذرية لشجرة القرآن الكريم يتضح انعكاس تأثيراتها على الآيات الفرعية الأخرى» (15) .
__________________________________
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|