أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-9-2020
3549
التاريخ: 16-9-2020
8384
التاريخ: 15-9-2020
5462
التاريخ: 15-9-2020
3104
|
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 38 - 41]
بين سبحانه دفعه عن المؤمنين بشارة لهم بالنصر فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} غائلة المشركين بأن يمنعهم منهم، وينصرهم عليهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} وهم الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا، وكفروا نعمه، عن ابن عباس. وقيل: من ذكر اسم غير الله، وتقرب إلى الأصنام بذبيحته، فهو خوان كفور، عن الزجاج.
ثم بين سبحانه إذنه لهم في قتال الكفار بعد تقدم بشارتهم بالنصرة فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي: بسبب أنهم ظلموا، وقد سبق معناه في الحجة.
وكان المشركون يؤذون المسلمين، ولا يزال يجئ مشجوج ومضروب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول لهم، صلوات الله عليه وآله: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال، حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال. وفي الآية محذوف وتقديره أذن للمؤمنين أن يقاتلوا أو بالقتال من أجل أنهم ظلموا بأن أخرجوا من ديارهم، وقصدوا بالإيذاء والإهانة.
{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وهذا وعد لهم بالنصر معناه أنه سينصرهم. ثم بين سبحانه حالهم فقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} يحتمل معناه أن يكون أراد أخرجوا إلى المدينة فتكون الآية مدنية، ويحتمل إلى الحبشة، فتكون الآية مكية. وذلك بأنهم تعرضوا لهم بالأذى حتى اضطروا إلى الخروج. وقوله {بغير حق} معناه: من غير أن استحقوا ذلك، عن الجبائي أي: لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم: ربنا الله وحده. وقال أبو جعفر عليه السلام: نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد عليهم السلام، الذين أخرجوا من ديارهم، وأخيفوا {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} قد تقدم الكلام في هذا.
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} أي: صوامع في أيام شريعة عيسى، وبيع في أيام شريعة موسى، ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الزجاج. والمعنى: ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض، لهدم في كل شريعة بناء المكان الذي يصلى فيه. وقيل: البيع للنصارى في القرى، والصوامع في الجبال والبراري، ويشترك فيها الفرق الثلاث. والمساجد للمسلمين، والصلوات كنيسة اليهود، عن أبي مسلم. وقال ابن عباس والضحاك وقتادة: الصلوات كنائس اليهود، يسمونها صلاة فعربت. وقال الحسن: أراد بذلك عين الصلاة، وهدم الصلاة بقتل فاعليها، ومنعهم من إقامتها. وقيل: أراد بالصلوات المصليات، كما قال. {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} وأراد المساجد {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الهاء تعود إلى المساجد. وقيل: إلى جميع المواضع التي تقدمت، لأن الغالب فيها ذكر الله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} هذا وعد من الله بأنه سينصر من ينصر دينه وشريعته. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قادر قاهر.
ثم وصف سبحانه من ذكرهم من المهاجرين فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} والتمكين: إعطاء ما يصح معه الفعل، فإن كان الفعل لا يصح إلا بآلة، فالتمكين: إعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة، وكذلك إن كان لا يصح الفعل إلا بعلم ونصب ودلالة واضحة وسلامة ولطف وغير ذلك، فالتمكين: إعطاء جميع ذلك وإن كان الفعل يكفي في صحة وجوده مجرد القدرة. فخلق القدرة التمكين. فالمعنى الذين أعطيناهم ما به يصح الفعل منهم، وسلطناهم في الأرض، أدوا الصلاة بحقوقها، وأعطوا ما افترض الله عليهم من الزكاة.
{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف هو الحق، لأنه يعرف صحته. والمنكر هو الباطل لأنه لا يمكن معرفة صحته. قال الزجاج: هذه صفة من في قوله {من ينصره}.
وقال الحسن وعكرمة: هم هذه الأمة. وقال أبو جعفر عليه السلام: نحن هم والله!
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} هو كقوله {وإلى الله ترجع الأمور} ومعناه: إنه يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا مانع ولا منازع.
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص156-158.
لا يخلو المؤمن من ناصر :
{ إِنَّ اللَّهً يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}. تدل هذه الآية ان اللَّه سبحانه يمنع في هذه الحياة الكفرة والطغاة عن المؤمنين باللَّه واليوم الآخر ، وأوضح منها في الدلالة قوله تعالى : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ » - 51 غافر . مع أن اللَّه سبحانه قد نص في العديد من آياته ان اليهود كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ، منها الآية 21 و 112 و 181 من سورة آل عمران ، والآية 154 من سورة النساء ، بالإضافة إلى أن تاريخ البشرية القديم والحديث مفعم بالمظالم والاعتداءات على المتقين والمخلصين . . فما هو وجه الجمع بين الآيات الدالة على أن اللَّه ينصر أهل الحق والآيات التي أخبرت عن قتل الأنبياء ؟
الجواب أولا : ان آيات النصر تدل بسياقها على أنها خاصة ببعض الأنبياء دون بعض ، كنوح وهود وصالح ولوط ومحمد ، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى :
« واللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ » - 13 آل عمران ، والآيات التي نحن بصددها تدل على أن محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) والصحابة هم المقصودون بقوله تعالى : « إِنَّ اللَّهً يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا » لأنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا اللَّه ، وقد جاء في كتب الصحاح ان هذه الآيات نزلت حين هاجر النبي من مكة إلى المدينة .
ثانيا : ان المحق المخلص لا يخلو من ناصر ينصره بيده أو ماله أو لسانه ، ولا نعرف مجتمعا اتفق جميع أفراده ضد من نطق بكلمة الحق والعدل . . أجل ، ان كثيرا من المحقين قتلوا وأسروا وشردوا ، ولكن اللَّه عز وجل قد أتاح لهم أنصارا يعلنون ظلامتهم ، ويشيدون بعظمتهم ، ويدينون أعداءهم بحجج دامغة ، وأدلة قاطعة ، وهذا مظهر من مظاهر النصر ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }تعليل لقوله : { إِنَّ اللَّهً يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ويشعر هذا التعليل بأن على من آمن باللَّه ان يناصر المؤمن بما يملك من أسباب النصر ، وأدناها ان يدافع عنه إذا ذكر أمامه بسوء ، والا فهو خوان كفور . . وفي الحديث الصحيح : الساكت عن الحق شيطان أخرس .
ثالثا : لو كان مجرد الايمان باللَّه يدفع العدوان والنكبات عن المؤمن - ان صح التعبير - لآمن كل الناس ايمانا تجاريا تماما كمن يبيع دينه وضميره لكل من يدفع الثمن .
رابعا : ان الايمان الحق أن نطيع اللَّه في جميع أحكامه وأوامره ، وقد أمر سبحانه إذا أردنا أمرا أن نتبع الأسباب الطبيعية التي جعلها مؤدية إلى ما نريد ، وقد حدد سبب النصر بوحدة الكلمة ، وأعداد القوة ، قال تعالى : « ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » - 46 الأنفال وقال : « وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » - 60 الأنفال . وفي الفتوحات المكية عبّر محيي الدين ابن عربي عن هذه الأسباب بأيدي اللَّه ، وقد أخذ هذا التعبير من قوله تعالى : « أَولَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ » - 71 يس . انظر ما كتبناه بعنوان : « الدين لا ينبت قمحا » ج 3 ص 449 .
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهً عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. كان المسلمون في مكة مستضعفين يلاقون أنواع الأذى والعنف من المشركين ، ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، فكانوا يأتون النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ويتظلمون إليه ، وهو لا يملك لهم إلا الوصية بالصبر ، وكان يقول لهم فيما يقول : « اني لم أؤمر بقتال » بل نهى ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن قتال المشركين في أكثر من سبعين آية ، وهو بمكة ، لأن القتال آنذاك كان أشبه بعملية انتحارية . انظر تفسير الآية 77 من سورة النساء ج 2 ص 381 . وبعد ان هاجر النبي إلى المدينة ، وأصبح للمسلمين شوكة وقوة نزلت هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها للمسلمين بالقتال - على ما قيل - وقد بيّن سبحانه سبب هذا الإذن بأن المشركين اعتدوا على المسلمين وأخرجوهم من ديارهم ظلما وعدوانا ، ووعد المسلمين بالنصر والظفر بأعدائهم ، حيث قال :
« وإِنَّ اللَّهً عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ » .
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ }. ظاهر الآية يدل على أن الذنب الوحيد للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) والصحابة عند المشركين هو قولهم : لا إله إلا اللَّه . وبهذا الظاهر أخذ جميع المفسرين ، بل قال أحد المفسرين الجدد ما نصه بالحرف : « لا صراع على عرض من أعراض هذه الحياة التي تشتجر فيها الأطماع ، وتتعارض فيها المصالح ، وتختلف فيها الاتجاهات ، وتتضارب فيها المطامع » . وقد أشرنا فيما تقدم أكثر من مرة إلى أن طغاة الشرك حاربوا رسالة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وكلمة التوحيد لأنها تقضي على أطماعهم ومنافعهم ومصالحهم ، وتساوي بين الناس . انظر ما كتبناه بعنوان : « المصلحة هي السبب » في ج 1 ص 155 و 179 .
{ ولَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً }. بعد أن أذن سبحانه للمؤمنين المعتدى عليهم بقتال أهل الشرك المعتدين بيّن في هذه الآية السبب الموجب لهذا الإذن ، ويتلخص بأنه لولا القوة الرادعة لسادت الفوضى وعم الفساد في الأرض بالسلب والنهب وإراقة الدماء ، وبالخصوص بين الطوائف وأهل الأديان . وعبّر سبحانه عن الفتن بين الطوائف بهدم معابدها لأنها المظهر الديني لكل طائفة ، ولها علامات فارقة تميز أهل الأديان بعضهم عن بعض . . والصوامع للنصارى والبيع لليهود - أنظر فقرة اللغة - والصلوات على حذف مضاف أي مكان الصلوات ، والمراد بها معابد الطوائف الأخرى . . وتمتاز مساجد المسلمين عن معابد سائر الأديان بأن الصلاة تقام فيها خمس مرات في اليوم والليلة ، ولذا قال سبحانه : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً }.
وقال جماعة من المفسرين : المراد من الآية ان اللَّه يمنع المشركين بالمؤمنين ، ولولا هم لهدم أهل الشرك معابد أهل الأديان . . وإذا صح هذا التفسير في وقت من الأوقات فإنه لا يصح ولا يطرد في كل عصر ومصر ، والصحيح في معنى الآية ما قلناه من أنه لا غنى عن القوة الرادعة لحفظ الأمن والنظام ، سواء أكانت هذه القوة بيد المؤمن ، أم بيد الكافر باللَّه . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ اللَّه فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ، حتى يستريح به ، ويستراح من فاجر » . وتجدر الإشارة إلى أن الإمام قال هذا ردا على قول الخوارج : لا حكم إلا للَّه . أنظر ما كتبناه بهذا العنوان في ج 4 ص 315 .
{ ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهً لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. هذا ترغيب في الجهاد لنصرة الحق وأهله { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ }. المراد بالتمكين في الأرض الحكم والسلطان ، وقد أقسم سبحانه مؤكدا انه ينصر الحاكمين شريطة أن يجمعوا بين أمرين : الأول أن يؤدوا حق العباد للَّه كاملا في أنفسهم كالصوم والصلاة ، وفي أموالهم كالحج والزكاة ، وعبّر سبحانه عن العبادة البدنية بالصلاة ، والعبادة المالية بالزكاة .
الأمر الثاني : أن يعدلوا بين الناس ، ويحقوا الحق ، ويبطلوا الباطل ، وهذا هو المراد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فان أخل الحكام بواحد من هذين فان اللَّه يهملهم ويكلهم إلى أنفسهم .
وتسأل : لقد شاهدنا كثيرا من الحكام لا يؤمنون باللَّه من الأساس فضلا عن التعبد له بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومع ذلك استقام لهم الملك ، وانقادت إليهم الرعية لأنهم حققوا أهدافها ، وعملوا من أجل أمانيها ، ولم يحاسبهم أحد من رعيتهم على كفرهم وجحودهم ، إذن عنصر الايمان وعبادة الرحمن ليس شرطا لدوام الملك واستقامته ؟ .
الجواب : المراد بنصر اللَّه في الآية هو تثبيت الملك في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، بل هذا الثواب هو النصر الحقيقي لأن ملك الدنيا إلى زوال ، ومشوب بالكدر ، أما نعيم الآخرة فدائم إلى ما لا نهاية ، وهو صفو وهناء من جميع جهاته . . والحاكم الكافر قد يستقيم له الملك في الدنيا ان عدل ، أما في الآخرة فله عذاب الحريق على كفره بالأدلة الكونية على وجود المكوّن والمصور { ولِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ }هو وحده مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، ويمنعه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 331-335.
تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال وهي - كما قيل - أول ما نزلت في الجهاد وقد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم أومر بشيء في القتال، وكان يأتيه كل يوم وهو بمكة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب ومشجوج ومعذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة من المشركين فيسليهم ويأمرهم بالصبر وانتظار الفرج حتى نزلت الآيات وهي تشتمل على قوله:{أذن للذين يقاتلون} إلخ.
وهي - كما تقدم - أول ما نزلت في الجهاد، وقيل: أول ما نزل فيه قول تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ:} البقرة: 190، وقيل: إنه قوله:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية: التوبة: 111.
والاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا وذلك لاشتمالها على الإذن صريحا واحتفافها بالتوطئة والتمهيد وتهييج القوم وتقوية قلوبهم وتثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا وتصريحا وذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم وكل ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامة وبيانها وإبلاغها لأول مرة وخاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية والتفدية وهو أشق حكم اجتماعي وأصعبه في الإسلام وأمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام واستيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.
فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم.
ثم نص على إذنهم في القتال وذكر أنهم مظلومون والقتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة ووصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم وأنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.
قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} المدافعة مبالغة في الدفع، والخوان اسم مبالغة من الخيانة وكذا الكفور من الكفران والمراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة وإن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأن الآيات تشرع القتال ولا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، والمورد لا يكون مخصصا.
والمراد بكل خوان كفور المشركون، وإنما كانوا مكثرين في الخيانة والكفران لأن الله حملهم أمانة الدين الحق وجعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه ورعايته سعادة الدارين وعرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد والإنكار وغمرهم بنعمه الظاهرة والباطنة فكفروا بها ولم يشكروه بالعبودية.
وفي الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا وإنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء ولا يحب أولئك لخيانتهم وكفرهم فهوإنما يحب هؤلاء لأمانتهم وشكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.
فهو تعالى مولاهم ووليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ:} سورة محمد: 11.
قوله تعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ظاهر السياق أن المراد بقوله:{أذن} إنشاء الإذن دون الإخبار عن إذن سابق وإنما هو إذن في القتال كما يدل عليه قوله:{للذين يقاتلون} إلخ، ولذا بدل قوله:{الذين آمنوا} من قوله:{الذين يقاتلون} ليدل على المأذون فيه.
والقراءة الدائرة{يقاتلون} بفتح التاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون لأنهم الذين أرادوا القتال وبدءوهم به، والباء في{بأنهم ظلموا} للسببية وفيه تعليل الإذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، وأما ما هو الظلم فتفسيره قوله:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلخ.
وفي عدم التصريح بفاعل{أذن} تعظيم وتكبير ونظيره ما في قوله:{وإن الله على نصرهم لقدير} من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شيء قدير.
والمعنى أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا - من جانب المشركين - وإن الله على نصرهم لقدير، وهو كناية عن النصر.
قوله تعالى:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} إلى آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين وهو أنهم أخرجوا من ديارهم وقد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم.
ولم يخرجوهم بحمل وتسفير بل آذوهم وبالغوا في إيذائهم وشددوا بالتعذيب والتفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة والتغرب عن الوطن وترك الديار والأموال فقوم إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإخراجهم إياهم إلجاؤهم إلى الخروج.
وقوله:{ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء منقطع معناه ولكن أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله، وفيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله وهو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره.
وقيل: الاستثناء متصل والمستثنى منه هو الحق والمعنى أخرجوا بغير حق إلا الحق الذي هو قولهم: ربنا الله. وأنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره.
وتوصيف الذين آمنوا بهذا الوصف - كونهم مخرجين من ديارهم - وهو وصف بعضهم وهم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد والائتلاف فإن المؤمنين إخوة وهم يد واحدة على من سواهم وتوصيف، الأمم بوصف بعض الأفراد في القرآن الكريم فوق حد الإحصاء.
وقوله:{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الصوامع جمع صومعة وهي بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال والبراري ويسكنه الزهاد والمعتزلون من الناس للعبادة، والبيع جمع بيعة بكسر الباء معبد اليهود والنصارى، والصلوات جمع صلاة وهي مصلى اليهود سمي بها تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى:{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله - ولا جنبا إلا عابري سبيل}.
وقيل: هي معرب{صلوثا} بالثاء المثلثة والقصر وهي بالعبرانية المصلى، والمساجد جمع مسجد وهو معبد المسلمين.
والآية وإن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال والجهاد، ومحصلها أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور الله فلولا ذلك لانهدمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك.
لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس بعضا ذبا عن منافع الحياة وحفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس والسنن الفطرية منتهية إليه تعالى ويشهد به تجهيز الإنسان كسائر الموجودات بأدوات وقوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع والدفاع عن نفسه أو أي شأن من شئون نفسه مما تتم به حياته وتتوقف عليه سعادته.
والدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض وتحمل لمشقة في سبيل راحة سنة جارية في المجتمع الإنساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما واستقلال ما.
ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية وهي دفع الناس بعضهم بعضا عن شئون حياتهم، وإذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة.
وإنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لولا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه وانمحت جميع آثاره لأن هذه المعابد والمعاهد هي الشعائر والأعلام الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان.
وقوله:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} قسم مع تأكيد بالغ على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي ولقد صدق الله وعده فنصر المسلمين في حروبهم ومغازيهم فأيدهم على أعدائه ورفع ذكره ما كانوا ينصرونه.
والمعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه أحد ولا يمنعه شيء عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته ولا يعادله شيء في سلطنته وملكه.
ويظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة وإن لم يبين كيفيته.
قوله تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} إلخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات، وهو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأشخاص والمراد من تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحوالحياة من غير مانع يمنعهم أو مزاحم يزاحمهم.
يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض وأعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة وتؤتى فيه الزكاة ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية والزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها.
وإذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات والمراد به عقد مجتمع صالح وحكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة المسلمين إلى يوم القيامة والخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح وإن كان ربما غشيته الغواشي.
وليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية وإن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم وذلك لمنافاته عموم الموصوف المذكور في صدر الآيات وعموم حكم الجهاد لهم ولغيرهم قطعا.
على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الإسلام تقام فيه الصلاة وتؤتى فيه الزكاة وتؤمر فيه بالمعروف وتنهى فيه عن المنكر مشمول للآية قطعا وكان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين.
ولم يتفق في تاريخ الإسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق ويميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي (عليه السلام) على الخلاف بين أهل السنة والشيعة، وفي ذلك إفساد معنى جميع الآيات.
على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول وخاصة المهاجرين منهم أمورا لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق وإماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع.
وقوله:{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر وإظهار المؤمنين على أعداء الدين الظالمين لهم.
____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص311-316.
قد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟
وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه العبارة الصريحة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} اُولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي، ولا يذكرون اسم الله عليها، فكيف يحبّ الله قوماً كهؤلاء الخونة الكفرة؟!
أوّل حكم بالجهاد:
ذكرت روايات أنّ المسلمين عندما كانوا في مكّة، كانوا يتعرّضون كثيراً لأذى المشركين، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يُعانون من قهر وأذىً، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم: «اصبروا فانّي لم اُؤمر بالقتال» حتّى هاجر، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أوّل آية نزلت في القتال(2).
هناك إختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد، فهناك مَن يؤيّد ذلك، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ..}( البقرة، 190.) وعدّ البعض آية { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ..}( التوبة، 111) هي الأُولى(3).
إلاّ أنّ اُسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير «إذن» جاء بصراحة واضحة فيها، ولم يرد في الآيتين الاُخريين، وبتعبير آخر: إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.
ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيداً الإرتباط بين هذه الآيات .. تقول الآية: إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنّهم ظلموا: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
إنّ وعد الله بالنصر جاء مقروناً بـ «قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم، أو بتعبير آخر: عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.
ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين ـ الذين أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم ـ بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: { إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنباً يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة، وتعبير الآية جاء لطيفاً ـ يُجلّي إدانة الخصم، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل: لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّاً(4).
ثمّ تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}.
أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً.
ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّىء طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم بالله تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.
وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة لـ «الصوامع» و «البيع» و «الصلوات» و «المساجد» والفرق بينها، وما يبدو صحيحاً منها هو أنّ:
«الصوامع» جمع «صومعة» وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد. (ويجب ملاحظة أنّ «الصومعة» في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.
و«البِيع» جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً.
و«الصلوات» جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.
وأمّا «المساجد» فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.
والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى، إلاّ أنّ إحداهما معبد عامّ والاُخرى لمن ترك الدنيا، ويرى البعض أنّ «البيع» لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.
وعبارة { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر، لأنّها أكثر إزدحاماً من جميع مراكز العبادة الاُخرى في العالم، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها، في وقت نجد فيه المعابد الاُخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلاّ في يوم واحد من الاسبوع، أو أيّام معدودات في السنة.
وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من ربّ العزّة القائل: { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. من أجل ألاّ يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.
وبنور من هذا الوعد الإلهي إنتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في معارك ضارية خاضوها بضآلة عدد وعدّة، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلاّ بإمداد إلهي.
وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة، وتقول: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}.
إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد إنتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لإرتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لإرتباطها القويّ بالله، والصلاة رمز هذا الإرتباط بالخالق، والزكاة رمز للإلتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(5).
كلمة «مكّنا» مشتقة من «التمكين» الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.
وتطلق كلمة «المعروف» على الأعمال الجيدة والحقّة، و «المنكر» يعني العمل القبيح، لأنّ الكلمة الأُولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر: الأُولى تعني الإنسجام مع الفطرة الإنسانية، والثّانية تعني عدم الإنسجام.
وتقول الآية في ختامها { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية {إنّا لله وإنّا إليه راجعون}.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص413-417.
2ـ تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.
3ـ الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 419.
4ـ وبهذا يتّضح أنّ الإستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).
5- تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين، والجواب عن إستفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|