أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-9-2020
11915
التاريخ: 16-9-2020
8385
التاريخ: 16-9-2020
2499
التاريخ: 15-9-2020
5464
|
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُو الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُو الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [الحج: 8 - 14]
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} سبق تفسيره {ولا هدى} أي: لا يرجع فيما يقوله إلى علم ولا دلالة { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي: مضيء له نور يؤدي من تمسك به إلى الحق والمعنى أنه لا يتبع أدلة العقل ولا أدلة السمع وإنما يتبع الهوى والتقليد وفي هذا دلالة على أن الجدال بالعلم صواب وبغير العلم خطأ لأن الجدال بالعلم يدعوإلى اعتقاد الحق وبغير العلم يدعوإلى اعتقاد الباطل.
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: متكبرا في نفسه عن ابن عباس يقول العرب ثنى فلان عطفه إذا تكبر وتجبر وعطفا الرجل جانباه من عن يمين أوشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي: يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء وقيل: معناه لاوي عنقه إعراضا وتكبرا عن الله ورسوله عن قتادة ومجاهد { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: ليضل الناس عن الدين ومن فتح الياء أراد ليضل هو عن طريق الحق المؤدي إلى توحيد الله { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: هو ان وذل وفضيحة بما يجري له على ألسنة المؤمنين من الذم وبالقتل وغير ذلك { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: النار التي تحرقهم {ذلك} أي: يقال له ذلك العذاب {بما قدمت يداك} أي: بما كسبت يداك { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} في تعذيبه لأن الله لا يظلم ولا يعاقب ابتداء ولا يزيد على الجزاء وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة الذين ينسبون كل ظلم في العالم إلى الله تعالى .
لما تقدم ذكر الكفار وما تعاطوه من الجدال ذكر سبحانه بعده حال مقلدة الضلال والدعاة إلى الضلال فقال { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي: على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف أي: طرف حبل أو نحوه عن علي بن عيسى قال: وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلها وقيل على حرف أي على شك عن مجاهد وقيل معناه أنه يعبد الله بلسانه دون قلبه عن الحسن قال الدين حرفان أحدهما اللسان والثاني القلب فمن اعترف بلسانه ولم يساعده قلبه فهو على حرف.
{ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي: أصابه رخاء وعافية وخصب وكثرة مال اطمأن على عبادة الله بذلك الخير {وإن أصابته فتنة} أي: اختبار بجدب وقلة مال {انقلب على وجهه} أي: رجع عن دينه إلى الكفر والمعنى انصرف إلى وجهه الذي توجه منه وهو الكفر {خسر الدنيا والآخرة} أي: خسر الدنيا بفراقه وخسر الآخرة بنفاقه { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الضرر الظاهر لفساد عاجله وآجله وقيل خسر في الدنيا العز والغنيمة وفي الآخرة الثواب والجنة { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} أي: يدعو هذا المريد بعبادته سوى الله ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إن عبده {ذلك} الذي فعل {هو الضلال البعيد} عن الحق والرشد يدعوه على الوجه الآخر معناه {يدعو} الذي هو الضلال البعيد.
{ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} قال السدي: يعني الذي ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع وإن كان لا نفع عنده ولكن العرب تقول لما لا يكون هذا بعيد ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون فلما كان نفعه بعيدا قيل لضره أنه أقرب من نفعه على معنى أنه كائن {لبئس المولى} أي: لبئس الناصر هو{ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي: الصاحب المعاشر المخالط هو يعني الصنم يخالطه العابد ويصاحبه.
ولما ذكر الشاك في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وصدقوا رسله { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأعدائه وأهل معصيته من الإهانة لا يدفعه دافع ولا يمنعه مانع.
____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص310-136.
{ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدىً ولا كِتابٍ مُنِيرٍ }. أنت ترى هذا حقا ، وذاك باطلا . . ولكن ما يدريك ان رأيك صحيح وسليم ؟
وما هو الضمان لصحة ما تراه ، فربما كان الذي رأيته حقا هو باطل ، والذي رأيته باطلا هو حق في واقعه ؟
ولا سبيل إلى تمييز المعرفة الصحيحة من غيرها إلا بالرجوع إلى مصدرها والسبب الذي تولدت منه ، فإن كان السبب صحيحا كانت المعرفة كذلك ، والا فهي باطلة لأن الفرع يتبع الأصل .
ويعود السؤال : ما هو السبب الصحيح للمعرفة ؟ وبأي شيء نميزه عن غيره ؟
قال جماعة من الفلاسفة : ان سبب المعرفة الصحيحة ينحصر بالتجربة الحسية .
وقال آخرون : بل هو العقل ، والحواس أدوات له . أما القرآن الكريم فقد ذكر في الآية التي نفسرها ثلاثة أسباب للمعرفة : الأول التجربة الحسية ، وهي المعنية بكلمة علم . الثاني العقل ، وهو المراد بكلمة هدى . الثالث الوحي ، وهو المقصود بكتاب منير . والتجربة الحسية تكون سببا للمعرفة في الماديات فقط لأنها هي التي تقع تحت الحس ، وتتناولها التجربة ، ولا غنى لهذه التجربة عن العقل لأن الحواس لا تدرك إلا بمعونته ، وينحصر طريق المعرفة بالعقل وحده في اثبات الألوهية ، أما النبوة فتثبت به وبالمعجزة معا ، وان شئت الدقة في التعبير فقل :
تثبت النبوة بالمعجزة التي يقرها العقل ، ويعترف بأنها من السماء لا من الأرض ، أما الوحي فهو سبب المعرفة في كل ما جاء به من غير استثناء ، وينحصر طريق المعرفة بالوحي في الأشياء الغيبية كالجن والملائكة ، وتوقيت الساعة ، وكيفية الحساب والجزاء في النشأة الثانية وما إليها .
{ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ }. هو جاهل يجادل في اللَّه بغير علم ، وهو متكبر يتمايل من الزهو والغرور ، وهو ضال مضل . . وهل من جزاء لأهل الجهل والكبرياء والضلال إلا الهوان والاحتقار من الناس ، وإلا العذاب الأليم من اللَّه ! ؟ { ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وأَنَّ اللَّهً لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } لأنه أعذر إليهم بما وهبهم من العقل ، وما أرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب .
{ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهً عَلى حَرْفٍ }. في الآية السابقة ذكر سبحانه من يكفر باللَّه ، ويجادل فيه بغير علم ، وفي هذه الآية ذكر الذي يعبد اللَّه على حرف ، واختلف المفسرون في المراد منه على أقوال ، منها انه يعبد اللَّه ، وهو على شك في دينه ، ومنها انه يعبده بلسانه دون قلبه ، إلى غير ذلك . . ولا وجه لهذا الاختلاف لأن اللَّه قد بيّن هذا الذي يعبده على حرف ، وفسره بقوله : { فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ }. والمراد بالخير هنا السراء ، وبالفتنة الضراء ، واطمأن به أي ارتاح إلى ما هو فيه واستمر في العبادة .
وانقلب على وجهه أي ارتد عن دينه . . ومحصل المعنى ان الذي يعبد اللَّه على حرف هو الذي لا يعبده إلا على شرط ان يعوضه عن عبادته ، ويقبض ثمنها في هذه الحياة ، والا كفر به وبكتبه ورسله .
ومن يكفر باللَّه فجزاؤه جهنم وساءت مصيرا {خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذلِكَ هُو الْخُسْرانُ الْمُبِينُ }. خسر الدارين حيث أصابه في الأولى البلاء والضراء ، وقدم في الآخرة على ربه كافرا به ، وأي خسران أعظم من الفقر في الدنيا ، والعذاب في الآخرة . . وأوضح تفسير لهذه الآية ما روي : ان بعض الأعراب كانوا يقدمون على النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) مهاجرين من باديتهم ، وكان أحدهم ان كثر ماله صلى وصام ، وان أصيب به ، أوتأخرت الصدقة عنه ارتد عن الإسلام . . وقد شاهدت ما يشبه هذا من بعض القرويين أيام عشت بين ظهرانيهم .
وبعد ، فان المؤمن حقا هو الذي يخلص للَّه ، ويثق به في جميع حالاته ، يصبر عند الشدة ، ويشكر عند الرخاء ، وفي نهج البلاغة : لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يده .
{ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُو الضَّلالُ الْبَعِيدُ }. تقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، بالإضافة إلى وضوحه { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى ولَبِئْسَ الْعَشِيرُ }. المولى الناصر والعشير الصاحب .
وتسأل : نفى سبحانه في الآية الأولى الضر والنفع عن معبود المشركين ، ثم أثبتهما له في الآية الثانية ، غاية الأمر أنه تعالى جعل الضرر أكثر وأقرب من النفع ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين ؟
الجواب : المراد بالمعبود في الآية الأولى الأحجار ، وهي لا تنفع ولا تضر ، والمراد به في الآية الثانية طاعة الزعماء الطغاة ، ومناصرتهم بقصد الربح والمنفعة ، وأعظم منفعة في الحياة الدنيا لا تعد شيئا بالنسبة إلى غضب اللَّه وعذابه . . وبتعبير ثان انهم أطاعوا المخلوق في معصية الخالق لمآرب دنيوية وما دروا ان عذاب اللَّه أشد وأعظم .
{ إِنَّ اللَّهً يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ }واضح وتقدم في الآية 25 من سورة البقرة { إِنَّ اللَّهً يَفْعَلُ ما يُرِيدُ } من ثواب الأخيار وعقاب الأشرار ، فلقد سبق في حكمه وقضائه ان يكافئ الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين أساؤا بما كانوا يعملون .
________________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 313-315.
قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر في النظم والأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام والآية السابقة{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ إلى قوله: مريد} في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.
وهو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا:{ليضل عن سبيل الله} وقوله هناك:{ويتبع كل شيطان مريد} والإضلال من شأن المقلد بفتح اللام والاتباع من شأن المقلد بكسر اللام.
والترديد في الآية بين العلم والهدى والكتاب مع كون كل من العلم والهدى يعم الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص وبالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد بالعلم العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق.
وفيه أن تقييد العلم بالضروري وهو البديهي لا دليل عليه.
على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإصرار في البحث أوالجدل المصطلح وهو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات من طرق الاستدلال ولا استدلال على ضروري البتة.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، وبالهدى ما تفيضه الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته وعبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أوبالعكس بوجه وبالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، وتلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم: العقل والبصر والسمع وقد أشار تعالى إليها في قوله:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا:} الإسراء: 36 والله أعلم.
قوله تعالى:{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية، الثني الكسر والعطف بكسر العين الجانب، وثني العطف كناية عن الإعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه على الآخر.
وقوله:{ليضل عن سبيل الله} متعلق بقوله:{يجادل} واللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للإعراض والاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس وهؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.
وقوله:{ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} تهديد بالخزي – وهو الهوان والذلة والفضيحة - في الدنيا، وإلى ذلك آل أمر صناديد قريش وأكابر مشركي مكة، وإيعاد بالعذاب في الآخرة.
قوله تعالى:{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} إشارة إلى ما تقدم في الآية السابقة من الإيعاد بالخزي والعذاب، والباء في{بما قدمت} للمقابلة كقولنا: بعت هذا بهذا أوللسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي والعذاب جزاء ما قدمت يداك أوبسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب معرضا مستكبرا لإضلال الناس وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لتسجيل اللوم والعتاب.
وقوله:{ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} معطوف على{ما قدمت} أي ذلك لأن الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله ويعطيه ما يسأله بلسان حاله.
قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} إلى آخر الآية الحرف والطرف والجانب بمعنى، والاطمئنان: الاستقرار والسكون، والفتنة - كما قيل - المحنة والانقلاب الرجوع.
وهذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين وهو الذي يعبد الله سبحانه بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب وعلى تقدير الله على كل تقدير وهو جانب الخير ولازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة الله واطمأن إليها، وإن أصابته فتنة ومحنة انقلب ورجع على وجهه من غير أن يلتفت يمينا وشمالا وارتد عن دينه تشؤما من الدين أورجاء أن ينجوبذلك من المحنة والمهلكة وكان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أوينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا وأما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة والمهلكة، وخسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه وارتداده وكفره ذلك هو الخسران المبين.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، وعليه فقوله:{يعبد الله على حرف} من قبيل الاستعارة بالكناية، وقوله:{فإن أصابه خير} إلخ.
تفسير لقوله:{ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وتفصيل له، وقوله:{خسر الدنيا} أي بإصابة الفتنة، وقوله:{والآخرة} أي بانقلابه على وجهه.
قوله تعالى:{ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} المدعوهو الصنم فإنه لفقده الشعور والإرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أوضرر والذي يصيب عابده من ضرر وخسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التي هي فعل له منسوب إليه.
قوله تعالى:{ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} المولى الولي الناصر، والعشير الصاحب المعاشر.
ذكروا في تركيب جمل الآية أن{يدعوا} بمعنى يقول، وقوله:{ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} إلخ.
مقول القول، و{لمن} مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء وهو موصول صلته{ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}.
وقوله:{ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} جواب قسم محذوف وهو قائم مقام الخبر دال عليه.
والمعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى وعشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء وعشير سوء أقسم لبئس المولى ولبئس العشير.
وإنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد والهلاك المؤبد.
قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلخ.
لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار وهم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم والمقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم والمذبذبون العابدون لله على حرف، ووصفهم بالضلال والخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ووصفهم بكريم المثوى وحسن المنقلب وأن الله يريد بهم ذلك.
___________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص284-287.
الجدال بالباطل مرّة أُخرى:
تتحدّث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاوياً لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}.
وعبارة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى مجموعة من الناس، والثّانية إلى مجموعة أُخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(2).
وعبارة {ليضلّ عن سبيله} تبيّن هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة {يتّبع كلّ شيطان مريد} في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.
ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟
للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الإستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربّانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقاً لدراسات العلماء، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضاً.
ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفاً».
ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلى أحد الأدلّة: العقل، أو الكتاب، أو السنّة.
ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.
«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشيء وعدم الإهتمام به.
ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الإهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
ونقول له: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} و {أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لا يعاقب الله أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه(3).
وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).
الواقف على حافّة وادي الكفر:
تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالّين، والقادة المضلّين. أمّا هذه الآيات، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.
وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}(4) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام. إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا.
وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية: «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً. وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته، رضي به واطمأنّ إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته اُنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلاّ بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(5).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان.
ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) و { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!
وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا إعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّةً من الإيمان، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا. أمّا إذا قُصِد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن قبوله.
وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله، فتقول: { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه. فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر. فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}. إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلاّ رجاءً ضعيفاً جدّاً.
ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
وتضيف الآية في الختام { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.
وهنا يثار سؤال، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟
في الجواب عن ذلك نقول: إنّ ذلك أمرٌ إعتيادي في المخاطبة، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أُخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول: لا تصادق فلاناً، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك. وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو: (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وإفتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها، ولكنّها تتضمّن ضرراً حتميّاً لأتباعها.
كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقاً: تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معيّنة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقداً لأيّة صفة، كأن نقول: ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير، إلاّ أنّ الصبر أفضل منها،).
وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».
وإحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام، فالآية الأُولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام. فالمجموعة الأُولى لا تضرّ ولا تنفع، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير قليل فضرّهم كبير جدّاً، وعبارة {لبئس المولى ولبئس العشير} تؤكّد ذلك، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(6).
وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ الله سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنّات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحقّ وإستجابتهم له في الحياة الدنيا { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.
وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلاّ بلسانهم، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة .. ومن جهة أُخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.
____________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص364-369.
2ـ تفسير الميزان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي،ج23،ص5، في تفسير الآيات موضع البحث.
3- «ظلاّم» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلا، ويمكن أن يكون إستخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً ـ مصداق ظلم كبير.
4ـ كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماماً، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوماً.
5ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، ص13، وتفسير القرطبي، المجلّد السادس، ص4409.
6ـ بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلاّ أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
شركة الكفيل للصناعات الغذائية تستعرض منتجاتها في معرض مصر الدوليّ للتمور
|
|
|