أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2020
13230
التاريخ: 1-9-2020
4263
التاريخ: 4-9-2020
3913
التاريخ: 3-9-2020
3286
|
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } [مريم: 16 - 21]
عطف سبحانه قصة مريم وعيسى (عليهماالسلام) على قصة زكريا ويحيى (عليهماالسلام) فقال { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ } أي: في كتابك هذا وهو القرآن {مريم} أي: حديث مريم وولادتها عيسى وصلاحها ليقتدي الناس بها ولتكون معجزة لك { إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } أي: انفردت من أهلها إلى مكان في جهة المشرق وقعدت ناحية منهم قال ابن عباس : إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأنها انتبذت مكانا شرقيا وقيل اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة لئلا تشتغل بكلام الناس عن الجبائي وقيل تباعدت عن قومها حتى لا يرونها عن الأصم وأبي مسلم وقيل إنها تمنت أن تجد خلوة فتفلي رأسها فخرجت من يوم شديد البرد فجلست في مشرقة للشمس عن عطا.
{ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} أي: فضربت من دون أهلها لئلا يروها سترا وحاجزا بينها وبينهم { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني جبرائيل (عليه السلام) عن ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم وسماه الله روحا لأنه روحاني وأضافه إلى نفسه تشريفا له { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} معناه: فأتاها جبرائيل فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح لم ينقص منه شيء وقال أبومسلم : إن الروح الذي خلق منه المسيح تصور لها إنسان والأول هو الوجه لإجماع المفسرين عليه وقال عكرمة : كانت مريم إذا حاضت خرجت من المسجد وكانت عند خالتها امرأة زكريا أيام حيضها فإذا طهرت عادت إلى بيتها في المسجد فبينا هي في مشرقة لها في ناحية الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها سترا لتغتسل وتمتشط إذ دخل عليها جبرائيل في صورة رجل شاب أمرد سوي الخلق فأنكرته فاستعاذت بالله منه { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} معناه: إني أعتصم بالرحمن من شرك فاخرج من عندي إن كنت تقيا سؤال يقال كيف شرطت في التعوذ منه أن يكون تقيا والتقي لا يحتاج أن يتعوذ منه وإنما يتعوذ من غير التقي والجواب إن التقي إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله ففي ذلك تخويف وترهيب له وهذا كما تقول إن كنت مؤمنا فلا تظلمني فالمعنى إن كنت تقيا فاتعظ واخرج.
وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال علمت إن التقي ينهاه التقى عن المعصية وقيل إن معنى قوله {إن كنت تقيا} ما كنت تقيا حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي فلما سمع جبرائيل (عليه السلام) منها هذا القول {قال} لها { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ} وقد بينا معنى القراءتين {غلاما زكيا} أي: ولدا طاهرا من الأدناس وقيل ناميا في أفعال الخير وقيل يريد نبيا عن ابن عباس {قالت} مريم { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي: كيف يكون لي ولد {ولم يمسسني بشر} على وجه الزوجية {ولم أك بغيا} أي: ولم أكن زانية وإنما قالت ذلك لأن الولد في العادة يكون من إحدى هاتين الجهتين والمعنى أني لست بذات زوج وغير ذات الزوج لا تلد إلا عن فجور ولست فاجرة وإنما يقال للفاجرة بغي بمعنى أنها تبغي الزنا أي تطلبه.
وفي هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء لأن من المعلوم أن مريم ليست بنبية وإن رؤية الملك على صورة البشر وبشارة الملك إياها وولادتها من غير وطىء إلى غيرها من الآيات التي أتاها الله بها من أكبر المعجزات ومن لم يجوز إظهار المعجزات على غير النبي اختلفت أقوالهم في ذلك قال الجبائي : وابنه أنها معجزات لزكريا (عليه السلام) وقال البلخي : إنها معجزات لعيسى على سبيل الإرهاص والتأسيس لنبوته .
{قال كذلك} أي: قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة الأمر كذلك أي كما وصفت لك { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل متأت لا يشق علي { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} معناه: ولنجعله علامة ظاهرة وآية باهرة للناس على نبوته ودلالة على براءة أمه {ورحمة منا} له ولنجعله نعمة منا على الخلق يهتدون بسببه { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: وكان خلق عيسى من غير ذكر أمرا كائنا مفروغا عنه محتوما قضى الله سبحانه بأن يكون وحكم به.
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص410-416.
{ واذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً } . يدل ظاهر الآية ان مريم اعتزلت عن أهلها ، وخلت بنفسها في مكان شرقي ، وانها جعلت بينهم وبينها سترا ، بحيث لا تراهم ولا يرونها . ولما ذا اعتزلت مريم ؟ ألأنها رأت ما تكره ، أولتنصرف إلى العبادة أولغير ذلك ؟ وهل المراد بالمكان الشرقي المكان الذي تشرق عليه الشمس ، أوالمكان الذي يقع شرقي بيت المقدس ، أوشرقي دار أهلها ؟ . وأيضا ما هو نوع الحجاب الذي اتخذته من دونهم هل هو حائط أوكوخ ؟ . . لا شيء في الآية يشير إلى الجواب عن هذه التساؤلات ، لأنها لا تمت إلى العقيدة ولا إلى الحياة بسبب . وغير بعيد أن يكون اللَّه سبحانه قد ألهمها إلى هذه الخلوة ليعلمها جبريل بولادة عيسى ( عليه السلام ) ، وهي في معزل عن الناس .
{ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا } . المراد بروحنا جبريل ، وقد تمثل أمامها في صورة انسان تام الخلقة . وفي بعض التفاسير انه جاءها في صورة الإنسان لتأنس به ، وفي تفسير ثان انها خافت منه وذعرت لهذه المفاجأة . . غريب يقتحم عليها من غير استئذان ، وهي في عزلتها ؟ . ان هذا لشيء مريب . .
وهذا القول أرجح وأصح بدليل انها فزعت و{ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } . استجير باللَّه من شرك ان كنت تؤمن به وبحسابه وعذابه ، خوّفته من اللَّه لأنها لا تملك وسيلة لردعه في مقامها هذا سوى التخويف من اللَّه ، وإلا فهي مستجيرة باللَّه متوكلة عليه ، سواء أكان الذي خافته تقيا ، أم شقيا .
{ قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أَكُ بَغِيًّا } . تبشرني بغلام ؟ . كيف ؟ . ومن أين ؟ . ولا زوج لي ، ولا اقدم على الخيانة والفجور . . { قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوعَلَيَّ هَيِّنٌ ولِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ورَحْمَةً مِنَّا وكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا } . قال لها الروح الأمين :
ان أسباب الولادة لا تنحصر عند اللَّه بالمضاجعة والمواقعة ، فكما أوجد الأشياء بأسبابها المألوفة فإنه يوجدها أيضا بكلمة « كن » تماما كما أوجد الكون من لا شيء ، وآدم من غير أب وأم . . وقد شاء سبحانه أن يجعل مولودك دليلا واضحا على عظمة الخالق ، ونبوة المولود ، وأن يكون رحمة للانسانية ، وحجة دامغة على بني إسرائيل الذين حاولوا قتله . وشرحنا ذلك مفصلا عند تفسير الآية 45 وما بعدها من سورة آل عمران ج 2 ص 61 .
_________________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص174-175.
انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليه السلام) وبين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة، وقد أوتي عيسى الرشد والنبوة وهو صبي كيحيى، وقد أخبر أنه بر بوالدته وليس بجبار شقي وأن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه وقد صدق يحيى بعيسى وآمن به.
قوله تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} المراد بالكتاب القرآن أوالسورة فهي جزء من الكتاب وجزء الكتاب كتاب والاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني وتعيينه.
والنبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، والانتباذ الاعتزال من الناس والانفراد.
ومريم هي ابنة عمران أم المسيح (عليه السلام)، والمراد بمريم نبأ مريم وقوله:{إذ} ظرف له، وقوله:{انتبذت} إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، والمعنى واذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، وكأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى:{ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} الحجاب ما يحجب الشيء ويستره عن غيره، وكأنها اتخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}: آل عمران: 37 وقد مر الكلام في تفسير الآية.
وقيل: إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها وأقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه.
وفيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، وقد عرفت أن آية آل عمران لا تخلومن تأييد للمعنى السابق.
وقوله:{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} ظاهر السياق أن فاعل{تمثل} ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا ومعنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، وظهوره في حاستها في صورة البشر وهو في نفسه روح وليس ببشر.
وإذ لم يكن بشرا وليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه وسماه ملكا، وقد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه وسماه جبريل بقوله:{ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ }: البقرة: 97 وسماه روحا في قوله:{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}: النحل: 102 وقوله:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ}: الشعراء: 194} وسماه رسولا في قوله:{إنه لقول رسول كريم}: الحاقة: 40}، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
وأما قوله:{ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال - قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: 47.
فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم ومحاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا، ونسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أوسنة أوعادة، وفي القرآن منه شيء كثير كقوله تعالىيَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}: المنافقون: 8، والقائل واحد.
وقوله:{ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}: الأنفال: 32، والقائل واحد.
وإضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، وقد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ }: الآية الإسراء: 85.
ومن التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) وضمير تمثل عائد على جبريل. وهو كما ترى.
ومن القراءة الردية قراءة بعضهم{روحنا} بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم، وهو غير جبريل الروح الأمين.
وهو أيضا كما ترى.
قوله تعالى:{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها وهي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوءها واستعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.
واشتراطها بقولها:{إن كنت تقيا} من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط وعليه الوصف للحكم، والتقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ وأعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا ومن الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي وتقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: 57، وقوله:{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: 23.
وربما احتمل في قوله:{إن كنت} أن تكون إن نافية والمعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري ودخلت بغير إذني.
وأول الوجهين أوفق بالسياق. والقول بأن التقي اسم رجل طالح أوصالح لا يعبأ به.
قوله تعالى:{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} جواب الروح لمريم وقد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، والزكي هو النامي نموا صالحا والنابت نباتا حسنا.
ومن لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا وأنه وهب له يحيى، وذكر مريم وأنه وهب لها عيسى، وذكر إبراهيم وأنه وهب له إسحاق ويعقوب، وذكر موسى وأنه وهب له هارون (عليه السلام).
قوله تعالى:{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} مس البشر بقرينة مقابلته للبغي وهو الزنا كناية عن النكاح وهو في نفسه أعم ولذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله:{ولم يمسسني بشر} والاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا من طريق الحرام بالزنا.
والسياق يشهد أنها فهمت من قوله:{لأهب لك غلاما} إلخ، إنه سيهبه حالا ولذا قالت:{ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فنفت النكاح والزنا في الماضي.
قوله تعالى:{ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال:{ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، وقد تقدم في قصة زكريا ويحيى (عليهما السلام) توضيح ما للجملتين.
وقوله:{ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، وهو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا وكذا ولنجعله آية للناس بخلقته ورحمة منا برسالته والآيات الجارية على يده وحذف بعض الغرض وعطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى:{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}: الأنعام: 75، وفي هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
وقوله:{ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أودعاء.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص28-35.
ولادة عيسى (عليه السلام):
بعد ذكر قصّة يحيى(عليه السلام)، حولت الآيات مجرى الحديث إِلى قصّة عيسى(عليه السلام)لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جداً بين مجريات هاتين الحادثتين.
فإِنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإِن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!
وإِن كان الوصول إِلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإِنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إِعجازاً.
وعلى كل حال، فإِنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال، إِحداهما أكبر من الأُخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.
تقول الآية الأُولى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حيناً ـ عن ذكر المحبوب، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكاناً أكثر هدوءاً، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.
كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إِلقاء وإِبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإِنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إِشارة إِلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإِنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.
في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإِنّها {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إِلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والإِغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.
على كل حال، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} والروح أحد الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.
إِنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، فمريم التي عاشت دائماً نقية الجيب، وتربّت في أحضان الطاهرين، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى ... كم داخلها من الرعب والإِضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإِنّها مباشرة {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.
إِنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامّة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإِمتناع عن المعصية من جهة أُخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إِن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية، والأهم من ذلك كله هو الإِلتجاء إِلى الله، فالله الذي يلتجىء إِليه الإِنسان في أحلك الظروف، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته، هو الذي سيحل المعضلات.
لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظاراً مشوباً بالإِضطراب والقلق الشديد، إِلاّ أنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلمها ذلك الشخص، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}.
لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إِلاَّ أنَّ هذا الإِطمئنان لم يدم طويلا; لأنّه أضاف مباشرة {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}.
لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة أُخرى في قلق شديد {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}.
لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما: إِمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والإِنحراف، وإِنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، فإِنّي لم أختر زوجاً لحد الآن، ولم أكن امرأة منحرفة قط، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصاً يولد له ولد من غير هذين الطريقين!
إِلاَّ أنَّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إِليها، فقد خاطب مريم بصراحة: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيداً.. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟
ثمّ أضاف: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}. فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.
___________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص25-27.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|