أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2020
3732
التاريخ: 26-8-2020
2735
التاريخ: 26-8-2020
4594
التاريخ: 27-8-2020
5078
|
قال تعالى : {وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُو الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُو الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُو عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَو يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى : 27 - 35] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ولما بين سبحانه أنه يزيد المؤمنين من فضله أخبر عقيبه أن الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح فقال {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} أي لو وسع الرزق على عباده على حسب ما يطلبونه لبطروا النعمة وتنافسوا وتغالبوا وظلموا في الأرض وتغلب بعضهم على بعض وخرجوا عن الطاعة قال ابن عباس بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة وملبسا بعد ملبس {ولكن ينزل بقدر ما يشاء} أي ولكنه ينزل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء نظرا منه لهم عن قتادة والمعنى أنه يوسع الرزق على من تكون مصلحته فيه ويضيق على من يكون مصلحته فيه ويؤيده الحديث الذي رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن جبرائيل (عليه السلام) عن الله : ((إن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو صححته لأفسده وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده وذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم)) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة .
ومتى قيل : نحن نرى كثيرا ممن يوسع عليه الرزق يبغي في الأرض؟ قلنا : إنا إذا علمنا على الجملة أنه سبحانه يدبر أمور عباده بحسب ما يعلم من مصالحهم فلعل هؤلاء كان يستوي حالهم في البغي وسع عليهم أولم يوسع أو لعلهم لولم يوسع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي فلذلك وسع عليهم والله أعلم بتفاصيل أحوالهم .
{إنه بعباده خبير بصير} أي عليم بأحوالهم بصير بما يصلحهم وما يفسدهم ثم بين سبحانه حسن نظره بعباده فقال {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} أي ينزله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله والغيث ما كان نافعا في وقته والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارا في وقته وغير وقته ووجه إنزاله بعد القنوط أنه أدعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه والمعرفة بموقع إحسانه {وينشر رحمته} أي ويفرق نعمته ويبسطها بإخراج النبات والثمار التي يكون سببها المطر {وهو الولي} الذي يتولى تدبير عباده وتقدير أمورهم ومصالحهم المالك لهم .
{الحميد} المحمود على جميع أفعاله لكون جميعها إحسانا ومنافع .
{ومن آياته} الدالة على وحدانيته وصفاته التي باين بها خلقه {خلق السماوات والأرض} لأنه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب والأجناس التي لا يقدر عليها القادر بقدرته {وما بث فيهما من دابة} والدابة ما تدب فيدخل فيه جميع الحيوانات {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} أي وهو على حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر لا يتعذر عليه ذلك .
ثم قال سبحانه {وما أصابكم} معاشر الخلق {من مصيبة} من بلوى في نفس أو مال {فبما كسبت أيديكم} من المعاصي {ويعفوا عن كثير} منها فلا يعاقب بها قال الحسن : الآية خاصة بالحدود التي تستحق على وجه العقوبة وقال قتادة هي عامة وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((خير آية في كتاب الله هذه الآية يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب وما عفا الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده)) . وقال أهل التحقيق : إن ذلك خاص وإن خرج مخرج العموم لما يلحق من مصائب الأطفال والمجانين ومن لا ذنب له من المؤمنين ولأن الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب وإن كانوا معصومين من الذنوب لما يحصل لهم على الصبر عليها من الثواب .
ثم قال سبحانه {وما أنتم} يا معشر المشركين {بمعجزين في الأرض} أي لا تعجزونني حيث ما كنتم فلا تسبقونني هربا في الأرض وفي هذا استدعاء إلى العبادة وترغيب فيما أمر به وترهيب عما نهى عنه {وما لكم من دون الله من ولي} يدفع عنكم عقابه {ولا نصير} ينصركم عليه {ومن آياته} أي ومن حججه الدالة على اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره {الجوار} أي السفن الجارية {في البحر كالأعلام} أي كالجبال الطوال .
{إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره} أي إن يشأ الله يسكن الريح فتبقى السفن راكدة واقفة على ظهر الماء لا يبرحن من المكان لأن ماء البحر يكون راكدا فلولم تجيء الريح لوقفت السفينة في البحر ولم تجر فالله سبحانه جعل الريح سببا لجريها فيه وجعل هبوبها في الجهة التي تسير إليها السفينة {إن في ذلك} الذي ذكر {لآيات} أي حججا واضحات {لكل صبار} على أمر الله {شكور} على نعمته وقيل صبار على ركوبها شكور على جزيها والنجاة من البحر .
{أو يوبقهن بما كسبوا} معناه إن يشاء إسكان الريح يسكن الريح أوأن يشأ يجعل الريح عاصفة فيهلك السفن أي أهلها بالغرق في الماء عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي {ويعف عن كثير} من أهلها فلا يغرقهم ولا يعاجلهم بعقوبة معاصيهم {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا} أي في إبطال آياتنا ودفعها {ما لهم من محيص} أي : ملجأ يلجئون إليه عن السدي .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص51-55 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ولَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} . لقد أناط سبحانه أرزاق العباد بكسبهم وعملهم ، لا بإرادتهم وأهوائهم ، وإلا عمت الفوضى وتفرغوا للفساد في الأرض {ولكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ} أي يرزقه على قدر عمله ، وقد يرزق سبحانه الكثير من العمل القليل ، أو القليل من العمل الكثير لحكمة هوبها أعلم ، أما الثراء عن طريق الحرام كالغش والسلب والنهب فهومن رزق الشيطان ، لا من عطاء الرحمن ، كيف وقد توعد صاحبه بعذاب أليم {إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
يعلم من يعيش على حساب المعدمين ، ومن يعيش بكد اليمين ، وأعد للأول الخزي والعذاب ، وللثاني الكرامة والثواب .
{وهُو الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} بعد ان ذكر سبحانه الرزق قال : ان أسبابه كالمطر وغيره بيده تعالى يرسلها لمنافع الناس ومصالحهم ، ويقبضها عنهم متى شاء ، فإن تأخرت قليلا يئسوا وقنطوا ، فيتداركهم برحمته التي وسعت كل شيء {وهُو الْوَلِيُّ} يتولى عباده بالإحسان ( الحميد ) المستحق للحمد والشكر .
{ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ} . المراد بالسماء الشيء العالي كوكبا كان أو فضاء ، والمراد بالدابة هنا كل ما فيه حياة طيرا كان أو ملكا أو أي حي من الأحياء التي تعيش في البر أو البحر أو الفضاء أوفي كوكب من الكواكب . . وكلها تنطق بوجود باريها ومصورها {وهُو عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ} تماما كما قدر على خلقهم وبثهم في السماوات والأرض .
{وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . هذه الآية تدل بصراحة لا تقبل التأويل على أن الظلم والفقر من صنع الناس لا من صنع اللَّه ، ومن فساد الأنظمة والأوضاع لا من حكم اللَّه وشريعته حتى القحط وحبس الغيث سببه البغي والفساد كما في الحديث . . وفي كتاب اللَّه {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة : 66] ج 3 ص 94 فقرة (الرزق وفساد الأوضاع) {ويعفو عن كثير} من الذنوب ما عدا الشرك والظلم لأنه هو القائل : {لا يغفر ان يشرك به} والقائل : {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر - 52] .
{وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ} .
هذا تهديد ووعيد . وتقدم مثله بالحرف في الآية 22 من سورة العنكبوت {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى : 32] جمع علم وهو الجبل ، وإذا كانت السفينة من صنع الإنسان فإن الماء الذي تجري عليه ، والهواء الذي يدفعها هما من صنع اللَّه تعالى ، وكذا أخشابها وسائر أجزائها ، ومثلها الطائرة التي تطير في فضاء اللَّه ، والسيارة التي تسير على أرض اللَّه وغيرها وغيرها من الأدوات حتى الإنسان الذي صنعها واخترعها ، ذلك وغيره مظهر لقدرته تعالى وفيض من رحمته .
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} . إذا أمسك الهواء أو جمد الماء وقفت السفينة عن الجري {إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
من صبر على التفكير والنظر إلى الكون ، وما فيه من عجائب وأسرار - لا بد أن ينتهي إلى الايمان باللَّه وعظمته ، ويشكره على فضله وهدايته .
{أَو يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} . أو يهلك أصحاب السفن بذنوبهم ، ولكنه يعفو عن كثير أي لا يعاجلهم بالكثير من ذنوبهم {ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . يعلم أي ليعلم على حذف اللام ، والذين يجادلون في آيات اللَّه هم الذين يقولون : لا شيء يدل على أن اللَّه موجود ، والمعنى ان الكافرين لا يؤمنون باللَّه ، ويجحدون كل دليل ينطق بوجوده . . أجل ، هناك سبيل واحد لايمانهم واعترافهم ، وهو أن يروا الهلاك عيانا ويعلموا انه لا مهرب لهم منه ، مثل أن تقف بهم السفينة أو تعصف به الريح . وبكلمة لا يؤمنون حتى يروا العذاب .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص525-527 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
صدر الآيات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله : {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء} وقد سبقه قوله : {له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} وقد تقدمت الإشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين وبهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة وانعطف عليه انعطافا بعد انعطاف .
ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات والأرض وبث الدواب فيهما والسفائن الجواري في البحر وإيتاء الأولاد الذكور والإناث أو إحداهما لمن يشاء وجعل من يشاء عقيما .
ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا وهو متاعها الفاني بفنائها ومنه ما يخص المؤمنين في الآخرة وهو خير وأبقى ، وينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم وإلى وصف ما يلقاه الظالمون وهم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة وعذاب الآخرة .
ووراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام والإنذار والتخويف والدعوة إلى الحق وحقائق المعارف شيء كثير .
قوله تعالى : {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء أنه بعباده خبير بصير} القدر مقابل البسط معناه التضييق ومنه قوله السابق : {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والقدر بفتح الدال وسكونها كمية الشيء وهندسته ومنه قوله : {ولكن ينزل بقدر ما يشاء} أو جعل الشيء على كمية معينة ومنه قوله : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات : 23] .
والبغي الظلم ، وقوله : {بعباده} من وضع الظاهر موضع الضمير ، والنكتة فيه الإشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم وذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له ، وكذا قوله السابق : {لعباده} لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق وذلك أنهم عباده ورزق العبد على مولاه .
ومعنى الآية : ولو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في الأرض - لما أن من طبع سعة المال الأشر والبطر والاستكبار والطغيان كما قال تعالى : {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق : 6 ، 7] - ولكن ينزل ما يشاء من الرزق بقدر وكمية معينة أنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد وما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك .
ففي قوله : {ولكن ينزل بقدر ما يشاء} بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم ، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة وهي سنة الابتلاء والامتحان ، قال تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن : 15] ، وسنة أخرى هي سنة المكر والاستدراج ، قال تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف : 182 ، 183] .
فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال : {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران : 154] أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11] .
وكما أن إيتاء المال والبنين وسائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقة والشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها ومن حيث الابتلاء بها والتلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم .
فلو نزلت المعارف والأحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة والشمول لجميع شئون الحياة الإنسانية - لشقت على الناس ولم يؤمن بها إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا وعلى مكث وهيأ بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض ، قال تعالى : {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء : 106] .
وكذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لولم يضرب عليها بالحجاب وبينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها ودفعته أفهامهم إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل على قدر فهمه وسعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد : 17] .
وكذلك الأحكام والتكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا منها ولم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه التكاليف المتنوعة بينهم .
فالرزق بالمعارف والشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس مقدر على حسب صلاح حالهم .
قوله تعالى : {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} القنوط اليأس ، والغيث المطر ، قال في مجمع البيان : الغيث ما كان نافعا في وقته ، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارا في وقته وغير وقته . انتهى .
ونشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات وإخراج الثمار التي يكون سببها المطر .
وفي الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالأرزاق ، ويتلوها في هذا المعنى آيات ، وتذييل الآية بالاسمين : الولي الحميد وهما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل .
قوله تعالى : {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة} إلخ ، البث التفريق ، ويقال : بث الريح التراب إذا أثاره ، والدابة كل ما يدب على الأرض فيعم الحيوانات جميعا ، والمعنى ظاهر .
وظاهر الآية أن في السماوات خلقا من الدواب كالأرض ، وقول بعضهم : إن ما في السموات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود .
وقوله : {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة وقد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق ، ولا دلالة في قوله : {على جمعهم} حيث أتى بضمير أولي العقل على كون ما في السماوات من الدواب أولي عقل كالإنسان لقوله تعالى : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام : 38] .
والقدير من أسمائه تعالى الحسنى وهو الذي أركزت فيه القدرة وثبتت ، قال الراغب : القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما ، وإذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه ، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى وإن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال : قادر على كذا ، ومتى قيل : هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد ، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه .
والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال : {إنه على ما يشاء قدير} ، والمقتدر يقاربه نحو{عند مليك مقتدر} لكن قد يوصف به البشر ، وإذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة ، انتهى .
وهو حسن غير أن في قوله : إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لها معان إيجابية هي عين الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت والعلم بمعنى انتفاء الجهل والقدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون ولازمه خلو الذات عن صفات الكمال .
فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء ، ولازم هذا المعنى الإيجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى .
قوله تعالى : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} المصيبة النائبة تصيب الإنسان كأنها تقصده ، والمراد بما كسبت أيديكم المعاصي والسيئات ، وقوله : {ويعفوا عن كثير} أي عن كثير مما كسبت أيديكم وهي السيئات .
والخطاب في الآية اجتماعي موجه إلى المجتمع غير منحل إلى خطابات جزئية ولازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء والزلازل وغير ذلك .
فيكون المراد أن المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم ويصابون بها إنما تصيبكم بسبب معاصيكم والله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها .
فالآية في معنى قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41] ، وقوله : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا} [الأعراف : 96] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن بين أعمال الإنسان وبين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى المجتمع الإنساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل لنزلت عليه الخيرات وفتحت عليه البركات ولو أفسدوا أفسد عليهم .
هذا ما تقتضيه هذه السنة الإلهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أوسنة الاستدراج والإملاء فينقلب الأمر ، قال تعالى : {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف : 95] .
ويمكن أن يكون الخطاب في الآية عاما منحلا إلى خطابات الأفراد فيكون ما يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه وما يتعلق به مستندا إلى معصية أتى بها وسيئة عملها ويعفو الله عن كثير منها .
وكيف كان فالخطاب في الآية لعامة الناس من المؤمن والكافر وهو الذي يفيده السياق وتؤيده الآية التالية هذا أولا ، والمراد بما كسبته الأيدي المعاصي والسيئات دون مطلق الأعمال ، وهذا ثانيا ، والمصائب التي تصيب إنما هي آثار الأعمال في الدنيا لما بين الأعمال وبينها من الارتباط والتداعي دون جزاء الأعمال وهذا ثالثا .
وبما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الآية بالمصائب النازلة على الأنبياء (عليهم السلام) وهم معصومون لا معصية لهم ، المصائب النازلة على الأطفال والمجانين وهم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الآية بمصائب الأنبياء ومصائب الأطفال والمجانين .
وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله : {فبما كسبت أيديكم} دليل على أن الخطاب في الآية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين وغير المكلفين من رأس فعدم شمول الآية لهم من باب التخصص دون التخصيص .
وثانيا ما قيل : إن مقتضى الآية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون عليها بإصابة المصائب وما يعفى عنها .
وجه الاندفاع أن الآية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي وكون المعاصي ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الإنسان ولا يخطىء ومنها ما يعفى عنه فلا يصيب لأسباب صارفة وحكم مانعة كصلة الرحم والصدقة ودعاء المؤمن والتوبة وغير ذلك مما وردت به الأخبار ، وأما جزاء الأعمال فالآية غير ناظرة إليه كما تقدم .
على أن الخطاب في الآية يعم المؤمن والكافر كما تقدمت الإشارة إليه ، ولا معنى لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن وعدمها في الكافر .
وبعد هذا كله فالوجه الأول هو الأوجه .
قوله تعالى : {وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} ، معنى الآية ظاهر وهي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا تصيبكم المصائب لذنوبكم وليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم المصائب ولا نصير ينصركم ويعينكم على دفعها .
قوله تعالى : {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام{ ، الجواري جمع جارية وهي السفينة ، والأعلام جمع علم وهو العلامة ويسمى به الجبل وشبهت السفائن بالجبال لعظمها وارتفاعها والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره} إلخ ، ضمير {يشأ} لله تعالى ، وظل بمعنى صار ، و{رواكد} جمع راكدة وهي الثابتة في محلها والمعنى : إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت على ظهر البحر .
وقوله : {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} أصل الصبر الحبس وأصل الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل ، والمعنى : أن فيما ذكر من أمر الجواري من كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس وأمتعتهم من ساحل إلى ساحل لآيات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه واشتغل بالتفكر في نعمه والتفكر في النعمة من الشكر .
وقيل : المراد بكل صبار شكور المؤمن لأن المؤمن لا يخلو من أن يكون في الضراء أوفي السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين .
قوله تعالى : {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير} الإيباق الإهلاك ، وضمير التأنيث للجواري وضمير التذكير للناس ، ويوبقهن ويعف معطوفان على {يسكن} ، والمعنى : إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات ويعف عن كثير منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الإهلاك وإن عفا عن كثير منها .
وقيل : المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف ، و{يوبقهن} بالعطف على {يسكن} في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم ، والمعنى : إن يشأ يسكن الريح إلخ ، وإن يشأ يرسلها فيهلكهم بالإغراق وينج كثير منهم بالعفو ، والمحصل : إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم وينج ناسا بالعفو عنهم ولا يخفى وجه التكلف فيه .
وقيل : إن {يعف} عطف على قوله : {يسكن الريح} إلى قوله : {بما كسبوا} ولذا عطف بالواو لا بأو ، والمعنى : إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف وإن يشأ يعف عن كثير .
وهو في التكلف كسابقه .
قوله تعالى : {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} قيل : هو غاية معطوفة على أخرى محذوفة ، والتقدير نحو من قولنا : ليظهر به قدرته ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر ولا مخلص ، وهذا كثير الورود في القرآن الكريم غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للأم الغاية كقوله : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } [آل عمران : 140] .
وقوله : {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام : 75] .
وجوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير إن نحو إن جئتني أكرمك وأعطيك كذا وكذا بنصب أعطيك ، والمسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما ذكروه فيه .
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص46-51 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
المترفون الباغون :
قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين ، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال : لماذا نرى البعض منهم فقراء ، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية : {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} .
وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده ، وهذا يحدث بسبب : {إنّه بعباده خبير بصير} .
فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته ، فلا يعطيه كثيراً لئلا يطغى ، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر .
وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (6) و (7) من سورة العلق : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق : 6 ، 7] .
وهو حقّاً كذلك ، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة ، وأنّه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة ، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات ، ويفعلون ما لا ينبغي فعله ، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض .
وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي) ليس الظلم والجور ، وإنّما (بغى) تعني(طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر ، لأن عبارة : (يبغون في الأرض) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض ، مثل : {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس : 23] و {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى : 42] .
صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضاً ، إلاّ أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض .
وهنا يطرح سؤالان :
الأوّل : لوكان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج ، فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق ، سواء على مستوى الأفراد ، أو الدول الناهبة والظالمة؟
وفي الجواب على هذا السؤال يجب الإنتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للإمتحان والإختبار ، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم ، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال .
وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة ، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم ، ونحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات ، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل ، كالخوف ، والقتل ، والتلوث الخلقي ، والقلق بأنواعه المختلفة .
فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس ، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة ، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها! ، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا ، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها .
السؤال الآخر هو : ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق ، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر ؟
وللجواب على هذا السؤال نقول : إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً ، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً ، بل بسبب أعماله ، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة ، وسنة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الأطهار(عليهم السلام) .
ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده ، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه ، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر ، فلا يجزع ، ولا ييأس ، ولا ينطق بالكفر ، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضاً .
وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبداً مع الطغيان عند بسط الرزق ، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال ، مثل : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} .
صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد ، إلاّ أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم ، لذا فإن الآية التي بعدها تقول : {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} .
ولماذا لا يكون هذا : {وهو الولي الحميد} ؟
هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق ، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب ، فعندما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء ، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها ، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة ، ثمّ تتحول أخيراً إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض ، وتنفذ فيها دون تخريب .
نعم ، فلو دققنا النظر في هذا النظام ، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه ، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة .
ولابدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع ، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة ، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأُخرى النافعة والضارة .
لذا ، فبعد تلك الجملة وردت عبارة : (وينشر رحمته) .
ياله من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة ، ونمو النباتات وتنظيف الهواء ، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية ، والخلاصة في جميع المجالات .
فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية ، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعندما تشرق الشمس ، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان .
وقد تكوه الإستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذوراً مشتركة مع (غوث) المأخوذة من الإغاثة ، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته (2) .
ولهذه المناسبة ـ أيضاًـ فإن الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم وقدرة الخالق ، حيث تقول : {ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة} .
فالسموات بعظمتها ، بمجراتها وكواكبها ، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة ، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها . والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه . . . هذا من جانب .
ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء ، كأنواع الطيور ، ومئات الآلاف من الحشرات ، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة ، والزواحف ، والأسماك بأنواعها وأحجامها ، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع ، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلآف السنين من البحوث لملايين العلماء ، كلّ ذلك هومن آيات الخالق .
والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة ، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان ، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق ، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود ، بلسان حاله .
وتقول الآية في نهايتها : {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} (3) .
أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة ، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية 7 من نفس هذه السورة والآية 9 من سورة التغابن) .
وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو : هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة ، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحياناً أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان . وهنا ستُطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب . في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف ؟
وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (38) من سورة الأنعام : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام : 38] .
وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب ، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لأرجاع جميع هذه الأُمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحاً أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية 38 من سورة الأنعام) .
ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل لـ (بث) ، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها ، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها . فكما أن العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب ، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد . كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق ، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول : يحيي ويميت (أي الخالق) .
وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية .
النجوم السماوية الآهلة :
من الإستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية ، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات ، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي للعلماء بهذا الخصوص ، إلاّ أنّهم يقولون وعلى نحوالإيجاز : هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية ، إلاّ أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة من خلال : (وما بث فيهما من دابة) .
وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد ، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معاً ، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة ، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية .
ويمكن استفادة هذا المعنى أيضاً من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأُخرى .
وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور» (4) .
وهناك روايات اُخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب «الهيئة والإسلام» لمزيد من المعلومات) .
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية ، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال ، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا ؟
الآية الأُخرى تجيب على هذا السؤال وتقول : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} .
ثم إن هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة ، لأنّه (ويعفو عن كثير) .
وقوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } [الشورى : 32 - 35]
هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن (عليهم السلام)
مرّة اُخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد ، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص .
وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية ، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكان السواحل ، حيث تقول الآية : {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} .
«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار ، وعادةً فإن الآية تقصد حركة السفن ، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة .
ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها .
«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل ، إلاّ أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين ، مثل (علم الطريق) و(علم الجيش) وما شابه .
أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد ، وأحياناً كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون مناراً للسائرين ، إلاّ أن وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية .
وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأُخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة ، من آيات الخالق .
فليس مهمّاً حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح ، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح ، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها .
فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها وعمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء ؟
ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الانسان أن يصل من نقطة إلى اُخرى بالإستفادة من هذه الرياح ؟
نعم ، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البّحارة بخصوص حركة الرياح ، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين ، وأيضاً هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس ، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله نظام .
في زماننا ، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام ، إلاّ أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضاً في حركة هذه السفن .
وللتأكيد أكثر تقول الآية : {إنّ يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره} . وكإستنتاح تضيف الآية في نهايتها : {إنّ في ذلك لآيات لكل صبار شكور} .
نعم ، فهبوب الرياح ، وحركة السفن ، وخلق البحار ، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأُمور . . . كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة .
ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الإختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية ، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى ، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه ، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا ، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء ، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة .
«صبار» و(شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر ، والثانية كثرة الشكر . وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اُخرى (5) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة .
فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان ، لأن المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم ، وقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر» (6) .
إضافةً إلى ذلك ، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والإستمرار وتخصيص الوقت الكافي ، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم .
فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات ، وعادةً فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعاً من الشكر .
ومن جانب ثالث ، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة ، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار ، والشكر عند الوصول إلى الساحل .
مرّة اُخرى ، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية ، تقول الآية الأُخرى : {أو يوبقهن بما كسبوا} أيّ لوشاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون .
وكما قرأنا في الآيات الماضية ، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالباً ما ما تكون بسبب أعماله .
إلاّ أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان : (ويعف عن كثير) . فلولا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين ، كما نقرأ ذلك في الآية (45) من سورة فاطر : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر : 45] .
نعم ، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات ، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هوجاء تدمر هذه السفن والبواخر ، إلاّ أن لطفه العام يمنع هذا العمل .
{ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} (7) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة .
فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي ، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي ، واستمروا في محاربته عن عداوة وعناد ، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته ، ولا خلاص لهم من عذابه .
«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما ، وبما أن (محيص) اسم مكان ، لذا وردت هذه الكلمة ، بمعنى محل الهروب أو الملجأ .
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص288-303 .
2 ـ يقول الراغب في مفرداته : الغوث يقال في النصرة ، والغيث في المطر .
3 ـ (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف ، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي ، مثل (والليل إذا يغشى) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جداً على شكله المضارع .
4 ـ سفينة البحارـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص574 ، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي .
5 ـ إبراهيم ـ 5 ، لقمان ـ31 ، سبأ ـ19 ، والآية التي نبحثها .
6 ـ تفسير الصافي ، مجمع البيان ، الفخر الرازي والقرطبي نهاية الآية (31) من سورة لقمان .
7 ـ جملة (ويعلم الذين يجادلون . . .) كما يقول الزمخشري في كشافه : وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون . . . فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة ، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|