قال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون : 1 - 6]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
خاطب سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {قل} يا محمد {يا أيها الكافرون} يريد قوما معينين لأن الألف واللام للعهد {لا أعبد ما تعبدون} أي لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها اليوم وفي هذه الحال {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي إلهي الذي أعبده اليوم وفي هذه الحال أيضا {ولا أنا عابد ما عبدتم} فيما بعد اليوم {ولا أنتم عابدون ما أعبد} فيما بعد اليوم من الأوقات المستقبلة عن ابن عباس ومقاتل قال الزجاج : نفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ونفي عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل وهذا في قوم أعلمه الله سبحانه أنهم لا يؤمنون كقوله سبحانه في قصة نوح (عليه السلام) إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وقيل أيضا في وجه التكرار إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والأفهام فيقول المجيب بلى بلى ويقول الممتنع لا لا عن الفراء قال ومثله قوله تعالى كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون وأنشد :
وكائن وكم عندي لهم من صنيعة *** أيادي ثنوها علي وأوجبوا
وأنشد :
كم نعمة كانت لكم *** كم كم كم كم كم وكم
وقال آخر :
نعق الغراب ببين ليلي غدوة *** كم كم وكم بفراق ليلى ينعق (2)
وقال آخر :
((هلا سألت جموع كندة يوم ولوأين أينا ))
وقال آخر :
أردت لنفسي بعض الأمور *** فأولى لنفسي أولى لها
وقال وهذا أولى المواضع بالتأكيد لأن الكافرين أبدوا في ذلك وأعادوا فكرر سبحانه ليؤكد أيأسهم وحسم أطماعهم بالتكرير وقيل أيضا في ذلك أن المعنى لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ولا أنتم عابدون الله الذي أنا عابده إذا أشركتم به واتخذتم الأصنام وغيرها تعبدونها من دونه وإنما يعبد الله من أخلص العبادة له {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي لا أعبد عبادتكم فيكون ما مصدرية {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي وما تعبدون عبادتي على نحو ما ذكرناه فأراد في الأول المعبود وفي الثاني العبادة فإن قيل أما اختلاف المعبودين فمعلوم فما معنى اختلاف العبادة {قلنا} إنه يعبد الله على وجه الإخلاص وهم يشركون به في عبادته فاختلفت العبادتان ولأنه كان يتقرب إلى عبادته إلى معبوده بالأفعال المشروعة الواقعة على وجه العبادة وهم لا يفعلون ذلك وإنما يتقربون إليه بأفعال يعتقدونها قربة جهلا من غير شرع .
{لكم دينكم ولي دين} ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ( وثانيها ) أن المعنى لكم كفركم بالله ولي دين التوحيد والإخلاص وهذا وإن كان ظاهره إباحة فإنه وعيد وتهديد ومبالغة في النهي والزجر كقوله اعملوا ما شئتم ( وثالثها ) أن الدين الجزاء ومعناه لكم جزاؤكم ولي جزائي قال الشاعر :
إذا ما لقونا لقيناهم *** ودناهم مثل ما يقرضونا
وقد تضمنت السورة معجزة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) من جهة الإخبار بما يكون في الأوقات المستقبلة مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي من قبل الله سبحانه العالم بالغيوب فكان ما أخبر به كما أخبر وفيها دلالة على ذم المداهنة في الدين ووجوب مخالفة الكفار والمبطلين والبراءة منهم وروى داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إذا قرأت {قل يا أيها الكافرون} فقل أيها الكافرون وإذا قلت {لا أعبد ما تعبدون} فقل أعبد الله وحده وإذا قلت {لكم دينكم ولي دين} فقل ربي الله وديني الإسلام .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص464-465 .
2- وفي امالي الشريف (قده) : ((لبنى)) بدل ((ليلى)) في الموضعين .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
قيل ان قوما من كفار قريش ذهبوا إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقالوا له : أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ، ولا ينبغي أن تسفه أحلام قومك ، ولكن نعبد نحن إلهك سنة ، وتعبد أنت آلهتنا سنة ، فنزلت هذه السورة .
وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار ؟ فإن قوله {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} هو عين قوله : {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ} ولا فرق إلا ان هذه جملة اسمية ، وتلك جملة فعلية ، أما قوله : {ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} فقد أعاده بالحرف الواحد ؟ .
وأجابوا عن ذلك بأجوبة ، منها ما ذهب إليه صاحب مجمع البيان ، وهو أن المراد بقوله أولا : {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي الآن وفي هذه الحال ، وقوله ثانيا : {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أي في المستقبل ، فالفرق انما هو في الزمان حالا واستقبالا ! ويلاحظ بأن كلا منهما يصلح للحال والاستقبال ، والتعليل يحتاج إلى دليل .
ومن الأجوبة ما قاله أبو مسلم واختاره الشيخ محمد عبده ، وهوان {ما} الأولى اسم موصول بمعنى الذي والمراد به نفس المعبود ، و{ما} الثانية مصدرية ، والمراد بها نفس العبادة ، وعليه يكون المعنى معبودي غير معبودكم ، وعبادتي غير عبادتكم ، وأنا لا أعبد معبودكم ولا عبادتكم ، وأنتم كذلك . ويلاحظ بأنه لا عبادة من غير معبود ، وان ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر .
ومنها ان هذا تكرار يفيد التأكيد ، وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرار أحسن ، ولا شيء أحوج إلى التأكيد من نفي الشرك باللَّه ، ومن ثم حسن التأكيد . ونحن على هذا الرأي .
{لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ} على حذف ياء المتكلم أي ديني ، والمعنى لكم الكفر والشرك ، ولي الإخلاص والتوحيد ، ولا علاقة لي بكم ولا بما تعبدون ، وأنتم كذلك . . وهذا تهديد ووعيد . ومثله {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 41 يونس ج 2 ص 162 .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص618 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
فيها أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يظهر للكفار براءته من دينهم ويخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعداه إليهم ولا دينهم يتعداهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبدا ولا يعبدون ما يعبد أبدا فلييأسوا من أي نوع من المداهنة والمساهلة .
واختلفوا في كون السورة مكية أو مدنية ، والظاهر من سياقها أنها مكية .
قوله تعالى : {قل يا أيها الكافرون} الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر ويدل على ذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم ببراءته من دينهم وامتناعهم من دينه .
قوله تعالى : {لا أعبد ما تعبدون} الآية إلى آخر السورة مقول القول ، والمراد بما تعبدون الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ومفعول {تعبدون} ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه ولرعاية الفواصل ، وكذا مفاعيل الأفعال التالية : {أعبد} و{عبدتم} و{أعبد} .
وقوله : {لا أعبد} نفي استقبالي فإن لا لنفي الاستقبال كما أن ما لنفي الحال ، والمعنى لا أعبد أبدا ما تعبدونه اليوم من الأصنام .
قوله تعالى : {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفي استقبالي أيضا لعبادتهم ما يعبده (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر .
وبانضمام الأمر الذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان إن الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته وأن أخبركم أنكم لا تعبدونه أبدا فلا يقع بيني وبينكم اشتراك في الدين أبدا .
فالآية في معنى قوله تعالى : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس : 7] ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6] .
وكان من حق الكلام أن يقال : ولا أنتم عابدون من أعبد .
لكن قيل : ما أعبد ليطابق ما في قوله : {لا أعبد ما تعبدون} .
قوله تعالى : {ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد} تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد ، كقوله : {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر : 3 ، 4] وقوله : {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } [المدثر : 19 ، 20] .
وقيل : إن ما في {ما عبدتم} و{ما أعبد} مصدرية لا موصولة والمعنى ولا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي أي لا أشارككم ولا تشاركونني لا في المعبود ولا في العبادة فمعبودي هو الله ومعبودكم الوثن وعبادتي ما شرعه الله لي وعبادتكم ما ابتدعتموه جهلا وافتراء ، وعلى هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد ، ولا يخلو من بعد وسيأتي في البحث الروائي التالي وجه آخر للتكرار لطيف .
قوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين} تأكيد بحسب المعنى لما تقدم من نفي الاشتراك ، واللام للاختصاص أي دينكم وهو عبادة الأصنام يختص بكم ولا يتعداكم إلي وديني يختص بي ولا يتعداني إليكم ولا محل لتوهم دلالة الآية على إباحة أخذ كل بما يرتضيه من الدين ولا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن تدفع ذلك أساسا .
وقيل : الدين في الآية بمعنى الجزاء والمعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي ، وقيل : إن هناك مضافا محذوفا والتقدير لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني ، والوجهان بعيدان عن الفهم .
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص348-349 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
لا أهادن الكافرين :
{قل يا أيّها الكافرون} والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسّرين ، والألف واللام للعهد . وإنّما ذهب المفسّرون إلى ذلك لأن الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو اللّه سبحانه في الماضي والحال والمستقبل . والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها . بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكّة في دين الله أفواجاً .
{لا أعبد ما تعبدون} فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة .
{ولا أنتم عابدون ما أعبد} لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لأبائكم ، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام .
ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين ، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه :
{ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد} فعلى هذا لا معنى لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال {لكم دينكم ولي دين} .
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص570 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|