أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-8-2020
5869
التاريخ: 9-8-2020
4844
التاريخ: 5-8-2020
5204
التاريخ: 15-8-2020
3802
|
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَويَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [النحل: 30 - 34]
لما قدم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما أنزله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عقبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك فقال: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي وهم المؤمنون { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} أي: أنزل الله خيرا لأن القرآن كله هدى وشفاء وخير { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام من الله تعالى معناه: للمحسنين في هذه الدنيا حسنة مكافاة لهم وهي الثناء والمدح على ألسنة المؤمنين والهدى والتوفيق للإحسان { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} أي: وما يصل إليهم من الثواب في الآخرة خير مما يصل إليهم في الدنيا ويجوز أن يكون الجمع من كلام المتقين وأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين.
وقوله { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي: والآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وقيل: معناه: ولنعم دار المتقين الدنيا لأنهم نالوا بالعمل فيها الثواب والجزاء عن الحسن وقيل: معناه: ولنعم دار المتقين { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } كما يقال نعم الدار دار ينزلها { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} سبق معناه { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي: يشتهون من النعم { كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي: كذلك يجازي الله الذين اتقوا معاصيه { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} أي: طيبي الأعمال طاهري القلوب من دنس الشرك وقيل: معناه: طيبة نفوسهم بالمصير إليه لعلمهم بما لهم عنده من الثواب وقيل: طيبين أي: صالحين بأعمالهم الجميلة وقيل: بطيب وفاتهم فلا يكون صعوبة فيها { يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ } أي: تقول الملائكة سلام عليكم أي: سلامة لكم من كل سوء { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قيل: إنهم لما بشروهم بالسلامة صارت الجنة كأنها دارهم وهم فيها فقولهم { ادخلوا الجنة } بمعنى حصلت لكم الجنة وقيل: إنما يقولون ذلك عند خروجهم من قبورهم.
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} قد مضى تفسيره في سورتي البقرة والأنعام { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أخبر سبحانه أن الذين مضوا من الكفار فعلوا مثل ما فعل هؤلاء من تكذيب الرسل وجحد التوحيد فأهلكهم الله فما الذي يؤمن هؤلاء من أن يهلكهم الله { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي: عقاب سيئاتهم فسمى العقاب سيئة كما قال { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} { وَحَاقَ بِهِمْ } أي: وحل بهم جزاء { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
_____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص152-153.
{ وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً } . بعد أن ذكر سبحانه المشركين الذين وصفوا القرآن بالخرافات وأساطير الأولين ذكر في هذه الآية المؤمنين ، وانهم إذا سئلوا عن القرآن ذكروه بالتقديس والتعظيم ، ونعتوه بما نعته الإمام علي في نهج البلاغة : « ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات الا به » .
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ } . هذه الجملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها ، وقيل : بل هي من كلام المتقين ، وانها بدل من خير . والمعنى واحد
على التقديرين ، وهو ان اللَّه سبحانه يجزي المحسنين خيرا في الدنيا ، ولو بالذكر الجميل { ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } من نعيم الدنيا المشوب بالهمّ والكدر ، والمحدود كما وكيفا { ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ } لأنها دار الهناء الدائم الذي لا تشوبه شائبة من همّ وعناء .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُونَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } . لا يدخل هذه الجنة العظمى الا المتقون ، وهم الذين جاهدوا لنصرة الحق ، وصبروا لتحمّل الأذى من أجله ، وقد نص القرآن بوضوح على هذا التحديد للمتقين في الآية 142 من سورة آل عمران : « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين » . أنظر ج 2 ص 165 ، وج 1 ص 242 فقرة « ثمن الجنة » .
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ } في مقاصدهم ، وطيبين في أفعالهم وأقوالهم ، وبالخاتمة يقاس الإنسان ، والسعيد من فارق هذه الحياة واللَّه راض عنه ، ويشهد له بأنه من الطيبين الأخيار { يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
ضمير يقولون للملائكة ، وخطاب عليكم للمؤمنين المتقين . . تسلم ملائكة الرحمة على الطيبين عند الموت ، وتبشرهم بالجنة ، ليطمئنوا ويستبشروا بما أعد اللَّه لهم من الكرامة وعظيم المنزلة .
{ هلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ }. مر نظيره في الآية 158 من سورة الأنعام ج 3 ص 289 كذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .
هذا تذكير وتحذير للذين كذبوا محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن يصيبهم ما أصاب الأمم الخالية الذين كذبوا رسلهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ) . . حاشا . . كيف ؟ . . وقد نهى عن الظلم ، ونعت الظالمين بالضلال في الآية 11 من سورة لقمان « بل الظالمون في ضلال مبين » . ولعنهم في الآية 44 من سورة الأعراف : « أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ » .
{لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، وأوضحها جميعا الآية 44 من سورة يونس : « إِنَّ اللَّهً لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) . كرر سبحانه لفظ الناس دفعا لكل شبهة ، ولولا قول الأشاعرة - أي السنة - : ان الإنسان مسيّر ، لا مخيّر لكنا في غنى عن هذا التطويل أو التأكيد الذي هو أشبه بتوضيح الواضحات .
{ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } . أنكر المشركون رسالة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وسخروا منه ومنها ، وصدوا الناس عنها . وسيلاقون ثمرة أعمالهم بالقسط ، وهم لا يظلمون ، بل إن الكثير منهم لاقى جزاء عمله في الدنيا قبل الآخرة .
____________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 509-511.
قوله تعالى:{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} إلى آخر الآية.
أخذ المسئول عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا أنهم تلبسوا بالتقوى وهم المتصفون به المستمرون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسئول عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الإيمان كما كان المسئول عنهم في الطائفة الأخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون.
فقول بعضهم: إن المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أوالشرك والمعاصي في الجملة. ليس في محله.
وقوله:{قالوا خيرا} أي أنزل خيرا لأنه أنزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع في أخذها والعمل بها خير الدنيا والآخرة وفي قولهم:{خيرا} اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك إظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم: أساطير الأولين أي هو أساطير ولو قال المتقون: خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنه لو قال المستكبرون: أساطير الأولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول. كذا قيل.
وقوله:{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} ظاهر السياق أنه بيان لقولهم:{خيرا} وهل هو تتمة قولهم أوبيان منه تعالى؟ ظاهر قوله:{ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ } إلى آخر الآية أنه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما أنزله إليهم فإنه أشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا يجترءون على أمثال هذه الاقتراحات.
والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لأنهم بالإحسان الذي هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والإحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لإحسانهم لقوله:{لهم في الدنيا} ولدار الحياة الآخرة خير جزاء لأن فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء.
ومعنى الآية: وقيل للمتقين من المؤمنين ما ذا أنزل ربكم من الكتاب وما شأنه؟ قالوا أنزل خيرا، وكونه خيرا هو أن للذين أحسنوا - أي عملوا بما فيه فوضع الإحسان موضع الأخذ والعمل بما في الكتاب إيماء إلى أن الذي يأمر به الكتاب أعمال حسنة - في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الآخرة خير لهم جزاء.
ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال:{ولنعم دار المتقين} ثم بين دار المتقين بقوله:{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } والمعنى ظاهر.
قوله تعالى:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بيان للمتقين كما كان قوله:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } إلخ بيانا للمستكبرين.
والطيب تعري الشيء مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال: طاب لي العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينقصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة أن الطهارة كون الشيء على طبعه الأصلي بحيث يخلوعما يوجب التنفر عنه والطيب كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدره ويفسد أمره سواء تنفر عنه أم لا ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد، قال تعالى:{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات}: النور: 26، وقال:{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا }: الأعراف: 58.
وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفي في قوله السابق:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ويكون معنى الآية أن المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم - الشرك والمعاصي - يقولون لهم سلام عليكم – وهو تأمين قولي لهم - ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون – وهو هداية لهم إليها -.
فالآية - كما ترى - تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الأمن والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: الأنعام: 82.
وذكر بعض المفسرين أن المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون أقوالهم وأفعالهم زاكية، والأكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب وأنت بالتأمل فيما تقدم تعرف أن شيئا مما ذكروه لا يخلوعن تسامح.
قوله تعالى:{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلخ، رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض أحوالهم وأقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الأمم الماضين وما آل إليه أمرهم.
وقوله:{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } سياق الآية وخاصة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنها مسوقة للتهديد فالمراد بإتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله:{ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}: الحجر: 8، والمراد بإتيان أمر الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والانتقام الإلهي منهم.
وأما كون المراد بإتيان الأمر ما تقدم في أول السورة من قوله:{أتى أمر الله} وقد قربنا هناك أن المراد به مجيء النصر وظهور الإسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذي في الآية تلك الملاءمة، وأيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث وإصرارهم على نفيه والرد عليهم، وهو يؤيد كون المراد بإتيان الأمر قيام الساعة.
وقد أضاف الرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:{أمر ربك} ولم يقل: أمر الله أوأمر ربهم ليدل به على أن فيه انتصارا له (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضاء له عليهم.
وقوله:{ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } إلخ.
وقوله:{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} معترضة يبين بها أن الذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه إلا الظلم، غير أن هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم لا ظلما منه تعالى وتقدس، ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أومرتين بل أمهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم وأصروا عليه - كما يدل عليه قوله: كانوا أنفسهم يظلمون - فعند ذلك أنزل عليهم العذاب، ففي قوله:{وما ظلمهم الله} إلخ، إثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفي أصل الظلم عن الله سبحانه.
قوله تعالى:{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } حاق بهم أي حل بهم، وقيل: معناه نزل بهم وأصابهم، والذي كانوا به يستهزءون هوالعذاب الذي كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الآية ظاهر.
_____________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج12،ص191-194.
عاقبة المتقين والمحسنين:
قرأنا في الآيات السابقه أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته.. فيقول القرآن: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا}.
وروي في تفسير القرطبي: كان يرد الرجل من العرب مكّة في أيّام الموسم فيسأل المشركين عن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل اللّه عليه الخير والهدى.
ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإِنسان الفرد والمجتمع، وخير في: التربية والتعليم، السياسة والإِقتصاد، الأمن والحرية... والخلاصة: خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).
وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل: النّور، الشفاء، الهداية، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل)، الحق، التذكرة، وما شابه ذلك.. ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوماً عاماً جامعاً لكل تلك المفاهيم الخاصة.
والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين، فالمؤمنون قالوا: «خيراً» أي أنزل اللّه خيراً، وبذلك يظهر اعتقادهم بأنّ القرآن وحي إِلهي(2).
بينما نجد المشركين عندما قيل لهم ماذا أنزل ربّكم؟ قالوا: {أساطير الأولين} وهذا إِنكار واضح لكون القرآن وحي إِلهي(3).
وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ }.
وقد أطلق الجزاء بالـ «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإِضافة إِلى: { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.
وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإِطلاق مرّة أُخرى وكلمة «خيراً»، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّاً وكيفاً.
فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية {للذين أحسنوا} إِلى آخرها تعبر عن كلام اللّه عزَّ وجلّ، ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.
واحتمل بعض المفسّرين أنّ الظاهر من الكلام يتضمّن احتمالين:
الأوّل: أنّه كلام اللّه.
الثّاني: أنّه استمرار لقول المتقين.
ثمّ تصف الآية التالية ـ بشكل عام ـ محل المتقين في الآخرة بالقول: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ }.
فهل ثمّة أوسع وصفاً من هذا أم أشمل مفهوماً لبيان نعم الجنّة.
حتى أنّ التعبير يبدو أوسع ممّا ورد في الآية (71) من سورة الزخرف { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، فالحديث في الآية عن {ما تشتهيه الأنفس}، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإِشاءة {ما يشاؤون}.
واستفاد بعض المفسّرين من تقديم (لهم فيها) على {ما يشاؤون} الحصر، أي يمكن للإِنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنّة فقط دون الدنيا.
وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة، ثمّ يقال لهم «ادخلوا ابواب جهنم..».
وأمّا عن المتقين: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} طاهرين من كل تلوثات الشرك والظلم والإِستكبار، ومخلصين من كل ذنب ـ {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.
ثمّ يقال لهم: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
والتعبير عن موتهم بـ (تتوفاهم) يحمل بين طياته اللطف، ويشير إِلى أن الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شيء، بل هو مرحلة انتقالية إِلى عالم آخر.
وفي تفسير الميزان: أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل:
1 ـ طهارة المؤمنين من خبث الظلم.
2 ـ يقولون لهم (سلام عليكم) وهو تأمين قولي لهم.
3 ـ {ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون} وهو هداية لهم إِليها.
وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام {الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.
البلاغ المبين.. وظيفة الأنبياء:
يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إِغلاق صحائف الأعمال!
أو هل ينتظرون أن يأتي أمر اللّه بعذابهم: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} حيث تغلق أبواب التوبة أيضاً ولا سبيل عندها للإِصلاح.
فأي فكر يسيرهم، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!
كلمة «الملائكة» وإِن كانت ترمز إِلى عنوان عام، إِلاّ أنّها في هذا الموقع يقصد منها ملائكة قبض الأرواح انسجاماً مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.
أمّا عبارة {يأتي أمر ربّك} فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها، إِلاّ أنّ المعنى الراجح هو نزول العذاب، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات مختلفة من القرآن.
ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأنّ المواعظ الإِلهية وتذكير الأنبياء إِنْ كانت لا توقظكم من غفلتكم فإِنّ الموت والعذاب الإِلهي سيوقظكم، ولكنْ حينئذ لا ينفعكم ذلك الإِيقاظ.
ثمّ يضيف: إِنّ هؤلاء ليس أوّل مَنْ كانوا على هذه الحال والصفة وإِنّما { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }.
وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.
والآية تؤكد مرّة أُخرى على حقيقة عود الظلم والإِستبداد والشر على الظالم المستبد الشرير في آخر المطاف، لأنّ الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح ونفسية فاعله، فيسوِّد قبله ويلوِّث روحه فيفقده الأمان والإِطمئنان.
ثمّ يذكر عاقبة أمرهم بقوله: { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
«حاق بهم»: بمعنى أصابهم، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين كالقرطبي وفريد وجدي في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).
ويمكن الجمع بين المعنيين، فيكون المعنى: نزول العذاب عليهم، وكذلك محيطاً بهم.
وعلى أية حال، فتعبير الآية بـ { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} يؤكد مرّة أُخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له بصور شتى، وتعذبه وتؤلمه ولاشيء غرهذه الاعمال في عذابه(4).
____________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج7،ص48-52.
2 ـ خيراً: مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل اللّه).
3 ـ أساطير الأولين: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هذه أساطير الأولين).
4- وعلى هذا، فلا داعي لتقدير كلمة «جزاء» قبل «سيئات» في الآية.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|