أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-8-2020
3180
التاريخ: 9-8-2020
4846
التاريخ: 15-8-2020
3804
التاريخ: 5-8-2020
8086
|
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَويَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَويَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَويَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 43 - 50]
خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ } إلى الأمم الماضية { إلا رجالا } من البشر { نوحي إليهم } أي: أوحينا إليهم كما أوحينا إليك وأرسلناهم إلى أممهم كما أرسلناك إلى أمتك وذلك أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبين سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلا من يشاهدونه ويخاطبونه ويفهمون عنه وأنه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك.
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فيه أقوال ( أحدها ) أن المعنى بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أ كانوا مؤمنين أوكفارا وسمي العلم ذكرا لأن الذكر منعقد بالعلم فإن الذكر هو ضد السهو فهو بمنزلة السبب المؤدي إلى العلم في ذكر الدليل فحسن أن يقع موقعه وينبىء عن معناه إذا تعلق به هذا التعلق عن الرماني والزجاج والأزهري ( وثانيها ) أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب عن ابن عباس ومجاهد أي فاسألوا أهل التوراة والإنجيل { إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يخاطب مشركي مكة وذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم لأنهم كانوا يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لشدة عداوتهم له ( وثالثها ) أن المراد بهم أهل القرآن لأن الذكر هو القرآن عن ابن زيد.
ويقرب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال نحن أهل الذكر وقد سمى الله رسوله ذكرا في قوله ذكرا رسولا على أحد الوجهين وقوله { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} العامل فيه قوله { أرسلنا } والتقدير وما أرسلنا بالبينات والزبر أي بالبراهين والكتب إلا رجالا نوحي إليهم وقيل إن في الكلام إضمارا وحذفا والتقدير أرسلناهم بالبينات كما قال الأعشى :
وليس مجيرا أن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا(2)
أي أعني المتعيبا ونظير الأول قول الشاعر :
نبأتهم عذبوا بالنار جارتهم وهل يعذب إلا الله بالنار.
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فيه من الأحكام والشرائع والدلائل على توحيد الله { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } في ذلك فيعلموا أنه حق وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقوله أهل الجبر .
ثم أوعد سبحانه المشركين فقال: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الإنكار ومعناه أي شيء أمن هؤلاء القوم الذين دبروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإطفاء نور الدين وإيذاء المؤمنين من { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ } من تحتهم عقوبة لهم كما خسف بقارون { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} قال ابن عباس يعني يوم بدر وذلك أنهم أهلكوا يوم بدر وما كانوا يقدرون ذلك ولا يتوقعونه { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} يعني أوأن يأخذهم العذاب في تصرفهم في أسفارهم وتجاراتهم وقيل يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلا ونهارا فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا عن مقاتل { فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: فليسوا بفائتين وما يريده الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال أكثر المفسرين معناه على تنقص إما بقتل أو بموت أي بنقص من أطرافهم ونواحيهم فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي على جميعهم وقيل معناه في حال تخوفهم من العذاب أي يعذب أهل قرية ويخوف به أهل قرية أخرى فيتخوفون أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بالأولى عن الحسن وقيل معناه على تنقص من الأموال والأنفس بالبلايا والأسقام إن لم يعذبهم بعذاب الاستئصال لينبه غيرهم ويزجرهم عن الجبائي { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } بكم ومن رأفته ورحمته بكم أنه أمهلكم لتتوبوا وترجعوا ولم يعاجلكم بالعقوبة ثم بين سبحانه دلائل قدرته فقال { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} معناه أ لم ينظروا هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى وكذبوا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى ما خلق الله من شيء له ظل من شجر وجبل وبناء وجسم قائم { يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} أي: يتميل ظلاله عن جانب اليمين وجانب الشمال وأضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال لأن الذي يعود إليه الضمير واحد يدل على الكثرة وهو قوله ما خلق الله ومعنى تفيؤ الظلال يمينا وشمالا أن الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة كان الظلال قدامك وإذا ارتفعت كان عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل عن الكلبي ومعنى سجود الظل لله دورانه من جانب إلى جانب لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير وهذه الآية كقوله { وظلالهم بالغدو والآصال } وقد مر تفسيره وقيل أن المراد بالظل هو الشخص بعينه ويدل على ذلك قول علقمة :
لما نزلنا رفعنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل(3)
أ لا ترى أنهم لا ينصبون الظل وإنما ينصبون الأخبية ويقوي ذلك قول عمارة :
كأنهن الفتيات اللعس كان في أظلالهن الشمس(4)
أي في أشخاصهن وقول الآخر :
يتبع أفياء الظلال عشية على طرق كأنهن سيوف(5)
أي أفياء الشخوص فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية تأويل الأجسام التي عنها الظلال { وهم داخرون } أي: أذلة صاغرون قد نبه الله بهذا على أن جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها بما لولاه لبطلت ولم يكن لها قوام طرفة عين فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذلة ثم قال سبحانه { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ } أي: يسجد لله جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض ومعنى من في قوله { من دابة } تبيين الصفة أي الذي هو دابة تدب على وجه الأرض { والملائكة } أي وتسجد له الملائكة وتخضع له بالعبادة وإنما خص الملائكة بالذكر تشريفا لهم ولأن اسم الدابة يقع على ما يدب ويمشي وهم أولو الأجنحة فصفة الطيران أغلب عليهم.
{ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة الله تعالى وهذا من صفة الملائكة لأنه قال { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وإنما قال { من فوقهم } لوجهين ( أحدهما ) أن المراد يخافون عقاب ربهم وأكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق ( والآخر ) أن الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال بمعنى أنه قادر على الكمال حسن أن يقال من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين وعلى هذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد قال ذلك مخافة الإجلال واختاره الزجاج فقال يخافون ربهم خوف معظمين مجلين ومثله في المعنى قوله { وهو القاهر فوق عباده} وقوله إخبارا عن فرعون وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }.
وذهب بعضهم إلى أن قوله { من فوقهم } من صفة الملائكة والمعنى أن الملائكة من فوق بني آدم وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علورتبتهم فلأن يخافه من دونهم أولى وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رءوسهم وقالوا ما عبدناك حق عبادتك أورده الكلبي في تفسيره .
____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص158-164.
2- وفي نسخة مخطوطة ((المتعينا)) بالنون.
3- المراجيل جمع المرجل :القدر.
4- جارية لعساء:كان في لونها أدنى سواد فيه شربة حمرة.
5- وفي بعض النسخ ((سبوت)) بدل ((سيوف)).
{ وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } . أنكر المشركون نبوة محمد ، وقالوا : ما بعث اللَّه بشرا رسولا . . فأبطل اللَّه زعمهم بأن جميع الأنبياء والرسل السابقين كانوا رجالا يوحى إليهم ، كنوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وغيرهم ، لأن الغرض من إرسال الرسل لا يتحقق الا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم : « وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ - 4 إبراهيم » : « قُلْ لَو كانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا - 95 الاسراء » . . { فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } المراد بأهل الذكر أهل العلم المنصفون ، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم غيرهم ، والمعنى ان كنتم أيها المشركون في ريب من قولنا فاسألوا العارفين يخبروكم ان جميع الأنبياء بشر .
{ بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ } أي أرسل اللَّه الرسل إلى الناس بالبينات ، وهي الدلائل والبراهين ، وبالزبر ، وهي الكتب التي فيها بيان الدين عقيدة وشريعة { وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } . الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، والمراد بالذكر هنا القرآن ، ومن الواضح ان الغاية من إرسال الرسل ، وانزال الكتب هداية الناس إلى الحق والعدل ، والى حياة الأمن والرخاء ، وقوله :
{ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } معناه لعلهم يتدبرون القرآن ويدركون أسراره وأهدافه ، ويعلمون انه أنزل لخيرهم ومصلحتهم .
{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ } . قال المفسرون : المراد بالذين مكروا هنا مشركوقريش لأنهم هم الذين أساؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ودبروا ضده الحيل والمؤامرات . وقد خوفهم سبحانه بأربعة أنواع من العذاب :
1 - { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ } . كما فعل بقارون : « فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ - 81 القصص » .
2 - { أَويَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } . فيهلكهم اللَّه بغتة كما فعل بقوم لوط .
3 - { أَويَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ } . يهلكهم في حال اشتغالهم وكدهم في الأرض للرزق .
4 - { أَويَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ } . قال أكثر المفسرين - والعهدة على الطبرسي - : ان المراد بالتخوف هنا التنقص ، وعليه يكون المعنى ان اللَّه سبحانه لا يهلكهم دفعة واحدة ، بل يبتليهم بنقص من الأنفس والأموال شيئا فشيئا ، حتى يأتي على آخرهم . { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } . ومن رأفته ورحمته أن لا يعجل للعصاة ما يستحقونه من العقوبة أملا بتوبتهم وهدايتهم .
{ أَولَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وهُمْ داخِرُونَ } ضمير يروا يعود إلى الذين مكروا السيئات المذكورين في الآية السابقة ، ويجوز أن يعود إلى كل معاند ، لأن اللَّه سبحانه يقول موبخا : ألم ينظر الجاحدون المعاندون إلى ما خلق اللَّه ؟ . والمراد بقوله : { ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } كل شيء له ظل وخيال كالجبال والأشجار والحيوان والعمار ونحوذلك ، أما قوله عن اليمين والشمائل فإنه يشير إلى جانبي الشيء الذي له ظل ، لأن ظل الشيء يكون إلى جهة من شروق الشمس إلى زوالها أي الظهر ، ثم يتحول الظل إلى جهة ثانية من الظهر إلى الليل ، فعبّر سبحانه باليمين عن الجهة الأولى ، وبالشمائل عن الجهة الثانية ، ومثله قوله تعالى : « وظِلالُهُمْ بِالْغُدُو والآصالِ - 15 الرعد » . أما قوله : سجدا للَّه فهو كناية عن الخضوع والانقياد .
وداخرون أي صاغرون .
وتسأل : لما ذا قال تعالى : اليمين والشمائل ، فأفرد اليمين وجمع الشمائل ، ولم يساوبينهما جمعا أو إفرادا ؟ .
وأجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أقربها ان من أساليب البلاغة عند العرب إذا ذكروا معنيين للجمع ان يعبروا عن أحد المعنيين بلفظ الواحد ، وعن المعنى الآخر بلفظ الجمع ، كقوله : { وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ } وقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ } .
والخلاصة ان اللَّه سبحانه بعد أن هدد وتوعد المشركين والمعاندين قال في هذه الآية : ان كل ما في الكون - غير المشركين والمعاندين – هو خاضع ومنقاد لأمره .
{ ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ والْمَلائِكَةُ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } . كل المخلوقات والكائنات العلوية والسفلية تدل دلالة واضحة على وجود صانعها وباريها ، وعلى قدرته وعلمه وحكمته ، وهذه الدلالة هي بطبعها تسبيح وتمجيد وسجود وركوع للبارئ المصور ، وهذا هو معنى سجود الكائنات - غير العاقلة - وهو أيضا المراد من قوله : « وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ - 44 الاسراء » . والغرض من ذكر الدابة والملائكة بعد ذكر ما في السماوات وما في الأرض هو بيان الشمول لجميع المخلوقات بشتى أنواعها . وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 13 و15 من سورة الرعد .
{ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ } . تدل هذه الآية صراحة على أن من آمن باللَّه خافه وأطاع أمره ونهيه ، وتدل ضمنا وتلويحا على أن من يعصي اللَّه ، ثم يدعي الايمان به ، والخوف منه فهو كاذب في دعواه .
_____________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ح4، صفحه 517-519.
قوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} رجوع ثان إلى بيان كيفية إرسال الرسل وإنزال الكتب حتى يتضح للمشركين أنه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم وعقباهم.
وأنه لم يدع أحد من الرسل ولا ادعي في كتاب من كتب الشرائع أن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شيء والإرادة التكوينية لهدم النظام الجاري ونقض سنة الاختيار وإبطالها حتى يقول القائل منهم:{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} إلخ.
وعلى هذا فقوله سبحانه:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } مسوق لحصر الرسالة على البشر العادي من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون أنها لوكانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وإبطالا للاختيار والاستطاعة.
وبه يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم أن الآية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون أن البشر لا يصلح للرسالة وأنها لوكانت فهي من شأن الملائكة فالآية تخبر أن السنة الإلهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحي إليهم المعارف والأوامر والنواهي.
وذلك أن سياق الآيات لا يساعد على ذلك، ولم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أولاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك.
وإنما الذي تقدم هو قول المشركين:{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } إلخ وكان مسوقا لإثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة.
واستدل بعضهم بالآية على أن الله سبحانه لم يرسل صبيا ولا امرأة، واستشكل بنبوة عيسى (عليه السلام) في المهد وأجيب بأن النبوة أعم من الرسالة والذي أثبته عيسى لنفسه بقوله:{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا }: مريم: 30، هي النبوة دون الرسالة.
وفيه أن الاستدلال المذكور بالآية إنما هو بقوله:{وما أرسلنا} وهذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } الآية فلوتم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الأطفال والنساء عن الرسالة والنبوة جميعا، وقد حكى الله عن عيسى (عليه السلام) قوله:{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}: مريم: 30، وقال في يحيى (عليه السلام):{وآتيناه الحكم صبيا}: مريم: 12.
والحق أن الآية:{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا } إنما هي في مقام بيان أن الرسل كانوا رجالا من البشر العادي من غير عناية بكونهم أول ما بعثوا للرسالة أفرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض أن نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى (عليهما السلام) - وهم رسل - كانوا رجالا يوحى إليهم ولم يكونوا أشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية وإرادة إلهية تكوينية.
ويقرب من الآية قوله تعالى: في موضع آخر:{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ }: الأنبياء: 8.
وقوله:{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الظاهر أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقومه، وقد كان الخطاب في سابق الكلام للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة والمعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع أهل الذكر وسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين به كان في غنى عن الرجوع والسؤال.
وقيل: إن الخطاب في الآية للمشركين فإنهم هم المنكرون فليرجعوا وليسألوا وفيه أن لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ولا نكتة ظاهرة تصحح ذلك والله أعلم.
والذكر حفظ معنى الشيء أواستحضاره، ويقال لما به يحفظ أويستحضر قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء في القلب أوالقول ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، انتهى موضع الحاجة.
والظاهر أن الأصل فيه ما هو للقلب وإنما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بإفادته المعنى وإلقائه إياه في الذهن، وعلى هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أن مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا أطلق فيه ولم يتقيد بشيء هو ذكره.
وبهذه العناية أيضا سمي القرآن وحي النبوة والكتب المنزلة على الأنبياء ذكرا، والآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع.
وقد سمى الله سبحانه في الآية التالية القرآن ذكرا.
فالقرآن الكريم ذكر كما أن كتاب نوح وصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى (عليه السلام) - وهي الكتب السماوية المذكورة في القرآن - كلها ذكر، وأهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.
ولما كان أهل الشيء وخاصته أعرف بحاله وأبصر بأخباره كان على من يريد التبصر في أمره أن يرجع إلى أهله، وأهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلمها والعمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها والعالمون بأخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد الاطلاع على شيء من أمرهم أن يراجعهم ويسألهم.
لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله:{فاسألوا أهل الذكر} لما كانوا لا يسلمون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة ولا يصدقونه في دعواه ويستهزءون بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله:{ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }: الحجر: 6، لم ينطبق قوله:{فاسألوا أهل الذكر} بحسب المورد إلا على أهل التوراة، وخاصة من حيث كونهم أعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك، وقد قالوا في المشركين:{ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا }: النساء: 51.
وقال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أ كانوا مؤمنين أم كفارا؟ وسمي العلم ذكرا لأن العلم بالمدلول يحصل غالبا من تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب.
وفيه أنه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أن المعهود من الموارد التي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.
وقال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأن الله سماه ذكرا وأهله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وخاصة المؤمنين.
وفيه أن كون القرآن ذكرا وأهله أهله لا ريب فيه لكن إرادة ذلك من الآية خاصة لا تلائم تمام الحجة فإن أولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟.
وكيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عام عقلائي وهو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، وليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا، ولا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم ولا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر.
قوله تعالى:{بالبينات والزبر} متعلق بمقدر يدل عليه ما في الآية السابقة من قوله:{وما أرسلنا} أي أرسلناهم بالبينات والزبر وهي الآيات الواضحة الدالة على رسالتهم والكتب المنزلة عليهم.
وذلك أن العناية في الآية السابقة إنما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع أنهم بما ذا أرسلوا؟ فأجيب عنه فقيل: بالبينات والزبر أما البينات فلإثبات رسالتهم وأما الزبر فلحفظ تعليماتهم.
وقيل: هو متعلق بقوله:{وما أرسلنا} أي وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا نوحي إليهم.
وفيه أنه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة.
قوله تعالى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لا شك أن تنزيل الكتاب على الناس وإنزال الذكر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحد بمعنى أن تنزيله على الناس هو إنزاله إليه ليأخذوا به ويوردوه مورد العمل كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا }: النساء: 174، وقال:{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: الأنبياء: 10.
فيكون محصل المعنى أن القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وأنك والناس في ذلك سواء، وإنما اخترناك لتوجيه الخطاب وإلقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية وإرادة تكوينية إلهية فنجعلك مسيطرا عليهم وعلى كل شيء بل لأمرين: أحدهما: أن تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لأن المعارف الإلهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين والتعليم، وهذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه.
والثاني: رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا أن ما جئت به حق من عند الله فإن الأوضاع المحيطة بك والحوادث والأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم وخمود الذكر والحرمان من التعلم والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والاحتباس بين قوم جهلة أخساء صفر الأيدي من مزايا المدنية وفضائل الإنسانية كانت جميعا أسبابا قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، ولا تقبض من عرى السعادة على مسكة، لكن الله سبحانه أنزل إليك ذكرا تتحدى به على الجن والإنس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا.
فالتفكر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع ولا لك من الأمر شيء وإن الله أنزله بعلمه وأيدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب العادية شيء.
هذا ما تفيده الآية الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها ومحصله أن قوله:{لتبين} إلخ، غاية للإنزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن متعلق{يتفكرون} المحذوف هو نحو قولنا: فيك لا قولنا: في الذكر.
لكن القوم ذكروا أن قوله:{لتبين} غاية للإنزال وأن المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك أنه حق ومعنى الآية على هذا: وأنزلنا إليك الذكر أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من أصول المعارف والأحكام والشرائع وأحوال الأمم الماضية وما جرى فيهم من سنة الله تعالى، ولرجاء أن يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى أنه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم.
وأنت خبير بأن لازم ذلك أولا شبه تحصيل الحاصل في إنزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم، والإنزال واحد، ولا مدفع له إلا أن يغير النظم إلى مثل قولنا: وأنزلنا إليك الذكر لتبينه لهم.
وثانيا: كون قوله:{إليك} مستدركا مستغنى عنه وخاصة بالنظر إلى قوله:{ولعلهم يتفكرون} وذلك أن الإنزال غايته التبيين ولا أثر في ذلك لكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنزل إليه دون غيره، وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بأنه حق من عند الله من غير نظر إلى من أنزل إليه، ولازم ذلك كون قوله:{إليك} زائدا في الكلام لا حاجة إليه.
وثالثا: انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } والآيات المتقدمة عليها.
وهاهنا وجه آخر يمكن أن يندفع به بعض الإشكالات السابقة وهو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الأحكام والشرائع وغيرها، ويكون قوله:{لتبين} غاية للإنزال، وقوله:{ولعلهم يتفكرون} معطوفا على مقدر وغاية للتبيين لا للإنزال، وهو خلاف ظاهر الآية، وعليك بإجادة التدبر فيها.
ومن لطيف التعبير في الآية قوله:{وأنزلنا إليك} و{ما نزل إليهم} بتفريق الفعلين بالأفعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة والتفعيل الدال على اعتبار التدريج، ولعل الوجه في ذلك أن العناية في قوله:{وأنزلنا إليك} بتعلق الإنزال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الإنزال، ولذلك أخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.
وأما الناس فإن الذي لهم من ذلك هو الأخذ والتعلم والعمل، وقد كان تدريجيا ولذلك عني به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل.
وفي الآية دلالة على حجية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان الآيات القرآنية، وأما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أوفيما يرجع إلى أسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغي أن يصغى إليه.
هذا في نفس بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره وأما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الآية وعدم نص معتمد عليه يعطي حجية بيانهم على الإطلاق.
وأما قوله تعالى:{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فقد تقدم أنه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.
هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة، وأما الخبر الحاكي له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم، وأما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر ولا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الأول وعدم إحراز البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر.
قوله تعالى:{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} هذه الآية والآيتان بعدها إنذار وتهديد للمشركين وهم الذين يعبدون غير الله سبحانه ويشرعون لأنفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الأعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلها سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أوسكون وأخذ أورد وفعل أوترك وهم على ما هم عليه من استكبار وغرور، كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الأخذ بدين الله ولزوم سبيله.
فقوله:{السيئات} مفعول{مكروا} بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين، وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق والتقدير: يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق.
وبالجملة الكلام لتهديد المشركين وإنذارهم بالعذاب الإلهي ويدخل فيهم مشركوا مكة، والكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله:{أ فأمن} بفاء التفريع.
والمعنى - والله أعلم - فإذا دلت الآيات البينات على أن الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته وأن الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وخير دنياهم وأخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله ويوحي إليهم بما تشتمل عليه الدعوة، فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون بالله ورسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق أهواءهم ويعملون السيئات هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض أويأتيهم العذاب وهم لا يشعرون، أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله.
قوله تعالى:{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } الفاعل هو الله سبحانه وقد كثرت في القرآن نسبة الأخذ إليه، وقيل: الضمير للعذاب، والتقلب هو التحول من حال إلى حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم وأعمالهم السيئة وانتقالهم من نعمة إلى نعمة أخرى من نعم الحياة الدنيا، قال تعالى:{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: آل عمران: 197.
فالمراد بأخذهم في تقلبهم أن يأخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله ورسله بالعذاب أوالمعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة، وهذا أنسب بالنظر إلى قوله:{فما هم بمعجزين}.
وقوله:{فما هم بمعجزين} في مقام التعليل لأخذهم في تقلبهم ومكرهم السيئات أي لأنهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلب عليه أوبالفرار من حكمه، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى:{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } التخوف تمكن الخوف من النفس واستقراره فيها فالأخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما فيكون الأخذ على تخوف مقابلا لإتيان العذاب من حيث لا يشعرون.
وربما قيل: إن الأخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة والطوفان وغيرهما.
وربما قيل: إن معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الأمن ثم الأمطار ثم الرخص ثم الصحة وهكذا.
وقوله:{ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف ويتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنه رءوف رحيم، وفي التعبير بقوله:{ربكم} إشارة إلى ذلك، وكونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الأولين ظاهر، وأما بالنسبة إلى الثالث فلأن الأخذ بالنقص لا يخلومن مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أوغيرها.
والكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل إحصاء لأنواع منه.
قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسي إلى الأشياء الجسمانية لأن المطلوب إلفات النظر إلى الأجسام ذوات الأظلال.
والتفيؤ من الفيء وهو الظل راجعا، ولذا قيل: إن الظل هو ما في أول النهار إلى زوال الشمس والفيء هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار، والظاهر أن الظل أعم من الفيء كما تقدم وتؤيده الآية.
فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله.
والشمائل جمع شمأل وهو خلاف اليمين، وجمعه باعتبار أخذ كل سمت مفروض خلف الشيء وعن يساره جهة شمال على حدة فهي شمائل تقابل اليمين كما أن عد كل شيء ذا أظلال بهذه العناية أخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين والشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة أخرى لا لأن الشيء المذكور جمع بحسب المعنى وإن كان مفردا بحسب اللفظ.
والدخور هو الخضوع والصغار.
وكون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على أن المراد بما خلق الله من شيء - ومن شيء بيان لما خلق الله – هو الأشياء المرئية، وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الأجسام الكثيفة التي لها ظلال كالجبال والأشجار والأبنية والأجسام القائمة على الأرض فلا يرد أن ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشيء لا يلازمه الظل كالأجرام العلوية المضيئة والأجسام الشفافة وأعراض الأجسام.
ولدفع هذا الإشكال جعل بعضهم قوله:{يتفيؤا ظلاله} إلخ، وصفا لشيء حتى يخص البيان بالأشياء المخلوقة التي لها أفياء وأظلال ولا يخلو من وجه.
والآية تهدي المشركين وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال الأجسام التي لها أظلال تدور عن يمينها وعن شمائلها فإنها تمثل سجودها لله وخضوعها له وصغارها قبال عظمته وكبريائه، وكذا سجود ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة.
فهي جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لأمره ممثلة للخضوع والصغار بهذا النسك الوجودي والعبادة التكوينية.
وهذا من أوضح الدليل على أن في العالم إلها معبودا واحدا هو الله سبحانه وأن من حقه أن يسجد له ويخضع لأمره، وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الإذعان بكونه سبحانه هو الإله الذي يجب الخضوع له والتوجه بالذلة والصغار إليه؟ وهل الدين الذي تتضمنه دعوة الأنبياء والرسل إلا الخضوع لله سبحانه والانقياد لأمره فيما أراد؟ فما بالهم ينكرون ذلك؟ وهم يرون ويعلمون أن ما على الأرض من أظلال الأجسام الكثيفة يسجد له، وما في السماوات والأرض من الملائكة والذوات ساجدة له منقادة لأمره حتى أرباب أصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فإنهم إما من الملائكة وإما من الجن وإما من كملي البشر، وهم جميعا داخرون له منقادون لأمره.
فمعنى الآية - والله أعلم -{أ ولم يروا} هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية ولدعوة النبوة أ ولم ينظروا{إلى ما خلق الله من شيء} من هذه الأجسام القائمة على بسيط الأرض من جبل أوبناء أوشجر أوأي جسم منتصب{يتفيؤا} ويرجع ويدور{ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} واقعة على الأرض تذللا وتعبدا له سبحانه{وهم داخرون} خاضعون صاغرون.
وقد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى:{وظلالهم بالغدووالآصال}: الرعد: 15، في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ } إلى آخر الآيتين.
ذكرت الآية السابقة سجود الظلال وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله، وتذكر هذه الآية سجود ما في السماوات والأرض من دابة - والدابة ما يدب ويتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان - بحقيقة السجود التي هي نهاية التذلل والتواضع قبال العظمة والكبرياء فإن صورة السجدة التي هي خرور الإنسان ووقوعه على وجهه على الأرض إنما تعد عبادة إذا أريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور.
ويدخل في عموم الدابة الإنسان وكذا الجن لأنه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد أن لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الإنسان والحيوان، ولم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة وأفردهم بالذكر، وفي ذلك من التلويح إلى أن ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول والصعود والذهاب والمجيء مما ظاهره النقلة والحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب والانتقال المكاني ما لا يخفى.
فقوله:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ } أي له يخضع وينقاد خضوعا وانقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له.
وفي الآية دلالة على أن في غير الأرض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها ويعيش فيها.
وقوله:{ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } الاستكبار والتكبر من الإنسان أن يعد نفسه كبيرا ويضعه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق وهوالكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر وليس يقال: مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فإن الاستكبار بحسب أصل هيئته طلب الكبر ولازمه أن لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه وإنما يطلب الكبر والعلوعلى غيره دعوى فكان مذموما، وأما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو التكبر الحق أولم يكن له إلا دعوى وغرورا كما في غيره.
فتبين بذلك أن الاستكبار مذموم دائما أما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلأن الفقر والحاجة قد استوعبهما جميعا وشيء منهما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره فاستكبار أحدهما على الآخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره وظلم وطغيان.
وأما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم إلا مع دعوى المخلوق الاستقلال والغنى لنفسه وذهوله عن مقام ربه فإن النسبة بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فإن الصغير الوضيع القائم أمام الكبير المتعالي وهو يشاهد صغار نفسه وذلته وكبرياء من هو أمامه وعزته لا يتيسر له أن يرى لنفسه كبرياء وعزة إلا أن يأخذه غفلة وذهول.
وإذ كان الكبرياء والعلولله جميعا فدعواه الكبرياء والعلو تغلب منه على ربه وغصب منه لمقامه واستكبار واستعلاء عليه دعوى، وهذا هو الاستكبار بحسب الذات ويتبعه الاستكبار بحسب الفعل وهو أن لا يأتمر بأمره ولا ينتهي عن نهيه فإنه ما لم ير لنفسه إرادة مستقلة قبال الإرادة الإلهية مغايرة لها لم ير لنفسه أن يخالفه في أمره ونهيه.
وعلى هذا فقوله:{وهم لا يستكبرون} في تعريف الملائكة والكلام في سياق العبودية دليل على أنهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى ولا يذهلون عن الشعور بمقامه ومشاهدته.
وقد أطلق نفي الاستكبار من غير أن يقيده بما بحسب الذات أوبحسب الفعل فأفاد أنهم لا يستكبرون عليه في ذات ولا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه ولا يستنكفون عن عبادته ولا يخالفون عن أمره، ولبيان هذا الإطلاق والشمول عقبه بيانا له بقوله:{يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} وأشار بذلك إلى نفي الاستكبار عنهم ذاتا وفعلا.
توضيح ذلك أن قوله:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } يثبت لهم الخوف من ربهم والله سبحانه ليس عنده إلا الخير ولا شر عنده ولا سبب شر يخاف منه إلا أن يكون الشر وسببه عند العبد وقد أخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أوعصيان أمره كما في قوله:{ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }: إسراء: 57.
فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وإن لم يكن عنده إلا الخير، والخوف إنما يكون من شر مترقب إلا أن حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوي الظاهر بقوته، وانكسار الصغير الوضيع أمام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط.
ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله:{يخافون ربهم} بقوله{من فوقهم} فإن فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في مخافتهم، وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفي الاستكبار عن ذواتهم.
وأما قوله:{ويفعلون ما يؤمرون} فإشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل وقد تقدم أنه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في أمر بل يفعلون ما يؤمرون، وفي إتيان قوله:{يؤمرون} مبنيا للمجهول من التعظيم والتفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى.
فتبين أن الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم ولا يطرأ عليهم ذهول ولا سهوولا نسيان عن ذلك ولا يشغلهم عنه شاغل، وهم لا يريدون إلا ما يريده الله سبحانه.
وإنما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الآية بذكر شأنهم وتعريف أوصافهم وتفصيل عبوديتهم لأن أكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء وإله الأرض وإله الرزق وإله الجمال وغيرهم، وللدلالة على أنهم - بالرغم من زعم الوثنيين - أمعن خلق الله تعالى في عبوديته وعبادته.
ومن عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء كمثلنا أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما إدارتهم بين الخوف والرجاء فلأن الآية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم الرجاء.
وهو ظاهر الفساد أما الأمر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء والأرض وغيرهما قال تعالى:{ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }: فصلت: 11، وقال:{ويوم يقول كن فيكون}.
وأما استلزام الخوف للرجاء فإنما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب وأصابة المكروه وبين الرجاء، وقد تقدم أن الذي في الآية إنما هو خوف مهابة وإجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوي وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته وكبريائه ولا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء.
وقد استدل بالآية أيضا على أن الملائكة أفضل من البشر، وفيه أن من الممكن استظهار أفضليتهم من عصاة البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها مسوقة في مقام المدح وأما غيرهم فلا تعرض للآية لهم إثباتا ونفيا وسيأتي تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به إن شاء الله.
____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص208-219.
اِسألوا إِن كنتم لا تعلمون!
بعد أنْ عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين، يعود إِلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأُصول الدين من خلال إِجابته لأحد الإِشكالات المعروفة; حين يتقول المشركون: لماذا لم ينزل اللّه ملائكة لإِبلاغ رسالته؟ ... أو يقولون: لِمَ لَمْ يجهز النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟..
فيجيبهم اللّه عزَّ وجلّ بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ }.
نعم. فإِنّ أنبياء اللّه(عليهم السلام) جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إِنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.
في حين أن الملائكة لا تتمكن من إِدراك هذه الأُمور جيداً والاطلاع على ما يدور في أعماق الإِنسان بوضوح.
إِنّ وظيفة الأنبياء إِبلاغ رسالة السماء والوحي الإِلهي، وإِيصال دعوة اللّه إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي، وليس باستعمال قوى إِلهية خارقة للسنن الطبيعية لإِجبار الناس بقبول الدعوة وترك الإِنحرافات، وإِلاّ فما كان هناك فخر للإِيمان ولا كان هناك تكامل.
ثمّ يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة): { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }.
«الذكر»: بمعنى العلم والإِطلاع، و«أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإِذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب)، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين، وما تفسيرهم في واقعة إِلاّ تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه. لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.
وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أُخرى، إِلاّ أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإِسلام، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدراً جيداً بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.
يقول الراغب في مفرداته: إِنّ الذكر على معنيين، الأوّل: الحفظ. والثّاني: التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل: الذكر ذكران، ذكر بالقلب وذكر باللسان.. ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.
ثمّ تقول الآية التالية: {بالبيّنات والزّبر}(2).
«البينات»: جمع بيّنة، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إِشارة إِلى معاجز وأدلة إِثبات صدق الأنبياء(عليهم السلام) في دعوتهم.
«الزبر»: جمع زبور، بمعنى الكتاب.
فالبينات تتحدث عن دلائل إِثبات النّبوة، والزّبر إِشارة إِلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.
ومن ثمّ يتوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }، ليبيّن للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.
فدعوتك و رسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتباً ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإِنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).
لكلِّ ذنب عقابه:
ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الإِستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأُسلوب.
فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.
فتبتدأ القول: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسباً منهم لإِطفاء نور الحق والإِيمان { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ }.
فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أنْ تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مراراً لأقوام سابقة؟!
«مكروا السيئات»: بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وما مارسوه من إِيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.
«يخسف»: من مادة «خسف»، بمعنى الإِختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف)، يقال (بئر مخسوف) للذي إِختفى ماؤه، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفاً.
ثمّ يضيف: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}أيْ عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
وكما قلنا سابقاً، فإِنّ «معجزين» من الإِعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.
أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}.
فاليوم مثلا، يصاب جارهم ببلاء، وغداً يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى، فإِنْ استيقظوا فما أحسن ذلك، وإِلاّ فسيصيبهم العقاب الإِلهي ويهلكهم.
إِنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة، واللّه عزَّ وجلّ لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإِلهي:
الأوّل: الخسف.
الثّاني: العقاب المفاجىء الذي يأتي الإِنسان على حين غرة من أمره.
الثّالث: العذاب الذي يأتي الإِنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في ذلك.
الرّابع: العذاب والعقاب التدريجي.
والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف، وإِنْ وردت جميعها بخصوص {الذين مكروا السيئات} لعلمنا أنّ أفعال اللّه لا تكون إِلاّ بحكمة وعدل.
وهنا.. لم نجد رأياً للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع، ولكنْ يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأُولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف اللّه تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.
أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم، فيأتيهم العذاب الإِلهي بغتة وهم لا يشعرون.
والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إِلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة، حتى وإِنْ كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم اللّه تعالى وهم على تلك الحالة(3).
وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إِلى حيث اللارجعة، فيعذبهم اللّه بالتخويف. أيْ يحذرهم بإِنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإِنْ استيقظوا فهو المطلوب، وإِلاّ فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.
وعلى هذا، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإِلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السيئات، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع اللّه ولم يخربوا جميع جسور العودة.
سجود الكائنات للّه عزَّ وجلّ:
تعود هذه الآيات مرّة أُخرى إِلى التوحيد بادئةً بـ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }(4).
أيْ: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللّه يميناً وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!
ويقول البعض: إِنّ العرب تطلق على الظلال صباحاً اسم (الظل) وعصراً (الفيء)، وإِذا ما نظرنا إِلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة.. إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.
ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال، وإِنّ كلمة الفيء استعملت للجميع.. فيستفاد من ذلك: أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.
فعندما يقف الإِنسان وقت طلوع الشمس متجهاً نحو الجنوب فإِنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب)، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.
وهنا.. يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالا بعنوانها مظهراً لعظمته جل وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع.
أثر الظِلال في حياتنا:
ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إِلى هذه الحقيقة، فوضع القرآن الكريم إِصبعه على هذه المسألة ليسترعي الإِنتباه لها.
للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة:
1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا، فكذلك الظلال، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.
إِنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر، وبدون الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.
2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس، ألاَ وهو: إِنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء، بل لابدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.
وبعبارة أُخرى: إِنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل، فإِنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور.،
أيْ: كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القاتمة، فكذا الحال بالنسبة للنور التام، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).
وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّاً في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.
وثمّة ملاحظة أُخرى في الآية: وهي: ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».
فالإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجهاً للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(5).
واحتمل المفسّرون أيضاً: مع أن كلمة (اليمين) مفرداً إِلاّ أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(6).
وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عاماً شاملا لكل الموجودات المادية وغير المادية، وفي أي مكان، فتقول: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، مسلمين لله ولأوامره تسليماً كاملا.
وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إِلاّ مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.
وبما أنّ جميع مخلوقات اللّه في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإِرادة الإِلهية فإِنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزَّ وجلّ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله.. والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة.
«الدابة»: بمعنى الموجودات الحية، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.
وقد إِحتمل البعض: عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط، أيْ: إِنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.
ويبدو ذلك بعيداً بناءً على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ }.
صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، ولكنّ تخصيص الإِشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.
وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من: الإِنسان العاقل المؤمن، والملائكة، والحيوانات الأُخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الإِختياري والتشريعي وكذا التكويني الإِضطراري.
أمّا الإِشارة إِلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب، ولكنْ ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».
وروي في حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجوداً منذ خلقهم إِلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه تعالى، لا تقطر من دموعهم قطرة إِلاّ صارت ملكاً، فإِذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك»(7).
أمّا جملة {وهم لا يستكبرون} فإِشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيٌّ استكبار عند سجودها وخضوعها لله عزَّوجلّ.
ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الإِستكبار عنهم: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة: { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
ويستفاد من هذه الآية بوضوح.. أنّ علامة نفي الإِستكبار شيئان:
أ ـ الشعور بالمسؤولية وإِطاعة الأوامر الإِلهية من دون أي اعتراض، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.
ب ـ ممارسة الأوامر الإِلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك.. وهذا انعكاس للأول، وهو التحقيق العيني له.
وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة {من فوقهم} ليست إِشارة إِلى العلو الحسي والمكاني، بل المراد منها العلو المقامي، لأنّ اللّه عزَّوجلّ فوق كل شي مقاماً.
كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف: {وإِنّا فوقهم قاهرون} حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!
_____________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج7،ص65-76.
2 ـ أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة (بالبينات والزبر)... فقال بعضهم: إنّها متعلقة بـ «لا تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها، وقال بعض آخر: أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر»، وقال آخرون: إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة، وقال غيرهم: إنّها متعلقة بجملة «نوحي إِليهم»، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوماً معيناً للآية، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.
3 ـ مع أنّ «التقلب» لغةً، بمعنى التردد والذهاب والمجيء، مطلقاً ولكنْ في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.
4 ـ داخر: في الأصل من مادة (دخور) أيْ: التواضع.
5ـ تفسير القرطبي، ضمن تفسير الآية.
6 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج7، ص110.
7 ـ مجمع البيان، ذيل الآية المبحوثة.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|