أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-8-2016
1182
التاريخ: 5-9-2016
4343
التاريخ: 18-8-2016
992
التاريخ: 6-9-2016
929
|
...هيهنا قسم من القطع يسمّى بالقطع الموضوعي يؤخذ في موضوع الحكم بحيث لا يتحقّق الموضوع بدونه، نحو «إذا قطعت بنجاسة ثوبك فلا تصحّ الصّلاة فيه» فالموضوع لبطلان الصّلاة في هذا المثال هو القطع بنجاسة الثوب مع كون الثوب نجساً في الواقع، حيث إن القطع حينئذ جزء للموضوع، كما هو المشهور في محلّه وقد أفتى المشهور بعدم مانعية النجاسة الخبثيّة الواقعيّة عن صحّة الصّلاة، خلافاً للنجاسة الحدثيّة.
وهيهنا أبحاث ثلاثة:
البحث الأوّل: أنّه يستحيل أخذ القطع بعنوان الموضوع:
ويقع البحث فيه في ثلاث مواضع:
أحدها: أن يؤخذ في موضوع نفس الحكم.
ثانيها: أن يؤخذ في موضوع ضدّ الحكم.
ثالثها: أن يؤخذ في موضوع مثل الحكم.
والدليل على الاستحالة في كلّ واحد منها واضح، أمّا الأوّل فلاستلزامه الدور المحال مثل ما إذا قيل: «إذا قطعت بنجاسة هذا الثوب فهو ينجّس بنفس هذه النجاسة» أو قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بنفس هذا الوجوب».
أمّا الثاني: فلاستلزامه اجتماع المثلين كما إذا قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بوجوب آخر مثله».
وأمّا الثالث: فلاستلزامه اجتماع الضدّين مثل أن يقال: «إذا قطعت بوجوب شيء فهو يحرم».
وهذا كلّه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، ولكنّه بالنسبة إلى أصل المدّعى، إنّما الإشكال في كيفية الاستدلال على عدم الصحّة بالنسبة إلى القسمين الأخيرين، حيث إنّه لا استحالة لاجتماع الضدّين أو المثلين في الاُمور الاعتباريّة كما مرّ مراراً، بل الإشكال فيه من جهة قبحه ولغويته، فإنّ اجتماع المثلين لغو واجتماع الضدّين يستلزم التكليف بما لا يطاق، وصدور كلّ واحد منهما من جانب المولى الحكيم قبيح بلا ريب.
البحث الثاني: أخذ القطع موضوعاً:
أنّ القطع المأخوذ موضوعاً على أربعة أقسام: لأنّه تارةً يكون تمام الموضوع لحكم كما قيل به في مسألة الخوف بالضرر فإنّه تمام الموضوع لبعض الأحكام الشرعيّة فيترتّب عليه تلك الأحكام وإن لم يكن ضرر في الواقع، كما أنّه كذلك في الاُمور التكوينيّة أحياناً فيوجب علم الإنسان بضرر خاصّ تغيّر اللون أو ارتعاش البدن مثلا، سواء كان الضرر موجوداً واقعاً أو لم يكن.
واُخرى يكون جزء الموضوع، والجزء الآخر هو الواقع الذي تعلّق به القطع كما في القطع بنجاسة الثوب الذي أخذ جزءً في موضوع بطلان الصّلاة، فإذا قطعت بنجاسة الثوب وكان نجساً في الواقع تبطل الصّلاة، وأمّا إذا قطعت بها وصلّيت مع تمشّي قصد القربة وانكشف الخلاف وعدم نجاسة الثوب فالحقّ صحّة الصّلاة حينئذ، كما أنّه كذلك فيما إذا كان الثوب نجساً في الواقع ولكن لم يكن قاطعاً بها.
وعلى كلّ حال إنّ كلا من القطع المأخوذ تمام الموضوع والمأخوذ جزء الموضوع تارةً يكون
مأخوذاً بما هو طريق وكاشف عن الواقع، واُخرى بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة للقاطع أو المقطوع به، والفرق بينهما أنّ القطع من الصفات ذات الإضافة التي تحتاج إلى طرف آخر كالقدرة المحتاجة إلى المقدور (في قبال الصفات الحقيقة التي لا تحتاج إلى ذلك كالحياة ونحو ذلك من الصفات القائمة بالنفس من دون حاجة إلى طرف آخر)، فإنّ القطع من جهة نور لنفسه ويكون كمالا للنفس، ومن جهة اُخرى نور لغيره وكاشف عن غيره، أي الأمر المقطوع به، وحينئذ تارةً يمكن أن يلاحظ بما هو صفة قائمة بالنفس، واُخرى بما أنّه طريق وكاشف عن الغير، وبهذا تصير أقسام القطع الموضوعي أربعة، وبانضمام القطع الطريقي إليه تصير خمسة.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) أنكر هنا القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الكاشفيّة، وجعل الأقسام ثلاثة قائلا بأنّه غير معقول لأنّ معنى الأخذ على نحو الكاشفيّة أنّ للواقع دخلا في الموضوع وهو لا يجتمع مع أخذه تمام الموضوع، وفي قباله المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية والشيخ الحائري(رحمه الله) في الدرر أثبتا هذا القسم وجعلا الأقسام أربعة.
أقول: الحقّ أنّه وقع هنا بين المحقّق النائيني (رحمه الله) من جانب وبين العلمين المذكورين من جانب آخر مناقشة لفظيّة لأنّ لكلّ من الطرفين بل لكلّ واحد من الأعلام الثلاثة تفسيراً خاصّاً للقطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة يناسب مع ما ذهب إليه من الإنكار أو الإثبات.
أمّا المحقّق النائيني (رحمه الله) فيفسّر المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأنّ معناه أنّ للواقع دخلا في الموضوع، فبناءً على هذا التفسير يكون إنكاره في محلّه كما لا يخفى.
وأمّا المحقّق الخراساني(رحمه الله) فيقول: أنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّه وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصيّة اُخرى فيه معها كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه، فمراده من الكاشفيّة مجرّد النظر إلى الغير وصرف التعلّق بالغير سواء كان الغير موجوداً في الخارج أو لم يكن، لا أن يكون للواقع دخل.
كما أنّ المحقّق الحائري (رحمه الله) قال في الدرر: «والمراد من كونه ملحوظاً على أنّه صفة خاصّة ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ، ومن كونه ملحوظاً على أنّه طريق ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة، وبعبارة اُخرى: ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق
المعتبرة»(1). فمقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة في هذه العبارة أيضاً ليس كون الواقع دخيلا في الموضوع، بل المقصود مجرّد ملاحظة أنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة في قبال ملاحظة حالة المائة في المائة في المأخوذ على نحو الصفتية.
ولا يخفى أنّه بناءً على كلّ واحد من هذين التفسيرين يمكن تصوّر قسم رابع وهو كون القطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة تمام الموضوع، وبهذا يرتفع النزاع حقيقه بين الطرفين.
البحث الثالث: في أحكام القطع الموضوعي والطريقي وأنّه هل تقوم الطرق والأمارات مقامهما أو لا؟:
لا ريب في قيام الأمارات بنفس دليل حجّيتها (كآية النبأ) مقام القطع الطريقي المحض، كما لا ريب في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتيّة فلا شكّ في أنّه إذا أشار المولى إلى الشمس مثلا وقال: «بمثل هذا فاشهد» فأخذ القطع بما أنّه صفة خاصّة ودرجة خاصّة من العلم والكشف في موضوع الشهادة، فلا تجوز الشهادة على مالكية زيد مثلا بمجرّد قيام البيّنة على أنّ هذا ملك له، أو ثبتت مالكيته بالقرعة.
إنّما الكلام في قيامها مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة.
قال الشيخ (قدس سره) في الرسائل: «ثمّ من خواص القطع الذي طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة والاُصول العمليّة مقامه في العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل الحكم فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع قامت الأمارات والاُصول مقامه، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره»(2).
فظاهر كلامه هذا أنّ الطرق والأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الكاشفيّة مطلقاً سواء كان جزءً للموضوع أو تمام الموضوع.
لكن المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذهب في الكفاية إلى عدمه، حيث قال: «إنّ القطع المأخوذ بهذا النحو (على نحو الكاشفية) في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً (أي كسائر الصفات التي لها دخل في موضوعات الأحكام) فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل اعتباره ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله».
أقول: لم يقم أحد من العلمين دليلا على مدّعاه، وكأنّ كلّ واحد منهما أرسلها إرسال قضايا قياساتها معها، والإنصاف أنّ المشكلة هنا أيضاً تنحلّ بما مرّ آنفاً من لزوم ملاحظة التفاسير الثلاثة التي ذكرت لأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة فيثبت بذلك أنّ النزاع في هذا المقام أيضاً لفظي.
بيان ذلك: أنّ ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) كون مراده من المأخوذ على وجه الكاشفيّة أنّ ما أخذ في الموضوع هو جامع الكاشف وجنس الكاشف الذي يكون القطع مصداقاً من مصاديقه كما صرّح بهذا التفسير المحقّق الحائري(رحمه الله) في الدرر (وقد مرّ بيانه) ولا ريب أنّه بناءً على هذا التفسير يقوم مقام القطع سائر مصاديق الكاشف بلا إشكال.
وأمّا المحقّق الخراساني(رحمه الله) فقد مرّ أنّ مقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة أنّ تلك الحالة، أي حالة المائة في المائة أخذت في الموضوع من جهة أنّها منوّرة لغيره لا من جهة أنّها تؤثّر في نفسه، ولا إشكال (حتّى عند الشيخ (قدس سره)) في عدم قيام الأمارات مقام هذه الدرجة من العلم، فالمناقشة بين العلمين لفظيّة نشأت من اختلاف التفسير للقطع الموضوعي على وجه الطريقيّة.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) بعد هذا أورد على نفسه ما حاصله: أنّه يكفينا لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة إطلاق دليل تنزيلها منزلة القطع الشامل ذلك الإطلاق لجميع آثار القطع من الطريقيّة والموضوعيّة، فإنّ إطلاق دليل اعتبار الأمارة ينزّل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره ولوازمه المترتّبة عليه من كونه طريقاً محضاً وموضوعاً حتّى على نحو الصفتية.
وأجاب عن هذا بأنّ هذا الإطلاق ممتنع في المقام لاستلزامه اجتماع اللحاظين المتضادّين لأنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالا لأنّ مقتضى موضوعيّة شيء هو استقلاله في اللحاظ من دون كونه تبعاً للغير، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير وهو الواقع المنكشف به فيستلزم منه لحاظ المنزّل عليه وهو القطع بلحاظين متضادّين في إنشاء واحد وهو محال.
أقول: ويرد عليه: إنّ جوابه هذا مبنيّ على ما ذهب إليه في البحث عن حقيقة الاستعمال من أنّ استعمال اللفظ في المعنى فناؤه فيه حقيقة، وقد مرّ الجواب عنه، فقد قلنا أنّ حقيقة الاستعمال هو جعل اللفظ علامة للمعنى والبناء على إرادته عنده، ولذلك لا مانع من استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ومن احضار معاني متعدّدة في الذهن ثمّ استعمال لفظ واحد في جميعها.
هذا ولكن نحن أيضاً نمنع عن إطلاق أدلّة حجّية الأمارات لكن لا من باب اجتماع اللحاظين المتضادّين بل من باب انصراف أدلّة حجّية الأمارات عن القطع الموضوعي فإنّها ناظرة بظهورها إلى القطع الطريقي المحض فقط.
وللمحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام بيان آخر لجواز قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة، والنكتة الأساسيّة الرئيسة في كلامه (بعد أن جعل عمدة ما يتصوّر أن يكون مانعاً عن القيام ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من الجمع بين اللحاظين) تفسير ذكره لحجّية الطرق والأمارات، وهو أنّ دليل الحجّية إنّما ناظر إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً وإليك نصّ كلامه: «أنّه ليس معنى حجّية الطريق مثلا تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ولا تنزيله منزلة القطع حتّى يكون المؤدّى واقعاً تعبّداً أو يكون الأمارة علماً تعبّداً، بداهة أنّ دليل الحجّية لا نظر له إلى هذين التنزيلين أصلا وإنّما نظره إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً، نعم لابدّ وأن يكون المورد قابلا لذلك بأن يكون له كاشفيّة عن الواقع في الجملة ولو نوعاً إذ ليس كلّ موضوع قابلا لإعطاء صفة الطريقيّة والمحرزيّة له فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت البيّنة على خمريته مثلا خمر تعبّداً أو أنّ نفس البيّنة علم تعبّداً فممّا لا محصّل له وليس له معنى معقول إذ الخمريّة أو العلم من الاُمور التكوينيّة الواقعيّة التي تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى أنّ لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر وإنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمريّة أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة من باب الضيق في التعبير، وبالجملة ما يكون قابلا لتعلّق الجعل التشريعي به كيفية المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفيّة والطريقيّة لما ليس كذلك بحسب ذاته من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم. وبعبارة اُخرى له في موضع آخر: أنّ مفاد حجّية الأمارات هو تتميم الكشف أي يكمّل الشارع بأدلّة الحجّية الكشف الظنّي الموجود في الأمارة).
ثمّ أشار إلى ما مرّ من إشكال الجمع بين اللحاظين بأنّ بناء هذا الإشكال على تخيّل أنّ دليل الاعتبار إنّما يتكفّل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى أو أحكام القطع للأمارة فيكون تعميماً في الموضوعات الواقعيّة أو في العلم المأخوذ في الموضوع واقعاً، وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلا بل غاية شأنه هو إعطاء الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين المتنافيين»(3).
أقول يرد عليه:
أوّلا: ما المراد بإعطاء صفة الكاشفيّة لما ليس كاشفاً؟ أليست الكاشفيّة أيضاً من الاُمور التكوينيّة غير القابلة للجعل؟ فما ليس بعلم تكويناً وواقعاً كيف يمكن جعله علماً؟ أليس هذا إلاّ كرّ على ما فرّ منه؟
إن قلت: فما هو معنى الحجّية في رأيكم؟
قلت: يمكن أن يبيّن لها معنيان:
الأوّل: تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بحسب الأحكام والآثار الشرعيّة، فمعنى «صدّق العادل» مثلا «نزّل ما أخبر العادل بخمريته مثلا منزلة الخمر الواقعي في أحكامه».
الثاني: جعل حكم طريقي مماثل للحكم الواقعي، أي ينشأ دليل حجّية خبر العادل فيما إذا أخبر عادل عن خمريّة شيء حرمةً لذلك الشيء مثل حرمة الخمر الواقعي.
ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل هو ظاهر لسان الأدلّة، حيث إن الخبر الذي يقول مثلا: «ما رواه عنّي فعنّي يروي» يعني «رتّب على ما رواه الآثار والأحكام الشرعيّة»، والعمدة أنّ الذي يقبل التشريع هو الاُمور الاعتباريّة مثل الأحكام الشرعيّة لا غيرها.
ثانياً: سلّمنا إمكان إعطاء الكاشفيّة، لكن ليس هو لسان أحد من أدلّة الاعتبار فليس معنى مفهوم آية النبأ (وهو: إذا جاءكم عادل فلا تبيّنوا) اُعطيت خبر العادل صفة الكاشفية كما لا يخفى.
ثالثاً: سلّمنا ذلك، ولكن نتيجته أنّ لدينا قسمين من القطع: قطعاً تكوينياً وقطعاً تشريعياً، وظاهر أدلّة أخذها في الموضوع هو القطع التكويني فقط، فالقطع التشريعي الحاصل بتتميم الكشف وإعطاء صفة الطريقية خارج عن منصرفها.
وبالجملة فالمختار في المقام أنّه إن كان المراد من الأخذ على نحو الكاشفيّة أخذ جامع الكاشف فلا إشكال في قيام الأمارة مقامه، وإن كان المراد منه أخذ القطع بما أنّه كاشف تامّ فلا إشكال أيضاً في عدم قيام الأمارة مقامه لأنّ كشف الأمارة كشف ناقص.
هذا تمام الكلام في قيام الأمارات مقام القطع.
أمّا قيام الاُصول مقامه فلنبدأ فيه ببيان أقسامها فنقول: قد قسّمها بعض الأكابر إلى الاُصول المحرزة وغير المحرزة، والحقّ أنّ محرزيّة شيء بالنسبة إلى الواقع تنافي كونه من الاُصول العمليّة التي أخذ في موضوعها الشكّ بالواقع، وعليه فلا محصّل لهذا التقسيم.
اللهمّ إلاّ أن يقال: أنّه مجرّد اصطلاح لكلّ أصل عملي له نظر إلى الواقع وإن لم يكن كاشفاً ظنّياً، أو كان كذلك ولكن لم يكن الكشف الظنّي ملاك حجّيته شرعاً.
وكيف كان، قال المحقّق الخراساني (رحمه الله): «أمّا الاُصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره كما مرّت إليه الإشارة وهي ليست إلاّ وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلا، إلى أن قال: ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً».
وحاصل كلامه: أنّ غير الاستصحاب من الاُصول العمليّة لا يقوم مقام القطع لأنّ لسانها ليس لسان التنزيل وترتيب الآثار بل هي ليست إلاّ مجرّد وظائف عملية للجاهل، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان لسان أدلّته لسان التنزيل ولها نظر إلى الواقع إلاّ أنّ دليل الاستصحاب مثل قوله (عليه السلام) «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ» لابدّ أن يكون ناظراً إمّا إلى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة القطع به، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن، ولا يعقل أن يكون ناظراً إلى كلا التنزيلين لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدّم منه (قدس سره) في قيام الأمارات.
أقول يرد عليه:
أوّلا: ما مرّ من أنّ الإشكال في المقام ليس هو الجمع بين اللحاظين، بل الإشكال أنّ الأدلّة
منصرفة عن القطع الموضوعي، فمثل قوله «لا تنقض اليقين» المعنى المستظهر منه هو ترتّب آثار الواقع المتيقّن أي الوضوء مثلا في مورد هذا الخبر، لا ترتيب آثار القطع.
ثانياً: ظاهر كلامه هذا أنّ الاُصول لا توجب تنجّز التكليف لأنّها ليست إلاّ وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل مع أنّه لا منافاة بينهما بل إنّها تنجّز التكليف الواقعي في صورة الإصابة وإن لم يكن لسانها لسان التنزيل منزلة الواقع.
فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الاُصول لا تقوم مقام القطع الموضوعي مطلقاً حتّى إذا فسّر القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأخذ جامع الكاشف لأنّه ليس لأصل عملي كاشفيّة وإن كان لسانه لسان التنزيل، وعليه فلا وجه لما ذهب إليه في تهذيب الاُصول من جواز قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.
بقي هنا شيء:
وهو ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله) من إنكاره القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية في لسان الأدلّة الشرعيّة، وأنّه لم نجد في الأحكام الفقهيّة حكماً أخذ في موضوعه القطع على نحو الصفتية.
فنقول في جوابه: إن كان المراد من القطع المأخوذ على نحو الصفتية تلك الدرجة العالية من العلم أي حالة المائة في المائة فيمكن أن يحمل عليها ما ورد في باب الشهادات عن علي بن غياث عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك»(4). وما ورد أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد سئل عن الشهادة قال: هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(5).
وإن كان المراد منه القطع بما أنّه صفة كماليّة للنفس فيمكن أيضاً أن يحمل عليه ما ورد في بعض الرّوايات من استحباب إكرام العالم أو استحباب النظر إلى وجه العالم حيث إن العلم في هذين الحكمين لم يؤخذ بما أنّه كاشف لغيره بل بما أنّه نور في نفسه وصفة كماليّة للنفس كما لا يخفى.
___________
1. درر الفوائد: ج2 ص330 ـ 331، طبع جماعة المدرّسين.
2. الرسائل: ج1، ص6، طبع جماعة المدرّسين.
3. أجود التقريرات: ج2، ص12 ـ 13.
4. وسائل الشيعة: ج 1، الباب20، من أبواب الشهادات.
5. المصدر السابق: ح3.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|