أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-7-2020
3680
التاريخ: 20-7-2020
3380
التاريخ: 16-7-2020
21456
التاريخ: 14-7-2020
3833
|
قال تعالى: {هُو الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُو شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُو بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُووَالْآصَالِ } [الرعد: 12، 15]
تفسير مجمع البيان
أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: تخويفا وإطماعا فأقام الخوف والطمع مقام التخويف والإطماع وذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن المعنى خوفا من الصواعق التي يكون معها وطمعا في الغيث الذي يزيل القحط عن الحسن وأبي مسلم ( والثاني ) خوفا للمسافر من أن يضل الطريق فلا يمكنه المسير وطمعا للمقيم في نموالزرع والخير الكثير عن قتادة والضحاك والجبائي ( الثالث ) خوفا لمن يخاف ضر المطر لأنه ليس كل بلد ينتفع فيه بالمطر وطمعا لمن يرجوالانتفاع به عن الزجاج.
{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أي: ويخلق السحاب الثقال بالماء يرفعها من الأرض فيجريها في الجو{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} تسبيح الرعد دلالته على تنزيه الله تعالى ووجوب حمده فكأنه هو المسبح وقيل إن الرعد هو الملك الذي يسوق السحاب ويزجره بصوته وهو يسبح الله تعالى ويحمده وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن ربكم سبحانه يقول لوأن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد وكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا سمع صوت الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده وكان ابن عباس يقول سبحان الذي سبحت له وروي سالم بن عبد الله عن أبيه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا سمع الرعد والصواعق قال اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك وقال ابن عباس من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته { وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي: ويسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته قال ابن عباس إنهم خائفون من الله تعالى ليس كخوف ابن آدم لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء.
{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } ويصرفها عمن يشاء إلا أنه حذف وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكرا { وهم يجادلون في الله } يعني أن هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد ويحاولون فتلهم(2) عن مذاهبهم بجدالهم لأن معنى الجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه عنى بذلك أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة العامري لأمه وعامر بن طفيل وذلك أنهما أتيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يجادلانه ويريدان الفتك به وكان عامر أوصى إلى أربد إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف فجعل عامر يخاصم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويراجعه الكلام فدار أربد خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على سله وجعل عامر يؤمي إليه فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فرأى أربدا وما يصنع بسيفه فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف فأحرقته وولى عامر هاربا وقال يا محمد دعوت ربك فقتل أربدا والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا ولأربطن بكل نخلة فرسا فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) الله يمنعك من ذلك فنزل بيت امرأة من سلول وخرج على ركبتيه في الوقت غدة عظيمة فكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية حتى قتلته وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة يرثي أخاه أربدا :
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني البرق والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد (2)
{ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي: شديد الأخذ عن علي (عليه السلام) وقيل شديد القوة عن قتادة ومجاهد وقيل شديد النقمة عن الحسن وقيل شديد القدرة والعذاب عن الزجاج وقيل شديد الكيد للكفار عن الجبائي { له دعوة الحق } أي: لله سبحانه دعوة الحق واختلف في معنى دعوة الحق على أقوال ( أحدها ) أنها كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله عن ابن عباس وقتادة وابن زيد ( والثاني ) أن الله تعالى هوالحق فدعاؤه دعوة الحق ومن دعاه دعا الحق عن الحسن ( والثالث ) أنها الدعوة التي يدعى بها الله على إخلاص التوحيد عن الجبائي والمعنى أن من دعاه على جهة الإخلاص فهو يجيبه فله سبحانه من خلقه دعوة الحق { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي: والذين يدعوهم المشركون من دون الله لحاجاتهم من الأوثان وغيرها { لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } هذا مثل ضربه الله لكل من عبد غير الله ودعاءه رجاء أن ينفعه يقول إن مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم عن ابن عباس وقيل كباسط كفيه إلى الماء أي كالذي يدعوالماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه الماء عن مجاهد وقيل كالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فمات قبل أن يبلغ الماء فاه عن الحسن وقيل: إنه تمثيل العرب لمن يسعى فيما لا يدركه فيقول هو كالقابض على الماء عن أبي عبيدة والبلخي وأبي مسلم قال الشاعر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
وقال الآخر
فإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسعه أنامله
{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي: ليس دعاؤهم الأصنام من دون الله إلا في ذهاب عن الحق والصواب وقيل في ضلال عن طريق الإجابة والنفع ثم بين سبحانه كمال قدرته وسعة مملكته فقال { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني الملائكة وسائر المكلفين { طوعا وكرها } اختلف في معناه على قولين ( أحدهما ) أن معناه: أنه يجب السجود لله تعالى إلا أن المؤمن يسجد له طوعا والكافر يسجد له كرها بالسيف عن الحسن وقتادة وابن زيد ( والثاني ) أن المعنى ولله يخضع من في السماوات والأرض إلا أن المؤمن يخضع له طوعا والكافر يخضع له كرها لأنه لا يمكنه أن يمتنع من الخضوع لله لما يحل به من الآلام والأسقام عن الجبائي { وظلالهم } أي: ويسجد ظلالهم لله { بالغدو والآصال } أي: العشيات قيل إن المراد بالظل الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه قال الحسن: يسجد ظل الكافر ولا يسجد الكافر ومعناه عند أهل التحقيق أنه يسجد شخصه دون قلبه لأنه لا يريد بسجوده عبادة ربه من حيث إنه يسجد للخوف وقيل إن الظلال على ظاهرها والمعنى في سجودها تمايلها من جانب إلى جانب وانقيادها بالتسخير بالطول والقصر .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص22-25.
2- أي :صرفهم.
3- النوء:النجم. والسماك.كوكب.والأسد: برج معروف. ورجل نجد:شجاع ماض في الأمور.
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً ويُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ } . ان اللَّه سبحانه خلق الكون ، وللكون خصائص وسنن لها آثارها وظواهرها ، ومنها البرق والرعد والسحاب والصواعق ، وما إلى ذلك مما يشاهده العالم والجاهل ، والمؤمن والملحد .
ولا يعرف شيئا من حقائقها وطبيعتها الا أهل الاختصاص . . وأسندها سبحانه إليه ، ولم يسندها إلى الأسباب الكونية المباشرة ، أسندها إليه من باب اسناد الشيء إلى سببه الأول ، والغرض التذكير بأنه سبب الأسباب ، واليه وحده ترجع الأمور كلها .
وقوله تعالى : « خَوْفاً وطَمَعاً » ، إشارة إلى أن البرق قد يكون نذيرا بالصواعق ، وقد يكون بشيرا بالغيث ، فيخاف الإنسان من ذاك ، ويأمل بهذا في آن واحد .
{ ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } . المراد بتسبيح الرعد ما فيه من الدلالة على قدرة اللَّه وعظمته ، تماما كدلالة الكتابة على الكاتب ، والبناء على الباني ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : « وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ - 44 الاسراء » . أي يدل عليه ، وبتعبير ثان ان كل فعل حسن ومتقن فهو يدل على فاعله بطبعه ووضعه ، ويحمده ويثني عليه بلسان حاله . . وليس من شك ان كل ما في الكون متقن غاية الإتقان فهو يدل على خالقه بوضعه ويثني عليه بلسان حاله . . ومن الطريف قول بعض المتصوفة : ان الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم .
{ ويُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ } . وتسأل : ان كلا من الصواعق والزلازل ظاهرة من ظواهر الطبيعة وسننها . . ومن الواضح ان الطبيعة عمياء لا تميز بين الأنبياء والأشقياء ، وتعم الجميع بخيرها وشرها ، لا فرق عندها بين أشد المكروبات فتكا وإيذاء ، وبين أكثر الناس عبقرية وصلاحا ، مع أن قوله تعالى : « فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ » ، يشعر بالفرق ؟ .
الجواب : المراد بالصواعق هنا العذاب الذي أنزله سبحانه على الذين أصروا على الشرك ، وعاندوا أنبياءهم ورسلهم كقوم عاد وثمود بدليل قوله تعالى :
« فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ - 13 فصلت » ، وقوله : « فَقالُوا أَرِنَا اللَّهً جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ - 153 النساء » .
وتقدم أكثر من مرة ان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض .
{ وهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ } . ضمير ( هم ) يعود إلى المشركين ، والمعنى ان هؤلاء يجادلون في قدرة اللَّه وعظمته ، وفي محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ونبوته ، والبعث وإمكانه ، يجادلون ويكابرون مع ظهور الدلائل على قدرة اللَّه ، والمعجزات الباهرة على نبوة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ونزول العذاب على من جحد وأنكر البعث والحساب { وهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ } أي شديد القوة والبطش بأعدائه وأعداء أوليائه . وبالاختصار المشركون يجادلون بالقول ، واللَّه يبطش بالفعل « ان بطش ربك لشديد » .
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } . ان اللَّه هو الحق ، فمن عمل له ، وتوكل عليه أجزل له الثواب ، ومن عصى وتمرد حق عليه العقاب ، ومن دعا غيره كالأصنام ونحوها فقد دعا باطلا وسرابا ، وحجرا وجمادا لا يضر ولا ينفع { وما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } تماما كالظامئ يحسب الدخان سحابا ، والسراب ماء ، فيمد كفيه ليملأهما بالماء ، ويفتح فاه ليشرب ويبرد من غلته ، وإذا بالآمال تتبخر إلى حسرات وزفرات .
{ ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً } . مر نظيره مع التفسير في الآية 83 من سورة آل عمران ج 2 ص 101 .
{ وظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والآصالِ } . الظل خيال الجسم الذي يلازمه ويتحرك بحركته ، تماما كصورة الشيء في المرآة ، وخص سبحانه الغدوات والعشايا بالذكر لأن الظل يطول ويمتد في هذين الوقتين ، والمعنى ان من في السماء والأرض يسجد للَّه ، وكذلك ظلالهما تسجد له .
وتسأل : ان الظل ما هو بشيء في ذاته ، واسمه يدل عليه ، وانما هو تبع لصاحبه ، ولذا يضرب المثل به على العدم واللا شيء ، فكيف جعله اللَّه طرفا مقابلا لصاحبه ، وعطف أحدهما على الآخر .
وأجاب الصوفية بأن المراد بمن في السماوات والأرض الأجسام ، وبالظلال الأرواح . . والذي نفهمه نحن ان الظلال كناية عن التعميم لكل شيء ، وان كل ما في الكون يسجد للَّه ، أي يقر بوجوده من باب دلالة المصنوع على الصانع ، حتى الظل يسجد له لو كان شيئا مذكورا .
________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 388-390.
قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.
والإراء إظهار ما من شأنه أن يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية والإبصار، والتقابل بين قوله:{يريكم} وقوله:{ينشىء} يؤيد المعنى الأول.
وقوله:{خوفا وطمعا} مفعول له أي لتخافوا وتطمعوا، ويمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير{كم} أي خائفين وطامعين.
والمعنى: هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف والطمع كما أن المسافر يخافه والحاضر يطمع فيه، وأهل البحر يخافونه وأهل البر يطعمون فيه ويخاف صاعقته ويطمع في غيثه، ويخلق بإنشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها، وفي ذكر آية البرق بالإراءة وآية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.
قوله تعالى:{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} إلخ، الصواعق جمع صاعقة وهو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق ورعد، والجدل المفاوضة والمنازعة في القول على سبيل المغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، والمحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره وقاواه ليتبين أيهما أشد وجادله لإظهار مساويه ومعائبه فقوله:{ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} معناه - والله أعلم - أن الوثنيين - وإليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم كالتمسك بدأب آبائهم والله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم ومعائبهم قدير على إظهارها وفضاحتهم.
قوله تعالى:{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} إلى آخر الآية الدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي ويتأتى غالبا بلفظ أو إشارة، والاستجابة والإجابة إقبال المدعو على الداعي عن دعائه، وأما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة واشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء والاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.
نعم: الدعاء إنما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن أن يوجه إلى الداعي وذا جدة وقدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء وأما دعاء من لا يفقه أو يفقه ولا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء وإن كان في صورته.
ولما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله{له دعوة الحق} وبين قوله:{والذين يدعون من دونه} إلخ، الذي يذكر أن دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك أن المراد بقوله:{دعوة الحق} الدعوة الحقة غير الباطلة وهي الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة، وهذا من صفاته تعالى وتقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب وهو الغني ذو الرحمة وقد قال:{ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}: البقرة: 186 وقال:{ادعوني أستجب لكم}: المؤمن: 60 فأطلق ولم يشترط في الاستجابة إلا أن تتحقق هناك حقيقة الدعاء وأن يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.
فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقة بعناية أن الحق والباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق وهو الذي لا يتخلف عن الاستجابة، وقسم منه للباطل وهو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.
فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة أنه عليم بكل شيء وأن له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أن له حقيقة الدعاء والاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير، وقد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات والنفي أعني إثبات حق الدعاء لنفسه ونفيه عن غيره.
أما الأول فقوله:{له دعوة الحق} وتقديم الظرف يفيد الحصر ويؤيده ما بعده من نفيه عن غيره، وأما الثاني فقوله:{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } وقد أخبر فيه أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء وقد بين ذلك في مواضع من كلامه فإن هؤلاء المدعوين إما أصنام يدعوهم عامتهم وهي أجسام ميتة لا شعور فيها ولا إرادة، وإما أرباب الأصنام من الملائكة أوالجن وروحانيات الكواكب والبشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف بغيرهم ولله الملك كله وله القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى.
ثم استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط وهي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:{ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}.
فإن الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه ويتناوله ويبلغ فاه ويرويه وهذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى ورشاد، وأما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشيء غير أنه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه وليس له من طلبه إلا صورته فقط.
ومثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وليس له من الدعاء إلا صورته الخالية من المعنى واسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشيء ولا يقضون حاجتهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ويقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلا صورة الطلب ببسط الكفين.
ومن هنا يعلم أن هذا الاستثناء{إلا كباسط كفيه} إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه ولا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده أن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ولن يستجاب له، وبعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم إلا أن لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة.
وهذا من لطيف كلامه تعالى ويناظر من وجه قوله تعالى الآتي:{قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا} وآكد منه كما سيجيء إن شاء الله.
وقد تبين بما تقدم: أولا: أن قوله:{دعوة الحق} المراد به حق الدعاء وهو الذي يستجاب ولا يرد البتة، وأما قول بعضهم: إن المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.
وثانيا: أن تقدير قوله{والذين يدعون} إلخ بإظهار الضمائر: الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشيء.
وثالثا: أن الاستثناء من قوله:{لا يستجيبون لهم بشيء} وفي الكلام حذف وإيجاز والمعنى: لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينيلونهم شيئا إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وينال من بسطه، ولعل الاستجابة مضمن معنى النيل ونحوه.
ثم أكد سبحانه الكلام بقوله:{وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى وهي أنه لا غرض لدعاء إلا الله سبحانه فإنه العليم القدير والغني ذوالرحمة فلا طريق له إلا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره وجعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض والغاية وخرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فإن الضلال هو الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.
قوله تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:{وخروا له سجدا}: يوسف: 100، وقال:{يخرون للأذقان سجدا}: الأسراء: 107.
والواحدة منه سجدة.
والكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف وما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها والطوع يقابل الكره مطلقا.
وقال الراغب: الغدوة والغداة من أول النهار، وقوبل في القرآن الغدو بالآصال نحوقوله:{وبالغدو والآصال} وقوبل الغداة بالعشي قال:{بالغداة والعشي} انتهى والغدو جمع غداة كقنى وقناة وقال في المجمع،: الآصال جمع أصل - بضمتين - وأصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.
والأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة والتقدم الذي يمثل به السيادة والركوع الذي يظهر به الصغر والصغار والسجود الذي يظهر به نهاية تذلل الساجد وضعته قبال تعزز المسجود له واعتلائه تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما وكما أن الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر والصغار الخاص ركوع وكما أن الخرور على الأرض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية أن الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.
وهذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود وما يناظره من القنوت والتسبيح والحمد والسؤال ونحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:{كل له قانتون}: البقرة: 116 وقوله:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: الأسراء: 44 وقوله:{ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: الرحمن: 29 وقوله:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }: النحل: 49.
والفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية وبينها وهي واقعة في ظرف الاجتماع الإنساني أن الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنها إنما توجد فيها بنوع من الوضع والاعتبار فذلة المكونات وضعتها تجاه ساحة العظمة والكبرياء ذلة وضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض ووضع الجبهة عليها فإنه ذلة وضعة بحسب الوضع والاعتبار ولذلك ربما يتخلف.
فقوله تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أخذ بما تقدم من النظر ولعله إنما خص أولي العقل بالذكر حيث قال:{من في السماوات والأرض} مع شمول هذه الذلة والضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة وكما يشعر به ذيل الآية حيث قال:{وظلالهم} إلخ، لأن الكلام في السورة مع المشركين والاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات والأرض طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له.
ولذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.
ثم إن هذا التذلل والتواضع، الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز وعلا، خضوع ذاتي لا ينفك عنها ولا يتخلف فهو بالطوع البتة وكيف لا وليس لها من نفسها شيء حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع وجموح وقد قال تعالى:{ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: فصلت: 11.
فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى وتقطع دابر الكره عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة وهي أن بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها ومبتغياتها أسباب أخر وهي الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما زوحمت في مآربها ومنعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة ولا شك أن مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب.
فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشئون الراجعة إليها غير أنها فيما يخالف طباعها كالموت والفساد وبطلان الآثار والآفات والعاهات ونحو ذلك ساجدة له كرها، وفيما يلائم طباعها كالحياة والبقاء والبلوغ إلى الغايات والظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم إن المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد خوفا من السيف وقد نسب القول به إلى الحسن.
وكذا قول بعض: إن المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل إلا أن ذلك من المؤمن خضوع طوع ومن الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام والأسقام ونسب إلى الجبائي.
وكذا قول آخرين: إن المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات والأرض من أولي العقل وغيرهم والتعبير بلفظ يخص أولي العقل للتغليب.
وأما قوله.
{وظلالهم بالغدووالآصال} ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإن الظل وإن كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلا أن له آثارا خارجية وهو يزيد وينقص في طرفي النهار ويختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده وآثاره لله ويسجد له.
وهي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لا لما قيل: إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر وما بعده كما وقع في قوله:{ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}: طه: 130.
بل النكتة فيه - والله أعلم - أن الزيادة والنقيصة دائمتان للأظلال في الغداة والأصيل فيمثلان للحس السقوط على الأرض وذلة السجود، وأما وقت الظهيرة و أوساط النهار فربما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت وكانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.
ولا شك في أن سقوط الأظلال على الأرض وتمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيؤها، وليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع أحوالها وآثارها والدليل على ذلك قوله:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }: النحل: 48 فإن العناية بذلك ظاهرة فيه.
وليس ذلك قولا شعريا وتصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى - وحاشاه - وقد نص أنه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحس نوع ظهور ويتمثل لها بوجه كان من الحري أن يستمد به في تعليم الأفهام الساذجة والعقول البسيطة ونقلها من مرتبة الحس والخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه من الحس والخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه.
ومن هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدووالآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولي العقل.
ومن هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله:{ويسبح الرعد بحمده} حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين والثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح والسحاب والبرق مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، وهذا تسبيح ذاتي منهم ودلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع والاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع والخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شيء من غير صوت قارع ولا لفظ موضوع.
ويقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى:{رفع السماوات بغير عمد ترونها} وقوله:{وفي الأرض قطع متجاورات} الآية إن التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لأن سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات والأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإن القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية وأنه تعالى فوق الجميع بل لأن الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس لبادىء نظرة تنبه الأفهام البسيطة وتمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها وينتهي البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه، وفي القرآن الكريم من ذلك شيء كثير.
وبالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو والآصال على الأرض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية ويسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية.
هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، وأما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنها توجد كما شاء أو القول بأن المراد بالظل هو الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه فإن هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص260-266.
قسمٌ آخر من دلائل عظمة الله:
يتطرّق القرآن الكريم مرّةً ثانية إلى آيات التوحيد وعلائم العظمة وأسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول أن تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الإشارة إلى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الإيمان في قلوب الناس، فتشير أوّلا إلى البرق { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب، ويحدث صوتاً مخيفاً وهو الرعد من جانب آخر، وقد يسبّب أحياناً الحرائق للناس وخصوصاً في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}القادرة على أرواء ظمأ الأراضي الزراعية.
بركات الرعد والبرق:
نحن نعلم أنّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي إقتراب سحابتين إحداهما من الأُخرى، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة، ويحدث مثل ذلك عند إقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتاً خفيفاً، ولكن لإحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الألكترونات فانّهما تحدثان صوتاً شديداً يسمّى الرعد.
وإذا ما إقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة، وخطورتها تكمن في أنّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر رأس السلك السالب، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن أن يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان إلى رماد في لحظة واحدة، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب أن يلجأ الإنسان إلى شجرة أو حائط أو إلى الجبال أو إلى أي مرتفع آخر، أو أن يستلقي في أرض منخفضة.
وعلى أيّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ فوائد جمّة عُرِفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا إلى ثلاثة منها:
1ـ السقي:ـ من الطبيعي أنّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّاً قد تصل بعض الأحيان إلى (15) ألف درجة مئوية، وهذه الحرارة كافية لأن تحرق الهواء المحيط بها، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.
وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).
2ـ التعقيم:ـ ونتيجةً للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الأوكسجين في قطرات الماء، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل أو الماء المؤكسد (H2O2) ومن آثاره قتل المكروبات، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح، فعند نزول هذه القطرات إلى الأرض سوف تُبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية، ولهذا السبب يقال أنّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.
3 ـ التغذية والتسميد:ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون، وعند نزولها إلى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعاً من السّماد النباتي، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.
يقول بعض العلماء: إنّ مقدار ما ينتجه البرق من الأسمدة في السنة يصل إلى عشرات الملايين من الأطنان، وهذه كميّة كبيرة جدّاً.
وعلى أيّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية، فيمكن أن تكون دليلا واضحاً لمعرفة الله، كلّ ذلك من بركات البرق. كما أنّه يمكن أن يكون البرق عاملا مهمّاً في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة، وقد تحرق الإنسان أو الأشجار، ومع أنّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها، فهي مع ذلك عامل خوف للناس، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون إشارة إلى جميع هذه الأُمور.
ويمكن أن تكون الجملة {وينشىء السحاب الثقال} لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.
الآية الأُخرى تشير إلى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق {ويسبّح الرعد بحمده}(2).
نعم، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يُضرب به المثل، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها، ويقومان بعملية التسبيح، وبعبارة أُخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي، وقصيدة غرّاء، ولوحة جميلة وجذّابة، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه، كلّ ذرّات هذا العالم لها أسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).
وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).
وقد إحتمل بعض الفلاسفة أنّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعاً من العقل والشعور، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه، ليس بلسان الحال فقط، بل بلسان المقال أيضاً.
وليس الرعد وسائر أجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى، بل حتّى الملائكة {والملائكة من خيفته}(3) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم، وبالتالي فهم يخشون العقاب الإلهي، ونحن نعلم أنّ الخوف يُصيب أُولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم .. خوف بنّاء يحثّ الشخص على السعي والحركة.
وللتوضيح أكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية إلى الصاعقة { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الإلهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى أنّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }.
«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية، ولهذا السبب يستطيع أن ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.
وذكر المفسّرون وجوهاً عديدة في تفسير {شديد المحال} فتارةً بمعنى «شديد القوّة»، أو «شديد العذاب»، أو «شديد القدرة» أو «شديد الأخذ»(4).
الآية الأخيرة تشير إلى مطلبين:
الأوّل: قوله تعالى: {له دعوة الحقّ} فهو يستجيب لدعواتنا، وهو عالم بدعاء العباد وقادرٌ على قضاء حوائجهم، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إيّاه وطلبنا منه حقّاً، وليس باطلا.
ولكن دعاء الأصنام باطل { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} نعم هكذا في دعوة الباطل ليست أكثر من وهم، لأنّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو إلاّ أوهام وخيال، أو ليس الحقّ هو عين الواقع وأصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم وأصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّاً ورائعاً يقول: { إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ }. فهل يستطيع أحد أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلاّ من إنسان مجنون!
وتحتمل الآية تفسيراً آخر، فهي تُشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئاً منه لأنّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.
وهناك تفسير ثالث وهو أنّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون إلى الأصنام، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده، هل يُحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له: هو كقابض الماء باليد، ويقول الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الودّ مثل القابض الماء باليد(5)
ولكنّنا نعتقد أنّ التّفسير الأوّل أوضح!
وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى: { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } وأيّ ضلال أكبر من أن يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ... ولكنّه لا يصل إلى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تَعبه وجهده.
الآية الأخيرة من هذه المجموعة، ولكي تُبرهن كيف أنّ المشركين ضلّوا الطريق تقول: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }.
_________________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج6،ص409-413.
2- للتوضيح أكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية {وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} الإسراء، 44.
3- يقول الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسيره التبيان: الخيفة بيان لحالة الشخص أمّا الخوف فمصدر.
4 ـ فسّر البعض «المحال» من «المحلّ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة، ولكن ما أشرنا إليه أعلاه هو الصحيح، والتّفسيران قريباً المعنى.
5- تفسير القرطبي ،ج5،ص3529.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|