أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-7-2020
1108
التاريخ: 1-9-2016
1532
التاريخ: 15-7-2020
1028
التاريخ: 15-7-2020
1248
|
أمّا الأدلّة التي أقاموها على الترجيح فامور نذكر بعضها:
منها: الإجماع بأقسامه من القولي والعملي المحقّق والمنقول.
وفيه أنّ الإجماع في مثل هذه المسألة التي يكون للعقل والنقل فيه سبيل، ويحتمل استناد المجمعين إلى تلك الوجوه العقليّة أو النقليّة، فهو ليس بدليل آخر في المسألة وراء تلك الوجوه، بل لا بدّ من النظر في تلك الوجوه، فإن لم نرها تامّة فلا محذور في المصير إلى الخلاف؛ لسقوط هذا الإجماع عن الكشف، هذا على تقدير تسليم محصليّة الإجماع القولي، فكيف الحال لو كان منقولا أو عمليّا؛ فانّ الترجيح العملي لا يلازم الترجيح القولي.
ومنها: أنّ العدول من الراجح إلى المرجوح قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا، فيجب العمل بالراجح لئلّا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.
وفيه أنّ المقصود إن كان الراجح بملاحظة الدواعي الشخصيّة للفاعل سلّمنا امتناعه، ولكن لا نسلّم أنّ تقديم غير ذي المزيّة من هذا القبيل، فإنّه ما لم يرجّح بنظره حسب دواعيه الشخصيّة لا يعقل أن نختاره، وإن كان المقصود هو الراجح العقلي فلا نسلّم الكبرى، بل قد عرفت أنّه مع قطع النظر عن التعبّد، الأصل الأوّلي هو التوقّف في المدلول المطابقي والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما، فليس الداعي إلى العمل بأحد الخبرين إلّا الأخبار، فلا بدّ من ملاحظتها، فإن دلّت على التخيير المطلق عمل به، وإن دلّت على الترجيح فكذلك، وإن قصرت دلالتها من هذه الجهة فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الذي اسّسناه.
ومنها: الأخبار الواردة من طرقنا المشتملة على جمع من وجوه الترجيح، وهذه هي العمدة في المقام، ولا بدّ من التيمّن بذكرها والنظر فيها، وقبل الشروع بذكر أخبار الترجيح ينبغي تقديم أخبار التخيير، فلو استفدنا منها التخيير المطلق وترجّح في النظر تقديم هذه الأخبار فالمرجع هو التخيير مطلقا، وإن ترجّح تقديم أخبار الترجيح أو اجمل الأمر، ففي موارد تلك المرجّحات المنصوصة في الأخبار نرجع إلى الأصل المؤسّس سابقا، ويكون المرجع في سائر مقامات الترجيح الغير المنصوصة هو التخيير أيضا.
وبالجملة، فالمستفاد من هذه الأخبار أصل ثانوي هو التخيير بعد ما عرفت أنّ الأصل الأوّلي بناء على الطريقيّة هو التعيين.
فنقول وباللّه التوكّل: أمّا أخبار التخيير
فمنها: خبر سماعه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال عليه السلام: يرجئه حتّى يلقي من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه».
والاستدلال به مبنيّ على أن لا يكون قوله: «في سعة» الخ من قبيل قوله: في سعة ما لا يعلمون، بأن كان المقصود هو الأمر بالتوقّف والإرجاع في مقام العمل إلى البراءة والسعة، فيكون هذا موافقا للأصل الأوّلي، بل كان المقصود هو الوسعة والاختيار في ما بين العمل بالخبرين، ولا يبعد هذا بقرينة قوله في الأخبار الأخر:
«موسّع عليك بأيّة عملت» حيث إنّ المراد به معلوم أنّه الحجيّة التخييريّة لا الإرجاع إلى الأصل، فمقتضى وحدة السياق أن يكون هو المراد في هذا الخبر أيضا، فيكون إطلاق السعة في خصوص باب الخبرين المختلفين ظاهرا في التخيير في المسألة الاصوليّة أعني الحجيّة.
ومنها: ما عن الحميري عن الحجّة روحي وارواح العالمين له الفداء إلى أن ذلك حديثان إلى أن قال عليه السلام: «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا».
والاستدلال به على العموم- مع عدم لفظ فيه بدل عليه وإنّما هو حكم في خصوص المورد الخاص ولعلّه لا يتجاوزه أو يتجاوزه إلى ما هو مشارك معه في الصنف من كون الخبرين معا في المستحبّات- مبنيّ على استفادة التعليل من قوله في الجواب عن ذلك حديثان؛ لقوله عليه السلام: وبأيّهما أخذت الخ، كما لعلّة لا يبعد، فلو كان الحكم خاصّا بباب المستحبّات أو بخصوص الخبرين المتعادلين لكان الواجب التنبيه على ذلك وعدم الاكتفاء بخصوص المورد؛ فإنّ خصوص المورد لا يخصّص الوارد، فيعلم منه بعد ذلك أنّ ورود الحديثين المختلفين مطلقا في أيّ واقعة كانت، متعادلين كانا أم متفاوتين يكون الحكم فيه هو التخيير.
ثمّ إنّ في هذا الخبر إشكالا آخر وهو أنّ الحديثين المذكورين فيه من قبيل العام والخاصّ الذي تقدّم منّا عدم إدراجه في موضوع التعارض، فلا بدّ إمّا من القول بأنّ العام والخاص أيضا من قبيل المتعارضين ونرجع فيهما إلى اخبار العلاج، وإمّا من القول بأنّ خصوص هذا العام والخاصّ المذكورين في كلامه صلوات اللّه عليه كانا بحيث لا بدّ من معاملة التعارض بينهما؛ لاحتفاف العام بقرائن لم يقبل الحمل على الخاص، فصار في الظهور مساوقا مع الخاص.
ومنها: ما عن الحسن بن الجهم عن الرضا صلوات اللّه عليه «قال: قلت له عليه السلام: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال عليه السلام: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال عليه السلام: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».
دلالة هذا الحديث على التخيير وعمومه لما إذا كان لأحد الخبرين مزيّة، واضح، ويستفاد منه مطلب آخر أيضا وهو أنّ ما ذكره عليه السلام في الصدر إنّما يكون في مقام التمييز للحجّة عن غير الحجّة وتمييز الصادق عن الكاذب، وهو غير الترجيح للحجّة على الحجّة، ويشهد لهذا أنّ السائل ذكر عقيب ذلك «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة» ففرض أنّ المورد مورد لا يقبل الكذب المخبري، فاجابه عليه السلام بالتخيير، فيعلم منه أنّ مفروض الصدر هو مورد لم يفرغ عن حجيّة قول المخبر، فأحاله عليه السلام إلى علامات يميّز بها الصادق عن الكاذب.
ومنها: ما عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ إليه» عجّل اللّه تعالى فرجه.
والاستدلال بهذا الخبر على التخيير مع عدم ذكر الاختلاف في الحديث فيه أمران، أحدهما قوله عليه السلام: فموسّع الخ، فإنّه ظاهر بقرينة وحدة السياق مع سائر الأخبار أنّ المفروض فيه صورة الاختلاف، والثاني قوله عليه السلام: حتّى ترى القائم (عج) فإنّ التعبير عن حجيّة أخبار الثقات ليس على وجه المغيّائية، بل يفرض كلامهم عين الواقع، فلا يفرق بين زمان الحضور والغيبة، فالمناسب لذكر الغاية إنّما هو التخيير بين الحديثين المختلفين.
ومنها: ما عن علي بن مهزيار «قال: قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام: اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلّهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّهما إلّا على الأرض؟ فوقّع عليه السلام: موسّع عليك بأيّة عملت».
وليس في هذا الخبر ما يدلّ على العموم؛ فإنّ ذكر الرواية ليس في كلام الإمام عليه السلام على وجه يشعر بالعليّة، وإنّما سأل السائل عن حكم اختلاف الروايتين الخاصتين وأجاب الامام عليه السلام في هذا المورد بالتخيير، ولعلّه كان الخبران متكافئين، فلا دلالة فيه على التعدّي عن مورده.
ومنها: مرفوعة زرارة وفيها بعد ذكر المرجّحات: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر».
هذا ما وقفنا عليه من الأخبار، وقد عرفت تماميّة دلالة غير ما قبل الأخير منها على التخيير على وجه الإطلاق الشامل لصورة وجود المرجّح، نعم إطلاق الأخير مختصّ بصورة عدم المرجّح المنصوص، فينفع في دفع الأصل في غير المنصوص.
وأمّا أخبار الترجيح فهي مختلفة، ففي بعضها الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة، وفي آخر بمخالفة العامّة، وفي ثالث الترتيب بينها بتقديم موافقة الكتاب والسنّة.
ولا بدّ أن يعلم أوّلا أنّ في الاخبار الأمر بطرح ما خالف الكتاب بلسان أنّه ليس منّا أو لم نقله، أو اضربوه على الجدار، أو زخرف وباطل، أو شبه ذلك، وهذه ليست في مقام الترجيح، بل في مقام بيان أصل سقوط الخبر ذاتا عن الحجيّة الأوّليّة ولو مع قطع النظر عن المعارض، فلا بدّ من حملها على صورة المخالفة على وجه التباين الكلّي، فإنّه إذا وصل مخالفة الخبر للكتاب أو السنّة القطعيّة بهذا الحدّ فمعلوم أنّه غير صادر وأنّ راويه كاذب. وبالجملة، هذا الأخبار غير مرتبطة بمقامنا؛ إذ هي بمقام تميّز الحجيّة عن غيرها، ومقامنا ترجيح الحجّة على الحجّة.
ومن جملة هذه الأخبار خبر حسن بن الجهم المتقدّم في أخبار التخيير ومنها أيضا خبر العيون الطويل. وحينئذ فلا بدّ من فرض الكلام في ما كان الحكم فيه بتقديم الموافق للكتاب أو مخالف العامّة على وجه يعلم منه أنّه بصدد الترجيح بأن فرض ذلك في الخبرين بعد الفراغ عن شرائط حجيّتهما الذاتيتين من وثوق الراوي وغير ذلك وكان الموافقة أو المخالفة معتبرة من باب الكشف النوعي القائم في ما بين الكاشفين النوعيين كما ان الحال في المقبولة والمرفوعة كذلك لانه ذكر الموافقة والمخالفة فيهما بعد فرض موثّقيّة كلا الراويين ومامونيّتهما عن الكذب الذي مرجعه إلى موثوقيّة خبرهما في حدّ ذاته لو لا ملاحظة المعارض، ولا بدّ من حمل مخالفة الكتاب في هذا المقام على المخالفة بنحو التباين الجزئي أعني العموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد كما هو واضح.
والحاصل لو فرض أنّ بين هذه الطائفة المعلوم كونها بمقام الترجيح اختلاف من حيث الاقتصار في البعض على موافقة الكتاب وفي البعض على مخالفة القوم، وفي البعض على الجمع بينهما، ودار أمر الثالث أيضا بين الترتيب بتقديم الموافقة أو المساواة، فلا بدّ حينئذ من التقييد في الإطلاقين المتقدّمين أو أحدهما لا محالة، فإنّه إن كان مفاد الثالث هو المساواة، فلا بدّ من تقييد كلا الإطلاقين الظاهرين في الحكم التعييني الفعلي بحال عدم اجتماعه مع وجود صاحبه في الطرف الآخر، وإلّا كان المورد بلا مرجّح.
وإن كان مفاده الترتيب فلا بدّ من تقييد إطلاق ما ذكر فيه مخالفة القوم وحدها بحال عدم اجتماعها مع الموافقة في الطرف الآخر وإلّا كان الترجيح مع الطرف الآخر، وعلى كلّ حال يلزم خلاف الظاهر، وهذا غير الأوامر الوجوبيّة الغير المبتلى بالمزاحمات مثل أمر إنقاذ الغريق إلّا نادرا، حيث قلنا بأنّها من هذا الحيث ساكتة وأحكام حيثيّة لا فعليّة، فإنّ المقام مضافا إلى عدم كونه من قبيل المتزاحمين- بل من باب الطريقين المعلوم عدم وجود الملاك في أحدهما- ليس الابتلاء بالمزاحم بتلك المثابة من القلّة حتى يكون عدم تكفّل الهيئة لتلك الحال غير مخالف للظاهر، هذا لو حملنا الهيئة على الوجوب.
وهذا بخلاف ما لو حملناها على الاستصحاب، فإنّه يسهّل الأمر من هذه الجهة، لشيوع عدم التعرّض في الأحكام الاستحبابيّة عن مزاحماتها ولو مع كثرة الابتلاء، فالأمر دائر بين الحمل على الوجوب وارتكاب التقييد أوّلا في إطلاقات التخيير وثانيا في إطلاقات الترجيح، وبين الحمل على الاستحباب والاستراحة من كلا ذينك التقييدين، والظاهر أولويّة الثانى.
لا يقال: إنّ ظهور الهيئة وضعيّ والمادّة إطلاقي، والأوّل أقوى من الثاني، فيتعيّن التقييد.
لأنّا نقول: إن كان المراد أنّ رفع اليد عن الإطلاق ليس خلاف الظاهر مع انفصال القيد كما مع اتّصاله، وبعبارة اخرى يتقوّم انعقاد أصل الظهور الإطلاقي على عدم المتّصل والمنفصل معا، فهذا خلاف الوجدان الحاكم بعدم توقّف انعقاده إلّا على خصوص عدم القيد المتّصل، مضافا إلى أنّا نقول بأنّ ظهور الهيئة أيضا إطلاقي، وإن كان المقصود أنّ الظهور الإطلاقي مع محفوظيّته أضعف من الوضعي ففي محلّ المنع أيضا، هذا.
ولكن استقرّ بناء المشايخ على أنّه متى دار الأمر بين حفظ إطلاق مادّة المطلق وحمل هيئة المقيّد على الاستحباب وبين تقييد مادّة الأوّل والأخذ بظاهر الثاني يرجّحون الثاني، ولهذا شاع بينهم حمل المطلق على المقيّد، وعلى هذا المبنى لا بدّ في المقام أيضا من تنزيل إطلاقات التخيير على صورة المساواة، وكذا إطلاق الترجيح بمخالفة القوم على صورة عدم وجود موافقة الكتاب في الطرف الآخر، هذا تمام الكلام في هذه الطوائف الثلاث من أخبار الترجيح.
بقي الكلام في المقبولة والمرفوعة المشتملتين على هذين وغيرهما ممّا لم يشتمل غيرهما عليه، ولا بدّ أوّلا من دفع الإشكالات الواردة على المقبولة، ثمّ من ملاحظة المعارضة بينهما بنفسهما، وبينهما مع سائر الطوائف الثلاث المتقدّمة.
فنقول وعلى اللّه التوكّل: روى المشايخ الثلاثة باسنادهم عن عمر بن حنظلة «قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أ يحل ذلك؟ قال عليه السلام:
من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وإنّما أمر اللّه تعالى أن يكفر به، قال اللّه تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60].
قلت: فكيف يصنعان؟ قال عليه السلام: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا قد ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه.
قلت: فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما، فاختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال عليه السلام: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
قال عليه السلام: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الامور ثلاثة، أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.
قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال عليه السلام: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسّنة ووافق العامّة.
قلت: جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال عليه السلام: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهم الخبران جميعا؟ قال عليه السلام: ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال عليه السلام: إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقي إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» هذا.
وأمّا الإشكالات الواردة على هذا الخبر الشريف فمن وجوه: الأوّل: أنّ ظاهر صدره القضاوة والحكومة وفصل الخصومة وقطع المرافعة، وهو لا يناسب التعدّد وإنّما المناسب له الاستفتاء.
الثاني: بعد الحمل على هذا الظاهر كيف يختفي على أحد القاضيين معارض مدرك حكمه مع شهرته.
الثالث: كيف يرجع بعد مساواة القاضيين الى تحرّي المترافعين واجتهادهما في مدرك الحكمين.
الرابع: أنّ اللازم مع التعارض لغويّة حكم اللاحق وتساقطهما مع الوقوع دفعة، فما معنى الترجيح.
الخامس: أنّ اختيار التعيين بيد المدّعي، وقد فرض في الرواية الاختيار بيدهما وتحرّيهما بعد اختلافهما في الحكم، هذا.
وأمّا الدفع فبأحد وجهين، الأوّل: تنزيل الرواية على مقام الفتوى دون القضاء وفصل الخصومة، فإنّ المنازعة حيث كانت ناشئة عن الشبهة الحكميّة فطريق ارتفاعها وانفصالها وضوح الحكم وارتفاع الجهل بالرجوع إلى خبرة ذلك، وقوله عليه السلام: فإنّى قد جعلته عليكم حاكما وإن كان له ظاهر أوّلي في مقام القضاء خصوصا مع مقابلته بما في الصدر من الردع عن المحاكمة عند قضاة الجور، لكن يمكن حملها على معنى أنّ الفاصل كما كان في المرافعة عند القضاة قوّة السلطان يكون الحاسم والفاصل في هؤلاء قوّة الشرع والديانة، فإنّ من اعتقد باللّه وعذابه ونكاله يرتدع بالطبع عن مخالفة احكامه.
وبالجملة، فالكلام مبنيّ على المسامحة والتجوّز، ولا يخفى اندفاع جميع الإشكالات حينئذ؛ لتفرّعها على الحمل على القضاوة.
الثاني إبقائها على ظاهرها من القضاوة وتصحيحها بالحمل على صورة التداعي؛ إذ حينئذ يرتفع جميع الاشكالات.
أمّا الأوّل فلأنّه إذا كان كلّ منهما مدّعيا، فليس أحدهما ملزما باختيار الآخر، وإذا اختار كلّ قاضيا غير مختار الآخر فحكم كلّ قاض إنّما ينفذ في حقّ من اختاره خاصّة، فلو توافقا في الحكم فلا كلام، ولو تخالفا وكان حكم كلّ على ضرر من اختاره ينفذ أيضا في حقّ كلّ واحد حكم حاكمه، وإن كان حكم كلّ بنفع من اختاره فحينئذ يحتاج إلى فاصل آخر؛ إذ المفروض عدم نفوذ الحكم الصادر من كلّ على ضرر غير من اختاره.
وأمّا الثاني، فلأنّه من الممكن عدم غفلته، بل اطّلاعه على المعارض، ولكنّه يعتقد عدم صلوحه للمعارضة كما هو غير عزيز.
وأمّا الثالث، فلأنّ المفروض كون الشبهة حكميّة، فمع فرض مساواة الحكمين أرجع الإمام عليه السلام المترافعين إلى تحرّيهما بنفسهما الخبرين ولم يكن في ذلك الزمان لفهم الحكم من الخبر كثير مئونة، بل كانت الفتاوى على طبق مضامين الأخبار من غير حاجة إلى إعمال النظر في الامور العلميّة المحتاج إليها في هذا الزمان.
وأمّا الرابع، فلأنّ المفروض عدم نفوذ حكم واحد من القاضيين إلّا على من اختاره، وما ذكر من لزوم تقديم الأسبق مع التعاقب، والتساقط مع التقارن إنّما هو مع كون حكم كلّ نافذا على كلا الطرفين.
وأمّا الخامس، فلفرض التداعي، هذا حاصل الكلام في رفع الإشكالات عن المقبولة.
وأمّا ملاحظة المعارضة بينها وبين المرفوعة، فينبغي أوّلا التّيمن بذكر المرفوعة أيضا.
فنقول: روى ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة «قال: سألت أبا جعفر عليه السلام، فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه السلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر.
فقلت: يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال عليه السلام: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.
فقلت: إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال عليه السلام: انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ في ما خالفهم.
قلت: ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال عليه السلام إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر.
قلت: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال عليه السلام: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر».
فنقول: المعارضة بينها وبين المقبولة من وجوه، الأوّل: الحكم فيها بعد المرجّحات بالتخيير، وفي المقبولة بالتوقّف، الثاني: الحكم فيها بمرجحيّة الموافقة للاحتياط دون المقبولة، الثالث: الحكم في المقبولة بمرجحيّة الموافقة للكتاب والسنّة قبل المخالفة للعامّة دون المرفوعة، وقد فرغنا عن علاج معارضتهما من هذه الوجوه في ما تقدّم، الرابع: ذكر الشهرة في المرفوعة متقدّمة على الصفات وفي المقبولة متأخّرة عنها.
وأمّا معارضتهما مع سائر الأخبار فلذكر الشهرة والصفات في هاتين دون سائر الأخبار.
ومحصّل القول في علاج كلا هذين الوجهين الأخيرين أن يقال: أمّا المقبولة فذكر الصفات فيها ليس من باب المرجّح الخبري، بل من باب المرجّح لأحد القاضيين أو المفتيين على الآخر؛ لأنّه قال عليه السلام: الحكم ما حكم به أعدلهما الخ، وبعد ما فرض السائل مساواة الحاكمين أرجع إلى الروايتين، فالمعيار في باب الخبر ما ذكره عليه السلام بعد هذه الفقرة وهو الشهرة وما بعدها.
فنقول: الظاهر من مادّة الشهرة لغة حيث إنّه بمعنى الوضوح والظهور، ولهذا يقال: شهر فلان سيفه، إذا أبرزه عن الغمد، ومن تعليله عليه السلام الأخذ بالمشهور بأنّه ممّا لا ريب فيه، حيث إنّه ما لا شكّ فيه حقيقة وهو المقطوع الوجداني، ومن استشهاده عليه السلام بحديث التثليث ما ذكره من التثليث في كلامه عليه السلام حيث إنّه أدرج المشهور في بيّن الرشد والحلال البيّن أنّه عليه السلام في هذه الفقرة ليس بمقام ترجيح إحدى الحجّتين الذاتيتين على الاخرى، بل في مقام الإرشاد إلى ما هو الحجّة، والردع عما ليس بحجّة.
فإنّه إذا كان الخبر يرويه كلّ الشيعة، والمفروض أنّ الفتوى كان في ذلك الزمان على طبق المفاد، فيكون المحصّل أنّ الكلّ إلّا الشاذ القليل يسندون إلى الإمام عليه السلام وجوب صلاة الجمعة مثلا، ومن المعلوم أنّه لو قام في قبال هؤلاء العدد الكثير والجمّ الغفير رجل واحد ولو كان ثقة عدلا مرضيّا فقال: بل قال الامام عليه السلام: الواجب صلاة الظهر، فهو وإن كان يؤخذ بخبره لو كان منفردا، لكن ابتلائه بمعارضة الكلّ أوجب القطع بمخالفة قوله للواقع أعني مخالفة مضمون ما نقله لحكم اللّه الواقعي.
فيتردّد أمره حينئذ بين كذبه في الإخبار وبين صدقه، ولكن كان الحكم لمصلحة اقتضت ذلك لا لبيان الحكم الواقعي، وبين صدقه وعدم مصلحة غير بيان الواقع، ولكن كان مع الكلام قرينة متّصلة يلائم الكلام معها لما نقله الكلّ ولم يسمعها الراوي، وعلى كلّ حال يدخل التزلزل في أركان حجيّة كلامه ويسقط عن درجة الاعتبار، ويصير مثل خبر الرجل الواحد الغير المتحرّز عن الكذب، أو مجهول الحال، فبهذه الملاحظة يمكن إدراج خبره في ما فيه الريب، وبملاحظة أنّ ظاهر كلامه على ما هو عليه مقطوع الخلاف يمكن إدراجه في بيّن الغيّ.
نعم الذي ينافي هذا فرض السائل كون الخبرين معا مشهورين؛ فإنّه ربّما يؤيّد كون المراد بالشهرة في الأوّل أيضا ما لا يساوق القطع، وإلّا لم يمكن فرضه في كلا الخبرين.
والجواب أنّه حينئذ يدور الأمر بين أحد التّصرفين، إمّا رفع اليد عن ظاهر جميع ما ذكر وحمل «لا ريب فيه» على نفي الريب بالإضافة مع أنّه بعيد جدّا، حيث لا يقال في خبر أخبره جماعة يحتمل في حقّهم عادة التخلّف عن الواقع أنّ هذا الخبر لا شكّ فيه واريد بذلك أبعديّته عن الشكّ بالنسبة إلى خبر آخر هناك أخبره بخلافهم رجل واحد.
وإمّا إبقاء هذا الظاهر القوي بحاله والتصرّف في كلام السائل بحمله على إرادة عدم تحقّق ما فرضه الإمام عليه السلام، يعني أنّه إن لم يكن بينهما هذا الذي ذكرت، بل تساويا في عدد المخبرين بأن روى كلا منهما جماعة من الثقات، ولهذا ذكر عقيب قوله: مشهورين قوله: قد رواهما الثقات عنكم.
وممّا ذكر يعرف حقيقة الحال في المرفوعة أيضا من حيث الإرجاع إلى ما اشتهر بين أصحابك، فإنّه يجري فيها جميع ما ذكر في المقبولة حرفا بحرف، نعم هي خالية عن التعليل والاستشهاد، لكن ظهور مادّة الاشتهار بحاله، ويجري في قول السائل فيها أيضا بعد ذلك: أنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم ما ذكر في المقبولة.
فيبقى الكلام في المرفوعة من حيث الإرجاع بعد ذلك إلى الصفات، فبذلك يخالف المقبولة وسائر الأخبار، ومحصّل القول فيه أيضا أنّه حيث فرض السائل استواء الخبرين من حيث الجهة المذكورة في كلام الإمام عليه السلام، وهو لا يتحقّق إلّا باستواء عدد المخبرين بأن روى مثلا هذا الخبر عشرون رجلا، وروى ذلك عشرون آخرون، ولكن لم يفرض كالسائل في المقبولة كون المخبرين ثقات أرجعه الإمام عليه السلام إلى صفات الراوي والأخذ بما كان راويه ثقة.
فـ«أفعل» في كلامه عليه السلام نظير «أفعل» في قولك: الإسلام خير وأحسن لك من الكفر، وبالجملة، استعمال «أفعل» في مقام اريد به اتّصاف أحد الشيئين بوصف وخلوّ الآخر عنه رأسا شائع، وهذا وإن كان في مقابل التفضيل الحقيقي خلاف الظاهر، ولكن ملاحظة كلام السائل حيث فرض اتّصاف الراويين بأصل العدالة والثقة يشهد بأنّ المراد في كلام الإمام عليه السلام أيضا ذلك، وإلّا فإن كان مراده عليه السلام اختلاف المرتبة بعد الاشتراك في أصل الصفة لناسب التعبير بالمساواة في الرتبة والفضيلة كما عبّر كذلك في المقبولة.
وبالجملة، بعد التعبير بما في المرفوعة عن الاستواء في المرتبة مع شيوع استعمال «أفعل» في المقامات التي اريد إثبات أصل الصفة كما يقال: اللّه تعالى أصدق قولا وأوثق وعدا من الشيطان وغير ذلك يعيّن الحمل على ما ذكرنا، فيكون المراد في هذه الفقرة أيضا هو الإرشاد إلى ما هو الحجّة والردع عمّا ليس بحجّة ذاتا، يعني انظر في حال هؤلاء الرواة لهذا، وهؤلاء الرواة لذاك، فإن كان إحدى الجماعتين ثقات والاخرى فسّاقا أو مجهول الحال فخذ بخبر الجماعة الاولى، فيكون أوّل المرجّحات الخبريّة في المرفوعة مخالفة العامّة، كما كان في المقبولة موافقة الكتاب ومخالفتهم.
إن قلت: كيف فهم السائل هنا من صيغة «أفعل» ما ذكرت ولم يفهمه السائل في المقبولة.
قلت: إذ في المقبولة معلوم أنّه عليه السلام بمقام ترجيح أحد الحكمين على الآخر، والحاكم يعتبر فيه العدالة، فلا يحتمل «أفعل» فيها غير معنى التفضيل، وبالجملة، أظنّ أنّ بما ذكرنا يرتفع التنافي بين جميع أخبار الباب، واللّه الموفّق للصواب.
ومن الغريب ما وقع في الكفاية في هذا المقام حيث إنّه استشكل في الاحتجاج بالمقبولة والمرفوعة على وجوب الترجيح في مقام الفتوى بقوّة احتمال اختصاص الترجيح بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة قال كما هو موردهما، ولا وجه معه للتّعدي منه إلى غيره كما لا يخفى، ولا وجه لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة أنّ رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلّا بالترجيح، ولذا أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السلام في صورة تساويهما في ما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى، ومجرّد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة كما لا يخفى، انتهى.
وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا، ووجه الغرابة أنّه قدّس سرّه جعل في ظاهر كلامه الذي نقلنا مورد المرفوعة أيضا مقام الحكومة لرفع الخصومة، مع أنّك تعلم بعدم إشعار فيها بذلك، نعم في ذيل كلامه الذي لم ننقله دلالة على اختصاص ذلك بالمقبولة.
وبالجملة، هذا حال أدلّة الترجيح، ثمّ لو فرض الأخذ بمرجحيّة الشهرة والصفات أيضا فلا بدّ من رفع اليد عن الترتيب بينهما بواسطة اختلاف ما بين المرفوعة والمقبولة في ذلك الكاشف عن كون كلّ واحد مرجّحا مستقلّا بدون اعتبار ترتيب في البين، وأمّا على ما اخترنا من انعزالهما عن سمت المرجحيّة وأنّ المرجّح منحصر في موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامّة، فالحقّ فيهما الترتيب بتقديم الاولى على الثانية؛ لظهور قوله عليه السلام في بعض الأخبار: فإن لم تجدوا، وكذلك المقبولة في ذلك، هذا.
[الامر الثانى هل يقتصر في الترجيح على المزايا المنصوصة]
الامر الثاني بعد ما علمت وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة هل يقتصر في الترجيح عليها فيرجع في غيرها إلى إطلاقات التخيير ولو كان في أحد الخبرين ألف مزيّة، أو يتعدّى إلى غيرها، وعلى فرض التّعدي هل يقتصر إلى المزيّة الموجبة للظنّ الشخصي، أو إلى ما يوجب الظنّ النوعي، أو إلى مطلق المزيّة ولو لم يوجب الظنّ لا شخصا ولا نوعا، بل كان موجبا لأبعديّة ذيها عن مخالفة الواقع بالنسبة إلى صاحبه؟.
فالكلام هنا في مقامين،
أمّا المقام الأوّل، فالأقوى فيه الاقتصار على المنصوصات وعدم التعدّي منها إلى غيرها، والذي يحتجّ به للتّعدي كلّه مخدوش.
فمنه: التمسّك بالترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لأجل أقربيّة الواجد لهما إلى الواقع من الفاقد، وليس للسبب الخاصّ دخل.
وفيه أوّلا: إنّك عرفت عدم مساس ذينك بمقام الترجيح، وعلى فرض ذلك نقول:
ما الفرق بين مقام أصل الحجيّة ومقام المرجحيّة وقد اعترفتم حيث علّق الشارع الحجيّة الابتدائيّة على خبر الثقة بعدم التّعدي من خبر الثقة إلى كلّ ما يفيد الظنّ شخصا أو نوعا، أو يفيد أقليّة احتمال المخالفة للواقع، مع أنّ عين ما ذكر هنا جار هناك حرفا بحرف، والسرّ في كلا المقامين واحد وهو أنّا نسلّم عدم مدخليّة السبب الخاص وأنّ المناط أقربيّة احتمال المطابقة للواقع وغلبة الإصابة، إلّا أنّه لم يحوّل ذلك إلى نظرنا، والأنظار في ذلك مختلفة.
ألا ترى أنّه لو أمر مولى بأمر طريقي باتّباع قول شخص معلّلا بأنّه أمين عندي فلا يمكن التعدّي إلى قول كلّ شخص أحرز العبد أمانته؛ إذ ربّما كان في نظر مولاه غير أمين، والمعيار نظره لا نظر العبد.
ومثل هذا بعينه مقامنا؛ فإنّه إذا جعل الشارع قول كلّي الثقة حجّة أو الأوثقيّة مرجّحة، فهذا يدلّ على أنّه رأى مرتبة من غلبة الوصول إلى الواقع، فبهذا أوجب حكمه باتّباعه، واللازم من عدم مدخليّة السبب أنّا متى أحرزنا أنّ السبب الفلاني الآخر أيضا يوجب تلك المرتبة من الإصابة والوصول في نظره تعدّينا إليه، كما أنّ العبد المذكور أيضا يتّبع قول كلّ من يحرزه أمينا عند مولاه، وأمّا لو لم نحرز ذلك وإن أحرزنا البلوغ إلى تلك المرتبة في نظرنا فالتعدّي حينئذ كتعدّي ذلك العبد إلى قول من أحرزه نفسه أمينا ولم يحرز أمانته عند مولاه.
ومن ذلك يظهر الخدشة في التمسّك بتعليل الإمام عليه السلام الترجيح بالشهرة بقوله عليه السلام: فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، فإنّه بعد ما ليس المراد نفي الريب حقيقة وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين لا بدّ من حمله على جهة التنزيل أعني تنزيل ما يكون الريب فيه أقلّ منزلة ممّا لا ريب فيه، فيدلّ على قاعدة كليّة هي أنّ: كلّما كان في أحد الخبرين شيء يوجب أقليّة الريب فيه من صاحبه فهو متعيّن الأخذ.
وكذلك التمسّك بتعليل الترجيح بمخالفة القوم بأنّ الحقّ والرشد في خلافهم، حيث إنّه أيضا ليس على حقيقته، وإلّا لم يمكن الأخذ بموافق القوم ولو مع عدم المعارض، فالمعنى أنّ في المخالف جهة كاشفية نوعية عن مطابقة الواقع، فيدلّ على أنّ كلّ شيء فيه جهة الكاشفيّة المذكورة فهو صالح للمرجحيّة.
إذ فيهما أيضا مضافا إلى ما في أوّلهما ممّا عرفت من عدم المساس بباب المرجحيّة أنّا نسلّم كون العبرة بجهة الكاشفيّة والأقليّة النوعيّة من دون مدخليّة السبب الخاص، ولكنّ المعتبر حصول ذلك في نظر الشارع لا في نظرنا، ولعلّ ما هو كاشف بنظرنا لا يراه الشارع بذلك الحدّ من غلبة الوصول، فلا وجه للتّعدي، وإذن فالمرجع في موارد وجود المزيّة الغير المنصوصة هو إطلاقات التخيير على ما عرفت من ثبوتها.
[بناء على التعدّي عن المنصوصات فهل يعتبر الظنّ الشخصي]
وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه لو بنينا على التعدّي عن المنصوصات فهل يعتبر الظنّ الشخصي بمعنى أنّه إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مع أمارة يوجب الظنّ الفعلي بكونه مطابقا للواقع يؤخذ به، وإلّا فلا وإن كان مع أحدها ما يوجب الأقربيّة نوعا، أو أنّ المعتبر هو الظنّ النوعي وإن لم يفد الظن الشخصي، أو أنّ المعتبر أبعديّة أحدهما عن الخلاف، بمعنى أنّه لو فرض العلم بصدق أحدهما وكذب الآخر كان أحدهما أبعد عن الكذب وأقرب إلى الصدق ولو لم يكن مع أحدهما بقول مطلق أمارة الصدق.
لا إشكال في عدم اعتبار الظنّ الشخصي؛ لأنّ المرجّحات المنصوصة شيء منها لا يفيده، فيبقى الوجهان الآخران.
واستظهر شيخنا المرتضى قدّس سرّه الشريف الوجه الأخير من تعليلهم عليهم السلام الأخذ بالخبر المخالف للجمهور بأنّ الحقّ والرشد في خلافهم، ومن تعليلهم الأخذ بالموافق للمشهور بأنّه لا ريب فيه، بتقريب أنّ نفي الريب بعد عدم إرادة معناه الحقيقي- وإلّا لم يمكن فرض الخبرين مشهورين- يراد به نفي الريب بالإضافة يعني أنّ في الشاذ احتمالا ليس في المشهور، فيدلّ على أنّه كلّما كان مع أحد الخبرين مزيّة يوجب أقليّة الريب فيه بالإضافة إلى الآخر وإن كان مشكوكا وغير مظنون لا نوعا ولا شخصا فهو المقدّم.
وهكذا كون الحقّ والرشد في خلاف العامّة بعد عدم إرادة معناه الحقيقي- وإلّا لم يكن للأخذ بالموافق مع السلامة عن المعارض وجه- يراد به كون الخبر الموافق مظنّة خلاف الحقّ والصواب، فاحتمال الكذب فيه آكد منه في الموافق.
ولكن فيه أنّ نفي الريب بعد تعذّر الحقيقة وهو نفي الشكّ حقيقة يكون الأقرب إلى معناه الحقيقي هو الظنّ، وبعد عدم اعتبار الشخصي يتعيّن النوعي، وأمّا أقليّة احتمال الكذب فهو رفع اليد عن أقرب المجازات إلى أقربها، وهكذا الظاهر من قوله: الحقّ والرشد في خلافهم بعد عدم إمكان الحقيقة هو وجود الأمارة النوعيّة على الصدق والرشد فيه، ولا شبهة في كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي من الأبعديّة عن الكذب، ولا غرو في كون مقابلة الخبر لمذهب العامّة أمارة نوعيّة على صدقه إذا علم مقابلة مذهبهم نوعا للواقع والمذهب الصواب، كما يستفاد من قوله عليه السلام: ليسوا من الحنفيّة على شيء؛ فإنّه من قبيل استكشاف الشيء من ضدّه، كما يقال: يعرف الأشياء بأضدادها.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|