المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
الجزر Carrot (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-24
المناخ في مناطق أخرى
2024-11-24
أثر التبدل المناخي على الزراعة Climatic Effects on Agriculture
2024-11-24
نماذج التبدل المناخي Climatic Change Models
2024-11-24
التربة المناسبة لزراعة الجزر
2024-11-24
نظرية زحزحة القارات وحركة الصفائح Plate Tectonic and Drifting Continents
2024-11-24



الحقيقة والمجاز  
  
9085   06:13 مساءاً   التاريخ: 26-03-2015
المؤلف : جلال الدين القزويني
الكتاب أو المصدر : الإيضاح في علوم البلاغة
الجزء والصفحة : ص250-289
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / البيان /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-03-2015 14661
التاريخ: 26-09-2015 2496
التاريخ: 26-03-2015 7781
التاريخ: 25-1-2022 3196

وقد يفيدان باللغويين الحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب فقولنا المستعملة احتراز عما لم يستعمل فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى حقيقة وقولنا فيما وضعت له احتراز عن شيأين أحدهما ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا كما إذا أردت أن تقول لصاحبك خذ هذا الكتاب مشيرا إلى كتاب بين يديك فغلطت فقلت خذ هذا الفرس

 والثاني أحد قسمي المجاز وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له لا في اصطلاح به التخاطب ولا في غيره كلفظة الأسد في الرجل الشجاع وقولنا في اصطلاح به التخاطب احتراز عن القسم الآخر من المجاز وهو ما استعمل فيما وضع له لا في اصطلاح به التخاطب كلفظ الصلاة يستعمله المخاطب يعرف الشرع في الدعاء مجازا والوضع من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه فقولنا بنفسه احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة أعني المجاز فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا ودخل المشترك في الحد لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض أعني الاشتراك لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه وذهب السكاكي إلى أن المشترك كالقرء معناه الحقيقي وهو ما لا يتجاوز معنييه كالطهر والحيض غير مجموع بينهما قال فهذا ما يدل عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين أما إذا خصصته بواحد إما صريحا مثل أن تقول القرء بمعنى الطهر وإما استلزاما مثل أن تقول القرء لا بمعنى الحيض فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين كما كان الواضع عينه بإزائه بنفسه ثم قال في موضع آخر وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في دلالته على ما هو معناه فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين وفيما ذكره نظر لأنا لا نسلم أن معناه الحقيقي ذلك وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه

 ثم قوله إذا قيل القرء بمعنى الطهر أو لا بمعنى الحيض فهو دال بنفسه على الطهر بالتعيين سهو ظاهر فإن القرينة كما تكون معنوية تكون لفظية وكل من قوله بمعنى الطهر وقوله لا بمعنى الحيض قرينة وقيل دلالة اللفظ على معناه لذاته وهو ظاهر الفساد لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز وجعله عاما ووضعه للمضادين كالجون للأسود والأبيض فإن ما بالذات لا يزول بالغير ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم وتأوله السكاكي رحمه الله على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس والشدة والرخاوة والتوسط بينها وغير ذلك مستدعية أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحق الحكمة كالفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين

 وأن التركيبات كالفعلان والفعلي بالتحريك كالنزوان والحيدي وفعل مثل شرف وغير ذلك خواص أيضا فيلزم فيها ما يلزم في الحروف وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني

 والمجاز مفرد ومركب أما المفرد فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في الاصطلاح به التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته فقولنا المستعملة احتراز عما لا يستعمل لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة وقولنا في اصطلاح به التخاطب ليدخل فيه نحو لفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا فإنه وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب وقولنا على وجه يصح احتراز عن الغلط كما سبق وقولنا مع قرينة عدم إرادته احتراز عن الكناية كما تقدم

 والحقيقة لغوية وشرعية وعرفية خاصة أو عامة لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية وإن كان الشارع فشرعية وإلا فعرفية والعرفية إن تعين صاحبها نسبت إليه كقولنا كلامية ونحوية وإلا بقيت مطلقة مثال اللغوية لفظ أسد إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص ومثال الشرعية لفظ صلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة ومثال العرفية الخاصة لفظ فعل إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة ومثال

العرفية العامة لفظ دابة إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في ذي الأربع وكذلك المجاز المفرد لغوي وشرعي وعرفي مثال اللغوي لفظ أسد إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع ومثال الشرعي لفظ صلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ومثال العرفي الخاص لفظ فعل إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث ومثال العرفي العام لفظ دابة إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان

 والحقيقة إما فعيل بمعنى مفعول من قولك حققت الشيء أحقه إذا أثبته أو فعيل بمعنى فاعل من قولك حق الشيء يحق إذا ثبت أي المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي فأما التاء فقال صاحب المفتاح هي عندي للتأنيث في الوجهين لتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجرأة على الموصوف وهو الكلمة وفيه نظر وقيل هي لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كما قيل في أكيلة ونطيحة إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية فلذلك لا يوصف بهما فلا يقال شاة أكيلة أو نطيحة

 والمجاز قيل مفعل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه أي تعدت موضعها الأصلي وفيه نظر والظاهر أنه من قولهم جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا له على أن معنى جاز المكان سلكه على ما فسره الجوهري وغيره فإن المجاز طريق إلى تصور معناه واعتبار التناسب في التسمية يغاير اعتبار المعنى في الوصف كتسمية إنسان له حمرة بأحمر ووصفه بأحمر فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له والثاني لصحة إطلاقه فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى في غير المسمى كما يلهج به بعض الضعفاء

 والمجاز ضربان مرسل واستعارة لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة وإلا فهو مرسل وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه فيسمى المشبه به مستعارا منه والمشبه مستعارا له واللفظ مستعارا وعلى الأول لا يشتق منه لكونه اسما للفظ لا للحدث

 الضرب الأول المرسل وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه كاليد إذا استعملت في النعمة لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ومنها تصل إلى المقصود بها ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولى لها فلا يقال اتسعت اليد في البلد أو اقتنيت يدا كما يقال اتسعت النعمة في البلد أو اقتنيت نعمة وإنما يقال جلت يده عندي وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إن له عليها أصبعا أرادوا أن يقولوا له عليها أثر حذق فدلوا عليه بالإصبع لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع واللطف في رفعها ووضعها كما في الخط والنقش وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) أي نجعلها كخف البعير فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا حتى يقال رأيت أصابع الدار وله أصبع حسنة وأصبع قبيحة على معنى له أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك وينظر إلى هذا قولهم ضربته سوطا لأنهم عبروا عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط فجعلوا أثر السوط سوطا وتفسيرهم له بقولهم المعنى ضربته ضربة بالسوط بيان لما كان الكلام عليه في أصله ونظير قولنا له على يد قول النبي ( أسرعكن لحوقا ويروى لحاقا بي أطولكن يدا ) وقوله أطولكن نظير ترشيح الاستعارة ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز والمعنى بسط اليد بالعطاء وقيل قوله أطولكن من الطول بمعنى الفضل يقال لفلان على فلان طول أي فضل فاليد على هذين الوجهين بمعنى النعمة ويحتمل أن يريد أطولكن يدا بالعطاء أي أمدكن فحذف قوله بالعطاء للعلم به وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد وبها يكون البطش والضرب والقطع والأخذ والدفع والوضع والرفع وغير ذلك من الأفعال التي تنبىء عن وجوه القدرة ومكانها وأما اليد في قول النبي ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم )

 فهو استعارة والمعنى أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة فكما لا يتصور أن تخذل بعض أجزاء اليد بعضا وأن تختلف فيها الجهة في التصرف كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين لأن كلمة التوحيد جامعة لهم وكالرواية للمزادة مع كونها للبعير الحامل لها لحمله إياها وكالحفض في البعير مع كونه لمتاع البيت لحمله إياه وكالسماء في الغيث كقوله أصابتنا السماء لكونه من جهة المظلة وكالإكاف في قول الشاعر

 ( يأكلن كل ليلة إكافا ... )

 أي علفا بثمن الإكاف وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة

غير ما ذكرنا منها تسمية الشيء باسم جزئه كالعين في الربيئة لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة إذا ما عداها لا يغني شيئا مع فقدها فصارت كأنها الشخص كله وعليه قوله تعالى ( قم الليل إلا قليلا ) أي صل ونحوه لا تقم فيد أبدا أي لا تصل وقول النبي ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم ما ذنبه ) أي من صلى ومنها عكس ذلك نحو ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ) أي أناملهم وعليه قولهم قطعت السارق وإنما قطعت يده

 ومنها تسمية المسبب باسم السبب كقولهم رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث وعليه قوله عز و جل ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) سمى جزاء الاعتداء لأنه مسبب عن الاعتداء وقوله تعالى ( ونبلو أخباركم ) تجوز بالبلاء عن العرفان لأنه مسبب عنه كأنه قيل ونعرف أخباركم

 وعليه قول عمرو بن كلثوم

 ( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )

 الجهل الأول حقيقة والثاني مجاز عبر به عن مكافأة الجهل وكذا قوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) تجوز بلفظ السيئة عن الاقتصاص لأنه مسبب عنها قيل وإن عبر بها عما ساء أي أحزن لم يكن مجازا لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية وكذا قوله تعالى ( ومكروا ومكر الله ) تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سببها قيل ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم وهذا محقق من الله تعالى باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعد لهم من نقمة

 ومنها تسمية السبب باسم المسبب كقولهم أمطرت السماء نباتا

 وعليه قولهم كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى

 وكذا لفظ الأسنمة في قوله يصف غيثا

 ( أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآبال في سحابه )

 وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) بإنزال الماء على وجه لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها ويؤيده ما ورد أن كل ما في الأرض من السماء ينزله الله تعالى إلى الصخرة ثم يقسمه قيل وهذا معنى قوله تعالى ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) وقيل معناه وقضى لكم لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح كل كائن يكون وقيل خلقها في الجنة ثم أنزلها وكذا قوله

تعالى ( وينزل لكم من السماء رزقا ) أي مطرا هو سبب الرزق وقوله تعالى ( إنما يأكلون في بطونهم نارا ) وقولهم فلان أكل الدم أي الدية التي هي مسببة عن الدم قال

 ( أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر )

 وقوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) أي أردت القراءة بقرينة الفاء مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة وقوله تعالى ( ونادى نوح ربه ) أي أراد بقرينة فقال رب وقوله تعالى ( وكم من قرية أهلكناها ) أي أردنا إهلاكها بقرينة فجاءها بأسنا وكذا قوله تعالى ( ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ) بقرينة ( أفهم يؤمنون ) وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك إذ لا يقع الإنكار في أفهم يؤمنون في المجاز إلا بتقدير ( ونحن على أن نهلكهم )

 ومنها تسمية الشيء باسم ما كان عليه كقوله عز و جل ( وآتوا اليتامى أموالهم ) أي الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ

وقوله ( إنه من يأت ربه مجرما ) سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام

 ومنها تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كقوله تعالى ( إني أراني أعصر خمرا )

 ومنها تسمية الحال باسم محله كقوله تعالى ( فليدع ناديه ) أي أهل ناديه ومنها عكس ذلك نحو ( أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ) أي في الجنة

 ومنها تسمية الشيء باسم آلته كقوله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) أي بلغة قومه وقوله تعالى ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) أي ذكرا جميلا وثناء حسنا وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع له تعلق سوى التشبيه

 قال صاحب المفتاح وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه يحتمل عندي أن يكون المراد بمنعك في قوله تعالى ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) دعاك ولا غير صلة قرينة المجاز وكذا ( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ) قال الراغب رحمه الله قال بعض المفسرين إن معنى ما منعك ما حماك وجعلك في منعة مني في ترك السجود أي في معاقبة تركه وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول أنا خير منه فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه وإنما هو جواب من قيل له ( ما منعك أن تسجد ) ويمكن أن يقال في جواب ذلك إن إبليس لما كان ألزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه إذا لم يكن له من كالىء يحرسه ويحميه عدل عما كان جوابا كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة انتهى كلامه

 وقسم الشيخ صاحب المفتاح المجاز المرسل إلى خال عن الفائدة ومفيد وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له كالمرسن في قول العجاج

 ( وفاحما ومرسنا مسرجا ... )

 فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه لمرسن مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا وكالمشفر في نحو قولنا فلان غليظ المشافر إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشفة لا غير وقال سمي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو ليث وأسد وحبس ومنع عند المصير إلى المراد منه وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر

 والشيخ عبد القاهر رحمه الله جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد مع كونه موضوعا لذلك الشيء بقيد آخر من غير قصد التشبيه ومثله ببعض ما مثله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة كقولهم في مواضع الذم غليظ المشفر فإنه بمنزلة أن يقال كأن شفته في الغلظ مشفر البعير وعليه قول الفرزدق

 ( فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي غليظ المشافر )

 أي ولكنك زنجي كأنه جمل لا يهتدي لشرفي وكذا قول الحطيئة يخاطب الزبرقان

 ( قروا جارك العيمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره )

 فإنه وإن عنى نفسه بالجار جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال ليزيد في التهكم بالزبرقان ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف وإسلامه للضر والبؤس وكذا قول الآخر

 ( سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقق )

 الضرب الثاني من المجاز الاستعارة وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له وقد تقيد بالتحقيقية لتحقق معناها حسا أو عقلا أي التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينص عليه ويشار إليه إشارة حسية أو عقلية فيقال إن اللفظ نقل من مسماه الأصلي فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه أما الحسي فكقولك رأيت أسدا وأنت تريد رجلا شجاعا وعليه قول زهير

 ( لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... ) أي لدى رجل شجاع

 ومن لطيف هذا الضرب ما يقع التشبيه

فيه في الحركات كقول أبي دلامة يصف بغلته

 ( أرى الشهباء تعجن إذ غدونا ... برجليها وتخبز باليدين )

 شبه حركة رجليها حيث لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهوتا ذاهبتين نحو يديها بحركة يدي العاجن فإنهما لا تثبتان في موضع بل تزلان إلى قدام لرخاوة العجين وشبه حركة يديها بحركة يدي الخابز فإنه يثني يده نحو بطنه ويحدث فيها ضربا من التقويس كما تجد في يد الدابة إذا اضطربت في سيرها ولم تقو على ضبط يديها وأن ترمي بها إلى قدام وأن تشد اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه فلا تزول عنه ولا تنثني

 وأما العقلي فكقولك أبديت نورا وأنت تريد حجة فإن الحجة مما يدرك بالعقل من غير وساطة حس إذ المفهوم من الألفاظ هو الذي ينور القلب ويكشف عن الحق لا الألفاظ أنفسها وعليه قوله عز و جل ( اهدنا الصراط المستقيم ) أي الدين الحق وأما قوله تعالى ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) فعلى ظاهر قول الشيخ جار الله العلامة استعارة عقلية لأنه قال شبه باللباس لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث وعلى ظاهر قول الشيخ صاحب المفتاح حسية لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبسه الإنسان عند جوعه وخوفه من امتقاع اللون ورثاثة الهيئة فالاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له والمراد بمعناه ما عنى به أي ما استعمل فيه فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له وإن تضمن التشبيه به نحو زيد أسد ورأيته أسدا ونحو رأيت به أسدا لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه على أن المراد بقولنا ما تضمن مجاز تضمن بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له وههنا شيء لا بد من التنبيه عليه وهو أنه إذا أجرى في الكلام لفظ دلت القرينة على تشبيه شيء بمعناه فيكون ذلك على وجهين أحدهما أن لا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا كقولك رنت لنا ظبية وأنت تريد امرأة ولقيت أسدا وأنت تريد رجلا شجاعا ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه وأن الاسم فيه استعارة والثاني أن يكون المشبه مذكورا أو مقدورا فاسم المشبه به إن كان خبرا أو في حكم الخبر كخبر كان وإن والمفعول الثاني لباب علمت والحال فالأصح أنه يسمى تشبيها وأن الاسم فيه لا يسمى استعارة لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه أو نفيه عنه فإذا قلت زيد أسد فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها إذ كان إنما جاء ليفيده بخلاف الحالة الأولى فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء كما إذا قلت جاءني أسد ورأيت أسدا فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد والرؤية واقعة منك عليه لا لإثبات معنى الأسد لشيء فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النظر ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير وهو أنه إذا لم يكن المشبه مذكورا جاز أن يتوهم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمل بخلاف الحالة الثانية فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدرا ومن الناس من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه وهذا الخلاف لفظي راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح وما اخترناه هو الأقرب لما أوضحنا من المناسبة وهو اختيار المحققين كالقاضي أبي الحسن الجرجاني والشيخ عبد القاهر والشيخ جار الله العلامة والشيخ صاحب المفتاح رحمهم الله غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه فإن أبيت إلا أن تطلق اسم الاستعارة على هذا القسم فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة كقولك زيد الأسد وهو شمس النهار فإنه يحسن أن يقال زيد كالأسد وخلته شمس النهار وإن حسن دخول بعضها دون بعض هان الخطب في إطلاقه وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة كقولك زيد أسد فإنه لا يحسن أن يقال زيد كأسد ويحسن أن يقال كأن زيدا أسد ووجدته أسدا وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام وكان إطلاقه أقرب لغموض تقدير أداة التشبيه فيه وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به كقولك فلان بدر يسكن الأرض وهو شمس لا تغيب وكقوله

 ( شمس تألق والفراق غروبها ... عنا وبدر والصدود كسوفه )

فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها إلا بتغيير صورته كقولك هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض وكالشمس إلا أنه لا يغيب وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها وكالبدر إلا أن الصدود وكسوفه وقد يكون في الصفات والصلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه فيقرب إطلاقه أكثر وذلك مثل قول أبي الطيب

 ( أسد دم الأسد الهزبر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد )

 فإنه لا سبيل إلى أن يقال المعنى هو كالأسد وكالموت لما في ذلك من التناقض لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله وجعل دم الهزبر الذي هو أقوى الجنس خضاب يده دليل أنه فوقه وكذلك لا يصح أن يشبه بالموت المعروف ثم يجعل الموت يخاف منه وكذا قول البحتري

 ( وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رحلي منه أسود مظلم )

 إن رجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى هو كالبدر لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر فهو مبني على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ولكن لإثبات تلك الصفة فهو كقولك زيد رجل كيت كيت لم تقصد إثبات كونه رجلا لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه فالكلام فيه مبني على أن كون الممدوح بدرا أمر قد استقر وثبت وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه يمتنع دخول كأن ونحوه تحسب لاقتضائهما أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول الأول مشكوك فيه كقولنا كأن زيدا منطلق أو خلاف الظاهر كقولنا كأن زيدا أسد والنكرة فيما نحن فيه غير ثابتة فدخول كأن وتحسب عليها كالقياس على المجهول وأيضا هذا النحو إذا فليت عز سره وجدت محصوله أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها على الجنس فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى وإن لم يكن اسم المشبه به خبرا للمشبه ولا في حكم الخبر كقولهم رأيت بفلان أسدا ولقيني منه أسد سمي تجريدا كما سيأتي إن شاء الله تعالى ولم يسم استعارة لأنه إنما يتصور الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه على ما يدعي أنه مستعار له إما باستعماله فيه أو بإثبات معناه له والاسم في مثل هذا غير جار على المشبه بوجه ولأنه يجيء على هذه الطريقة ما لا يتصور فيه التشبيه فيظن أنه استعارة كقوله تعالى ( لهم فيها دار الخلد ) إذ ليس المعنى على تشبيه جهنم بدار الخلد إذ هي نفسها دار الخلد وكقول الشاعر

 ( يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا )

فإنه لا يتصور فيه التشبيه وإنما المعنى أنه ليس ببخيل ولا يسمى تشبيها أيضا لأن اسم المشبه به لم يجتلب فيه لإثبات التشبيه كما سبق وعده الشيخ صاحب المفتاح تشبيها والخلاف أيضا لفظي

 والدليل على أن الاستعارة مجاز لغوي كونها موضوعة للمشبه به لا للمشبه ولا لأمر أهم منهما كالأسد فإنه موضوع للسبع المخصوص لا للرجل الشجاع ولا للشجاع مطلقا لأنه لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله في الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه وأيضا لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس

 وقيل الاستعارة مجاز عقلي بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كيزيد ويشكر استعارة ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه ولما صح أن يقال لمن قال رأيت أسدا يعني زيدا أنه جعله أسدا كما لا يقال لمن سمى ولده أسدا إنه جعله أسدا لأن جعل إذا تعدى إلى مفعولين كان بمعنى صير فأفاد إثبات صفة للشيء فلا تقول جعلته أميرا إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة وعليه قوله تعالى ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) المعنى أنهم أثبتوا صفة الأنوثة واعتقدوا وجودها فيهم وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم للملائكة إطلاق اسم الإناث عليهم لا أنهم أطلقوه من غير اعتقاد ثبوت معناه لهم بدليل قوله تعالى ( أشهدوا خلقهم ) وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى كان الاسم مستعملا فيما وضع له ولهذا صح التعجب في قول ابن العميد

 ( قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي )

 ( قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس ) والنهي عنه في قول الآخر

 ( لا تعجبوا من بلي غلالته ... قد زر أزراره على القمر ) وقوله

 ( ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانا فيبليها )

 ( فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها )

 والجواب عنه أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يخرج اللفظ عن كونه مستعملا في غير ما وضع له وأما التعجب والنهي عنه فيما ذكر فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة فإن قيل إصرار المتكلم على ادعاء الأسدية للرجل ينافي نصبه قرينة مانعة من أن يراد به السبع المخصوص قلنا لا منافاة ووجه التوفيق ما ذكره السكاكي وهو أن تبنى دعوى الأسدية للرجل على ادعاء أن أفراد

جنس الأسد قسمان بطريق التأويل متعارف وهو الذي له غاية الجراءة ونهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة وغير متعارف وهو الذي له تلك الجراءة وتلك القوة لا مع تلك الصورة بل مع صورة أخرى على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء في عد نفسه وجماعته من جنس الجن وعن جماله من جنس الطير حين قال

 ( نحن قوم الجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال )

 مستشهدا لدعواه هاتيك بالمخيلات العرفية وأن تخصص القرينة بنفيها المتعارف الذي يسبق إلى الفهم ليتعين الآخر ومن البناء على هذا التنويع قوله

 ( تحية بينهم ضرب وجيع ... ) وقولهم عتابك السيف وقوله تعالى ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ومنه قوله

 ( وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس )

 وإذ قد عرفت معنى الاستعارة وأنها مجاز لغوي فاعلم أن الاستعارة تفارق الكذب من وجهين بناء الدعوى فيها على التأويل ونصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها فإن الكاذب يتبرأ من التأويل ولا ينصب دليلا خلاف زعمه وأنها لا تدخل في الأعلام لما سبق من أنها تعتمد إدخال المشبه في جنس المشبه به والعلمية تنافي الجنسية وأيضا لأن العلم لا يدل إلا على تعين شيء من غير إشعار بأنه إنسان أو فرس أو غيرهما فلا اشتراك بين معناه وغيره إلا في مجرد التعين ونحوه من العوارض العامة التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة اللهم إلا إذا تضمن نوع وصفية لسبب خارج كتضمن اسم حاتم الجواد ومادر البخيل وما جرى مجراهما

 وقرينة الاستعارة إما معنى واحد كقولك رأيت أسدا يرمي أو أكثر كقول بعض العرب

 ( فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإن في إيماننا نيرانا )

 أي سيوفا تلمع كأنها شعل نيران كما قال الآخر

 ( ناهضتهم والبارقات كأنها ... شعل على أيديهم تتلهب ) فقوله تعافوا باعتبار كل واحد من تعلقه بالعدل وتعلقه بالإيمان قرينة لذلك لدلالته على أن جوابه أنهم يحاربون ويفسرون على الطاعة بالسيف أو معان مربوط بعضها ببعض كما في قول البحتري

 ( وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس صحائب )

 عنى بخمس سحائب أنامل الممدوح فذكر أن هناك صاعقة ثم قال من نصله فبين أنها من نصل سيفه ثم قال على أرؤس الأقران ثم قال خمس فذكر عدد أصابع اليد فبان من مجموع ذلك غرضه

 ثم الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين وباعتبار الجامع وباعتبار الثلاثة وباعتبار اللفظ وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله أما باعتبار الطرفين فهي قسمان لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن أو ممتنع ولتسم الأولى وفاقية والثانية عنادية أما الوفاقية فكقوله تعالى

أحييناه في قوله ( أومن كان ميتا فأحييناه ) فإن المراد بأحييناه هديناه أي أومن كان ضالا فهديناه والهداية والحياة لا شك في جواز اجتماعهما في شيء وأما العنادية فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت موجودة لخلوها مما هو ثمرتها والمقصود منها وإذا ما خلت منه لم تستحق الشرف كاستعارة اسم المعدوم للموجود إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله فيكون مشاركا للمعدوم في ذلك أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه فيكون مشاركا للموجود في ذلك أو اسم الميت للحي الجاهل لأنه عدم فائدة الحياة والمقصود بها أعني العلم فيكون مشاركا للميت في ذلك ولذلك جعل النوم موتا لأن النائم لا يشعر بما بحضرته كما لا يشعر الميت أو الحي العاجز لأن العجز كالجهل يحط من قدر الحي

 ثم الضدان إن كانا قابلين للشدة والضعف كان استعارة اسم الأشد للأضعف أولى فكل من كان أقل علما وأضعف قوة كان أولى بأن يستعار له اسم الميت ولما كان الإدراك أقدم من العقل في كونه خاصة للحيوان كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوة وكذا في جانب الأشد فكل من كان أكثر علما كان أولى بأن يقال له إنه حي وكذا من كان أشرف علما وعليه قوله تعالى ( أومن كان ميتا فأحييناه ) فإن العلم بوحدة الله تعالى وما أنزله على نبيه العلوم ومنها ما استعمل في ضده معناه أو نقيضه بتنزيل التضاد أو التناقص منزلة التناسب بوساطة تهكم أو تمليح على ما سبق في التشبيه كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) ويخص هذا النوع باسم التهكمية أو التمليحية وأما باعتبار الجامع فهي قسمان أحدهما ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين كاستعارة الطيران للعدو كما في قول امرأة من بني الحارث ترثي قتيلا

 ( لو يشأ طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل )

 وكما جاء في الخبر كلما سمع هيعة طار إليها فإن الطيران والعدو يشتركان في أمر داخل في مفهومهما وهو قطع المسافة بسرعة ولكن الطيران أسرع من العدو ونحوهما قول بعض العرب

 ( فطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا )

 يقول إنه قام بسيفه مسرعا إلى نوق فعقرهن ودميت أيديهن فخبطن السيور المشدودة على أرجلهن وكاستعارة الفيض لانبساط الفجر في قوله

 ( كالفجر فاض على نجوم الغيهب ... ) فإن الفيض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص وذلك أن يفارق مكانه دفعة فينبسط وللفجر انبساط شبيه ذلك وكاستعارة التقطيع لتفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض في قوله تعالى: ( وقطعناهم في الأرض أمما ) فإن القطع موضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام التي بعضها ملتصق ببعض فالجامع بينهما إزالة الاجتماع التي هي داخلة في مفهومها وهي في القطع أشد وكاستعارة الخياطة لسرد الدرع في قول القطامي

 ( لم تلق قوما هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي )

 ( نقويهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد )

 فإن الخياطة تضم خرق القميص والسرد يضم حلق الدرع فالجامع بينهما الضم الذي هو داخل في مفهومهما وهو في الأول الأشد وكاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب

 ( نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم )

 لأن النثر أن تجمع أشياء في كف أو وعاء ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ونظام وقد استعاره لما يتضمن التفرق على الوجه المخصوص وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة من غير ترتيب ونظام ونسبه إلى الممدوح لأنه سببه والثاني ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين كقولك رأيت شمسا وتريد إنسانا يتهلل وجهه فالجامع بينهما التلألؤ وهو غير داخل في مفهومهما وتنقسم باعتبار الجامع أيضا إلى عامية وخاصية فالعامية المبتذلة لظهور الجامع فيها كقولك رأيت أسدا ووردت بحرا

والخاصية الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة كما سيأتي في الاستعارات الواردة في التنزيل كقول طفيل الغنوي

 ( وجعلت كوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل )

 وموضع اللطف أو الغرابة منه أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام مع أن الشحم مما يقتات وقول ابن المعتز

 ( حتى إذا ما عرف الصيد الضار ... وأذن الصبح لنا في الابصار )

 ولما كان تعذر الابصار منعا من الليل جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا منه وقول الآخر

 ( بعرض تنوفة للريح فيه ... نسيم لا يروع الترب وإن ) وقوله

 ( يناجيني الإخلاف من تحت مطلة ... فتختصم الآمال واليأس في صدري )

 ثم الغرابة قد تكون في الشبه نفسه كما في تشبيه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدب

 ( وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر )

 وقد تحصل بتصرف في العامية كما في قول الآخر

 ( وسالت بأعناق المطي الأباطح ... )

 أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة وكانت سرعة في لين وسلاسة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها

ومثلها في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز

 ( سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير )

 أراد أنه مطاع في الحي وأنهم يسرعون إلى نصرته وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه حتى تجدهم كالسيول تجيء من ههنا وههنا وتنصب من هذا المسيل وذاك حتى يغص بها الوادي ويطفح منها وهذا شبه معروف ظاهر ولكن حسن التصرف فيه أفاد اللطف والغرابة وذلك أن أسند الفعل إلى الأباطح والشعاب دون المطي أو أعناقها والأنصار أو وجوههم حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل والشعاب من الرجال على ما تقدم في قوله تعالى ( واشتعل الرأس شيبا ) وفي كل واحد منهما شيء غير الذي في الآخر يؤكد أمر الدقة والغرابة أما الذي في الأول فهو أنه أدخل الأعناق في السير فإن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها على ما مر وأما الذي في الثاني فهو أنه قال عليه فعدي الفعل إلى ضمير الممدوح بعلى فأكد مقصوده من كونه مطاعا في الحي وكما في قوله

 ( فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص )

 إذ وصف القضيب بالعجلة والدعص بالبطء

 وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل كقول امرىء القيس

 ( فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل )

وأراد وصف الليل بالطول فاستعار له صلبا يتمطى به إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهرة والضغط لمكابده فاستعار له كلكلا ينوء به أي يثقل به وقال الشيخ عبد القاهر لما جعل لليل صلبا قد تمطى به ثنى ذلك فجعله أعجازا قد أردف بها الصلب وثلث فجعل له كلكلا قد ناء به فاستوفى له جملة أركان الشخص وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه وإذا نظر خلفه وإذا رفع البصر ومده في عرض الجو

 وأما باعتبار الثلاثة أعني الطرفين والجامع فستة أقسام استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي أو بوجه عقلي أو بما بعضه حسي وبعضه عقلي واستعارة معقول لمعقول واستعارة محسوس لمعقول واستعارة معقول لمحسوس كل ذلك بوجه عقلي لما مر

 أما استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي فكقوله تعالى ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) فإن المستعار منه ولد البقرة والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلي القبط التي سبكتها نار السامري عند إلقائه فيها التربة التي أخذها من موطىء حيزوم فرس جبرائيل عليه السلام والجامع لهما الشكل والجميع حسي وكقوله تعالى ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المخصوص والمستعار له حركة الإنس والجن أو يأجوج ومأجوج وهما حسيان والجامع لهما ما يشاهد من شدة الحركة

والاضطراب وأما قوله تعالى ( واشتعل الرأس شيبا ) فليس مما نحن فيه وإن عد منه لأن فيه تشبيهين تشبيه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وتشبيه انتشاره في الشعر باشتعالها في سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه والأول استعارة بالكناية والجامع في الثاني عقلي وكلامنا في غيرهما وأما استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي كقوله تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها والمستعار له إزالة الضوء عن مكان الليل وملقى ظله وهما حسيان والجامع لهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر وقيل المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل وليس بسديد لأنه لو كان ذلك لقال فإذا هم مبصرون ونحوه ولم يقل فإذا هم مظلمون أي داخلون في الظلام قيل ومنه قوله تعالى ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) فإن المستعار منه المرأة والمستعار له الريح والجامع المنع من ظهور النتيجة والأثر فالطرفان حسيان والجامع عقلي وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها وكذلك جعلت صفة للريح لا اسما والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر والجامع لهما ما ذكر

 وأما استعارة محسوس لمحسوس بما بعضه حسي وبعضه عقلي

فكقولك رأيت شمسا وأنت تريد إنسانا شبيها بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن وأهمل السكاكي هذا القسم

 وأما استعارة معقول لمعقول كقوله تعالى ( من بعثنا من مرقدنا ) فإن المستعار منه الرقاد والمستعار له الموت والجامع لهما عدم ظهور الأفعال والجميع عقلي وأما استعارة محسوس لمعقول فكقوله تعالى ( فاصدع بما تؤمر ) فإن المستعار منه صدع الزجاجة وهو كسرها وهو حسي والمستعار له تبليغ الرسالة والجامع لهما التأثير وهما عقليان كأنه قيل ابن الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة وكقوله تعالى ( ضربت عليهم الذلة ) جعلت الذلة محيطة بها مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه أو ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه فالمستعار منه إما ضرب القبة على الشخص وإما ضرب الطين على الحائط وكلاهما حسي والمستعار له حالهم مع الذلة والجامع والإحاطة أو اللزوم وهما عقليان وأما استعارة معقول لمحسوس فكقوله تعالى ( إنا لما طغى الماء ) فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي والمستعار منه التكبر والجامع الاستعلاء المفرط وهما عقليان

 وأما باعتبار اللفظ فقسمان لأن إن كان اسم جنس فأصلية كأسد

وقتل وإلا فتبعية كالأفعال والصفات المشتقة منها والحروف لأن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا وإنما يصلح للموصوفية الحقائق كما في قولك جسم أبيض وبياض صاف دون معاني الأفعال والصفات المشتقة منها والحروف فإن قلت فقد قيل في نحو شجاع باسل وجواد فياض وعالم نحرير إن باسلا وصف لشجاع وفياضا وصف لجواد ونحريرا وصف لعالم قلت ذلك متأول بأن الثواني لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول فالتشبيه في الأفعال والصفات المشتقة منها لمعاني مصادرها وفي الحروف لمتعلقات معانيها كالمجرور في قولنا زيد في نعمة ورفاهية فيقدر التشبيه في قولنا نطقت الحال بكذا والحال ناطقة بكذا للدلالة بمعنى النطق وعليه في التهكمية قوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) بدل فأنذرهم وقوله تعالى ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) بدل السفيه الغوي وفي لام التعليل كقوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط بالعلة الغائبة للالتقاط ومما يتصل بهذا أن يا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة القريب لتشبيهه بالبعيد باعتبار أمر راجع إليه أو إلى المنادى أما الأول فكقولك لمن سها وغفل وإن قرب يا فلان وأما الثاني فكقول السائل في جؤاره يا رب يا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه استقصار منه لنفسه واستبعاد لها من مظان الزلفى وما يقربه إلى رضوان الله تعالى ومنازل المقربين هضما لنفسه وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله تعالى مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله

 واعلم أن مدار قرينة التبعية في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها إلى الفاعل كما في قولك نطقت الحال أو إلى المفعول كقول ابن المعتز

 ( جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا ) وقول كعب بن زهير

 ( صبحنا الخزرجية مراهفات ... أباد ذوي أرومتها ذووها )

 والفرق بينهما أن الثاني مفعول ثان دون الأول ونظير الثاني قوله

 ( نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد )

 أو إلى المفعولين الأول والثاني كقول الحريري

 ( وأقرى المسامع إما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا ) أو إلى المجرور كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) قال السكاكي أو إلى الجميع كقول الآخر

 ( تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ... إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا )

 وفيه نظر وأما باعتبار الخارج فثلاثة أقسام أحدها المطلقة وهي التي لم تقترن بصفة ولا تقريع كلام والمراد المعنوية لا النعت وثانيها المجردة وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له كقول كثير

 ( غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال )

 فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف لا الرداء فنظر إلى المستعار له وعليه قوله تعالى ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف )

 حيث قال أذاقها ولم يقل كساها فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس كأنه قال فأصابها الله بلباس الجوع والخوف

 قال الزمخشري الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب

 شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع فإن قيل الترشيح أبلغ من التجريد فهلا قيل فكساها الله لباس الجوع والخوف

 قلنا لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة بخلاف الكسوة فإن قيل لم لم يقل فأذاقها الله طعم الجوع والخوف قلنا لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس وثالثها المرشحة وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه كقوله

 ( ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر )

 ( لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر )

 فإنه استعار الرداء للسيف لنحو ما سبق ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء فنظر إلى المستعار منه وعليه قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ) فإنه استعار الاشتراء للاختيار وقفاه بالربح والتجارة اللذين هما من متعلقات الاشتراء فنظر إلى المستعار منه

 وقد يجتمع التجريد والترشيح كما في قول زهير

 ( لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم )

 والترشيح أبلغ من التجريد لاشتماله على تحقيق المبالغة ولهذا كان مبناه على تناسي التشبيه حتى إنه يوضع الكلام في علو المنزلة وضعه وفي علو المكان كما قال أبو تمام

 ( ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السما )

 فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه وكما قال ابن الرومي

 ( يا آل نوبخت لا عدمتكم ... ولا تبدلت بعدكم بدلا )

 ( إن صح علم النجوم كان لكم ... حقا إذا ما سواكم انتحلا )

 ( كم عالم فيكم وليس بأن ... قاسى ولكن بأن رقى فعلا )

 ( أعلاكم في السماء مجدكم ... فلستم تجهلون ما جهلا )

 ( شافهتم البدر بالسؤال عن الأمر ... إلى أن بلغتم زحلا )

 وكما قال بشار

 ( أتتني الشمس زائرة ... ولم تك تبرح الفلكا )

 وكما قال أبو الطيب

 ( كبرت حول ديارهم ولما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق ) وكما قال

 ( ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد ) ومن هذا الفن ما سبق من التعجب والنهي عنه غير أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهي عنه فإن مذهب التعجب إثبات وصف ممتنع ثبوته للمستعار منه ومذهب النهي عنه إثبات خاصة من خواص المستعار منه وإذا جاز البناء على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه كما في قول العباس بن الأحنف

 ( هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا )

 ( فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا ) وقول سعيد بن حميد

 ( قلت زوري فأرسلت ... أنا آتيك سحره )

 ( قلت فالليل كان أخفى ... وأدنى مسره )

 ( فأجابت بحجة ... زادت القلب حسره )

 ( أنا شمس وإنما ... تطلع الشمس بكره )

 فلأن يجوز مع جحده في استعارة أولى ومن هذا الباب قول الفرزدق

 ( أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر )

 ( أجار بنات الوائدين ومن يجر ... على الموت فاعلم أنه غير مخفر )

 ادعى لأبيه اسم الغيث ادعاء من سلم له ذلك ومن لا يخطر بباله أنه متناول له من طريق التشبيه وكذا قول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين

 ( يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها )

 ( تطوي إذا وردا مكانا محزنا ... وإذا السنابك أسهلت نشرها )

 وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه أي تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى ثم تدخل المشبهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه كما كتب به الوليد بن يزيد لما بويع إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف في البيعة له

 أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام

 شبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا يريد فيؤخر أخرى وكما يقال لمن يعمل في غير معمل أراك تنفخ في غير فحم وتخط على الماء

 والمعنى أنك في فعلك كمن يفعل ذلك وكما يقال لمن يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى ما كان يمتنع منه ما زال يفتل منه في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد

 والمعنى أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال من يجيء إلى البعير الصعب فيحكه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس وهذا في المعنى نظير قولهم فلان يقرد فلانا أي يتلطف به فعل من ينزع القراد من البعير ليلتذ بذلك فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه

 وكذا قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الاتباع وكذا قوله تعالى ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) إذ المعنى والله أعلم أن مثل الأرض في تصرفها تحت أمر الله تعالى وقدرته مثل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منا والجامع يده عليه

 وكذا قوله تعالى ( والسماوات مطويات بيمينه ) أي يخلق فيها صفة الطي حتى ترى كالكتاب المطوي بيمين الواحد منا وخص اليمين ليكون أعلى وأفخم للمثل لأنها أشرف اليدين وأقواهما والتي لا غناء للأخرى دونها فلا يهش إنسان لشيء إلا بدأ بيمينه فهيأها لنيله ومتى قصد جعل الشيء في جهة العناية جعل في اليد اليمنى ومتى قصد خلاف ذلك جعل في اليسرى كما قال ابن ميادة

 ( ألم تك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا )

 أي كنت مكرما عندك فلا تجعلني مهانا وكنت في المكان الشريف منك فلا تحطني في المنزل الوضيع وكذا إذا قلت للمخلوق الأمر بيدك أردت المثل أي الأمر كالشيء يحصل في يدك فلا يمتنع عليك

 وكذا قوله تعالى ( ولما سكت عن موسى الغضب ) قال الزمخشري كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة وطرفا من تلك الروعة وأما قولهم اعتصمت بحبله فقال الزمخشري أيضا يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه

 وكذا قول الشماخ

 ( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )

الشبه فيه مأخوذ من مجموع التلقي واليمين على حد قولهم تلقيته بكلتا اليدين ولهذا لا تصلح حيث يقصد التجوز فيها وحدها فلا يقال هو عظيم اليمين بمعنى عظيم القدرة ولا عرفت يمينك على هذا

 بمعنى عرفت قدرتك عليه

 ومثله قول الآخر

 ( هون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها ... )

 وكذا ما روى أبو هريرة عن النبي قال ( إن أحدكم إذا تصدق بالتمرة من الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب جعل الله ذلك في كفه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد )

 والمعنى فيهما على انتزاع الشبه من المجموع وكل هذا يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة

 وقد يسمى التمثيل مطلقا ومتى فشا استعماله كذلك سمي مثلا ولذلك لا تغير الأمثال ومما يبنى على التمثيل نحو قوله تعالى ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) معناه لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه واع لما يجب وعيه ولكن عدل عن هذه العبارة ونحوها إلى ما عليه التلاوة بقصد البناء على التمثيل ليفيد ضربا من التخييل وذلك أنه لما كان الإنسان حين لا ينتفع بقلبه فلا ينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ولا يفهم ولا يعي جعل كأنه قد عدم القلب جملة كما جعل من لا ينتفع بسمعه وبصره فلا يفكر فيما يؤديان إليه بمنزلة العادم لهما ولزم على هذا أن لا يقال فلان له قلب إلا إذا كان ينتفع بقلبه فينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ويعي ما يجب وعيه فكان في قوله تعالى لمن كان له قلب تخييل أن من لم ينتفع بقلبه كالعادم للقلب جملة بخلاف نحو قولنا لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه واع لما يجب وعيه

 وفي نظم الآية فائدة أخرى شريفة وهي تقليل اللفظ مع تكثير المعنى ونقل الشيخ عبد القاهر عن بعض المفسرين أنه قال المراد بالقلب العقل ثم شدد عليه النكير في هذا التفسير وقال وإن كان المرجع فيما ذكرناه عند التحصيل إلى ما ذكره ولكن ذهب عليه أن الكلام مبني على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه فلا ينظر ولا يعي بمنزلة من عدم قلبه جملة كما تقول في قول الرجل إذا قال قد غاب عني قلبي أو ليس دون أن يريد الإخبار أن عقله لم يكن هناك وإن كان المرجع عندما يحضرني قلبي إنه يريد أن يخيل إلى السامع أنه غاب عنه قلبه بجملته التحصيل إلى ذلك وكذا إذا قال لم أكن هاهنا

 يريد غفلته عن الشيء فهو يضع كلامه على التخييل

 هذا معنى كلام الشيخ وهو حق لأن المراد بالآية الحث على النظر والتقريع على تركه فإن أراد هذا المفسر بتفسيره أن المعنى لمن كان له عقل مطلقا فهو ظاهر الفساد وإن أراد أن المعنى لمن كان له عقل ينتفع به ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ثم تقييد العقل بما قيده عري عن الفائدة لصحة وصف القلب بذلك بدليل قوله تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة استعير لفظة المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة وهو في القرآن كثير كقوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) أي حالهم العجيبة الشأن كحال الذي توقد نارا وكقوله تعالى ( ولله المثل الأعلى ) أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة وقوله تعالى ( مثلهم في التوراة ) أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه وكقوله تعالى ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ثم أخذ في بيان عجائبها إلى غير ذلك.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.