مناظرة الإمام الرضا عليه السلام مع جمع من المتكلمين كالجاثليق ورأس الجالوت والهربذ الأكبر وأصحاب زردشت ورؤساء الصابئين |
756
07:47 صباحاً
التاريخ: 29-11-2019
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-11-2019
757
التاريخ: 27-11-2019
514
التاريخ: 27-11-2019
463
التاريخ: 29-11-2019
512
|
روي عن الحسن بن محمد النوفلي أنه قال: لما قدم علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه على المأمون، أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات، مثل : الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب زردشت ونسطاس الرومي، والمتكلمين، ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال:
أدخلهم علي ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم:
إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد.
فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، نحن مبكرون إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم - وكان يتولى أمر أبي الحسن - عليه السلام - فقال: يا سيدي أن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك، أنه اجتمع إلينا أصحاب المقالات، وأهل الأديان، والمتكلمون من جميع أهل الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا.
فقال أبو الحسن عليه السلام: أبلغه السلام وقل: قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟
فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان، ويحب أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى.
فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟
قلت: إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء، وذلك: أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن قلت: أن محمدا صلى الله عليه وآله رسول، قالوا: ثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل - وهو مبطل عليهم بحجته - ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك! قال: فتبسم ثم قال لي: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟!
قلت: لا. والله ما خفته عليك قط، وأني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله.
فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟
قلت: نعم.
قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أهل المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له : جعلت فداك أن ابن عمك ينتظرك، اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟
فقال له الرضا عليه السلام: تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ وضوء الصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا، ثم خرج وخرجنا معه، حتى دخل على المأمون، وإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقواد حضور.
فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجمع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق فقال:
يا جاثليق! هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو: من ولد فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وآله، وابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه.
فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره، ونبي لا أؤمن به؟ فقال الرضا عليه السلام يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟
قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقر به على رغم أنفي.
فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك واسمع الجواب.
قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه هل تنكر منهما شيئا؟
قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه، وما بشر به أمته، وأقرت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه، ولم يبشر به أمته!
قال الجاثليق: أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال: بلى.
قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد، ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني! ألا تقبل مني العدل والمقدم عند المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟
قال الجاثليق: ومن هذا العدل سمه لي؟
قال: ما تقول في (يوحنا) الديلمي؟
قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح.
قال: أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: أن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعدي، فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟
قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح، وبشر بنبوة رجل وأهل بيته ووصيه وأهل بيته، ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.
قال الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟
قال: أمر سديد.
قال الرضا لفسطاس الرومي: كيف يكون حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟
قال: ما أحفظني له، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال عليه السلام: ألست تقرأ الإنجيل؟
قال: بلى لعمري.
قال: فخذ علي السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي! ثم قرأ السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وقف ثم قال:
يا نصراني أني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟
قال: نعم. ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما السلام، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل، لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك.
قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل، وأني لمقر به.
قال الرضا عليه السلام: اشهدوا على إقراره!
ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك!
قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم، كم كان عدتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟
قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت.
أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهم (لوقا) وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال (يوحنا) الأكبر - يا حي - و (يوحنا) بقرقيسيا و (يوحنا) الديلمي بزخار وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله، وذكر أهل بيته، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به.
ثم قال: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله. وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته.
قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام.
قال الرضا عليه السلام: وكيف ذلك؟!
قال الجاثليق: من قولك أن عيسى كان ضعيفا، قليل الصيام والصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط، وما نام بليل قط، وما زال صائم الدهر قائم الليل.
قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي؟
فخرس الجاثليق وانقطع.
قال الرضا عليه السلام: يا نصراني أني أسألك عن مسألة قال: سل! فإن كان عندي علمها أجبتك.
قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله.
قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فهو: (رب) مستحق لأن يعبد.
قال الرضا صلوات الله عليه: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام، مشى على الماء، وأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم لا تتخذه أمته رب ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل، ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى ابن مريم، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا رأس الجالوت! أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة، اختارهم (بخت نصر) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم؟
قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.
قال: صدقت.
ثم قال: يا يهودي خذ علي هذا السفر من التوراة، فتلا عليه من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجح لقراءته، ويتعجب ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟
قال: بل كانوا قبله.
قال الرضا عليه السلام: لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: (اذهب إلى الجبانة، فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان، ويا فلان، ويا فلان يقول لكم رسول الله محمد قوموا بإذن الله) فناداهم فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا.
فقالوا: وددنا أن أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فإن اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربين، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم: من إحياء الموتى وغيره.
ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟
قال: نعم.
فأوحى الله إليه أن نادهم فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله! فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم .
ثم إبراهيم خليل الله عليه السلام حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا، ثم وضع على كل جبل منهن جزءا، ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه .
ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله فأرناه!
فقال لهم: إني لم أره.
فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم فبقي موسى وحيدا.
فقال: يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم، فأرجع أنا وحدي، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟
فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا! ما تقول يا نصراني؟!
فقال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله.
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى الله عليه وآله وأمته إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير، يسبحون الرب جدا جدا، تسبيحا جديدا، في الكنايس الجدد فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض، هكذا هو في التوراة مكتوب؟
قال رأس الجالوت: نعم. أنا لنجد ذلك كذلك.
ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟
قال: أعرفه حرفا حرفا.
قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم أني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر؟
فقالا: قد قال ذلك شعيا.
قال الرضا عليه السلام: يا نصراني أهل تعرف في الإنجيل قول عيسى: أني ذاهب إلى ربكم وربي، و (الفارقليطا) جائي هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له، وهو الذي يفسر لكم كل شئ، وهو الذي يبدي فضايح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟
فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا من الإنجيل إلا ونحن مقرون به.
فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتا؟
قال: نعم.
قال الرضا عليه السلام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟
قال له: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدناه غضا طريا فأخرجه إلينا يوحنا ومتى.
فقال الرضا عليه السلام: ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ وإنما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم، فإن كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، إعلم:
أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى ابن مريم وافتقدنا الإنجيل، وأنتم العلماء فما عندكم؟
فقال لهم ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى: أن الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا سفرا، في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنايس، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله.
فقال الرضا عليه السلام: أن ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأولين.
أعلمت ذلك؟
قال الجاثليق: أما قبل هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وقد سمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق، واستزدت كثيرا من الفهم.
فقال الرضا عليه السلام: فكيف شهادة هؤلاء عندك؟
قال: جائزة. هؤلاء علماء الإنجيل، وكل ما شهدوا به فهو حق.
قال الرضا عليه السلام - للمأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم -: اشهدوا عليه!
قالوا: شهدنا.
ثم قال للجاثليق: بحق الابن وأمه، هل تعلم أن (متى) قال في نسبة عيسى: أن المسيح بن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود بن خضرون؟
وقال (مرقانوس) في نسبة عيسى عليه السلام: أنه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت إنسانا؟ وقال (ألوقا): أن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس؟ ثم إنك تقول في شهادة عيسى على نفسه حقا أقول لكم أنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها إلا راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول؟
قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.
قال الرضا عليه السلام: فما تقول في شهادة ألوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه؟
قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.
قال الرضا عليه السلام: يا قوم أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق.
فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء.
قال الرضا عليه السلام: قد فعلنا.
سل يا نصراني عما بدا لك!
قال الجاثليق: ليسألك غيري، فوالله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.
فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟
قال: بل أسألك.
ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة، أو من الإنجيل أو من زبور داود، أو ما في صحف إبراهيم وموسى.
قال الرضا عليه السلام: لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران عليه السلام، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام، والزبور على لسان داود عليه السلام.
قال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد؟
قال الرضا عليه السلام: شهد بنبوته موسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وداود خليفة الله في الأرض.
فقال له: ثبت قول موسى بن عمران!
قال الرضا عليه السلام: تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم:
أنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فيه فصدقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل أخوة غير ولد إسماعيل، إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام؟
فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.
فقال له الرضا عليه السلام: هل جاءكم من أخوة بني إسرائيل غير محمد صلى الله عليه وآله؟
قال: لا.
وفي العيون: فقال الرضا عليه السلام: أفليس قد صح هذا عندكم؟
قال: نعم. ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة.
فقال له الرضا عليه السلام: هل تنكرون التوراة تقول لكم: جاء النور من قبل طور سيناء، وأضاء للناس من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران؟
قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.
قال الرضا عليه السلام: أنا أخبرك به أما قوله: جاء النور من قبل طور سيناء: فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء للناس في جبل ساعير، فهو: الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران: فذاك جبل من جبال مكة، وبينه وبينها يومان أو يوم.
قال شعيا النبي - فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة - رأيت راكبين أضاء لهما الأرض، أحدهما على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟
قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبرني بهما!
قال: أما راكب الحمار فعيسى، وأما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله أتنكر هذا من التوراة؟
قال: لا ما أنكره.
قال الرضا عليه السلام: هل تعرف حيقوق النبي عليه السلام؟
قال: نعم. أني به لعارف!
قال: فإنه قال - وكتابكم ينطق به -: جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس، يعني بالكتاب:
القرآن. أتعرف هذا وتؤمن به؟
قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوق النبي عليه السلام ولا ننكر قوله.
قال الرضا عليه السلام: فقد قال داود عليه السلام في زبوره - وأنت تقرأه -: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله؟
قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك: عيسى وأمامه هي الفترة.
قال الرضا عليه السلام: جهلت أن عيسى لم يخالف السنة، وكان موافقا لسنة التوراة، حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: أن ابن البرة ذاهب و (الفارقليطا) جائي من بعدي، هو يخفف الآصار، ويفسر لكم كل شئ، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الإنجيل؟
قال: نعم. لا أنكره.
قال الرضا عليه السلام: أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه السلام.
فقال: سل!
قال: ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته؟
قال اليهودي: أنه جاء بما لم يجئ أحد من الأنبياء قبله.
قال له عليه السلام: مثل ماذا؟
قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حية تسعى، وضربه الحجر فانفجر منه العيون وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.
قال له الرضا عليه السلام: صدقت في أنها كانت حجته على نبوته، إنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله، أفليس كل من ادعى أنه نبي وجاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟
قال: لا. لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء.
قال الرضا عليه السلام: فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى، ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشر عينا، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟!
قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بمثل ما لم يجئ به موسى، أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم.
قال الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت! فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله؟!
قال رأس الجالوت: يقال: أنه فعل ذلك، ولم نشهده.
قال الرضا عليه السلام: أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته! أليس إنما جاء الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟
قال: بلى.
قال: كذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم. فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟!
فلم يحر جوابا.
فقال الرضا عليه السلام: وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، وأمر كل نبي بعثه الله، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا، ولم يتعلم، ولم يختلف إلى معلم.
ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم حرفا حرفا، وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، بآيات كثيرة لا تحصى.
قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى، ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لا يصح عندنا.
قال الرضا عليه السلام: فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله شاهد زور؟
فلم يحر جوابا.
ثم دعا بالهربذ الأكبر. فقال له الرضا عليه السلام: أخبرني عن زردشت الذي تزعم: أنه نبي ما حجتك على نبوته؟
قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله، ولم نشهده. ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه: أحل لنا ما لم يحله لنا غيره فاتبعناه.
قال: أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟
قال: بلى.
قال: فكذلك سائر الأمم السالفة، أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، فما عذركم في ترك الاقرار بهم، إذ كنتم إنما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار الواردة بأنه: جاء بما لم يجئ به غيره؟
فانقطع الهربذ مكانه.
فقال الرضا عليه السلام: يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم!
فقام إليه عمران الصابي - وكان واحدا من المتكلمين - فقال: يا عالم الناس!
لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته، أفتأذن أن أسألك؟
قال الرضا عليه السلام: إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!
قال: أنا هو.
قال: سل يا عمران وعليك بالنصفة، إياك والخطل والجور! قال: والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به. فلا أجوزه!
قال: سل عما بدا لك!
فازدحم الناس وضم بعضهم إلى بعض.
فقال: أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق؟
قال: سألت فافهم الجواب!
أما الواحد فلم يزل كائنا واحدا، لا شئ معه، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك. ثم خلق خلقا مبتدعا، مختلفا، بأعراض وحدود مختلفة، لا في شئ أقامه، ولا في شئ حده، ولا على شئ حذاه ومثله، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة لله، واختلافا وايتلافا، وألوانا، وذوقا، وطعما، لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا، تعقل هذا يا عمران؟
قال: نعم والله يا سيدي.
قال: واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى.
ثم طال السؤال والجواب بين الرضا عليه السلام وبين عمران الصابي، وألزمه عليه السلام في أكثر مسائله، حتى انتهت الحال إلى أن قال:
أشهد أنه يا سيدي كما وصفت،
ولكن بقيت مسألة!
قال: سل عما أردت!
قال: أسألك عن: (الحكيم) في أي شئ، وهل يحيط به شئ، وهل يتحول من شئ إلى شئ، أو هل به حاجة إلى شئ؟
قال الرضا عليه السلام: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتقارب عقله العازب حلمه، ولا يعجز عن فهمه أولو العقل المنصفون.
أما أول ذلك. فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجة، ولم يزل ثابتا لا في شئ، إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه.
والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شئ، ولا يخرج منه ولا يؤده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل، ومن اطلعه عليه من رسله وأهل سره، والمستحفظين لأمره، وخزانه القائمين بشريعته، وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنما يقول له: (كن) فيكون بمشيته وإرادته، وليس شئ من خلقه أقرب إليه من شئ، ولا شئ أبعد منه من شئ، أفهمت يا عمران؟
قال: نعم يا سيدي فهمت، وأشهد أن الله على ما وصفت ووحدت، وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق، ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي - وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط - لم يدن من الرضا عليه السلام أحد، ولم يسألوه عن شئ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس.
ثم قال الرضا عليه السلام - بعد أن عاد إلى منزله -: يا غلام صر إلى عمران الصابي فأتني به!
فقلت: جعلت فداك! أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة.
قال: فلا بأس قربوا إليه دابة.
فصرت إلى عمران فأتيته به، فرحب به، ودعا بكسوة فخلعها عليه، ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله به.
قلت: جعلت فداك! حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: هكذا يجب. ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه، وأجلس عمران عن يساره، حتى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة.
فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل عليهم أمرهم حتى اجتنبوه. ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه الفضل مالا جزيلا، وولاه الرضا عليه السلام صدقات البلخ فأصاب الرغائب.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|