المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
اقليم الغابات المعتدلة الدافئة
2024-11-05
ماشية اللحم في كازاخستان (النوع كازاك ذو الرأس البيضاء)
2024-11-05
الانفاق من طيبات الكسب
2024-11-05
امين صادق واخر خائن منحط
2024-11-05
اماني اليهود بدخول الجنة
2024-11-05
امامة إبراهيم اقترنت بكلمات
2024-11-05

الإخلال بالأحكام الخاصة بتسديد الضريبة
28-2-2022
المقابـلة الشخصيـة Personal Interview
23-5-2021
رعاية الله الخاصة للنساء
23-9-2020
البرمجة الداينميكية Dynamic Programming Method
19-2-2018
محاولة اغتيال الإمام الباقر ( عليه السّلام )
13/11/2022
المكذبين بالعبث
2024-11-04


رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة  
  
3101   03:25 مساءاً   التاريخ: 23-03-2015
المؤلف : محمد الصالح السليمان
الكتاب أو المصدر : الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة : ص16-32
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-10-2019 840
التاريخ: 2-10-2019 3312
التاريخ: 2-10-2019 3528
التاريخ: 15-12-2019 31196

يرتبط هذا الشكل من الرحلات الخياليّة بأماكن الجنّ والعفاريت والشياطين تلك الكائنات الغريبة التي اختارها بعض الشعراء ملاذاً له يبثّها مواقفه من الحياة والفنّ والفكر وتشمل ((رحلة عبقر))، لشفيق معلوف، و((في حانة إبليس)) لمحمد الفراتي، و((ترجمة شيطان))، لعباس محمود العقّاد.

أمّا المدن المسحورة فهي تلك المدن التي عرفت في زمن ما واختفت بصورة غامضة، وارتبطت بشكل ما بالغرابة والعجائبيّة نحو ((إرم ذات العماد)). التي استوحى منها نسيب عريضة مطولته ((على طريق إرم)).

وأول هذه الرحلات الخياليّة إلى تلك العوالم الغريبة هي:

رحلة ((عبقر))، لشفيق معلوف1905.

مطوّلة عبقر من أهم الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث وقد نظمها الشاعر شفيق معلوف مستمداً مادتها من الأساطير العربية القديمة. وقد صدرت بعض أناشيدها أوّل مرّة في صحافة المهجر البرازيلية عام 1929، إلى أن صدرت عن مجلة الشرق البرازيلية عام 1936، وقد تضمنّت ستة أناشيد هي ((في طريق عبقر، الإله الناقص، حسرة الروح، حكمة الكهّان، ثورة البغايا، العبقريّون)). إضافة إلى مقدّمة عن أساطير العرب وشياطين الشعر بقلم والده عيسى إسكندر معلوف. وقد لقيت اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبيّة والفنيّة يومذاك، الأمر الذي حفّز شفيقاً إلى إصدارها سنة 1949 في 343 صفحة بعد أن تضاعفت أناشيدها وبلغت اثني عشر نشيداً، فكانت الأناشيد المضافة: ((نهر الغي، وادي سجين، الهوجل والهوبر، حلم هراء، العنقاء، أحاديث خرافة)) (1)، وقد نظمت المطوّلة على البحر السريع المنوّع القوافي.

قدّم شفيق المعلوف مطوّلة عبقر على أساس فكرة شيطان الشعر الذي يحلّق بالشاعر بعيداً عن عالم الواقع إلى عالم الجنّ والشياطين في وادي عبقر. ذلك الوادي الذي تؤوب إليه كلّ الأساطير والخرافات.

وقد جاءت ((عبقر)) فريدة بين مطوّلات الشعر العربي ومن بين موضوعات الرحلات الخياليّة لما في موضوعها من خصوصيّة، إذ تتناول أساطير العرب وخرافاتهم وعباداتهم ومعتقداتهم في الجاهليّة. وقد حملت أناشيدها العناوين التالية:

النشيد الأوّل: طريق عبقر ... النشيد السابع: حلم هراء.

النشيد الثاني: الإله الناقص ... النشيد الثامن: حكمة الكهّان.

النشيد الثالث: حسرة الروح ... النشيد التاسع: ثورة البغايا.

النشيد الرابع: نهر الغي ... النشيد العاشر: العنقاء.

النشيد الخامس: وادي سجين. ... النشيد الحادي عشر: أحاديث خرافة.

النشيد السادس: الهوجل والهوبر ... النشيد الثاني عشر: العبقريّون.

في النشيد الأوّل ينبري شيطان الشاعر مستظلاً بغيمة، وقد بانت سُحنته البشعة، فيحيّي الشاعر بتحيّة الصباح، ثمّ يعرض عليه أن ينطلق به إلى عالم السحر والخرافة حيث تأوي الجنّ والشياطين في وادي عبقر فيوافق الشاعر على ذلك ويمتطي ظهره، يقول:

حتَّى تَهاوَى بي إلى موضعٍ ... مَا راقَني مِنْ قَبلهِ مَوضعُ

غَمائمٌ زرقٌ على مَتْنِها ... مَنازِلٌ جُدرانُها تَسْطَعُ

فَقالَ هذي عَبْقَرٌ ما ترَى ... وَضَجَّةٌ الجِنِّ التي تَسْمعُ(2)

 

وفي النشيد الثاني يقف على أبواب عرّافة عبقر، وهي عجوز دردبيس تخال جهنّم في عينيها، ولكنّها دوّت سخطاً ودعت ويلاً عندما شاهدت هذا الإنسيّ الذي اقتحم عليها عالمها حاملاً شرّه بين جنبيه، وراحت تقذفه بعبارات التقريع والتذّمر قائلةً:

 

يَا آَكَلَ الأمواتِ ... ورَامِقَ النّيراتِ

بالأعْينِ الوَالِههْ ... لا تَمْضِ في عُجْبِكْ

فإنَّما الآلِههْ ... لَيْسَتْ على دَرْبِكْ

مادَامَ حبُّ الذَّاتِ ... يَنْخَرُ في قَلْبِكْ(3)

 

ويبتعد الشاعر في -النشيد الثالث-مع شيطانه عن عرّافة عبقر مستاءً ممّا سمع، غير أنّ الشيطان يحثّه على المُضي قُدماً في متابعة الرحلة، ثمّ يسمع صوتاً شجيّاً يعتصر الأسى نبراته، هو صوت أميرة الجنّ، بدت وقد أصابها طائف من الإنس فذاقت لذّة الجسد واحترقت بنار الشهوة، فما تلبث تعانق الأرواح دونما نفع، فلا شيء يشبع فيها النهم غير الجسد، لذا تراها تبيع الخلود بالكفن، فتقول:

يا حَامِلَ الجسم ألا أعطنيهْ ... وخُذْ إذا شِئْتَ خُلودِي ثَمَنْ

وِشَاحِي الناريُّ مَنْ يَشْتَرِيهْ ... فإنّني أَبِيْعُهُ بالكَفَنْ(4)

وفي الرابع من أناشيد عبقر يثب الشيطان بالشاعر وثبة عظيمة تقذفهما إلى نهر الغي، حيث يلتقي مارداً اسمه سرحوب، ما يفتأ يضرب النهر بعكّازه، فينفرج عن لجّة دهماء ظلماء كثيرة الشعاب يمشي فيها هذا المارد الأعمى كالبصير في النور، ويقدّم للشاعر عدداً من النصائح الخلقية التي تقوّم المجتمع في مواجهة الفساد الماديّ، يقول على لسان سرحوب:

يا أيُّها الهانِئونْ ... برُؤيَةِ الأسحارِ

والمَالِئونَ العُيونْ ... بِبَهجَةِ الأَنْوارِ

ماكُنتم تخبطونْ ... في لُجّةِ الآثامِ

لَوْ أنّكُمُ تُبْصِرُونْ ... مِثْلِيَ في الظّلامْ(5)

 

ثمّ في النشيد الخامس يقفز به شيطانه إلى وادي سجين، فيرى إبليس قد استراح على عرشه بعد أن قلّد أبناءه الخمسة مقاليد الغواية والضلال.

الأوّل: ((ثُبَرّ)) شيطان الحروب والدمار ومثير الفتن والأهوال، بدا وقد أطلق ضحكات الهزء والسخرية من بني البشر بعد أن نزع القيود من أرجل العبيد ليتوّج بها رؤوس الغزاة، ثمّ يظهر أخوه ((داسم)) مزّيّن النقائص والدسائس، ومعلّم الناس أساليب الرياء والخداع، ثمّ يبدو ((أعور)) إبليس الشهوة، يقول لبني البشر:

وَلْيَعْلَمِ العَاشِقُونْ ... أنَّ اصطِفَاقَ الجُفُونْ

في لذةٍ غائمة ... مَا هُو إلاّ مِرانْ

يُهَيّئُ الأجْفَانْ ... للنَّومَةِ الدائمة(6)

 

ثمّ يخرج ((زلنبور)) شيطان المال، معبود أهل الذهب ومفضّض الأغلال، غير أنّ الجميع يسيرون في النهاية تحت راية ((مِسْوَطٍ)) شيطان الكذب.

وفي النشيد السادس يتحدث المعلوف عن الهوجل والهوبر شيطاني الشعر، والهوجل يوحي الشعر الجيد ويعمل لأجل الحياة وبثّها في كلّ مكان، في حين يقوم الثاني على الإتلاف والتخريب وقد تمثّل ذلك في صورة إيحائيّة تصوّر الهوبر يأكل البسر ويرمي بالنواة على الأرض ليلتقطها الهوجل فيغرسها في الأرض.

وفي النشيد السابع يتحدّث عن رؤيا أميّة بن أبي الصّلت وخلاصتها: إنّ الشاعر الجاهلي كان يهيّئ نفسه للنبوّة لما شاع في زمنه عن نبي يرسل في العرب، وفي ليلة ما ينام أميّة فيأتيه هُراء في المنام بهيئة طير جثمت بقربه فشقّت أضلاعه واستخرجت قلبه المجبول على الشرّ والحسد والرياء فعرضت على ذلك القلب نور النبوّة فأباها، لأنّ النبوّة مقام سامٍ لا يصل إليه إلاّ من صفا قلبه وخلصت سريرته، فيقول:

أَذَاكَ قَلْبِيْ أَنَاْ ... تَاللهِ قُلْ يا هُراءْ

إذَا قُلوبُ الوَرَى ... كَانَتْ وَقلْبِي سَوَاءْ

وَكَانَ مَا بِي بِهِمْ ... لا كُنْتُ في الأَنبِياءْ(7)

 

أمّا في النشيد الثامن فيقابل المعلوف حكيمي عبقر، وهما: شقٌّ وسَطيح، فالأوّل كان نصف إنسان بعين ورجل ونصف لسان، والثاني قد سُلّت من جسده العظام فصار يُطوى كطيّ السجل. ويعرض الكاهنان على الشاعر عدداً من النصائح بما أوتيا من الحكمة. ويركز شفيق في هذا النشيد على الجوهر الأساسي في الحياة، وهو الروح. لأنّ الجسد مجرّد وعاء لا يضرّ النقصان فيه كمال الروح -ولاسيما-إذا تقوّت الروح ومُلئِتْ حكمة.

وفي نشيد ثورة البغايا، وهو النشيد التاسع يصوّر البغايا اللواتي ثرن في الجحيم على الله، واعترضن على قدره فيهن حتّى ضجّ منهنّ أهل النار، فزجّ بهن الله في وادي عبقر، يقول شفيق على لسانهنّ:

ُثرْنَا عَلَيْهِ حِينَما سَامَنَا ... عَسْفَاً فَلَمْ نَصْبِر على عَسْفِهِ

قَدْ حَشَدَ اللّذَّاتِ قُدَّامَنا ... وجَيَّشَ العَذَابَ مِنْ خَلْفِهِ

أَفْتَى بأنْ نَقُومَ في رِبْقِنا ... بِجِزيَةِ العَبْدِ إلى رَبِّهِ(8)

وفي النشيد العاشر يميل الشيطان بالشاعر إلى ناحية من عبقر يضيق بها الأفق، ويملأ جنباتها طائر خرافي هو العنقاء ومن خلفها فرخاها الرُّخ والفينيق، ويصوّر المعلوف حال هذه الطيور وضخامتها وأوكارها مقارناً بين عظمة أجسامها وعظمة عقول بني البشر التي أسكنها أهلها جماجمهم الضيّقة فحدّوا من إبداعها وانطلاقها، يقول:

مَا عَجَبِي لِفينقِ مُوْقِدِ ... لِنَفْسِهِ النّارَ على المِحْرَقَةْ

بَلْ لِطُيُورٍ مِثْلِها ضَخْمَةٍ ... أَوْكَارُها الجَمَاجِمُ الضيّقَةْ(9)

 

وفي أحاديث خرافة وهي النشيد الحادي عشر يروي الشاعر أسطورة خرافة وأحاديثه التي يرويها، وهي نسور لقمان، وأسطورة نصر بن دهمان، وحديث من البادية. ففي حديث نصر بن دهمان يتحدث خرافة عن نصر بن دهمان شيخ غطفان الذي عاد شاباً بعد أن أحنت ظهره السنون حتّى بدا كنابش قبره بيده، ولكنّ جنيّة تسلّلت ليلاً إلى مخدعه لتعيد إليه الشباب من دمعها وكحلها وحرقة أنفاسها.

وفي مقطوعة أناهيد يروي أسطورةً تتحدث عن امرأة من الأعراب اسمها أناهيد باعت نفسها للهوى، وجعلتْ من نفسها مستراحاً للركبان، فتثير غضب الآلهة عليها فتحوّلها إلى نجمة تهدي الركبان في الليالي التائهة في قلب الصحراء.

أما النشيد الثاني عشر، فهو آخر محطات الرحلة حيث همس الجماجم، ولغة الفناء تشدّ إليها الرائي المتعظ، ويبقى الخلود للروح وتبقى الأجسام قشوراً لا تفتأ تتيبّس ليتفتّق اللبّ عن خلق جديد، ويظل الحبّ هدفاً تسعى إليه الشاعريّة ووسيلة لخلاص الإنسانيّة من آلامها، فيقول:

والحُبُّ في الجَنَّةِ مَا شأْنُهُ ... وَلا أَذَىً فيهَا ولا بُغْضُ

أَلْقُوهُ للنارِ وَإنْ أَرمَضَتْ ... أَقْدَامَهُ المَوَاطِئُ الرُّمضُ

ولَيَتَلّقَّفَهُ شُواظُ اللَّظَى ... وَلْيَتَلَهَّمْ بَعْضَهُ البَعْضُ

فَالأرضُ إنْ كانتَ جَحيماً لَهُ ... وَكانَ فيها تَهْنأ الأَرْضُ(10)

لقد تمثّل الشاعر في عبقر الحياة الإنسانيّة المعاصرة، التي تقوم على الصراع بين المادّية الطاغية والروح الإنسانيّة الطاهرة، فبدت عبقر كأنّها صورة ممسوخة لهذا المجتمع بكلّ ما فيه من تناقضات، وقد أراد الشاعر فيها أن يرسم موقفه من الإنسان، الذي بدا شريراً بطبعه، والحياة الاجتماعيّة المتردية التي رسفت في قيود الرذيلة، وغلبة الشهوات، وقد ألبس شفيق مادته الأسطورية في هذه الرحلة رؤية إنسانيّة شفافة بعثتها بثوب جديد يتساوق والهدف الذي صرّح به شفيق في مقدّمة عبقر وهو بعث التراث الأسطوري العربي والتجديد في الشعر العربي المعاصر.

في حانة إبليس محمد الفراتي 1890-1978.

قصّة شعريّة نشرها الشاعر في ديوانه النفحات في حوالي 1956-1957 وهي مؤلّفة من خمسة وستين ومائة بيت على بحر الهزج منوّع القوافي.

وتدور أحداث القصّة في طفولة الشاعر عندما يلتقي جنيّة تغريه بالحلوى لتسوقه خلفها نحو عالم إبليس حيث يلتقي هناك أبا مرّة ويدور بينهما حوار طويل ينتهي الحوار إلى هدّية يقدّمها إبليس لهذا الطفل الناشئ، هي موهبة الشعر على أن يحتفظ الطفل بالسّر إلى أن يكبر وإلاّ فسيصاب بالخبل انتقاماً تقوم به الشياطين والجنيّة لذلك.

يقصّ علينا الشاعر، وهو شيخ طاعن في السنّ ما كان في طفولته من لقائه جنيّة أخذت تناديه وتغريه بالحلوى لتستجرّه وراءها بعيداً عن الدور، ثمّ لتأخذه إلى أعماق الأرض حيث تقطع به مسافة طويلة ليقف أمام ظلمة داجية وتصيح بكلمة سحريّة تشقُّ دياجي الظلمة، لتضيء تحتها دور وبساتين لا نكاد نلمح فيها شيئاً يتميّز عن عالمنا الأرضي يقول:

 

إِذْا بِالأَرْضِ قَدْ ضَاءَتْ ... وَبَانَتْ تحْتَها دُوْرٌ

وَقَدْ حَفَّتْ بِتِلْكَ الدُّو ... رِ أَنْهَارٌ وَجَنَّاتٌ

وَعَنْ بُعْدٍ تَرَاءَتِ لِي ... صَحْرَاءٌ وَوَاحاتٌ(11)

ثمّ يصوّر قصر إبليس فيتكئ في تصويره على خيالات وصور مستمدّة من عالم ألف ليلة وليلة، فهو قصر مشيد من درّ وماس، وأبوابه من الجواهر والذهب، وبناء القصر يغلبُ عليه الطابع الإسلامي ففي وسطه قبّة عظيمة وبهو كبير، ودعائمه من الذهب وتحفُّ بإيوانه ولجّته أشباح ومخلوقات عجيبة من الجنّ يقول:

إذا قَصْرٌ مَشِيْدٌ مَا ... لَهُ شِبْهٌ لَدَى النّاسِ

بِأْعَلَى رَبْوَةٍ قَدْ شِيْـ ... ـدَ مِنْ دُرٍّ وَمِنْ مَاسِ

وَفَوْقَ العَرْشِ إِبْلِيسٌ ... لَهُ عِزٌّ وَسُلْطَانُ(12)

 

ثمّ ينتقل الفراتي إلى وصف إبليس وما لديه من زينة وأدوات إغواء، حتّى إذا اقترب منه ناداه أبو مرّة مستعطفاً إيّاه ومستغلاً سذاجته ليريه في مرآته أعاجيب عن الناس، ما كانت تخطر له ببال. فيرى الناس يتقاتلون على الدنيا كالوحوش الضارية ويرى تهافت الناس على الشهوات وغيرها من مهاوي الأخلاق، وكأنّه يؤكّد سطوة الشهوات والغرائز في رسم مصائر كثير من البشر، لأنّ كل الناس في رأي إبليس صريع الجنس والشهوة بدءاً بأبي البشر آدم. ويظهر إبليس تظلمه أمام الشاعر، فالله عزّ وجلّ، على حدّ زعمه، قد ظلمه أكبر الظلم حين تاب على آدم ولعنه إلى يوم القيامة، رغم أنّ آدم قد ركّبت فيه كلّ طباع السوء، فيقول:

وآدَمَكُمْ طِبَاعُ السُّو ... ءِ أجْمَعُ رُكِّبَتْ فيهِ(13)

 

وبعد هذه الحوارية يلتفت إبليس إلى الشاعر ليقدّم له هدية ثمينة، ألا وهي صولجان الشعر، فيقول:

أتدْري فيمَ جِئْنَا بِـ ... ـكَ في ذَا اللّيلِ مِنْ أهْلِكْ

فَعِنْدِي مِنْحةٌ مَخْبُو ... ءَةٌ في الغَيبِ مِنْ أجلِكْ

فذا الطّاوُوسُ قَد يُعطى ... لمزهُوّين بالفنِّ

فدُونَكَ صولجانَ الشِّعـ ... ـرِ خذْهُ وِهْبَةً مِنّي(14)

ثمّ تعود السعلاة بالشاعر الفراتي بعد أن يأخذ منه إبليس المواثِيق بألاّ يخبر أحداً بما جرى حتى يغدو شيخاً طاعناً في السنِّ. ثمّ يعرض الفراتي لبعض العادات الشرقية السائدة في بلده، ولاسيما، المتعلقة بالأحزان ويشيد بالتآزر الذي يلقاه الإنسان المنكوب بمصيبة ما من أقاربه وذويه، فيقول:

فَأَلْفيتُ أبي المحزُو ... نَ طولَ اللّيلِ سَهَرانا

وَأَلفيتُ عَجُوزَ الخيـ ... ـرِ أمّي وَهْي مُحتارَهْ

تنوحُ وحَولَها العمّا ... تُ والخَالاتُ والجارَهْ(15)

 

وينقلب حال أهل الشاعر سروراً بعد حزن عندما يتلقونه ويخبرهم

بما جرى له حسبما أوصته السعلاة أن يفعل ويطوي سرّ الحادثة إلى أن

يرويها في هذه القصيدة.

وهكذا انتهت رحلة الشاعر الفراتي بعد أن حلّق بخياله في عالم الجنّ والشياطين ذلك العالم الغريب، لا للتسلية والترفيه، وإنّما ليرسم ملامح موقفه من الحياة الاجتماعيّة التي صوّر كثيراً من جوانبها وما كان ليرتحل إلاّ ليعرّض ببعض الجوانب الفاسدة، والتهافت وراء الشهوات والانخداع ببعض الفئات المدّعية التديّن، كما استطاع أن يرسم لوحة صادقة لمجتمع إنساني لا يزال يعيش أحاديث الجنّ وأساطير خرّافية. ولا يخفى تأثّر الفراتي في رحلته الخياليّة هذه بأسطورة شيطان الشعر الذي يلهم الشاعر أجمل القصائد.

ترجمة شيطان عباس محمود العقّاد (1889-1964).

جاءت قصيدة ((ترجمة شيطان)) في ديوانه ((أشباح الأصيل)) مؤلفة من (220) مائتين وعشرين بيتاً على بحر الرمل. موزّعة على شكل ثنائيات متّحدة القافية شغلت الصفحات من 272 إلى 289. (16)

 وتروي القصيدة سيرة شيطان ناشئ من ولد إبليس سئم الحياة التي خُلق لها فيتمرّد على هذه الخلقة والمهمّة التي تقتصر على الإغواء، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ عن الشرّ فيجازيه الله عن توبته بالجنّة مسكناً ومآباً، ولكنّ روح الثورة لا تفارق هذا المخلوق فيرى أنّ أيّ منزلة دون الكمال الإلهي نقص وعيب فيطلب إلى الله في تحدّ صارخ أحد أمرين: إمّا الخلود الإلهي المطلق، وإمّا التحوّل حجراً صلداً تُخلّد فيه روعة الفنّ الجميل. يطالعنا العقّاد منذ البداية بمقدّمة فلسفية قوامها فكرة بسيطة هي أنّ الله خلق هذا الشيطان محنة للعالمين ووسيلة لتعليم الحكّام والملوك كيف يرمون من شاؤوا التخلّص منه بتهمة المروق والعصيان. يقول:

صَاغَهُ الرَّحمنُ ذُو الفَضْلِ العَمِيمْ ... غَسَقَ الظَّلمَاءِ في قَاعِ سَقَرْ

ورَمَى الأرضَ بِهِ رَمْي الرَّجيمْ ... عِبرةً فاسْمَعْ أعاجيب العِبَرْ(17)

 

ثمّ يقذف به من السماء إلى أرض الزنوج ((أولاد حام)) فهم بجهلِهم وتخلّفهم أرضٌ خصبةٌ للإغواء، ولكنّه لا يبقى طويلاً حتى يُرمى به في سواحل أوربّة، يقول:

لَمْحَةٌ جَازَتْ بهِ مَشْرِقَها ... ثُمَّ رَدَّتْهُ حِيالَ المَغْرِبِ

وَيِشاءُ اللّهُ أَنْ يُوبِقَها ... فَاشْتَهَاهَا شهْوَةَ المُغْتَصِبِ

وارتضى فِيها مقَاماً رَغَداً ... حَوْلَ بَحْرِ الرّومِ أو بَحْرِ العَجَمْ(18)

 

فيلبس عليهم الشيطان الحقّ ويخنس على القلوب، فإذا هي صراعات مرة مع الرغبات والشهوات والعادات والقوانين، غير أنّ كلّ هذا يكون بأسلوب تقريري لا أثر بالغ للتصوير الشعري فيه.

ثمّ يسأم الشيطان من دوره في الإغواء ويكفر بالشرّ العقيم، لأنّ الناس قد تساوت لديه في الهدى والضلالة، فينوب إلى الله ويتوب عن الإغواء، ومُحال أن يردّه الله، فيفتح له أبواب جنّته يختار منها المقام الذي يشاء عند مصبّ السلسبيل في زمرة من الملائك والحور والولدان المخلّدين يقول:

يَكْفُرُ الشَّيطانُ بالشّرِّ العُقامْ ... فَتَعُدُّ الكُفْرَ مِنْهُ نَدَما

وَتُنَجِّيهِ إلى دَارِ السَّلامِ ... وَقَدِيْمَاً قُلْتَ لا يَغْشَى الحِمَى

فَضْلُكَ اللّهُمَّ مِنْ غَيْرِ حِسَابْ ... وَكَذا اللّهُمَّ آلاءُ العَلِيمْ

نَزَلَ الشَّيطانُ مِنْ جَنَّتِهِ ... مَنْزِلاً يَرْضَى بِهِ الفَنُّ الجميلْ(19)

 

إلاّ أنّ الشيطان سرعان ما يسأم حياة النعيم لأنّه لم يصل إلى مقام الخلود المطلق، مقام الربوبيّة الذي لا يدانيه نقص، إذاً لابدَّ من الثورة والتمرّد، وهنا تصل روعة التصوير الشعري عند العقّاد ذروتها، حيث يقول:

وَبَدَا الشَّيْطانُ مَعْرُوفاً تَرَى ... كِبْرِيَاءَ الكُفْرِ في وِقْفَتِهِ

عَالَي الجَبْهَةِ يَأْبَى القَهْقَرَى ... وَتَوُجُّ النَّارُ مِنْ نَظْرَتِهِ(20)

 

ويحسد الشيطان الله على مقام الربوبيّة ويظنّ أن الله ظلمه لأنّه خلق فيه روح التمرّد والعصيان، فهو أسير إرادته، ولو أنه عصى الله بإرادته لوجبت لعنته لمخالفته أمر الله، ويعترض الشيطان على الله الذي يهب الجنّة لعباده من السذّج الذين لا يطمحون بالنظر إلى الخلود المطلق ولا يفكّرون به مجرّد التفكير في حين يشقى هو بعقله لأنه ينظر إلى البعيد ويطمح إلى الخلود.

وتصل ذروة التمرّد لدى الشيطان حين يتحدّى ربّه بأنّه لن يسأله الرحمة والشفقة أبداً، وأن يجعله حجراً صلداً وفتنة تجذب إليها النفوس والعقول فيقول:

وادْعُ في خلقِكَ يَسْجُدْ مَنْ رَجا ... خُلْدَكَ الأعلى فما نحنُ سُجودْ

لنكوْنَنَّ إذا صحَّ الحَجَا ... حَجَراً صَلْداً ولا هذا الوجودْ(21)

 

ويتخلّى إبليس عن ذلك الشيطان الناشئ، ويسخر منه، ويرفض أن يسلكه سبيل شهداء الشياطين، فيقول:

 

قالَ: فلْتسلكْهُ فيمَنْ سَلكُوا ... أيُّها المَولى سبيلَ الشّهداءْ

وتَقَضَّتْ بينهُمْ سيرتُهُ ... وَمضَى كالطّيفِ أو رَجْعِ الصَّدى

باءَ بالسّخْطِ فلا شيعتُهُ ... رَضِيَت عنه ولا أرضَى العِدا(22)

 

وتبدو (ترجمة شيطان) للعقّاد رحلة خالصة للخيال، وتكاد لا تحمل شيئاً من الارتباط للواقع، وكأنّ العقّاد اتخذ من الموضوع مادة للإبداع والتجديد، فكانت القصيدة بذلك مخلصة لموضوعها، لم تحمّله أبعاداً خارجة عنه.

وهي من غير شكّ تكشف عن تجذّر الفساد في نفس الشيطان، وكأنّها تريد توكيد ثبات الشرّ في النفس الشريرة.

على طريق إرم نسيب عريضة (1887-1946)؟

وتعدّ (على طريق إرم) رحلة إلى عالم عجائبي، بحثاً عن الراحة والطمأنينة وقد استغرقت من ديوانه (الأرواح الشريرة) قرابة تسع عشرة صفحة بلغت أبياتها 247 بيتاً موزعة على ستة أناشيد هي:

1 ـ أوّل الطريق.

2 ـ القلوب على الدروب.

3 ـ الطلل الأخير.

4 ـ في القفر الأعظم.

5 ـ القيروان.

6 ـ نار إرم(23)

وهي منوّعة الأبحر والقوافي وفيها مخمّسات في النشيد الأخير، أمّا الأبحر العروضية فهي: مخلّع البسيط في النشيد الأول، ومجزوء المتدارك في الثاني، ومجزوء الوافر في الثالث، والمجتث في الرابع والخامس أيضاً، وفي النشيد الأخير مجزوء المتدارك.

لقد دفعت كثرة التفكير الشاعر إلى أن يتخيّل عالماً نقيّاً صافياً ترى فيه النفس استقراراً وهناءة عند تحقيق ذاتها فكانت ((على طريق إرم)) محاولة لتحقيق هذه الراحة بخوض غمار المغامرة وحضّ أدوات النفس على الصمود في مواجهة القلق الناجم عن سطوة الحياة المادّية ويظل في كفاح وجهاد، ومدّ وجزر إلى أن يصل إلى نار إرم التي ينشدها ويرى فيها خلاصه المؤمّل.

((جاء في أساطير العرب أنّ (إرم ذات العماد) مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في ضوء النهار، ثمّ أقفرت هذه المدينة العجيبة واختفت في الصحراء، فهي في مكان محجوب عامرة بقصورها السحريّة وكنوزها المباحة، ولكن لا وصول إليها، وقد طلبها كثيرون فهلكوا أو ضلّوا وعادوا قانعين من الغنيمة بالإياب. هذه إرم الأساطير. أمّا إرم الشاعر التي يتحدث عنها الناظم في ملحمته فهي (إرم) الروحيّة......)) (24).

إذن فللشاعر إرم أخرى غير المقصودة بالأسطورة، إنّها وليدة التفكير العميق بالنفس والحياة والخلود والموت، هذا التفكير الذي رسمت ملامحه حمأة الحياة المادّية، التي طغت على كلّ شيء في هذا العصر، لذا وجدنا أنّ الشعراء ارتدّوا إلى ذواتهم يصنعون لأنفسهم عالماً من الخيال يلوذون به فراراً من هذه الحياة المتعبة، يحلمون فيه بالدعة والطمأنينة ولو لحظات، ليعودوا بعدها إلى عالم الواقع، وقد حملوا معهم نشوة الحلم ليسيل المداد به.

وفي لحظة الإبداع ينفلت الخيال من صفد الواقع، يسعى الشاعر إلى الروح المشرقة فيتخذ لنفسه سميراً-قد لا يكون سوى شعره-ليجدّ في السير نحو الطريق التي أشرقت بروقها في روعه، وارتسمت معالم الطريق إليها فأصيبت روحه منها بمسّ لطيف يكاد لا يفارقها. وهنا يكون النشيد الأول هو بعنوان ((أول الطريق)): فقد هامت روحه هُيام الأعمى الذي لا يحسن السؤال، ولا يعرف الطريق إلى هذا الروح الذي طاف به من عالم الخيال، وقد سارت إليه القوافل تباعاً ليس لها هادٍ إلاّ الروح لأنها المطيّة الوحيدة إلى منبع الإشراق الحقيقي.

يهيّئ الشاعر لنفسه المطايا ليكوّن الركب العجيب الذي سيقلّه إلى إرم الروحيّة، لذا تراه يسوّد القلب على ركبه ويجعله هادياً لهم ومرشداً إلى الحلم.

أمّا النشيد الثاني وهو بعنوان ((القلوب على الدّروب)) فإنّ الشاعر والركب يمتحنان القلب بعد أن سوّداه على ركبهم ليمحّصا قدرته على قيادة الركب والوصول به إلى الغاية المرجوّة، لكنّه قائد يذوب من الحبّ ولا يصبر على ليل الأسى الذي يمتحن مطايا القلوب ويرميها بوابل من الشوق فيهيج طرف الشاعر بالدموع وتجتمع إلى صدره الهموم، حتّى يكاد ييأس من طلوع الفجر. فهل يستطيع القلب أن يكون مرشداً ودليلاً إلى منبع الإشراق؟ وها هي ذي الأجراس ترنّ بأسماع الشاعر، وليس رنينها إلاّ صدّىً لأنين الروح الملهبة بسياط الشوق والهيام، فيخشى الشاعر على ركبه من الشتات فيصيح:

يَا قُلوباً غَدتْ نياقا ... سَامَها الوَقْدُ أَنْ تُساقَا

قَدْ سَرَى قَبْلَكِ الجَمالُ ... مَعَهُ النُّورُ والكَمالُ

فأسْرِعِي يَا قُلوبْ ... واهْتدِي بالطُّيوب(25)

وفي النشيد الثالث ((الطلل الأخير)) يجرّد الشاعر من نفسه واحة صوفيّة فيناجي ذلك الطلل مناجاة لهفة وحنين، غير أنّ الحيرة تملأ قلبه بالضياع والأسى، إذ يحاول أن يصل إلى راحة الروح التي طالما حلم بها، ولكنّه لا يصل إلى ذلك الصفاء رغم كلّ أحلامه في الوصول.

وفي النشيد الرابع ينحر الشاعر ناقة الوجد في القفر الأعظم ويقدّم قربان الجسد على مذبح الأسى والوفاء لعلّه يتخفّف من أوضاره المادّية المثقلة للروح، لتخفّ الروح إلى العُلى حيث السمّو والعلاء، غير أن الجسد يضيع في صحراء التيه فلا شيء يهدي هذه الروح إلاّ مزايا البذل والتضحية والفداء، لذا يحثّ النفس عليها لأنّها لن تصل إلى منبع الإشراق إلاّ بهذه السجايا، عندئذٍ لا تهمّ المسالك، وأيّاً كانت سالكة أم غير سالكة فكلّها تؤدّي إلى الخلود في الحياة التي يأكل الفناء رواءها وإشراقها يقول:

 

يا نَفْسُ لا فرقَ عِندي ... في سَلْكِ أيّ الدّروبِ

تَقَدِّمي وَسيري ... إلى مَكانٍ بَعِيدِ

كلُّ الدّروبِ تُؤَدِّي ... إلى سَبيلِ جَديدِ

إنَّا وإِيَّاكِ رَكْبٌ ... عَلَى طريقِ الخلودِ(26)

 

ثمّ تدور مناجاة بين الشاعر ونفسه، يستحث الشاعر نفسه على أن تهديه بصفاتها ونقائها إلى الطريق الصحيح، فيصيح بأذن نفسه ليسمع صوت الفجر يهديه إلى حقيقة لا مفرّ من إدراكها، إنّها حقيقة انقضاء الحياة في عبث لا طائل منه، فالعمر يمضي ما بين ليل وفجر، فيستغيث الشاعر نفسه أن تكفَّ عن تذكيره بأوزاره التي يحملها على ظهره، مرهقاً بأوجاعها. ورغم ما يلوّح به الشاعر من روح الأمل فإنّ نزعة التشاؤم تسيطر على الأبيات.

وفي النشيد الخامس: وهو بعنوان ((القيروان))، وربّما أراد الشاعر بهذه التسمية الإشارة إلى مدينة القيروان التي كانت منبعاً للعلم والمعرفة في إفريقيّة بعد الفتح الإسلامي.

المفيد في الأمر أنّ الشاعر راح يتفقّد الركب ويجمع أشتاته فيقول:

قَدْ كانَ في الرَكْبِ قَلْبي ... وَمُهجَتِي وَهَوايا

والعقلُ حَامِي السَّرايا ... والشَّوقُ زاجِي المَطايا

وفِي الهَوادِجِ حُلْمِي ... ورَغْبَتِي والطَوَايا

بَنَاتُ صَدْرِي وشِعْرِي ... والذّكْرَياتُ الحَظَايا(27)

 

وتغدو قيادة الركب صراعاً بين أفراده فكّل يريد أن يقود الركب إلى غايته المنشودة، ولكن هيهات فقد راحوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، ولكنّ الأمل ونشوة الحلم لا تزال تداعب نفس الشاعر في الوصول إلى غايته المنشودة فيستحثّ بقايا الركب إلى السير نحوها وإن عظمت الصعاب، فيقول:

يَا ركْبُ يَا ركْبُ صَبْراً ... لَمْ يَبْقَ إلاّ اليَسِيرُ

لا تَرْجِعُوا القِفَارَ ... فِيها الأمَانِي تَبُورُ

أَمَامَنا الطَّودُ فامضُوا ... إلى الشِّعَابِ المَسيرُ(28)

 

ويجمع الشاعر أشتات ركبه ويلوذ إلى نفسه ينقّيها إلى أن تصل غاية النقاء والطهر، عندها فقط تلوح له نار إرم في النشيد السادس، تلك النار التي رحل لأجلها، لأجل أن يملأ جوانحه من نورها الفيّاض ذلك النور الذي لن يبارحه حتّى يفرّق الموت بينهما فيقول:

إيْهِ ضَوئِي البَعيدْ ... لُحْ ولُحْ ما تُريدْ

لَيسَ طَرفِيْ يَحيدْ ... عَنْكَ حتّى يعودْ(29)

لتُرابٍ ودُودْ

 

هكذا يبدو واضحاً أنّ المعرفة هي رفيق الإنسان وأمله الذي لا يمكنه التخلّي عنه في حياته، لأنّ تخليه عنه يعني فقده هُويته الإنسانيّة، ولكن قبل أن يتشبث الإنسان بهذا الرفيق لابدّ أن ينقّي روحه ويخلّصها من أوضارها الماديّة التي ربّما تحوّل هذه الأداة الفاعلة دماراً وحروباً بعد أن كانت في روع الشاعر وكلّ ذي روح طاهرة أداة وجود وخير عطاء.

لقد تميّزت الرحلات الخياليّة السابقة باختيارها الأماكن الغريبة والمسحورة التي تأوي إليها الشياطين والجنّ مراحاً تعرض من خلاله نظرتها إلى المجتمع الإنساني المعاصر فتعرّض بمفاسده وتفضح نقائصه، وتدعو من طرف خفي إلى الحياة الإنسانية الكريمة القائمة على الروحانيّة سمة رابطة بين بني البشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينظر: دقاق، عمر، شعراء العصبة الأندلسية في المهجر، بيروت، مكتبة الشرق، ط/أولى، 1973، ص: 430-431.

(2) المعلوف، شفيق، عبقر، ط/أولى، سنة 1946، سان باولو، ص: 155.

(3) المصدر السابق، ص: 168.

(4) المصدر نفسه: ص 183.

(5) المصدر نفسه، ص: 184-185.

(6) المصدر نفسه، ص: 229.

(7) المصدر نفسه: ص :229.

(8) المصدر نفسه، ص: 255-256.

(9) المصدر نفسه، ص 269-270.

(10) المصدر السابق، ص: 320.

(11) المصدر السابق، ص: 270.

(12) المصدر نفسه، ص 271.

(13) المصدر السابق، ص 274.

(14) المصدر نفسه، ص: 278-279.

(15) المصدر نفسه، ص: 280.

(16) العقاد، عباس محمود، ديوان العقاد، أشباح الأصيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 272-289.

(17) المصدر نفسه، ص: 272.

(18) المصدر نفسه، ص 275.

(19) المصدر نفسه، ص: 282.

(20) المصدر نفسه، ص: 282.

(21) المصدر السابق، ص: 287.

(22) المصدر نفسه، ص: 289.

(23) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، نيويورك، 1946، ص: 179-197.

(24) المصدر السابق، ص: 178.

(25) المصدر السابق، ص :184.

(26) المصدر السابق، ص: 185.

(27) المصدر نفسه، ص:189.

(28) المصدر نفسه، ص: 197.

(29) المصدر نفسه، ص: 197.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.