أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-03-2015
6177
التاريخ: 2-03-2015
5501
التاريخ: 2-03-2015
5313
التاريخ: 2-03-2015
1780
|
رأينا الكسائي يرسم منهج النحو الكوفي على أسس ثلاثة هي: الاتساع في الرواية بحيث تفتح الأبواب على مصاريعها لرواية الأشعار والأقوال والقراءات الشاذة، والاتساع في القياس بحيث يعتد في قواعد النحو بالشاذ والقليل النادر، والاتساع في مخالفة البصريين اتساعا قد يئول إلى مد القواعد وبسطها بآراء لا تسندها الشواهد اللغوية، بل قد يئول أحيانا إلى رفض المسموع
ص195
الشائع على نحو موقفه وموقف الفراء من إعمال أسماء المبالغة على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع.
وقد مضى الفراء -في أثر أستاذه- يتسع بهذه الجوانب، وكان عقله أدق وأخصب من عقل الكسائي، إذ كان مثقفا -كما أسلفنا- ثقافة كلامية فلسفية، فكانت قدرته على الاستنباط والتحليل والتركيب واستخراج القواعد والأقيسة والاحتيال للآراء وترتيب مقدماتها لا تُقْرَن إليها قدرة أستاذه، وقد تحول بها إلى تنظيم واسع لما تركه من أسس بانيا عليه من اجتهاده ما أعطى النحو الكوفي صورته النهائية، وهي صورة تقوم على الخلاف مع نحاة البصرة في كثير من الأصول، مع النفوذ إلى وضع مصطلحات جديدة والخلاف مع الخليل وسيبويه في تحليل بعض الكلمات والأدوات وفي كثير من العوامل والمعمولات، ومع مد القياس وبسطه ليشمل كثيرا من اللغات، والإبقاء مع ذلك على فكرة الشذوذ ومخالفة القياس حتى في القراءات.
أما الأصول, فقد خالف البصريين فيها في أربع مسائل أساسية، أما المسألة الأولى فعدم تفرقته بين ألقاب الإعراب والبناء، على نحو ما مر بنا في حديثنا عن مدرسة الكوفة، وكان حريا به أن يفصل بينهما كما فصلت مدرسة البصرة؛ تمييزا للألقاب التي يتبعها التنوين من الأخرى التي لا يتبعها. والمسألة الثانية هي أن المصدر مشتق من الفعل، لا كما ذهب إليه البصريون من أن المصدر هو الأصل والفعل مشتق منه، وكان يؤيد رأيه هو والكوفيون بأن المصدر يصح بصحة الفعل ويعتل باعتلاله، فتقول: قِوام من قاوم وقيام من قام، وأن الفعل يعمل فيه النصب، تقول: كتب كتابة، وأنه يؤكده كالمثال المذكور، والمؤكد يتلو ما يؤكده، وأيضا فإنه توجد أفعال لا مصادر لها مثل نعم وبئس وليس، إلى غير ذلك من حجج تحاور معهم فيها البصريون طويلا, مؤيدين رأيهم ببراهين كثيرة(1). والمسألة الثالثة هي إعراب الأفعال، وأنه أصل فيها كالأسماء لا أنه أصل في الأسماء
ص196
فرع في الأفعال، وكان سيبويه والبصريون يذهبون إلى الرأي الثاني؛ لأن الاسم تتعاوره معانٍ مختلفة، هي الفاعلية والمفعولية والإضافة, ولولا الإعراب ما استبانت هذه المعاني في صيغة الاسم ولوقع اللبس، بخلاف الفعل فإن اختلاف صيغه في التركيب يؤمن من اللبس فيه. وذهب الفراء إلى أن الإعراب أصل في الأفعال كالأسماء، واحتج بأنها هي الأخرى تختلف معانيها الزمنية، فقد تدل على الحال، وقد تدل على الاستقبال، وقد تدل على المضي، ومعروف أن المضارع قد يدل على الاستمرار في مثل "يشعر", إذ تقوم مقام شاعر، وفي هذه الحالة يصبح المضارع مثل الاسم الذي يلزم المسمى ولا يزايله (2).
والمسألة الرابعة مسألة الأفعال وأقسامها، أما البصريون فيقسمون الفعل القسمة المعروفة إلى: ماض ومضارع وأمر، وأما الفراء وتبعه الكوفيون، فقسمه إلى: ماض ومضارع ودائم، وهو لا يريد بالدائم فعل الأمر، وإنما يريد اسم الفاعل كما مر بنا في فصل المدرسة الكوفية(3). أما فعل الأمر فمقتطع عنده من المضارع المجزوم بلام الأمر، يقول: "العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه لكثرة الأمر خاصة في كلامهم، فحذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل "المضارع في مثل: لتضربْ" وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف. فلما حذفت التاء ذهبتَ باللام، وأحدثتَ الألف في قولك: اضرب وافرح؛ لأن الضاد ساكنة، فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن فأدخلوا ألفا خفيفة "يريد ألف الوصل" يقع بها الابتداء، كما قال: {ادَّارَكُوا} و {اثَّاقَلْتُمْ} . وكان الكسائي يعيب قولهم: "فلتفرحوا"؛ لأنه وجده قليلا فجعله عيبا، وهو الأصل "يريد أصل الأمر" ولقد سمعت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بعض المشاهد: "لتأخذوا مصافَّكم"، يريد به: خذوا مصافكم(4) وبذلك يكون الأمر عنده
ص197
مجزوم الآخر لا مبنيا، فهو معرب إعراب أصله المقتطع منه(5). وعلى ضوء ما هو معروف عند المعتزلة من أن المسلم الفاسق في منزلة وسطى بين المؤمن والكافر, ذهب إلى أن "كِلا" التي يضعها الخليل والبصريون في باب الأسماء ليست اسما ولا فعلا, بل هي في مرتبة متوسطة بينهما، واحتج لذلك بأنها لا تنفرد أي: إنه ليس لها مفرد، وأنها كالفعل الماضي المعتل الآخر المنقلبة ألفه عن ياء، إذا وليها اسم ظاهر لزمتها الألف، وإذا وليها ضمير قُلبت ياء فتقول: رأيت كلا الرجلين ورأيت كليهما، كما تقول: قضى الحق وقضيته (6).
وأكثر من التبديل والتغيير في المصطلحات النحوية التي وضعها الخليل وسيبويه، وأضاف إليها بعض المصطلحات الجديدة، ونحن نعرض ذلك عنده من كلامه ومن كتب النحاة، وأول ما نعرض اصطلاح التقريب ويريد به اسم الإشارة حين يليه الخبر وحال منصوبة في مثل: "هذا زيد شاعرا", و"هذا الأسد مخوفا", فإنه لم يكن يعرب الجملة على هذا النحو الذي ذكرناه، أو بعبارة أخرى: على نحو ما كان يعربها سيبويه، بل كان يجعل اسم الإشارة كأنه مشبه لكان إذ يليه -مثلها- مرفوع ومنصوب، ويقول: إن المنصوب ينصب بخلوه من العامل، كما نصب خبر كان، أي: لعدم وجود رافع له يرفعه(7) ولعل ذلك ما جعل بعض خالفيه من الكوفيين يجعل هذا من أخوات كان، وما وراءها اسمها وخبرها، أما "هذا" فيعرب تقريبا(8).
وما نتقدم في قراءة كتابه "معاني القرآن" كثيرا حتى نجده يتحدث عن مصطلح ثانٍ له وضعه, هو مصطلح الصرف, ويقصد به النصب في بابين هما: باب الفعل المضارع المنصوب بعد الواو والفاء وأو، وباب المفعول معه، إذ يصرف المضارع والمفعول معه عما قبله، فلا تكون الواو فيهما عاطفة، بل تكون واو صرف
ص198
لهما عما قبلهما، ومثلها الفاء وأو، ويشرح ذلك مع الواو(9) وأو، فيقول: الصرف "أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة, لا تستقيم إعادتها على ما عُطف عليها ... كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عار عليك إذا فعلتَ عظيم
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة لا في "تأتي مثله"؛ فلذلك سمي صرفا, إذ كان معطوفا ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهي معطوفة على مرفوع قولهم: "لو تُركت والأسدَ لأكلك" و"لو خُلِّيتَ ورأيَك لضللتَ" ... والعرب تقول: "لستُ لأبي إن لم أقتلك, أو تذهبَ نفسي" ويقولون: "والله لأضربنَّك أو تسبقَنِّي في الأرض" فهذا مردود "معطوف" على أول الكلام ومعناه الصرف؛ لأنه لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بلم، ولا إعادة اليمين على والله لتسبقني، وتجد ذلك إذا امتحنتَ الكلام"(10). ويقول في موضع ثانٍ: "الصرف: أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو, وفي أولهما جحد "نفي" أو استفهام, ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يُكر في العطف, فذلك الصرف"(11)
ونرى هذا الاصطلاح عند الفراء يقرن باصطلاح آخر ينسب إليه أيضا هو الخلاف، إذ يقول الرضي: إن الأفعال المضارعة تنصب بعد الواو والفاء وأو عند الفراء على الخلاف، ويشرح رأيه فيقول: "أي: إن المعطوف بها صار مخالفا للمعطوف عليه في المعنى، فخالفه في الإعراب كما انتصب الاسم الذي بعد الواو في المفعول معه لما خالف ما قبله، وإنما حصل التخالف ههنا بينهما؛ لأنه طرأ على الفاء معنى السببية وعلى الواو معنى الجمعية وعلى أو معنى النهاية والاستثناء" (12). ولعله كان يتداول الاصطلاحين في كتاباته، ومن هنا كنا
ص199
نظن أنه هو أيضا الذي ذهب إلى أن الظرف الواقع خبرا في مثل: "محمد عندك" منصوب على الخلاف(13).
وتتردد في كتاب معاني القرآن تسمية الفعل المتعدي باسم الفعل الواقع، كما تتردد "أوقعتَ عليه الفعل" بدلا من "عديت إليه الفعل"(14) ويسمي الفعل المبني للمجهول باسم "الذي لم يُسم فاعله"(15) كما يسمي الضمير المكني والكناية(16). وكان يصطلح على تسمية ضميري الشأن والفصل باسم العماد في مثل: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} أي: الحال والشأن أن الإخراج محرم عليكم(17). وفي مثل: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} يقول: "في {الْحَقَّ} النصب والرفع إن جعلت هو اسما رفعت الحق بها وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة "أي الحشو" نصبت الحق، وكذلك فافعل في أخوات كان وظن وأخواتها كما قال الله تبارك وتعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} تنصب {الْحَقَّ} ؛ لأن رأيت من أخوات ظننت" (18).
واصطلح على تسمية النفي باسم الجحد، كما مر آنفا في بعض حديثه، ويقول: "وُضعت بلى لكل إقرار في أوله جحد "أي: نفي" ووضعت نعم للاستفهام الذي لا جحد فيه، فبلى بمنزلة نعم إلا أنها لا تكون إلا لما في أوله جحد"(19) وسمى لا النافية للجنس باسم التبرئة، يقول تعليقا على قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} : "القراء على نصب ذلك كله بالتبرئة"(20) وكان يسمي حرف الجر الصفة، يقول تعليقا على قوله عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} : "يريد: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا و {أَنْ} في موضع نصب إذا نُزعت الصفة"(21) وواضح أنه يقصد بالصفة حرف الجر
ص200
"في". وقد سمى حروف الزيادة حشوا ولغوا وصلة(22) كما أطلق على الظرف اسم المحل(23). وكان يسمي الاسم المنصرف والآخر الممنوع من الصرف على التوالي: ما يجرى وما لا يجرى, أو المجرى وغير المجرى، وعبر مرارا بالإجراء عن الصرف (24)
وكان يسمي التمييز مفسِّرا، يقول تعليقا على قوله سبحانه: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} : "نُصب الذهب لأنه مفسِّر، لا يأتي مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك: عندي عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا، ومثل قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} . وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذي تراه قد ذُكر قبله، مثل ملء الأرض أو عَدْل ذلك، فالعدل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصبْ ما أتاك على هذا المثال ما أُضيف إلى شيء له قدر، كقولك: عندي قدر قفيز(25) دقيقا، وقدر حَمْلَة تبنا، وقدر رطلين عسلا. فهذه مقادير معروفة يخرج الذي بعدها مفسِّرا؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدل على جنس المقدار من أي شيء هو، كما أنك إذا قلت: عندي عشرون، فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تم خبره، وجُهل جنسه، وبقي تفسيره، فصار هذا مفسرا عنه؛ فلذلك نُصب"(26). وسمى المفعول لأجله في بعض المواضع تفسيرا, يقول تعليقا على الآية الكريمة: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} : "نصب {حَذَرَ} على غير وقوع من الفعل عليه، لم يرد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفا وفرقا، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف، فنصبه على التفسير ليس بالفعل "أي: ليس مفعولا به" كقوله عز وجل: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} , وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} " (27).
وأكثر من تسمية البدل تكريرا وتبيينا وتفسيرا وترجمة(28) وكأنه بكل ذلك
ص201
كان يريد أن يشرح معناه. ويستخدم كلمة الإتباع كثيرا للدلالة على أن الكلمة من التوابع ومثلها كلمة الرد(29) ، وهو أول من اصطلح على تسمية العطف بالحروف: الواو وأخواتها باسم عطف النسق(30)، وكذلك هو أول من اصطلح على تسمية النعت باسمه (31) وكان سيبويه والبصريون يسمونه الصفة.
وحاول، بجانب هذه المصطلحات الجديدة التي أراد بها أن يسوي لنحو بلدته صورة متميزة، أن يخالف الخليل وسيبويه في تفسيرهما وتحليلهما لكثير من الألفاظ والأدوات، فمن ذلك: "اللهم" إذ كان الخليل يرى أنها لزمتها الميم المشددة عوضا عن "يا" التي كان ينبغي أن تتقدمها؛ ولذلك لا تجتمعان. وذهب الفراء إلى أنها اختزال من كلمة "يا ألله أُمَّنا بخير" حدث ذلك فيها لكثرة دورانها على لسانهم(32)، وهو تخريج بعيد. ومن ذلك "هلم" كان الخليل يرى أنها مركبة من ها التنبيهية وفعل لُمَّ، ولكثرة استعمالها حذفت الألف من ها وأصبحت كأنها كلمة واحدة. وكان الفراء يرى أن أصلها: "هل أم" من فعل أم أي: قصد، فخففت الهمزة، بأن ألقيت حركتها على اللام وحذفت، فصارت "هلم" (33). وتخريج الخليل أقرب؛ لأنها تخلو من معاني الاستفهام. ومن ذلك "إياك" ولواحقها كان الخليل يذهب إلى أن إيا اسم مضمر مبهم أضيف إلى الضمير لتخصيصه وذهب غيره من البصريين إلى أن "إيا" ضمير والكاف وأخواتها حروف تبين حال الضمير من التكلم والخطاب والغيبة، بينما ذهب الفراء إلى أن "إيا" حرف زيد دعامة، ولواحقه هي الضمائر التي تكون في موضع نصب حسب مواقعها (34). ومن ذلك "لن" كان الخليل يرى أن أصلها: "لا أن"؛ فحذفت الهمزة تخفيفا والألف لالتقاء الساكنين، وكأنه وصلها بأن حتى يعلل لنصبها المضارع، وذهب الفراء إلى أن أصلها "لا" وأُبدلت الألف نونا فيها
ص202
على نحو ما أبدلت ميما في "لم" (35). ومن ذلك "لكن" ذهب البصريون إلى أنها بسيطة، وذهب الفراء إلى أن أصلها "أن" زِيدت عليها لام وكاف، وطُرحت الهمزة للتخفيف، كما زيدت عليها اللام والهاء في بعض اللغات، فأصبحت "لَهِنَّك" (36). ومن ذلك" كم" ذهب البصريون إلى أنها بسيطة موضوعة للعدد، بينما ذهب الفراء إلى أنها مركبة من الكاف وما، وكثرت في كلامهم، فحذفت الألف تخفيفا، وسكنت الميم(37) ومن ذلك "أنت" ولواحقها كان الخليل يعد "أن" الضمير والتاء وتوابعها حروف تدل على الخطاب، وكان الفراء يذهب إلى أن "أنت" بسيطة وليست مركبة(38). ومن ذلك "هو" كان يذهب فيها إلى أن الهاء هي الضمير والواو صلة، وكذلك "هي" الهاء الضمير والياء صلة، بدليل سقوطهما جميعا في التثنية تقول: هما وقد ألحقوا بالهاء حينئذ ميما؛ ليقوا بالميم فتحة الألف(39). ومن ذلك "ويحك وويلك" ذهب البصريون إلى أنهما مؤلفان من ويح وويل، بدليل مجيئهما هكذا في الكلام، وذهب الفراء إلى أن أصلهما "وي" ووُصلا بحاء مرة وبلام مرة مع إضافة كاف الخطاب(40). ومن ذلك "مذ ومنذ" ذهب البصريون إلى أنهما بسيطتان ومنذ هي الأصل، وذهب الفراء إلى أنهما مركبتان وأن أصلهما "من ذو" أي: من الجارة وذو الطائية التي تأتي بمعنى الذي، وكأنك حين تقول: "ما رأيته مذ يومان" إنما تقول: "ما رأيته من الزمان الذي هو يومان"(41) وبنفس التفسير فسر "ماذا" في قولك: "ماذا صنعت؟ " فجعلها مركبة من ما الاستفهامية وذا الطائية(42) ومن طرائف تفسيره، تحليله لكلمة "الآن" فقد ذهب إلى أن أصلها "أوان" حذفت منها الألف الوسطى وغُيِّرت واوها إلى الألف وأدخلت عليها الألف واللام. ويعقب
ص203
على هذا التفسير بقوله: "وإن شئت جعلت الآن أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام ثم تركتها على مذهب فَعَل "أي: على أصلها الفعلي", فأتاها النصب من نصب فَعَل، وهو وجه جيد"(43).
وكان يذهب إلى أن أصل "الذي" ذا المشار بها وكذلك أصل "التي" تي المشار بها(44). ومر بنا في ترجمة الخليل توجيهه لمنع الصرف في أشياء, وأنه حدث فيها قلب أتاح لها منع الصرف، إذ وزنها لفعاء لا أفعال كما قد يتبادر، وذهب بعض النحويين إلى أن جمعها أفعال غير أنها أشبهت فعلاء مثل حمراء, فمنعوها من الصرف توهما، وذهب الفراء إلى أنها جمعت على أفعلاء مثل بيِّن وأبيناء، فأصبحت أشيئاء، وحذفت الهمزة من وسطها لكثرتها في الاستعمال، فأصبحت أشياء (45) ومن آرائه الطريفة أن أصل "بلى" التي يُجاب بها في النفي في مثل: أليس معك الكتاب؟ فيقال: بلى للدلالة على الرجوع عن النفي، يقول: أصلها: بل العاطفة في مثل: ما قام زيد بل عمرو، إذ بل تدل في هذا التعبير على الرجوع عن النفي، بالضبط مثل بلى في جواب الاستفهام عن النفي، وكل ما في الأمر أنهم زادوا عليها ألفا حتى تصلح للوقوف عليها (46). ومر بنا في ترجمة الكسائي تفسيره لإلا الاستثنائية.
وعلى هذه الشاكلة كان الفراء يحاول -بكل جهده- أن يضع تفسيرا جديدا لبعض الكلمات والأدوات, كما كان يحاول جاهدا أيضا أن يضع في النحو مصطلحات جديدة، مستعينا في ذلك كله بعقله المتفلسف الخصب. وما زال يلح في ذلك حتى استطاع حقا أن يكون للكوفة مدرسة مستقلة في النحو، لا كل الاستقلال، فهي لا تزال تعتمد على ما وضعت البصرة من أسس، ولكنها في الوقت نفسه تحاول التميّز والتفرّد وأن تكون لها شخصيتها المستقلة، وقد أتيح لها ذلك على يد الفراء لا من حيث ما قدمنا من تحليل بعض الأدوات والكلمات وجلب مصطلحات مبتكرة فحسب، بل أيضا من حيث النفوذ إلى
ص204
آراء كثيرة في العوامل والمعمولات ومد السماع والقياس حينا وقبضهما حينا آخر، وبذلك كله استوت للنحو الكوفي صورة مختلفة عن صورة النحو البصري اختلافا واضحا.
ص205
_____________________
(1) الإنصاف: المسألة رقم 28, وانظر الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص56، 62.
(2) الزجاجي ص80 ، والرضي على الكافية 1/ 19، والهمع 1/ 15.
(3) انظر معاني القرآن 1/ 165، حيث يقرن الفعل الماضي بالدائم ويريد اسم الفاعل, وقارن بصفحة 33.
(4) معاني القرآن 1/ 469.
(5) الهمع 1/ 9، وقد يعبر عن الجزم بالبناء لما ذكرناه عنده من قلب ألقاب الإعراب والبناء.
(6) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ص145.
(7) معاني القرآن 1/ 12 وما بعدها.
(8) الهمع 1/ 113.
(9) معروف أن الواو والفاء الناصبتين للمضارع لا تنصبانه إلا بعد نفي أو طلب، وتسميان عند البصريين واو المعية وفاء السببية، وأو لا تنصب المضارع إلا إذا كان معناها إلى أو إلا، وثلاثتها لا تنصبه عند البصريين مباشرة، وإنما تنصبه بأن مضمرة وجوبا.
(10) معاني القرآن 1/ 34.
(11) معاني القرآن 2/ 235.
(12) الرضي على الكافية 2/ 224, وانظر ابن يعيش 2/ 49، والهمع 1/ 220 .
(13) الإنصاف: المسألة رقم 29, وابن يعيش 1/ 91، والرضي 1/ 83.
(14) معاني القرآن 1/ 21، 40 ، 121.
(15) معاني القرآن 1/ 301.
(16) معاني القرآن 1/ 5، 19.
(17) معاني القرآن 1/ 51.
(18) معاني القرآن 1/ 409، وانظر الجزء الثاني "طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة" ص212، 228، 287، 352.
(19) معاني القرآن 1/ 52.
(20) معاني القرآن 1/ 120 .
(21) معاني القرآن 1/ 148.
(22) معاني القرآن 1/ 58، 176، 245.
(23) معاني القرآن 1/ 28، 119.
(24) معاني القرآن 1/ 42، 428, وانظر 2/ 19، 2/ 175.
(25) مكيال للحبوب.
(26) معاني القرآن 1/ 225.
(27) معاني القرآن 1/ 17.
(28) معاني القرآن 1/ 7، 51، 56، 192، 320 ، 348، وانظر 2/ 58، 69، 138، 178، 273، 360 .
(29) معاني القرآن 1/ 17، 70 ، 82، وانظر 2/ 97.
(30) معاني القرآن 1/ 44، 72، وانظر 2/ 70 .
(31) معاني القرآن 1/ 112، 198، 277، وانظر 2/ 145، 250 , 364، 366.
(32)معاني القرآن 1/ 203، وابن يعيش 2/ 16، وانظر الكتاب 1/ 310 .
(33) معاني القرآن 1/ 203، وابن يعيش 4/ 42، والهمع 2/ 106.
(34) الهمع 1/ 61.
(35) المغني ص314، والرضي على الكافية 1/ 218، وابن يعيش 8/ 113، والهمع 2/ 3.
(36) معاني القرآن 1/ 465، وانظر المغني ص322.
(37) معاني القرآن 1/ 466, وانظر الإنصاف: المسألة رقم 40 .
(38) الرضي على الكافية 2/ 10 ، وانظر الكتاب 2/ 67.
(39) مجالس العلماء للزجاجي "طبع الكويت" ص137.
(40) ابن يعيش 1/ 121.
(41) ابن يعيش 8/ 46.
(42) معاني القرآن 1/ 138.
(43) معاني القرآن 1/ 467 وما بعدها.
(44) الهمع 1/ 82.
(45) معاني القرآن 1/ 321.
(46) معاني القرآن 1/ 53.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|