المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9100 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الفطرة
2024-11-05
زكاة الغنم
2024-11-05
زكاة الغلات
2024-11-05
تربية أنواع ماشية اللحم
2024-11-05
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05

أسباب ضعف الرقابة البرلمانية
13/12/2022
Null T in bare infinitive clauses
12-8-2022
قوله تعالى {وأستغفره } خطاب للنبي وتعليم لأمته.
14-3-2022
الخصائص العامة للحقول الجيوحرارية
6-6-2021
القرآن ولغات العرب
2023-06-12
لقطة حوار الكاميرا Stand Upper) piece To Camera- اهميتها
31-7-2021


الاستقامة في عاشوراء  
  
266   11:46 صباحاً   التاريخ: 2024-08-10
المؤلف : معهد سيد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني
الكتاب أو المصدر : دروس عاشوراء
الجزء والصفحة : ص99-120
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام الحسين بن علي الشهيد / قضايا عامة /

الاستقامة في طريق الحقّ, روح ثورة الإمام الحسين عليه السلام

إنّ روح عمل الإمام الحسين عليه السلام هو تطبيق كلام الحقّ وطريق الحقّ والصمود في وجه كافّة القوى التي تكاتفت عليه في هذا السبيل, هذا هو روح عمل الحسين بن عليّ عليهما السلام وحقيقته. كلّ المواضيع المتّصلة بالإمام الحسين عليه السلام, في المدينة, في مكّة, في كربلاء وخلال الطريق وكذلك الحوادث التي عرضت بعد شهادته, قد ذكرها الإمام السجّاد وزينب عليهما السلام. ذلك كلّه يؤشّر إلى هذه النقطة. هذا هو الدرس الكبير الذي قدّمه الحسين بن عليّ عليهما السلام.

من هم الذين عارضوا الإمام عليه السلام في ذلك اليوم؟ ينبغي القول: إنّ العالم بأسره قد أحاط بالإمام الحسين عليه السلام, لأنّ نظام يزيد قد تسلّط على العالم الإسلاميّ وبنحو من الأنحاء أحكم قبضته على كلّ شخص بحسبه، بعضهم بالتهديد وآخرون بالترغيب والوعود وغيرهم بالاحتيال, وجميع هؤلاء كانوا معارضين للإمام عليه السلام.

فهل كلّ من كان معارضاً للإمام الحسين عليه السلام لم يكن يحبّه؟ لا, كانوا يحبّونه! كما أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يعيش محترماً في المدينة, وكلّما كان يذهب إلى الحجّ كانت النّاس تجتمع إليه[1]. لكن المسألة كانت شيئاً آخر, بمعنى أنّ الإمام كان يرى أنّ النظام الاجتماعيّ للعالم الإسلاميّ هو نظام غير إسلاميّ, في حين أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جاء ليجعل النظام الاجتماعيّ للنّاس نظاماً إسلاميّاً.

جاء نبيّ الإسلام وأوجد هذا النظام الإسلاميّ. إلّا أنّه عندما جاء يومٌ ورأى الإمام الحسين عليه السلام العالم الإسلاميّ والنظام الإسلاميّ يصبحان مغايرين للاسلام بالكامل, بل سيصبحان في كثير من الموارد معاديين للإسلام بنسبة 100?, لذا عزم الإمام الحسين عليه السلام على استعادة ذلك الوضع.

أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يعلن لجميع النّاس في عصره ولكلّ الذين سيأتون في العصور اللّاحقة أنّه متى ما فقد هكذا نظام من المجتمع وجب القيام والثورة لإيجاده, سواء أفضت الثورة إلى قيام الحكومة والانتصار أم الشهادة.

وقد تخيّل بعضهم أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو كان يعلم أنه سيستشهد لم يثُر, وفي المقابل ادّعى بعضهم أنّ الإمام الحسين عليه السلام ثار ليستشهد, ( لكن) كلا الرأيين خاطئان.

لقد ثار الإمام الحسين عليه السلام ليلقّن البشريّة درساً: وهو أنّه كلّما شاهد المسلمون - الذين يتعلّمون من الحسين عليه السلام - الظلم في المجتمع، وغياب النظام الإسلاميّ، وأنّ القرآن لا يحكم، وسيادة العنصريّة والتمييز، والغطرسة وهضم الحقوق، والتربّع على السلطة دون ملاك أو معيار, فيجب عليهم النهوض لاسترجاع الوضع (الصحيح), سواء انتهت الحركة بنتيجة أم لا.

لقد ذكر الإمام (الخمينيّ) مراراً، أنّنا لا نقوم من أجل النتيجة، وإنّما ننهض من أجل الوظيفة والتكليف[2]. بالتأكيد، عندما يكون عملنا نابعاً من الإخلاص فإنّ الله تعالى سيوصلنا إلى النتيجة أيضاً.

هذا هو روح عمل الإمام الحسين عليه السلام، لذلك صمد واستقام من أجله. وواقعاً إذا أراد الإنسان أن يحاسب ذلك اليوم الذي ثار فيه الإمام الحسين عليه السلام استناداً إلى المعايير والمعادلات العاديّة، فإنّ من المتيقّن به أنّ هذا القيام لن يكون قياماً عقلانيّاً. بالطبع لو أراد الإنسان النظر من زاوية العقل العادي والطبيعيّ, سيرى أنّ الإنسان الذي لا يمتلك أيّ قوّة في يده في مواجهة تلك القوى, لا مناص من أنّه سينتهي بهزيمة عسكريّة محقّقة. لكن, مع ذلك, ثار الإمام الحسين عليه السلام, مع أنّ إدراك الأمور والحقائق كان أسهل بالنسبة إليه من كثير من النّاس الآخرين, ومن المؤكّد أنّ هذه الحسابات أيضاً كانت أمام مرأى أبي عبد الله عليه السلام, ومع ذلك ثار, ذلك لأنّ الغاية والهدف هما القيام بالوظيفة والانتصار الإلهيّ، وليس فقط الانتصار العسكريّ, بالطبع لو تيسّر للإمام الانتصار العسكريّ لقبل به.

استقامة في غربة لا نظير لها

النقطة الأخرى[3] المهمّة أيضاً في مجموع ثورة الحسين عليه السلام وهي بمعنى آخر - وبالنظر إلى حالتنا اليوم - وهي ترجع بمعنى من المعاني إلى قوّة الإخلاص، وهذه النكتة هي غربة الحسين عليه السلام، فـلا يوجد في أيّة واقعة من الوقائع الدامية في صدر الإسلام غربة ووحدة كما في واقعة كربلاء, فمن أراد فليتأمّل في تاريخ الإسلام - وقد دقّقت جيّداً فلم أجد واقعة كواقعة كربلاء - سواء في حوادث صدر الإسلام وغزوات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو حروب أمير المؤمنين عليه السلام.

ففي تلك الحروب كانت هناك حكومة ودولة وكان النّاس حاضرين، وكان يخرج إلى ساحات القتال جنود من بينهم، ومن ورائهم كانت أدعية الأمّهات، آمال الأخوات، تقدير النّاس وتشجيع قائد عظيم الشأن كالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين عليه السلام، كانوا يضحّون بأنفسهم أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ليس صعباً.

فكم من شبابنا كانوا حاضرين لتقديم أرواحهم بناءً على كلمة من الإمام الخمينيّ رضوان الله عليه! وكم منّا الآن لديهم أمنية في إشارة لطف من الوليّ الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف لنضحّي بأنفسنا!

فعندما يشاهد الإنسان قائده أمام ناظريه وكلّ ذلك التحفيز من ورائه, ويكون على علم أنّه يقاتل لينتصر وليهزم العدوّ، فإنّه سيقاتل برجاء وأمل الانتصار، وحرب كهذه - مقارنة بما نراه في كربلاء - ليست صعبة. طبعاً كان هناك أحداث في التاريخ فيها غربة نسبيّاً كالأحداث التي جرت مع أبناء الأئمّة والحسنيّين في عصر الأئمّة عليهم السلام، لكن هؤلاء جميعاً كانوا يعلمون أنّ خلفهم إماماً كالإمام الصادق عليه السلام، والإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وكالإمام الثامن عليه السلام، وقائدهم وسيّدهم حاضر يسندهم ويتفقّد عيالهم. فكان الإمام الصادق عليه السلام - حسب ما ورد في الروايات - يأمرهم بقتال الحكّام الفاسدين ويقول: ".. وعليّ نفقة عياله"[4]. وكان المجتمع الشيعي ظهراً لهم، يشجّعهم ويمجّدهم, وفي المحصّلة كان لهم أمل ما وراء ساحات القتال, لكن في واقعة كربلاء، فإنّ أُسّ القضيّة ولبّ لُباب الإسلام المقبول من الجميع, وهو الإمام الحسين عليه السلام, كان موجوداً في ميدان الحرب، وكان يعلم هو وأصحابه أنّه سيستشهد, وأن لا أمل له في أيّ أحد في أرجاء هذا العالم الواسع وهذه البلاد الإسلاميّة المترامية الأطراف, كان في غربة بحتة ووحدة تامّة.

كان من بين رجالات عالم الإسلام في ذلك اليوم ووجوهه أشخاص لم يغتمّوا لقتل الحسين عليه السلام, بل اعتبروا وجوده مضرّاً بعالمهم، وآخرون منهم لم يبالوا بالقضيّة وإن حزنوا لقتله عليه السلام, كعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس وأمثالهما. فـلم يكن للإمام عليه السلام أدنى أمل بمن هم خارج ميدان القتال الممزوج بالغمّ والمليء بالمحن، فالمتوفّر والمتاح مقتصر على ذاك الذي كان حاضراً في ميدان كربلاء ليس إلّا. وكانت كلّ الآمال منحصرة بهذا الجمع، وكان هذا الجمع قد أسلم أمره للشهادة، وحتّى بعد شهادتهم لم يكن سيُقام لهم مجلس فاتحة حسب الموازين الظاهريّة، فيزيد متسلّط على كلّ شيء، وتُساق نساؤهم سبايا ولا يُرْحَم أطفالهم, فقد كانت التضحية صعبة جدّاً في هذا الميدان. "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" فلولا الإيمان والإخلاص والنور الإلهيّ الذي كان يشعّ في وجود الحسين بن عليّ عليهما السلام والذي بعث الحرارة في قلوب عدّة معدودة مؤمنة حوله لما تحقّقت تلك الواقعة، فانظروا إلى عظمة هذه الواقعة!

إذاً, الخصيصة الثانية لهذه الواقعة هي غربتها. لذا قلت مراراً إنّه لا يمكن مقارنة شهدائنا بشهداء بدر وحنين وأُحد وشهداء صفّين والجمل، بل شهداؤنا أرفع منزلة من كثير من هؤلاء الشهداء، أمّا المقارنة بشهداء كربلاء، فلا. لا يقارن أحد بشهداء كربلاء، لا اليوم ولا في الماضي، لا في صدر الإسلام ولا حتّى في ذلك اليوم الذي يعلمه الله إلى أن يشاء الله[5]. إنّ هؤلاء هم صفوة الشهداء، فلا نظير لعليّ الأكبر ولحبيب بن مُظاهر.

الاستقامة الحسينيّة الاستثنائيّة

من أجل الوصول إلى الأهداف الكبيرة, توجد في العادة مجموعة عوامل إنسانيّة أساسيّة: الظروف الاجتماعيّة, الأزمنة, الأرضيّات والموانع, وهي موجودة ولا أحد ينكرها, لكن وحتّى لو تهيّأت الظروف, فليس من الضروريّ أن تتحقّق الأهداف المنشودة, فما لم تتحقّق شرائطها من قبيل- الإرادة والتصميم ووضوح الهدف, الوعي والمعرفة والمتابعة- التي هي في الأساس شروط ومقدّمات بشريّة.. أحد هذه الشروط التي أريد الوقوف عندها: مسألة الاستقامة. يتمّ التعامل مع الاستقامة كمفهوم مهمل وشائع وغير مهمّ, ولكنّه ليس كذلك. الاستقامة مفهوم على قدر كبير من الأهمّيّة والحساسيّة, وإنّ أهمّيّته في العمل أكبر بكثير ممّا يخطر على ذهن الإنسان. الاستقامة تعني الثبات على الطريق المستقيم: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا[6], فلو تحقّق الثبات والاستقامة على الصراط المستقيم, أي (ثبتوا) في هذا الاتجاه ولم يغيّروا مسارهم, ولم يخضعوا للظروف, عندها ستترتّب نتائج دنيويّة وثواب أخرويّ. فعندما يقول القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ[7] - نزول الملائكة, التشرّف بمواجهة الملائكة, والخطاب بخطاب الملائكة - ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا[8], فتأتي الملائكة وتقول لكم:

لا تخافوا ولا تحزنوا. متى يُعطَى هذا الشرف؟ يُعطَى في صورة الاستقامة.

تحدّثت في إحدى السنوات بمناسبة رحيل الإمام الخمينيّ حول هذه القضيّة بالخصوص وتحدّثت عن المقارنة بين استقامة الإمام (رضوان الله عليه) واستقامة الإمام الحسين عليه السلام.

قد يقول المرء كلمة: "استقم" و "اثبت", ينظر الجميع إلى بعضهم بعضاً ويقولون: نعم نستقيم ونثبت, إلّا أنّ الاستقامة في مقام العمل هي مسألة على قدر كبير من الأهمّيّة.

بأيّ شيء تمثّلت استقامة الإمام الحسين عليه السلام؟ هل تمثّلت في كونه قد استقام في المعركة؟ حسناً الجميع يثبتون في الحرب. فالذين يخوضون غمار المعركة يثبتون (في العادة), حتّى أهل الباطل. فكلّ هذه الحروب موجودة في عالمنا, كلّ هؤلاء الذين يذهبون للحرب ويقتلون ولا يتزحزحون عن مواقعهم خطوة واحدة, فهذه أيضاً استقامة! لم يكن هذا المقدار من الاستقامة هو مقصد الإمام الحسين وسيّد الشهداء عليه السلام! ينبغي البحث عن التجليات الخاصّة للاستقامة الحسينيّة.

كان لدى الإمام الحسين عليه السلام هدف واضح, لكن الآخرين كانوا, الواحد بعد الآخر, يشكّكون بهذا الهدف. وهؤلاء لم يكونوا أناساً عاديّين, كانوا من شخصيّات الدرجة الأولى في العالم الإسلاميّ, مثل عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس, هم أشخاص لو تأمّلتم تاريخهم اليوم لرأيتم أنّهم على قدر كبير من الشأن في العالم الإسلاميّ.

كان الواحد من هؤلاء يجلس تلو الآخر, مع الإمام الحسين عليه السلام, ويناقشه في هذا الهدف ويشكّك فيه[9]! كانوا يقولون له: سيّدي، ما هو السبب في أنّ هذا اليوم تحديداً هو اليوم الذي يجب عليكم أن تذهبوا وتقفوا في مقابل يزيد؟ كانوا يأتون بشواهد كثيرة لإثبات نظريّتهم بما يكفي لإخافة أيّ شخص!

كانوا يقولون له: أن تكون أنت ابن النبيّ الذي يبلّغ أحكام الله, أليس هذا أفضل لك من أن تُقتل؟ أليس الأفضل أن تبقى حيّاً, تُحدّث وتُبيّن الأحكام وتعظ, من أن يأتي ذلك الرجل الظالم ويقيم على قبرك الأشعار ويبدل كلماتك؟ لو أعطاك الله تعالى 20 سنة أخرى من العمر, ففي هذه السنوات كم من المعارف ستبيّن؟ هذا أفضل من ذاك!

انظروا, ليس من السهل أبداً أن يخلص الإنسان نفسه من وطأة إشكالات كهذه ومن مصيدة هذه التشكيكات!

كانوا يقولون: الآن وقد عزمت على الرحيل, فلترحل, لكنّك في نهاية المطاف سترد ميدان الجهاد والحرب, فإلى أين تأخذ هذه النسوة وأولئك الأطفال؟ ما هذه الحالة؟ لماذا تذهب وتعرّض النّاس للقتل؟ لماذا تذهب إلى الكوفة؟

نعم, هذه الإشكالات ترتعد لها فرائص الإنسان. لقد وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكان فهم أنّ القضيّة صعبة. قالوا له: حسناً, أيّها الإمام, ارجع وبايع يزيدَ. في النهاية بايِع, هل أنت أفضل من الإمام الحسن عليه السلام؟! ما هي الموجبات التي تدفعك إلى أن تذهب وتضع نفسك في هذه المعركة الكبيرة؟!

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام يواجه هذا النوع من الشبهات والإشكالات التي كانت تُطرح عليه بشكل متواصل[10] من قبل شخصيّات لها شأنها- منذ خروجه من المدينة وحتّى لحظة وصوله إلى مكّة, ثمّ عندما وصل إلى كربلاء, ومن لحظة وروده كربلاء أيضاً حتّى يوم عاشوراء -, بخلفيّة العقل النفعيّ والمصلحيّ وباستعمال وسائل ليست بعيدة جدّاً عن الوسائل القيميّة! في ذلك الوقت وقف الإمام الحسين عليه السلام أمامهم ثابتاً - وهو المجسّد للقيم -, أي أنّه لم ينس الهدف, ولم تدفعه هذه الكلمات إلى ترك الخطّ المستقيم الذي يعرفه هو جيّداً وهم لا يعرفونه.

الاستقامة الرفيعة لزينب الكبرى عليها السلام

ضرب الله تعالي في القرآن الكريم مثال امرأتين كنموذج للإيمان الكامل، ومثال امرأتين لنموذج الكفر أيضاً: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا[11]، هذان هما المثالان على الكفر وهما امرأتان كافرتان. فهو لم يسق المثال للكفر من الرجال، بل جاء به من النساء. وهذا ما نجده في باب الكفر. وفي باب الإيمان أيضاً.

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾[12]. أحد المثالين على النموذج الإيمانيّ الكامل هو امرأة فرعون والمثال الآخر السيّدة مريم الكبرى ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾[13].

وإنّ مقارنة سريعة بين زينب الكبرى عليها السلام وبين زوجة فرعون تُظهر لنا عظمة مقام السيّدة زينب الكبرى عليها السلام. تحدّث القرآن الكريم عن زوجة فرعون بوصفها نموذج الإيمان للرجال والنساء علي مرّ الزمان وإلى آخر الدنيا. ثمّ لكم أن تقارنوا زوجة فرعون التي آمنت بموسى وانجذبت إلي تلك الهداية التي جاء بها موسى, وحينما كانت تحت ضغوط التعذيب الفرعونيّ - والذي توفيّت بسببه حسب ما تنقل التواريخ والروايات - فقد جعلها التعذيب الجسمانيّ تصرخ: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ[14] طلبت من الله تعالي أن يبني لها بيتاً عنده في الجنّة.. وفي الواقع هي طلبت الموت وأرادت أن تفارق الحياة. ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾.. أنقذني من فرعون وأعماله المضلّة.

في حين كانت مشكلة السيّدة آسية زوجة فرعون من قبيل الألم والعذاب الجسمانيّ ولم تكن كالسيّدة زينب, التي فقدت عدّة من إخوتها واثنين من أبنائها وعدداً كبيراً من أقاربها وأبناء إخوتها ساروا أمام عينيها إلي مصارعهم. هذه الآلام الروحيّة التي تحمّلتها زينب الكبرى لم تتعرّض لها السيّدة آسية زوجة فرعون. رأت السيّدة زينب بعينيها يوم عاشوراء كلّ أحبّتها يسيرون إلي القتل ويستشهدون: الحسين بن عليّ عليهما السلام سيّد الشهداء والعبّاس وعليّ الأكبر والقاسم وأبناءها هي, وباقي إخوتها رأتهم كلّهم. وبعد استشهادهم شهدت كلّ تلك المحن: هجوم الأعداء وهتك الحرمات, وحملت مسؤوليّة رعاية الأطفال والنساء.

فهل يمكن مقارنة عظمة هذه المصائب وشدّتها بالمصائب الجسمانيّة؟ ولكن مقابل كلّ هذه المصائب لم تقلّ السيّدة زينب لله تعالي: ﴿رَبِّ نَجِّنِي﴾، بل قالت يوم عاشوراء: "ربّنا تقبّل منّا"[15].

رأت الجسد المبضّع لأخيها أمامها فتوجّهت بقلبها إلي خالق العالم وقالت: "اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان". وحينما تُسأل كيف رأيتِ (صنع الله)؟ تقول: "ما رأيت إلّا جميلاً"[16].. كلّ هذه المصائب جميلة في عين زينب الكبرى لأنّها من الله ولأجله وفي سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته. فيا لهذا المقام المتقدّم في الصبر وهذا العشق للحقّ والحقيقة, كم هو الفارق بينه وبين ذلك المقام الذي يذكره القرآن الكريم للسيّدة آسية. هذا دليل علي عظمة مقام السيّدة زينب. هكذا هو العمل في سبيل الله. لذلك بقي اسم زينب وعملها إلي اليوم نموذجاً خالداً في العالم.

إنّ بقاء دين الإسلام وبقاء الطريق إلى الله ومتابعة السير على هذا الطريق من قبل عباد الله يستند ويستلهم إلى العمل الذي قام به الحسين بن عليّ عليهما السلام وما قامت به السيّدة زينب الكبرى عليها السلام. أي إنّ ذلك الصبر العظيم وذلك الصمود وتحمّل كلّ تلك المصائب والمشكلات أدّى إلى أن تكون القيم الدّينيّة اليوم هي القيم السائدة في العالم. جميع القيم الإنسانيّة التي نجدها في المدارس المختلفة والمتطابقة مع الضمير البشريّ هي قيم نابعة من الدّين. هذه هي خصوصيّة العمل لله.

وحدة الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة عالم الظلمة والانحراف

انظروا يا أعزّائي, لم يتجاوز الوقت الذي استغرقته واقعة كربلاء نصف نهار أو أكثر من ذلك بقليل, واستشهد فيها اثنان وسبعون - أكثر أو أقلّ بقليل[17] - وهذا العدد من الشهداء موجود في العالم كلّه. فأن تكتسي واقعة كربلاء كلّ هذه العظمة - وهي أهل لهذا الشموخ والعظمة، بل هي أسمى وأعظم- إلى حدّ أنّها تركت آثارها ونفذت في عمق الوجود البشريّ، إنّما كان بسبب روح هذه الواقعة. فجسم القضيّة لم يكن له ذلك الحجم, وكان هناك أطفال صغار قُتلوا في كلّ بقعة من بقاع العالم، في وقتٍ قُتل في كربلاء رضيع واحد لستّة أشهر. وفي بعض الأماكن ارتكب الأعداء إبادات جماعيّة وقتلوا مئات الأطفال. القضيّة ليست مطروحة هنا في بعدها الجسمانيّ, بل تكمن أهمّيّتها في روحها ومعناها.

روح القضيّة هي أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يواجه في تلك الواقعة جيشاً ولم تكن مواجهته مع جمع غفير- وإن كان يفوقه بمائة ضعف - بل إنّ مواجهة الإمام الحسين عليه السلام كانت مع عالم من الانحراف والظلمة، وهذا هو المهمّ. وفي الوقت الذي كان يواجه فيه ذلك العالم من الظلمة والظلم والانحراف، الذي كان يملك كلّ شيء، ولديه المال والذهب والقوّة والكتّاب والشعراء والمحدّثون والخطباء, كان الجوّ موحشاً جدّاً. وكانت فرائص الإنسان العادي وحتّى الإنسان ما فوق العادي لترتعد لتلك العظمة الفارغة لعالم الظلمة ذاك، ولكن لم يرتعش للإمام الحسين عليه السلام قلب ولا اهتزّت له قدم. ولم تساوره مشاعر ضعف أو تردّد. وبرز إلى الميدان وحيداً فريداً. إنّ عظمة هذه القضيّة تمثّلت في أنّ القيام كان لله.

يمكن تشبيه موقف الإمام الحسين عليه السلام ومقارنته بموقف جدّه رسول الله محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته, فكما واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هناك عالماً بأسره، وقف الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء بمواجهة عالم بأسره. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعتريه أيّ خوف، بل صمد وسار إلى الأمام، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام الذي لم يرهبه شيء، بل ثبت وسار قدماً. فـالحركة النبويّة والحركة الحسينيّة هما بمثابة دائرتين متّحدتي المركز متّجهتين إلى مسار واحد. وهنا يظهر معنى "حسين منّي وأنا من حسين"[18]. هذه عظمة موقف الإمام الحسين عليه السلام.

عندما قال الحسين عليه السلام ليلة العاشر من محرّم: "اذهبوا فأنتم في حلّ منّي, وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً, وليأخذ كلّ واحد منكم بيد واحد من أهل بيتي, فالقوم يطلبونني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري..."[19] ، لم يكن قوله هذا مزاحاً. لنفترض أنّهم كانوا قد وافقوه وانصرفوا وبقي وحده أو برفقة عشرة أشخاص، هل كان ذلك لينقص من عظمة عمله؟

كلّا، بل تبقى له هذه العظمة بعينها. ولو كان حول الحسين عليه السلام بدل هؤلاء الاثنين والسبعين، اثنان وسبعون ألفاً، هل كان ذلك لينقص من عظمة موقفه؟ أبداً. إنّ عظمة موقف الحسين تكمن في ثباته واطمئنانه وهو يواجه ضغوط وقسوة عالم مليء بالمعترضين والمدّعين، فلم يتزلزل، والحال أنّ موقفاً كهذا، يضطرب فيه عامّةُ النّاس، وحتّى من هم فوق عامّة النّاس. وكما ذكرت مراراً فإنّ عبد الله بن عبّاس - وهو شخصيّة كبيرة مرموقة- وجميع أمراء قريش، كانوا في غاية الاستياء من ذلك الوضع. وهكذا كان حال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبناء كبار الصحابة، وبعض الصحابة.

كان في المدينة عدد كبير من الصحابة، وكانوا من ذوي الغيرة والمروءة - لا يتصوّرنّ أحد أنّهم كانوا عديمي المروءة - وهم أنفسهم الذين تصدّوا لمسلم بن عقبة وقاتلوه في وقعة "الحرّة" حينما هجم على المدينة وارتكب المذابح فيها بعد عام واحد[20] على واقعة كربلاء. لا تظنّوا أنّهم كانوا جبناء، بل وقفوا وقاتلوا وكانوا فرساناً وشجعاناً[21]. لكن شجاعة التقدّم إلى ساحة الحرب مسألة، وشجاعة مواجهة عالم برمّته مسألة أخرى. والموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين عليه السلام كان من النوع الثاني، ولأجل هذا النوع الثاني قام بحركته.

أشكال الاستقامة والثبات

الاستقامة في مقابل انتحال الأعذار الشرعيّة

من العوامل التي تقف سدّاً أمام الإنسان في المواقف الكبرى هي التذرّع بالأعذار الشرعيّة. يجب على الإنسان أن يؤدّي الأعمال والفرائض الواجبة، ولكن حينما يستلزم مثل هذا العمل وقوع إشكال كبير - كأن يُقتل فيه على سبيل المثال أشخاص كثيرون - هنا يشعر المرء أنّه لم يعد مكلّفاً. فكم كان حجم الأعذار الشرعيّة على تلك الشاكلة التي واجهت الإمام الحسين عليه السلام وكانت كفيلة بصرف أيّ إنسان سطحيّ الرؤية عن هذا السبيل! وكانت هذه الأعذار تتوالى الواحدة تلو الأخرى.

فقد واجه أوّلاً نكول أهل الكوفة ومقتل مسلم بن عقيل[22]. وهنا نفرض أنّه كان على الإمام الحسين عليه السلام أن يقول: "لقد بات العذر شرعيّاً وسقط التكليف، فأنا كنت عازماً على رفض البيعة، ولكن تبيّن لي أنّ موقفاً كهذا, في مثل هذه الأوضاع والظروف, لا يمكن الاستمرار عليه، وأنّ النّاس لا طاقة لهم على التحمّل, إذاً, التكليف ساقط, وأنا أبايع مكرهاً".

المرحلة الثانيّة هي واقعة كربلاء نفسها، حيث كان باستطاعة الإمام الحسين عليه السلام عند مواجهة ذلك الموقف أن يتصرّف على شاكلة الإنسان الذي يحلّ المواقف الكبرى بمثل هذا المنطق ويقول: "إنّ هؤلاء النسوة والصبية لا قِبل لهم بتحمّل هذه الصحراء المحرقة، وعليه, فالتكليف مرفوع". فيميل نحو الخضوع, ويقبل بما لم يقبله حتّى ذلك الحين. أو أنّه حتّى بعد اندلاع القتال في اليوم العاشر واستشهاد ثلّة من أصحابه - حيث تراكمت عليه المشاكل والمحن - كان بإمكانه القول: "الآن لم يعد القتال ممكناً، ومن غير المقدور الاستمرار" فيتراجع حينها. أو عندما تكشّف للإمام الحسين عليه السلام أنّه سيُستشهد، ومن بعد استشهاده ستبقى حُرَم الله وحُرَم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وحيدة في الصحارى بأيدي الرجال الأجانب, وهنا يبرز موضوع الشرف والعرض, وكان باستطاعته - كإنسان غيور - القول: "لقد ارتفع التكليف, فما هو مصير النساء؟ فإذا ما واصلت هذا الطريق وقُتِلتُ فإنَّ النساء من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبنات أمير المؤمنين عليه السلام وأطهر نساء الإسلام وأشرفهنّ سيقعن سبايا بيد الأعداء, من الرجال الذين لا حسب لهم ولا نسب ولا يفقهون شيئاً من معاني الشرف والغيرة, إذاً, فالتكليف مرفوع".

أيّها الإخوة والأخوات دقّقوا بهذا الموقف من واقعة كربلاء وانظروا إليه انطلاقاً من هذه الرؤية، وهو أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو أراد النظر إلى بعض الحوادث الشديدة الألم والمرارة - كحادثة استشهاد عليّ الأصغر وسبي النساء وعطش الصبية ومقتل الشبّان وغيرها من الحوادث الأخرى المروّعة في كربلاء - بمنظار المتشرّع العاديّ ويتغاضى عن عظمة دوره ورسالته، كان باستطاعته التراجع خطوة بعد خطوة، ويقول: لا تكليف عليّ، ولا مناص من مبايعة يزيد الآن، وإنّ "الضرورات تبُيح المحظورات". إلّا أنّه عليه السلام لم يتصرّف على هذه الشاكلة. هذه هي استقامة الإمام الحسين عليه السلام.

وهذا هو معنى الاستقامة. الاستقامة ليست دائماً بمعنى تحمّل المشاكل, لأنّ تحمّل المشاكل بالنسبة إلى الإنسان العظيم أيسر من تحمّل المسائل التي قد تبدو حسب الموازين الشرعيّة والعرفيّة والعقليّة الساذجة خلافاً للمصلحة, لأنّ تحمّلها أصعب من تحمّل سائر المشاكل.

تارة قد يقال للإنسان: لا تسلك هذا الطريق فقد تتعرّض للتعذيب. لكنّ الإنسان القويّ يقول: إنّي سالك هذا الطريق ولا ضير في تعرّضي للتعذيب. أو قد يقال لآخر: لا تسلك هذا المسلك لعلّك تُقتل. ترى الإنسان الفذّ يقول: إنّي سالكه ولا أبالي بالقتل. ولكن تارة أخرى قد لا يقتصر الحديث على مجرّد القتل والتعذيب والحرمان، بل يقال: لا تذهب، فقد يُقتل على أثر حركتك هذه عدد من النّاس. وهنا يُعرض على بساط البحث موضوع أرواح الآخرين, فيقال له: لا تَسِر في هذا الطريق، فمن المحتمل أن يواجه الكثير من النساء والرجال والأطفال مصاعب جمّة وعنتاً كبيراً من جرّاء مسيرك هذا. وهنا ترتعد فرائص أولئك الذين لا يبالون بالقتل، أمّا الذين لا ترتعد فرائصهم، فهم أوّلاً: في أعلى درجة من البصيرة وعلى بيّنة من ضخامة العمل الذي يؤدّونه. وثانياً: لهم من قوّة النفس ما لا يتسرّب معه الوهن إليهم. وهاتان الميزتان تجلّتا عند الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. لذلك كانت واقعة كربلاء كشمس سطعت في دياجي التاريخ، وهي ما انفكّت ساطعة وستبقى كذلك أبد الدّهر.

الاستقامة في المواقع الحسّاسة والباعثة على التردّد

لقد تحدّثتُ في بعض السنوات في ذكرى وفاة الإمام الخمينيّ رضوان الله عليه, حول استقامة الإمام... للإنصاف كان إمامنا العظيم إنساناً استثنائيّاً, بمعنى أنّنا لم نر في الواقع مثل ذلك الرجل العظيم، وإن كان لدينا - طبعاً - الكثير من الرجال الكبار, إلّا أنّنا لم نر مثله بتلك الخصوصيّات ولم نسمع. فأنا لم أسمع عن شخص يوازيه,.. لقد تميّز هذا الرجل بخصوصيّات, واحدة منها هي الاستقامة على الطريقة.

﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا[23].

الاستقامة هي من المعاني السهلة الممتنعة. قد تبدو بنظرة بسيطة قابلة للفهم, لكن عندما ندقّق نرى أنّ لها معنى عميقاً وصعباً جدّاً, فكما إنّ تشخيصها على قدر من الصعوبة, كذلك رعايتها في العمل على قدر كبير من الأهمّيّة. أضرب مثالاً: استقامة الإمام الخمينيّ رضوان الله عليه, من الممكن أن يتخيّل بعضهم أنّه ماذا تعني استقامة شخص مثل الإمام؟.. ليست استقامة الإمام بهذه السهولة وبهذا الوضوح. من المعلوم أنّه يمكن القول لأيّ شخص: ارجع عن طريق الحقّ, فسيجيب: لا, لن أعود عنه. أنا هنا أريد أن أشبّه استقامة الإمام رضوان الله عليه باستقامة الإمام الحسين عليه السلام. الاستقامة عند المفاصل الخطرة وفي المواقع الحسّاسة. افرضوا أنّهم عرضوا القضيّة على الإمام الحسين عليه السلام على الشكل التالي: تريد أن تجاهد في سبيل الله, هذا بالتأكيد أمر جيّد جدّاً, تريد مواجهة يزيد, وهذا بالطبع جيّد أيضاً, تريد أن تضحّي بنفسك, وأنت مستعدّ وحاضر, وهذا أيضاً جيّد جدّاً, لكنّ ذلك الطفل ذا الأشهر الستّة الذي كان يتململ من شدّة العطش, بأيّ معيار يظهر على هذا النحو؟! قلّ تلك الكلمة الواحدة وأرح هذا الطفل!

لاحظوا, فإنّ مسألة الاستقامة تظهر وتتجلّى على هذا النحو, يعني أن تُطرح نقطة فجأة أمام الإنسان وسط الطريق, بحيث إنّه من الممكن أن يجعل الإنسان الفذّ والفطن عرضة للشكّ والتردّد.

وعندما شبَّهتُ استقامة الإمام الخميني قدس سره باستقامة إمامنا الحسين عليه السلام فليس المقصود استقامته عليه السلام في ميدان القتال بحيث تلقّى طعنات السيوف لتبلغ جراح جسده الشريف 70 جرحاً ونيّفاً[24]. ليست هذه هي الاستقامة الكبرى التي تُذكر للإمام الحسين العظيم عليه السلام. أجل, فكلّ جنديّ شجاع باستطاعته القيام بمثل هذا العمل.

استقامة الإمام الحسين تكمن هنا في عمله بأن يؤتى إليه بطفل كعليّ الاصغر وقد جفّ لسانه من شدّة العطش, وعند سيّدة مبجّلة كزينب عليها السلام تُضرب بسياط عُتاة الكوفة, تخرج أسيرة, يسلبونها جلبابها وحجابها وربّما حليّها وقلادتها! فكّر في ذلك! هل بإمكانك لو جُعلت في هذا الموقف, وقالوا لك: "حسنٌ جدّاً! أنت شجاع, تريد الجهاد والمواجهة, فليكن لك ذلك, لكن انظر بأيّ ثمن وقيمة ستنتهي!", فكم سيكون بمقدورك أن تُظهِر من الاستقامة؟ هنا في هذا الموقف بعينه تعرف الاستقامة الحسينيّة. الاستقامة الحسينيّة هي أن يعرف الهدف ويُشخّص ويقيّم ويدرك كم هو عظيم وكبير فيصمد من أجله, في وقتٍ تهتزّ أرجل النّاس العاديّين, وأصحاب الكرم والشجاعة والنخوة وكرام النّاس. لو كان ثمّة شخص آخر مكان الإمام الحسين عليه السلام لوقف وقال: في النهاية: أنا مستعدّ للتضحية بنفسي في هذا الطريق, لكن, هنا في هذه الصحراء وفي هذا العطش, أنّى لي الوقوف, وفي البين طفل رضيع وسيّدة مكرّمة..؟!.

 

[1] الفتوح, ج5, ص23, الإرشاد, ج2, ص35-36, البداية والنهاية, ج8, ص151, بحار الأنوار, ج44, ص332.

[2] صحيفة الإمام ج61 ص284.

[3] أشير في موضع آخر إلى نقطة أولى وهي الاخلاص في النهضة الحسينيّة.

[4] مستطرفات السرائر, ص569, بحار الأنوار, ج46, ص172.

[5] الطبقات الكبرى, الخامسة 1, ص341, كامل الزيارات, ص453-454, بحار الأنوار, ج41, ص295.

[6] سورة الجنّ, الآية:16.

[7] سورة فصّلت, الآية:30.

[8] سورة فصّلت, الآية:30.

[9] مناقشة عبد الله بن الزبير مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام : شرح الأخبار, ج3, ص143, الكامل في التاريخ, ج4, ص38, بحار الأنوار, ج44, ص364. مناقشة عبد الله بن جعفر مع أبي عبد الله الحسين: الفتوح, ج5, ص67, الإرشاد, ج2, ص68-69, بحار الأنوار, ج44, ص366, مناقشة عبد الله بن عبّاس مع أبي عبد الله عليه السلام: الأخبار الطوال, ص243-244, مناقب آل أبي طالب, ج3, ص240 و245, بحار الأنوار, ج44, ص364-365.

[10] الطبقات الكبرى, الخامسة 1, ص444-447, أنساب الأشراف, ج3, ص163, الأخبار الطوال, ص228-229, تاريخ الطبريّ, ج4, ص253, و 286-287, الفتوح, ج5, ص16-17, و70و99, العقد الفريد, ج5, ص123, مروج الذهب, ج3, ص67, مناقب آل أبي طالب, ج3, ص56 و60, دلائل الإمامة, ص182, الإرشاد, ج2, ص71-72, إعلام الورى, ج1, ص459, الثاقب, ص340-341, مقتل الحسين, الخوارزميّ, ج1, ص271-273, تاريخ مدينة دمشق, ج14, ص201-202, وج65, ص127, الخرائج, ج1, ص253-254, مناقب آل أبي طالب, ج3, ص248, الكامل في التاريخ, جزء 4, ص50, مثير الأحزان, ص17, تذكرة الخواص, ص227, اللهوف, ص40, تهذيب الكمال, ج6, ص421, بحار الأنوار, ج44, ص364.

[11] سورة التحريم, الآية:10.

[12] سورة التحريم, الآية:11.

[13] سورة التحريم, الآية:12.

[14] سور التحريم, الآية: 11.

[15] مقتل الحسين, المقرّم, ص322.

[16] الفتوح, ج5, ص122, مثير الأحزان, ص71, بحار الأنوار, ج45, ص115-116.

[17] أنساب الأشراف, ج3, ص205, مقتل الحسين, الخوارزميّ, ج2, ص44, شرح الأخبار, ج3, ص154-155, 87 شخصاً, مروج الذهب, ج3, ص61, 78 شخصاً, اللهوف, ص85, بحار الأنوار, ج45, ص62.

[18] المعجم الكبير, ج3, ص33, شرح الأخبار, ج3, ص88, بحار الأنوار, ج45, ص314.

[19] مناقب آل أبي طالب, ج3, ص248, الكامل في التاريخ, ج4, ص57-58.

[20] تاريخ اليعقوبيّ, ج2, ص250-251.

[21] تاريخ خليفة, ص147-155.

[22] الإرشاد, ج2, ص52-63, الكامل في التاريخ, ج4, ص31-35, بحار الأنوار, ج44, ص349-357.

[23] سورة الجنّ, الآية: 16.

[24] تاريخ الطبريّ, ج4, ص346, الاّمالي, الطوسيّ, ص676-677, بحار الأنوار, ج45, ص57.




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.