أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-08-20
902
التاريخ: 7-5-2019
2841
التاريخ: 2024-10-27
203
التاريخ: 25-1-2018
1816
|
فلسفة التاريخ وفلسفة الواقع
إنّ معرفة الواقع الكلي، أو العام، هو المؤثر في فهم فلسفة التاريخ، سواء علم الإنسان هذا الواقع، أو لم يعلمه، فإنّ ما نسميه بتحليل التاريخ، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ إنّما نريد به الواقع الذي هو عام، وكلّي في المفردات التاريخية لا ما يزعم أنّه عام. حال ذلك، حال مفردات الدواء، حيث إنّه إنّما يكون دواءً، إذا كانت للمفردات روح عامة في كونه علاجاً، أمّا ما زُعم أنّه علاج، وليس بعلاج، فلا يصحّ أنْ يسمّى فلسفة التاريخ، وإنْ زعم الطبيب ـ مثلاً ـ أنّه هو دواء.
ومن الواضح: أنّ الآثار إنّما تترتّب على الواقع لا على الخيال، والذهن، والفكر، والتصوّر. فإنّ البيضة التـي لا تكـون بيضـة واقعيـة، وإنّمـا فـي صـورة البيضـة، لا تفرخ، وكذلك الحبّة التي هي في صورة الحبّة، ولا تكون حبّة واقعيّة، لا تنبت، وبالعكس إذا زعمنا أنّ هذه البيضة ليست واقعية، وكانت واقعية، فإنها تفرخ، والحنطة إذا زعمنا أنّها ليست بحنطة، وإنّما صورة حنطة بينما هي حنطة واقعية، فإنّها تنبت.
وعلى هذا، فإنّ الواقع هو المؤثّر سواء علمه الإنسان أو لم يعلمه، وغير الواقع لا يؤثّر، علمه الإنسان أو لم يعلمه (1) .
وهناك مسألة أخرى هي مسألة التجرّي، المذكورة في الفقه، والأصول، حيث يتصور الإنسان ما لا واقعية له، فيفعله، أو يتركه، فيكون متجرّياً. مثل ما إذا عَلِمَ ذهناً علماً غير مطابق للواقع بأنّ هذا المائع خمر، وشربه، ولم يكن في الواقع خمراً، فإنّ هذا الإنسان هو المتجرّي سواء كان بالنسبة إلى ما فعله أو ما تركه، وهذا ينطبق على فلسفة التاريخ، فيمكن أن تكون هناك وثيقة لا يدركها الإنسان، ومع ذلك يدرك الواقع بالحاسّة السادسة، أو ما أشبه ذلك.
وعليه: فقد لا تكون وثيقة، لكن الواقع يدرك بسبب الحاسّة السادسة.
فهناك ثلاثة أشياء: الواقع، والإدراك، والوثيقة ـ كما أسلفنا سابقاً ـ وكلّ واحد منها قد لا يرتبط بالآخر، فقد يكون واقع مع إدراك، أو بدون إدراك، وقد يكون لا واقع بإدراك خطأ، أو لا. وقد يكون لا واقع بوثيقة خطأ، وبدونها، وقد يكون واقع بوثيقة، أو بدونها.
وعلى كلّ حال: فعلى المؤرّخ أن ينفذ ببصيرته، وإدراكه، واستقرائه، من خلال القشرة التي تغطي سطح الأحداث؛ ليكتشف ببصيرته الفكر الكامن وراءها، ولذا قال أحدهم: إن نظرة قدسية تكشف عن الحيوية المتدفّقة بما تنطوي عليه من ثراء في الأحاسيس، والمشاعر، وتنوّع في الكيفيّات، وأزمات وحلول، وحرب وسلم، من حبٍّ وكرهٍ لمنهجٍ صحيحٍ ـ في أيّ بعد من أبعاد الحياة ـ أو غير صحيح. كلّ ذلك بالنسبة إلى الحياة بكلّ فعلها، وانفعالها، وصخبها، وهدوئها. ولا يمكن الوصول إلى شيء من ذلك إلاّ بالاستقراء التامّ، أو بالانكشاف الحدسي القطعي، كمن يشاهد النار في العراق، وفي إيران، وفي مصر، وفي سوريا، وما أشبه ذلك، ثمّ يحكم أنّ النار في روسيا، والصين، وفيتنام أيضاً محرقة، وتبعث على الإضاءة، وتعطي الحرارة، بينما لم يشاهد إلاّ قليلاً من النيران الموجودة في المكان المعيّن، أو أمكنة معيّنة، أو في الزمان المعيّن، أو الأزمنة المعيّنة.
لكنّ الحدس يعطي ما وراء ذلك، الذي هو الروح العامة في النيران مطلقاً، وهذا الحدس هو المعيار للمنطقيين في كلماتهم بالنسبة إلى الصناعات الخمس لا الحدس الذي لا حجّية فيه ولا اكتشاف للروح العامة.
أمّا الاستقراء الناقص؛ الذي ليس من مواضع الحدسيّات العلمية التي ذكرناها، فلا يفيد علماً، وعملاً، وإن ظنّ الإنسان بالجامع والفلسفة، لأنّ ((الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) (2)، فلا ينكشف الواقع، والكلّي، والفلسفة، في الأمور المشتتّة المتباعدة مكاناً، أو ما أشبه ذلك.
نعـم، هناك مـن يبني الأمـور علـى الاستقـراء الناقـص، وذلك من التواضع لا من الحقيقة، فهناك فرق بين أن يتبنى جماعةٌ أحكاماً على ما يستقرئونه استقراءً ناقصاً، وبين أن يراد الواقع الجامع الذي لا ينكشف إلاّ بالاستقراء التامّ، أو بسبب الحدس العلمي القطعي الذي ذكرناه.
وليس معنى ما ذكرناه أنّ الاستقراء الناقص قد لا يصادف الواقع، وإنما المعنى أنّه لا يمكن الاعتماد على الاستقراء الناقص في العليّة والمعلوليّة، واتّخاذ الآثار المترتّبة على الواقع العام، ـ مثلاً ـ إذا وجد إنسانٌ خمرَ التمرِ مُسكراً، وكذلك خمر الزبيب، والعنب، والتفّاح، وما أشبه ذلك، فحكم أنّ كلّ خمر مسكر بدون موازين الحدس التي ذكرناها، فإنّ الاستقراء وإن كان ناقصاً إلاّ أنّه أصاب الواقع، ويكون أثر الواقع مترتّباً على كلّ خمر، لكنّ الكلام هنا في أنه كيف نتمكّن أن نستدلّ على العلّية الواقعية، والمعلولية الواقعية، بالاستقراء الناقص، إذا لم يكن هناك حدس قطعي، ولم تكن هناك مطابقة للواقع، وإن لم يصل الفيلسوف، أو المؤرّخ، أو العالم إلى ذلك الواقع؛ بسبب أحد الأمرين السابقين من الاستقراء التامّ، أو الحدس القطعي؛ بالكاشف للجامع.
ثمّ بالإضافة إلى سلامة المادّة ممّا ذكروه في الصناعات الخمس، وجوب سلامة الهيئة ممّا ذكروه في الأشكال الأربعة المنطقية، وكلّ واحد منهما لا يغني عن الآخر على نحو القاعدة الكلّية، وإن كان أحياناً يصادف الواقع بشكل غير منطقي، أو بمادّة غير منطقيّة، فإنّ اللازم في العلوم، القواعد الكلّية لا الجزئيات الخارجية. فإنّ الجزئي علـى اصطلاح المنطقيين لا يكـون كاسباً ولا مكتسباً، ولا يفيد علماً ولا عملاً، إلاّ في نطاق جزئي خارجي، من قبيل القضايا الخارجية التي ذكروها.
والكلام في العلوم إنّما يدور حول القضايا الحقيقية، بحيث كلّما وجد الموضوع، وجد الحكم، أو كلّما رأينا وجدان الحكم، اكتشفنا وجدان الموضوع بالدليل الإنّي، فإنّه كما يدل الأثر على المؤثّر بالدليل الإنّي، كذلك يدلّ المؤثّر على الأثر بالدليل اللمّي؛ لفرض العلّية والمعلولية.
الفرق بين التاريخ الصحيح والمزيّف
المهم في فلسفة التاريخ أن يجد الإنسان الروح العامّة للتاريخ الواقعي لا التاريخ المزيّف، فإنّ التاريخ المزيّف عبارة عن سفسطة، ومجموعة أكاذيب، لا تمتُّ إلى الواقع بصلة.
والتاريخ المزيّف هو الذي وصفه الإنسان بالعموم والخصوص، أو التباين، أو من وجه لأجل إدخال فلسفة زمانية، أو مكانية، أو شرائطية، فإن مثل هذه الفلسفة بالإضافة إلى أنها أمر غير واقعي، لا ينفع في المستقبل بل يسبب تحريف المستقبل.
مثلاً: قال الطبيب: الرمّان له خاصية دفع الصفراء، فاستنتج أن كثرة تناول الرمّان لأمّة من الأمم هو السبب في صحّة أجسامهم. فالحكم التاريخي رتّب على موضوع أكل الرمّان، فيأتي الفلسفي المزيّف ليقول إنّ المراد بالرمّان هو البرتقال بقرينة كذا، أو الأعم من الرمّان والبرتقال، أو الأخصّ الذي هو رمّان الطائف ممّا لا نواة له، لا كل رمّان أو الرمّان في الصيف لا الرّمان في الخريف والشتاء، وغير ذلك، أو الأعم من وجه، والأخصّ من وجه، كالرمّان الحلّو لا كلّ رمّان، والرمّان الأعمّ من الرمّان والبرتقال، فهو أخصّ من ناحية، وأعمّ من ناحية، إنّه بهذا العمل لا يفلسف التاريخ بل يفلسف زعمه، ويبني عليه الحكم المستقبلي.
ومن الواضح أنّ فلسفة الصحّة الجسدية لأولئك الذين كانوا يأكلون الرمّان مترتّبة على الرمّان بما هو رمّان لا الشيء الخاصّ ولا العام ولا المباين ولا الذي بينه وبين الرمّان عموم من وجه، كما أنّ الأكل كان يراد به الأكل بالمعنى المصطلح، لا أن يفسّر الأكل بالتزريق أو التقطير في الأنف أو العين أو الأذن.
لقد كان هذا ـ العدول عن الفلسفة الحقيقية التي جاء بها الشرع، والتمسك بأنماط من الفلسفة المزيفة ـ هو بعينه سبب سقوط المسلمين بعد تلك الحكومة الطويلـة العريضة القويّة، حتّى صاروا تبعاً لغيرهم بل صاروا أذلّة لا حول لهم ولا قوّة، وليس لهم حال، ولا مستقبل بل هم كلّ يوم في انحطاط أكثر وأكثر في كلّ مناحي الحياة (3).
إنّ (حلال محمّد حلالٌ إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (4)؛ كما في الحديث، و ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ)) (5)؛ كما جاء به القرآن الحكيم وبيّنه الرسول الأعظم وآله الطاهرون (عليهم السلام)، فإنّ ذلك هو الذي جعل المسلمين: ((وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ))(6)؛ حسب التعبير القرآني، أو (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(7)؛ حسب تعبير نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله)، لا الفلسفات المزيّفة التي جعلها الحكّام أصحاب الأهواء إسلامهم، وحكموا الناس بالحديد والنّار، والدعايات المسمومة.
وهناك ألف مثال ومثال ممّا ادّعاه الحكّام إسلاماً، وهولا يمت إلى الإسلام بصلـة، نذكـر منهـا بعض المـوارد المعدودة التي يعايشها المسلم في كلّ بلاد الإسلام، من غير فرق بين عربهم وعجمهم.
أمثلة وشواهد
مثلاً: قالوا الخمر المحرّمة هي المسكر، أمّا إذا أخذ سكر الخمر كانت حلالاً. وإنّ الخمر إنّما كانت محّرمة، إذا لم يتوقّف الاقتصاد الوطني عليها، فإذا توقّف الاقتصاد الوطني عليها، كانت حلالاً؛ كما قال رئيس الوزراء الإيراني الأسبق ـ مصدّق (8) ـ في قبال السيّد الكاشاني(9) (رحمه الله). أو قالوا: إنّ الزنا المحرّم هو ما كان مضرّاً أو بالاغتصاب لا ما كان بالرضى، وليس خطراً بسبب احتمال تفشي الأمراض الزهرية وغيرها. وقالوا: إنّ الإسلام إنّما حرّم الضرائب؛ لعدم وجود الحاجة في ذلك اليوم ما عدا الضرائب الأربع ـ الخمس، والزكاة، والجزيّة، والخراج، أمّا إذا احتاجت الدولة إلى الضرائب، كحالنا، لتعقّد الأمور، والاحتياجات الكثيرة، فليست الضرائب محرّمة حتّى إذا وصلت إلى أكثر من 90 %.
وقالوا: إنّ التعذيب المحرّم في الإسلام إنّما هو التعذيب الذي يراد به الاعتباط لا التعذيب الذي يراد به أخذ الاعترافات من فئات، أو أفراد محترفين، أو إنّ السجن الاعتباطي حلال في هذا الحال مثل سجن القاتل.
وقالوا: إنّ الإعدام إنّما جعله الشارع في موارد محدودة جدّاً؛ لأنّ الناس في ذلك اليوم كانوا بسطاء، أمّا في هذا اليوم؛ فيجب أن نزيد على موارد الإعدام الشرعية؛ لتعقّد الحياة، كما فعله العراق أيّام الشيوعيين، والقوميين، والبعثيين حتّى أوصلوا أنواع الإعدام إلى 200 نوع(10).
وقالوا: إنّ الحدود الجغرافية ضرورية لحماية الدولة من الاعتداءات الخارجية ومن فرق التهريب، وفي السابق لم تكن هذه الأمور موجودة، أمّا اليوم حيث هذا الاحتمال قائم، فمن الضروري أن نحدّ الحدود الجغرافية حول أراضي البلاد، صغيرةً كانت أو كبيرةً.
وقالوا: إنّ الحرّيات الإسلامية التي جعلها الله سبحانه وتعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (11)، وبينها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: (الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم) (12) بزيادة مستفادة من ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) (13)، إنّما كانت حيث لا احتياج للدولة للمال، ولا لتكثير الموظّفين، ولا، ولا.. أمّا في هذا اليوم فكلّ هذه الاحتياجات قائمة، ولهذا نحتاج إلى كبت الحرّيات وتحديدها.
وقالوا: إنّ الأخوة الإسلامية كانت إذا لم يكن العصر حديثاً، أمّا إذا صار العصر الحديث فلا عمل بآية: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (14) .
وقالوا: إنّ الزواج بالأربعة إنّما كانت حيث النساء الكثيرات؛ بسبب حصاد الحروب للرجال، أمّا في هذا اليوم؛ فلا يحقّ للرجل إلاّ الزوجة الواحدة، ثمّ من الضروري أن يستأذن الزوج من الزوجة الأولى إذا أراد أن يتزوّج زوجة ثانية؛ لأجل زيادة النسل، أو ما أشبه ذلك.
وقالوا: إنّ حرمة الاستمناء إنّما كان في السابق نتيجة عدم وجود الدواء لضعف الأعصاب، حيث يسبّب ضعف الأعصاب، أمّا اليوم؛ فحيث توجد الأدوية لضعف الأعصاب؛ فلا حرمة للاستمناء.
وقالوا: إن الاستبداد إنّما يكون محرَّماً كما قال الإمام علي (عليه السلام): (من استبدّ برأيه هلك) (15)، وغير ذلك من الروايات، والآيات، حيث قال الله سبحانه وتعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))(16)، و ((شَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ))(17)؛ لأجل أنّه لم يكن بالإمكان تسيير الحكومة إلاّ بالشورى، أمّا اليوم؛ فلمّا أصبح بالإمكان الاستغناء عن المشورة بالأجهزة المتطورة، فلا حاجة لنا إلى الشورى، فإنّ مصلحة النظام هي المقدّمة على كلّ حكم، فإذا تعارضت مصلحة النظام مع محرّم أو واجب وحتّى مع التوحيد، أمكن تقديم المصلحة على الأحكام الإسلامية بل والعقائد الإسلامية كما قال بكل ذلك جماعة من الطغاة.
أقول: نعم لا إشكال في التوسيعات الشرعية مثل الخمر حرام حيث يوسّع إلى كلّ مسكر حسب الدليل، والتضييقات الشرعية مثل تقيّد الأحكام بلا ضرر حيث قاله الشارع، وذلك ما يعيّنه شورى الفقهاء المتعاونين مع أهل الخبرة والاختصاص، الذين نسميهم بالأحزاب الحرّة، أو الأفراد المستقلّين، وكم هو الفرق بين الأمرين؟ فالتوسيعات الشرعية، أو التضييقات الشرعية، إنما تكون مع استنباط شورى الفقهاء ذلك التضييق أو التوسيع في الحكم حسب الأدلّة الأربعة المشهورة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، وقد فصلنا هذا البحث في موضع آخر.
رأي وتعليق
وقد قرأت في أكثر من كتاب تمسك بعض المسلمين بأقوال مونتسكيو(18)، أو فولتير، والتي هي بمنأى عن الإسلام، وسننقل بعض المقاطع من أحدهما مع شرحه لها.
يقول الكاتب: مونتسكيو يحدّد العوامل التي تشكّل قوانين الدولة، وشكل الحكومة، وشخصيـة الأمّـة، فيرجعها إلى عوامل إمّا مادّية طبيعية، أو معنوية اجتماعية. ومن العوامل الطبيعية، عامل الجغرافية، التي يوليها مونتسكيو اهتماماً خاصاً إلى حدّ أن اعتبرها أغلب الباحثين أهمّ ما يميّز مؤلّفه، الذي يتكوّن من ستّة أجزاء في 31 باباً، فمن نتائج بحثه: يختلف الناس في مختلف الأقاليم تبعاً لعوامل المناخ، وطبيعة الأرض، والموقع، ونوع الأراضي، ذلك أنّ للمناخ أثراً على كلّ أجزاء الجسم الإنساني وما به من عصارات، وإفرازات، ومن ثمّ يتشكّل مزاج الإنسان، وأخلاقه، وعاداته، وطباعه، فحيوية الناس في المناطق الباردة غيرها في المناطق الحارّة. وقد ترتب على ذلك كثير من الأنظمة الاجتماعية، ذات الطابع الخاصّ في المناطق الحارّة، كتعدّد الزوجات، وتحريم الخمر، وإنجاب النساء، كذلك يتأثّر به نظام الأمّة؛ إذ العبودية طابع المناطق الحارّة، ومن ثمّ سادها النظام الاستبدادي في الحكم، كذلك يختلف مفهوم الحرّية في الأنظمة الاقتصادية، كالضرائب، وأنظمة الحرب في هذه المجتمعات، وفقاً لشكل الحكم فيها، وهذا بدوره قد شكّلته العوامل الجغرافية؛ إنّ حالة القحط قد أدّت بالتّتار إلى الاندفاع نحو الحروب، والتعطّش للدماء، والتدمير، بينما تميل الأقضية العربية إلى الحرّية؛ وإن عانت من القحط أيضاً.
وأضاف هذا الكاتب: أمّا العوامل المعنوية والاجتماعية؛ التي تشكّل بدورها قوانين الدولة، ونظام الحكومة، فأهمّها المزايا الاقتصادية، وأمور الدين.
أمّا حول المسائل الاقتصادية؛ فيعرض مونتسكيو أنظمة التجارة، والضرائب في بعض المجتمعات القديمة، خصوصاً الدولة الرومانية، وعوامل تطوّرها، وأثر القوانين الوضعية في النقد، وحركة التجارة، وانعكاس ذلك على عدد السكّان، وحركتهم، ونموهم، وثقافتهم، أو تخلخلهم. فإنّ القوانين الوضعية، وإن كانت تعكس رغبة المشرّع، والحكومة القائمة، فإنّها بدورها لابدّ أن تتأثّر بالقوانين الطبيعية.
أمّا الدين؛ فيرى مونتسكيو أنّ الإسلام أكثر ملاءمة لشعوب الشرق، بينما المسيحية تناسب الأوروبيين؛ لأسباب جغرافية من جهة، ولأسباب تتعلّق بشكل الحكومة من جهة أخرى، وهو إذ يفصل القول في الجوانب الاجتماعية في الدين، والأعياد، فإنّه يحمل حملة شعواء على الاضطهاد الديني، ومحاكم التفتيش.
خلاصة القول: لقد درس مونتسكيو بإسهاب مستخدماً المنهج التاريخي، والمنهج المقارن كيف يتحدّد نظام الحكم بالعوامل الجغرافية، والمادّية، والاجتماعية، أو الثقافية. وهو وإن أولى العوامل الجغرافية اهتماماً خاصاً في بيان أثرها بشكل المجتمع، فإنّه أشار إلى أنّ العوامل الجغرافية إن ساد تأثيرها على العوامل الثقافية، والاجتماعية، فإنّ هذا يعني جمود المجتمع، وضعف مقدرته على التطوّر؛ نظراً لثبات العامل الجغرافي إن أُضِيفَ إلى العامل الثقافي.
أقول: وأنت ترى أنّ هذه الكلمات ليست إلاّ تضخيماً من جانب، وتصغيراً من جانب آخر، ولم يقم أي دليل على ما ذكره مونتسكيو، أو الكاتب، ولكن لو كان الأمر كذلك، كانت الدول الأوربية في الزمان السابق المتعدّدة اللغات، والأديان، والاقتصاديات، والمناخات، لم تتمكّن أن توحّد جهودها في دولة أوربية برفع الحدود الجغرافية عنها بعملة موحدة وبرلمان مشترك و… وكذلك بالنسبة إلى الدول الأمريكية التي اتّحدت فصارت دولة واحدة(19)، إلى غير ذلك من التناقض، والإشكالات التي لسنا بصدد ذكرها، وهي أكثر من أن تحدّد في واحد، أو اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو عشرين، أو حتّى مائة.
_______________
(1) نعم، بعض الآثار إنّما هي آثار ذهنية لا آثار واقعيّة وهي تترتّب على الذهن.
(2) سورة النجم: الآية 28، سورة يونس: الآية 36.
(3) وقد تحدث المؤلف عن أسباب سقوط المسلمين دينياً ودنيوياً في كتابه: (سقوط بعد سقوط(، وكتاب (لماذا تأخر المسلمون ؟) .
(4) بصائر الدرجات: ص148 ب 13 ح7، وفي الكافي (أصول): ج1 ص58 ح19 إضافة قيد?أبداًn.
(5) سورة آل عمران: الآية 19.
(6) سورة محمد: الآية 35، سورة آل عمران: الآية 139.
(7) المناقب: ج3 ص241، نهج الحق: ص515، وسائل الشيعة: ج26 ص14 ب 1 ح32383، غوالي اللآلي: ج1 ص 226 ح 118 و ج3 ص496 ح15، مستدرك الوسائل: ج17 ص42 ب1 ح 20985.
(8) محمد بن هداية مصدّق: ولد في طهران سنة 1881م ومات سنة 1967م، سياسي إيراني تقلّد وزارة المالية ثم رئاسة الوزراء بين سنة 1951م ـ 1953م، وقد ألغى معاهدة النفط الإيرانية ـ البريطانية سنة 1951م، وقد حاول شاه إيران محمد رضا إقالته سنة 1953م لكن الجماهير الغاضبة أكرهت الشاه على مغادرة البلاد وما هي إلاّ أيام حتى تدخل الغرب وتمكن من إعادة الشاه إلى الحكم، وقد حُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات ثم وضع تحت الإقامة الجبرية حتى موته. راجع موسوعة المورد: ج7 ص 68 والمنجد في الأعلام: ص665.
(9) السيد أبو القاسم بن مصطفى الكاشاني: ولد سنة 1330ه (1912م)، شارك في ثورة العشرين، وكان عضواً في المجلس العلمي، وبعد انتكاسة الثورة طارده الإنجليز ؛ فهرب إلى إيران وفيها خاض صراعاً مريراً مع الطاغية رضا شاه، وله مواقف مشرفة في قضية تأميم النفط الإيراني.
(10) وقد تطرق الإمام المؤلف إلى هذه الأنواع في كتاب: (الصياغة الجديدة لعالم الحرية والرفاه والسلام ص 582 ـ ص 594 تحت عنوان التعذيب في سجون بغداد.
(11) سورة الأعراف: الآية 157.
(12) الناس مسلطون على أموالهم، حديث شريف ورد في كتاب غوالي اللآلي: ج1 ص222 ح99 الفصل التاسع وص457 ح198، وج2 ص138 ح383، وكتاب نهج الحق: ص504، وبحار الأنوار: ج2 ص272 ب33 ح7.
(13) سورة الأحزاب: الآية 6.
(14) سورة الحجرات: الآية 10.
(15) تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ح10111، نهج البلاغة قصار الحكم: الحكمة 161، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج18 ص382 ب 163، بحار الأنوار: ج72 ص104 ب49 ح38، وسائل الشيعة: ج12 ص40 ب21 ح15587، خصائص الأمة: ص108.
(16) سورة الشورى: الآية 38.
(17) سورة آل عمران: الآية 159.
(18) شارل دي سيكوندا، بارون دي لايريد ودي المشهور ب(مونتسكيو)، ولد سنة 1689م، ومات سنة 1755م، كاتب، ومؤرخ، وفيلسوف فرنسي، له باع في تنظير أيديولوجية الملكية الدستورية، وله عدة مؤلفات منها: (روح القوانين)، (رسائل فارسية، (نظرات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم).
(19) فقد شكلت جمعية تأسيسية، تتكون من (55) عضواً، يترأسها جورج واشنطن من أجل وضع دستور، يوفق بين حرية الولايات، وضرورة السلطة المركزية القوية المتمتعة بالموارد الكافية لإدارة مجموع الشعب الأمريكي، واجتمعت الجمعية لأول مرة في 25 آيار 1778م، وخرجت بقرارات، حددت فيها حقوق الحكومة الفدرالية وواجباتها. واتحدت الولايات الأمريكية على شكل مراحل آخرها في 4 تموز 1909م بعد انضمام ألسكا، وهاواي، وأصبح عَلَمُهم يحتوي على خمسين نجمة، يمثل خمسين ولاية. لمزيد من التفصيل راجع جريدة العالم: ج4 ص236 ترجمة سمير شيخاني.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|