أكد المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة السيد أحمد الصافي، أنّ المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية يعمل على مواجهة التحديات الثقافية، وخصوصًا فيما يتعلق بالأخلاق والفكر المعاصر. جاء ذلك في كلمة لسماحته خلال الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس المركز الذي أُقيم في النجف الأشرف بحضور عدد من مسؤولي العتبة العباسية المقدسة وأساتذة الحوزة العلمية المباركة وطلبتها والأكاديميين. وأدناه نصّ الكلمة: إن وظيفة طالب العلم في المرحلة الأولى هي الدرس والتدريس والاشتغال بهما، حتّى سمعنا من الأساتذة الأفاضل والمراجع الكبار أنّ عنوان الاشتغال لابد أن يرافق طالب العلم بحيث لا ينفك عنه إلا في الضرورات المعيشية كالصلاة والغذاء مثلاً، باعتبار أنّ طلب العلم وصفٌ عنوانيّ ملاصق للوجود المبارك لطلبة العلم وللحوزة العتيدة المباركة، حوزة النجف الأشرف وبقية الحوزات الكريمة، فكان الدرس هو العنوان الأولي الذي يفترض أن يشتغل به طالب العلم، ثمّ أنّ هذا الدرس قد ينتج نتائج متفرعة عنه، فالذي وُفّق بالاستمرار في طلب العلم إلى أن يمن الله تعالى عليه بنيل الدرجة العالية في مراتب العلم وهي درجة الاجتهاد، وقد يتوفق الإنسان إلى جهة أخرى وهي مسألة الكتابة، والحوزة العلمية في النجف الأشرف ولودة دائمًا لخصال الدرس والتدريس. إنّ الدرس في النجف الأشرف اليوم عامر، والأساتذة يبذلون الجهد بعد الآخر في إثارة هذه الحركة العلمية، وفي الكتابة أيضًا نشهد أقلامًا حرّةً فكرية قوية ترفد مكتباتنا الإسلامية بما هو من الفكر المهم والأصيل الذي تنتجه هذه الحوزة المباركة.
هناك وظيفة أخرى لطلاب العلم، وهي الاستفادة من المناسبات الدينية ومن الأشهر الكريمة في السنة كشهر رمضان ليلقون المحاضرات وينطلقون إلى المسائل المهمة في التبليغ، سواء من الطلبة أو من الخطباء الأفاضل، وبالإضافة إلى هذه الأمور الثلاثة الدرس والكتابة والمحاضرات أيضًا، هناك حال رابع وهو الاشتغال في الخدمات الاجتماعية وقضاء حوائج الناس بما يحسنون الظن - وهو في محله - بطالب العلم أو طلبة العلم، باعتبارهم حريصين جدًّا على تلبية حاجات المحتاجين بمقدار المستطاع، مثل إصلاح ذات البين، والوقوف مع الناس في مشاكلهم. في الفترة المتأخرة مرّ البلد بمجموعة مشاكل، وكان الطلبة في أوائل المتصدين لهذه المسألة، فحتى في جبهات القتال رأينا الطلبة، ودفعت الحوزة العلمية كوكبة من أبنائها شهداء، استجابة لفتوى المرجعية العليا لدفع للخطر الذي مرّ على البلاد. وفيما يتعلق بالعتبة العباسية المقدسة أوجز لكم بعض الجوانب الفكرية، فقد اشتغلنا بأمرين، الأول وجدنا فيه أنّ النجف الأشرف تمتلك تراثًا ضخمًا جدًّا، وأكاد لا أكون مجازفًا عندما أقول أنّ علماء الطائفة كتبوا في كل شيء له علاقة بهداية الإنسان، سواء في التفسير أو الرجال أو الأدب أو الفقه أو الأصول، وبدأنا نبحث عن هذه النفائس، حتى تكونت عندنا مكتبة مهمة في الكتب النفيسة من المخطوطات، وحرصنا أشد الحرص على أن نبدأ بالحفاظ على هذه المخطوطات وصيانتها، وقبل أكثر من عشر سنوات أرسلنا مجموعة من المنتسبين للعتبة المقدسة إلى بعض الدول في أوروبا واستفادوا من الخبرات المهمة بالحفاظ على المخطوط والوثائق، لأن تلك الدول مرّت في القرون الوسطى بنزاعات كبيرة فأدّت إلى هدم الكثير من وثائقها، فطوّروا أنفسهم بعد أن تصالحوا وحاولوا أن يستعينوا بخبرات تكنولوجية في الحفاظ على هذه الوثائق، فاستفدنا من تلك الخبرة، وجاء الإخوة الذين بُعثوا وهم أربعة، بشهادات تتيح لهم العمل في الاتحاد الأوروبي أيضا في وقتها، فتركز الاهتمام بالمخطوطات وصيانتها ومعالجتها في مشفى أنشأناه خصيصًا لها، ثمّ بدأنا في المرحلة الثانية وهي فهرسة هذه المخطوطات، ولا زال العمل مستمرًّا، وفي المرحلة الثالثة وضعنا هذه الفهرسة أمام الباحثين والمفكرين الذين يحبون أن يستفيدوا من هذه المخطوطات. ومن جهة أخرى وفي جهد آخر انفتحنا على كثير من مكتبات العالم وبدأنا بتصوير هذه المكتبات، واليوم عندنا تراث ضخم لتصوير المخطوطات في أغلب مكتبات العالم، حتى أنّ بعض المكتبات التي كانت مغلقة ولا يسمح أصحابها بالوصول إليها، لكنهم فتحوا الباب أمامنا لتصويرها، وعندنا مركز مهم هو مركز تصوير المخطوطات وبتقنية حديثة جدًّا، إذ إنّ هذه المخطوطات حُفظت الآن في العتبة العباسية المقدسة. وفي مرحلة أخرى وجدنا أنّ هنالك نقصًا في وجود المحققين، وهذا يعود إلى المسألة التاريخية التي مرّت بها النجف الأشرف، فالتراث موجود، ومكتبات المدينة عامرة بهذا التراث، فعوضونا هذا النقص من خلال استضافة المحققين، فقبل (12) عام بدأنا باستضافة عدد منهم، للتحقيق من جهة، وتعليم بعض شبابنا من جهة أخرى، ونظمنا مجموعة من الدورات، وببركتها أخرجنا الكتاب الذي يحمل عنوان (علم تحقيق المخطوطات)، الذي شكّل الآن مجموعة نفيسة من الكتب، مع الأفاضل الذين بدأوا بالتحقيق فعلاً، وفي الفترة الأخيرة شكلنا هيأةً للاهتمام بالتراث وفتحنا معهدًا معنيًا فيه أيضًا، ولدى العتبة العباسية المقدسة مركز الشيخ الطوسي وهو من المراكز المهمة، وصل حتى الآن في التحقيق والتأليف المنجز إلى (156) عنوانًا تقريبًا بـ (214) مجلدًا، وأيضًا في التحقيق والتأليف الذي هو قيد الإنجاز (87) عنوانًا و (169) مجلدًا، كما أنّ لدينا في العتبة المقدسة مجلة (الخزانة) بعددها الرابع عشر، ومجلة (إحياء التراث) بالعدد الأول، كما اهتم قسم المعارف الإسلامية والانسانية بإنشاء مراكز تراث كربلاء، والحلة، والبصرة، وملاكات القسم جادة في استهاض التراث بالمدن الثلاث، وشكلنا في الفترة الأخيرة مركز تراث الجنوب، الذي يشمل محافظات الجنوب من غير البصرة ومقره في الناصرية، وصدرت منه الآن بعض الموافقات لبعض الكتب والشروحات العلمية من الأفاضل الذين كانوا يسكنون في تلك المناطق، وبعض آثارهم موجودة عند ورثتهم، ووافقوا على أن تؤخذ هذه المخطوطات وتُحقق وتُنقح بالشكل الموجود. وفي قسم المعارف أيضًا بمجال التحقيق والتأليف والإعداد المنجز تقريبا (165) عنوانًا و (253) مجلدًا، وفي مركز الشيخ الطوسي بمجال التحقيق والتأليف والإعداد قيد الإنجاز (116) عنوانًا و (375) مجلدًا، إضافة إلى ذلك عندنا بعض المجلات المحكمة، وهي مجلة (تراث كربلاء) (34) عددًا إلى الآن، ومجلة (تراث الحلة) (16) عددًا، ومجلة تراث البصرة (14) عددًا، ومجلة تراث الجنوب صدر منها العدد الأول. وبالنسبة إلى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ففيه جنبة أخرى وهي مواجهة التحديات الثقافية التي لا تخفى عن الجميع الآن، وخصوصًا فيما يتعلق بالأخلاق والفكر المعاصر، فهناك جهات معينة قد تبنت الأفكار التي تُطرح وبدأ البعض يتأثر بها، وهذا التأثر له أسبابه التي منها قد تكون قلّة المعرفة بخطورة ما يُطرح، فبعض الشباب قد لا يفهم الأمور بشكل دقيق، لذلك أخذ هذا المركز على عاتقه أن يتصدى وخاض غمار هذه المسألة بشكل كبير حتّى أنه أصدر مجموعة من المجلات ودخل في قضية الاستشراق، ليستكشف كيف يقرأ الآخرين الإسلام، كما دخل المركز في قضية الاستغراب، وهو طرحٌ جديد لم يطرق مسبقًا ويختص بكيفية قراءة الآخر من قبلنا، واستمر هذا الطرح واستفاد منه كثير من الباحثين حتى في دول شمال إفريقيا، فعندما رأوا بعض اصدارات هذا المركز، اتصلوا وحاولوا ان يستفيدوا منه، وهناك رسائل خطية منهم صدرت محفوظة في المركز تبيّن اهتمامهم ببعض هذه النشاطات الموجودة، بالإضافة إلى مجموعة من المحاضرات والملتقيات. نحتاج في مسألة الكتابة إلى أن نستشعر التحدي، ولا بد أن نعرف أنّ هناك أقلامًا جيدةً، وهذه الأقلام الجيدة تحتاج إلى استثارة وإلى الشعور بالمسؤولية، فكلّ إنسان يجب أن يكون عنده قلم حر، وجدير بأن يكتب فليكتب، ونحن نأخذ هذه الكتابة ونتبنى كل ما يتعلق بما بعد الكتابة في الطبع والتجهيز والتوزيع، إذ إنّنا نشعر بأنّ هناك حاجة حقيقية لمسألة الاستكتاب، وفي جانب آخر نحتاج الترجمة، فقد تكون بعض الدول لديها شيء نافع، لكنه لا يصل إلينا في اللغة العربية، وقد يكتب بلغات أخرى، فمن يجد بعض العناوين المهمة التي ترون أهمية ترجمتها، فنحن مستعدون أن نكون بخدمته، ففي هذا المركز الآن من بين مجموع ما أنتجنا من هذه المئتين بين استكتاب وترجمة هناك مواضيع مهمة لابد أن نطلع عليها، كما وفرنا مادة بخصوص الأفاضل من الخطباء، وهذه المادة من الضرورة أن تُقرأ بشكل دقيق وأن تُطرح أيضًا بشكل أدق، وذلك بوجود حاجة حقيقية خصوصًا لدى الشباب المؤمن المثقف الذي ينتظر شيئًا يسد به جوعه الثقافي، فهناك سرعة في الثقافة الهجينة علينا، إذ تعمل مكتبات العالم والتواصل في نشاط يومي لإغراقنا بثقافات قد تأخذ حصة كبيرة من أبنائنا إذا لم يجدوا في المقابل مجوعة من الثقافات الأصيلة والرصينة ومن أولى بالنجف الأشرف أن يكون لها قصب السبق بها المجال.