اكّدت المرجعيّةُ الدينيّةُ العُليا وبشدّة أنّها لا تنحاز إلّا الى الشعب ولا تدافع إلّا عن مصالحه، وليست لها مصلحةٌ أو علاقة خاصّة مع أيّ طرفٍ في السُّلطة، وتؤكّد ما صرّحت به في نيسان عام (2006) عند تشكيل الحكومة عقيب أوّل انتخابات مجلسٍ للنوّاب من أنّها (لم ولن تداهن أحداً أو جهة فيما يمسّ المصالح العامّة للشعب العراقيّ، وهي تراقبُ الأداء الحكوميّ وتُشير الى مكامن الخلل فيه متى اقتضت الضرورةُ ذلك، وسيبقى صوتُها مع أصوات المظلومين والمحرومين من أبناء هذا الشعب، أينما كانوا بلا تفريقٍ بين انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم).
جاء ذلك خلال الخطبة الثانية من صلاة الجمعة المباركة هذا اليوم (12 صفر 1441هـ) الموافق لـ(11 تشرين الأوّل 2019م)، التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الطاهر، وكانت بإمامة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ (دام عزّه)، وهذا نصّها:
أيّها الإخوة والأخوات نقرأ عليكم نصّ ما ورَدَنا من مكتب سماحة السيّد (دام ظلّه) في النجف الأشرف:
في خطبة الجمعة الماضية أكّدت المرجعيّةُ الدينيّة على إدانتها ورفضها للاعتداءات التي تعرّض لها المتظاهرون السلميّون والعديد من عناصر القوّات الأمنيّة، خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في الأسبوع السابق، كما أدانت ما وقع من إحراق وإتلاف بعض المؤسّسات الحكوميّة والممتلكات الخاصّة في تلك المظاهرات. وعبّرت عن أملها بأن يعي الجميع التداعيات الخطيرة لاستخدام العنف والعنف المضادّ في الحركة الاحتجاجيّة الجارية في البلد، فيتمّ التجنّب عنه في كلّ الأحوال.
ولكن الذي حصل خلال الأيّام التالية هو تصاعد أعمال العنف بصورةٍ غير مسبوقة، واستهداف أعداد متزايدة من المتظاهرين بإطلاق النار عليهم، وحصول اعتداءاتٍ سافرة على بعض وسائل الإعلام لمنعها من نقل ما يقع في ساحات التظاهر.
وفي الوقت الذي أعلنت الجهاتُ الرسميّة أنّها أصدرت أوامر صارمة بمنع القوّات الأمنيّة من إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين، سقط الآلاف منهم بين شهيدٍ وجريح في بغداد والناصريّة والديوانيّة وغيرها، بالاستهداف المباشر لهم من الأسلحة الناريّة بمرأى ومسمع الكثيرين، في مشاهد فظيعة تنمّ عن قسوةٍ بالغة فاقت التصوّر وجاوزت كلّ الحدود.
إنّ الحكومة وأجهزتها الأمنيّة مسؤولةٌ عن الدماء الغزيرة التي أُريقت في مظاهرات الأيّام الماضية، سواءً من المواطنين الأبرياء أو من العناصر الأمنيّة المكلّفة بالتعامل معها، وليس بوسعها التنصّل عن تحمّل هذه المسؤوليّة الكبيرة.
هي مسؤولةٌ عندما يقوم بعض عناصر الأمن باستخدام العنف المفرط ضدّ المتظاهرين، ولو بسبب عدم انضباطهم وانصياعهم للأوامر الصادرة إليهم، أو لعدم كونهم مؤهّلين ومدرّبين للتعامل مع الاحتجاجات الشعبيّة بحيث يُتجنّب وقوعُ الضحايا في صفوف المشاركين فيها.
هي مسؤولةٌ عندما تقوم عناصر مسلّحة خارجة عن القانون -تحت أنظار قوى الأمن- باستهداف المتظاهرين وقنصهم، وتعتدي على وسائل إعلامٍ معيّنة بهدف إرعاب العاملين فيها.
هي مسؤولةٌ عندما لا تحمي عناصرُها الأمنيّة المواطنين والمؤسّسات الحكوميّة والممتلكات الخاصّة من اعتداءات عددٍ قليل من المندسّين في المظاهرات، من الذين لم يريدوا لها أن تبقى سلميّةً خاليةً من العنف.
إنّ المرجعيّة الدينيّة إذ تُدين بشدّة ما جرى من إراقةٍ للدماء البريئة واعتداءاتٍ جسيمة بمختلف أشكالها، وتُبدي تعاطفها مع ذوي الشهداء الكرام ومع الجرحى والمصابين، وتؤكّد على تضامنها مع المطالب المشروعة للمتظاهرين السلميّين -كما بيّنت ذلك في مظاهرات الأعوام السابقة أيضاً-، تُطالب بقوّةٍ الحكومةَ والجهازَ القضائيّ بإجراء تحقيقٍ يتّسم بالمصداقيّة حول كلّ ما وقع في ساحات التظاهر، ثمّ الكشف أمام الرأي العامّ عن العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين أو غيرهم، وعدم التواني في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم الى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم، ولابُدّ من أن يتمّ ذلك خلال مدّةٍ محدّدة -كأسبوعين مثلاً-، ولا يجري التسويف فيه كما جرى في الإعلان عن نتائج اللّجان التحقيقيّة في قضايا سابقة.
إنّ هذا هو الإجراء الأكثر أهميّةً وإلحاحاً في الوقت الحاضر، وهو الذي يكشف عن مدى جدّية الحكومة وصدق نيّتها في القيام بخطواتٍ واسعة للإصلاح الحقيقيّ. إذ لن يتيسّر المضيّ في أيّ مشروعٍ إصلاحيّ -بما يتطلّبه من مكافحة الفساد الماليّ والإداريّ وتحقيق درجةٍ من العدالة الاجتماعيّة-، ما لم يتمّ فرض هيبة الدولة وضبط الأمن وفق سياقاته القانونيّة، ومنع التعدّي على الحريّات العامّة والخاصّة التي كفلها الدستور، ووضع حدٍّ للذين يهدّدون ويضربون ويخطفون ويقنصون ويقتلون وهم بمنأى من الملاحقة والمحاسبة.
إنّ المرجعيّة الدينيّة العُليا ليست لها مصلحةٌ أو علاقةٌ خاصّة مع أيّ طرفٍ في السُّلطة، ولا تنحاز إلّا الى الشعب ولا تُدافع إلّا عن مصالحه، وتؤكّد ما صرّحت به في نيسان عام (2006) عند تشكيل الحكومة عقيب أوّل انتخابات مجلسٍ للنوّاب من أنّها (لم ولن تُداهن أحداً أو جهةً فيما يمسّ المصالح العامّة للشعب العراقيّ، وهي تراقبُ الأداء الحكوميّ وتشير الى مكامن الخلل فيه متى اقتضت الضرورةُ ذلك، وسيبقى صوتُها مع أصوات المظلومين والمحرومين من أبناء هذا الشعب أينما كانوا بلا تفريقٍ بين انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم).
ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.