أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2017
2692
التاريخ: 16-10-2017
2557
التاريخ: 18-10-2017
2344
التاريخ: 12-10-2017
4382
|
من القطع واليقين أنّ السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) كانت قد سمعت ما لا يُحصى من الأحاديث من جدّها رسول الله (صلى الله عليه واله) وأبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخويها : الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) ورَوت عنهم الشيء الكثير الكثير.
وكيف لا؟ وقد فَتحت عينَيها في مَهبط الوحي والتنزيل ، وترعرعت ونَمَت في أحضان مصادر التشريع الإسلامي ، وتراجمة الوحي الإلهي ، ومنابع المعارف والأحكام السماويّة.
ولكن .. هل ساعدتها الظروف أن تتحدّث عمّا سمعت وشاهدت في حياتها المُباركة من أسلافها الطاهرين؟
وما يُدرينا ، فلعلّها حدّثت شيئاً ممّا رأت ورَوَت ، ولكنّ الدهر الخَؤون لم يحتفظ بمَرويّاتها ، فضاعت وتلفت تلك الكنوز ، وأبادت الحوادث تلك الثروات الفكريّة والعلميّة ، وقد بقي منها الشيء اليسير اليسير ، فمنها السيدة فاطمة الزهراء :
لقد ذكرنا في كتاب ( فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ) أنّ خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تُعتبر معجزة من معاجز السيدة فاطمة ، لأنّها في قمّة الفصاحة وذروة البلاغة ، وذكرنا ـ هناك ـ بعض مزايا الخطبة.
والعجب كل العجب أنّ السيدة زينب رافقت السيدة فاطمة الزهراء ـ يومذاك ـ إلى المسجد ، وسجّلت الخطبة كلّها في قلبها وذكراتها ، لتكون راويةً لخطبة أمّها ، ولتكون همزة وصل في إيصال صوت أمّها إلى مسامع الأمم والمِلَل ، وجهازاً إعلاميّاً في بثّ هذه الخطبة إلى العالم ، وعلى مرّ الأجيال والقرون.
ويجب أن لا ننسى أن عُمرها كان ـ يومذاك ـ حوالي خمسة أعوام فقط ، فانظر إلى الذكاء المدهش والإستعداد الكامل والمؤهّلات الفريدة من نوعها.
لقد ذكر الشيخ الصدوق في كتاب ( علل الشرائع ) شيئاً من خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بسنده عن أحمد بن محمد بن جابر ، عن زينب بنت علي (عليه السلام).
وروى أيضاً بسنده عن عبد الله بن محمد العَلَوي ، عن رجال من أهل بيته ، عن زينب بنت علي ، عن فاطمة (عليها السلام).
وروى أيضاً بسنده عن حفص الأحمر ، عن زيد بن علي ، عن عمّته زينب بنت علي ، عن فاطمة (عليها السلام) مِثله.
وإليك نصّ الرواية : روى عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه ، أنّه لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك ، وبلغها ذلك ، لاثَت خمارَها على رأسها واشتَملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمةٍ من حفدتها ونساء قومها ، ما تَخرُم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه واله) حتى دخلت على أبي بكر ، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم .
فنيطت دونها مُلاءة .
فجلست ثم أنّت أنّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هُنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، إفتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها.
فقالت (عليها السلام) : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قَدّم ، من عُموم نِعَمٍ ابتداها ، وسُبوغ آلاءٍ أسداها ، وتمام مِنَنٍ والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبَدُها.
ونَدَبَهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالنَدب إلى أمثالها .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأنارَ في التفكير معقولَها.
المُمتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صِفَته ، ومِن الأوهام كيفيّته. إبتدع الأشياء لا من شيء كان قَبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثَلها ، كوّنها بقُدرته ، وذَرأها بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحِكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبّداً لبَريّته ، وإعزازاً لدعوته.
ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده مِن نقمته ، وحياشةً لهم إلى جنّته .
وأشهد أنّ أبي ( محمّداً ) عبده ورسوله ، إختاره وانتجبه قبلَ أن أرسَلَه ، وسمّاه قبل أن اجتَبَله . واصطفاه قبل أن ابتَعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، عِلماً من الله تعالى بمئائل الأمور ، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفةً بمواقع المقدور.
ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً على إمضاء حُكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه. فرأى الأُمَم فِرَقاً في أديانها ، عُكّفاً على نيرانها ، وعابدةً لأوثانها ، مُنكرةً لله مع عِرفانها ، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه واله) ظُلَمَها ، وكشف عن القلوب بُهَمَها ، وجلى عن الأبصار غُمَمَها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبةٍ وإيثار ، فمحمد (صلى الله عليه واله) مِن تَعَب هذه الدار في راحة ، قد حُفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الرب الغفّار ، ومُجاورة الملك الجبّار ، صلى الله على أبي ، نبيّه وأمينه على الوحي وصفيّه ، وخِيَرته من الخلق ورضيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : أنتم ـ عباد الله ـ نصب أمره ونَهيه ، وحَمَلة دينه ووَحيه ، وأُمَناء الله على أنفسكم ، وبُلَغاؤه إلى الأمم ، زعيم حقّ له فيكم ، وعهد قَدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، مُنكشفة سرائره ، مُتجلّية ظواهره ، مُغتبط به أشياعه ، قائد إلى الرضوان ، مودٍّ إلى النجاة استماعه ، به تُنال حُجَج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسَّرة ، ومحارمه المُحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورُخَصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجّ تشييداً للدين ، والعَدل تنسيقاً للقلوب ، وإطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامَتنا أماناً من الفُرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والصبر معونةً على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة ، وبرّ الوالدين وِقايةً من السخط ، وصِلَة الأرحام منماةً للعدد ، والقِصاص حِقناً للدماء ، والوَفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبَخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القَذف حِجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة إيجاباً للعفّة.
وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة ، فَـ اتّقوا الله حقّ تُقاته ، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه إنّما يخشى الله من عباده العلماء .
ثمّ قالت : أيها الناس! إعلَموا أنّي فاطمة! وابي محمد. أقولُ عَوداً وبِدءاً ، ولا أقولُ ما أقول غَلَطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً .
لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ بالمؤمنين رؤوف رحيم .
فإن تُعزوه وتَعرفوه تَجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولَنِعم المعزيّ إليه (صلى الله عليه واله).
فبَلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثَبَجَهم ، آخذاً باكظامهم ، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسرُ الأصنام ، وينكت الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدُبُر ، وحتى تفرّى الليل عن صُبحه ، وأسفَر الحقّ عن محضه ، ونَطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلّت عُقَد الكفر والشِقاق وفُهتُم بكلمة الإخلاص ، في نَفَر من البيض الخِماص ، وكنتـم على شفـا حفـرةٍ من النـار ، مُذقة الشارب ، ونُهزة الطامع ، وقَبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَرق ، وتَقتاتون القِدّ والوَرق ، أذلّةً خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه واله) بعد اللّتيّا والتي ، وبعد أن مُنِيَ بِبُهم الرجال ، وذُؤبان العَرَب ، ومَرَدَة أهل الكتاب ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نَجَم قرنٌ للشيطان ، أو فَغَرت فاغرةٌ من المشركين ، قَذَفّ أخاه في لَهَواتها ، فلا يَنكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه ، ويُخمِدَ لَهَبَها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مُجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مُشمّراً ناصحاً ، مُجدّاً كادحاً ، وأنتم في رَفاهية من العيش ، وادِعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.
فلمّا اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه واله) دارَ أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظَهَر فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونَبَغَ خامل الأقلّين ، وهَدَر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مِغرَزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لِدَعوته مستجيبين ، وللغِرّة فيه ملاحظين.
ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غِضابا ، فـوسَمتـم غيـرَ إبلكـم ، وأوردتم غير شِربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رَحيب ، والجُرحُ لمّا يَندَمل ، والرسول لمّا يُقبَر ، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة ، ألا : في الفتنة سَقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين .
فهيهات منكم! وكيف بكم؟ وأنّى تؤفكون ، وكتابُ الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم.
أرَغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً ، ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
ثمّ لم تَلبثوا إلا رَيث أن تسكن نفرتُها ، ويَسلَس قيادها ، ثمّ أخذتم تورون وَقدَتها ، وتُهيّجون جمرتها ، وتَستجيبون لِهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ ، وإخماد سنن النبي الصفيّ ، تسرّون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لاهله ووُلده في الخَمَر والضراء ، ونَصبر منكم على مثل حزّ المدى ، ووَخز السنان في الحشى ، وأنتم ـ الآن ـ تزعمون أن لا إرثَ لنا ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ، ومَن أحسن من الله حُكماً لقومٍ يوقنون ؟ أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم ـ كالشمس الضاحية ـ أنّي ابنته.
أيها المسلمون! ءأُغلَبُ على إرثيَه.
ياابنَ أبي قُحافة!
أفي كتاب الله أن تَرثَ أباك ولا أرِث أبي؟؟
لقد جئت شيئاً فريّاً!! .
أفعلى عَمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : ووَرثَ سليمان داود .
وقال ـ فيما اقتصّ مِن خبر زكريّا ـ إذ قال : فهَب لي من لدنك وليّاً يَرثني ويرث من آل يعقوب.
وقال : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .
وقال : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثَيَين .
وقال : إن تَركَ خيراً الوصيّة للوالدَين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين .
وزعمتم أن لا حَظوة لي؟ ولا أرث مِن أبي!
أفخصّكم الله بآية أخرَجَ أبي منها؟
أم تقولون : إنّ أهلَ مِلّتين لا يتوارثان؟
أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟
فدونَكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحَكَم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقرّ ، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثمّ رمت بطَرفها نحو الأنصار فقالت : يا معشر النَقيبة ، وأعضاد المِلّة ، وحَضَنَة الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي؟ ، والسِنَة عن ظلامتي؟! ، أما كان رسول الله (صلى الله عليه واله) أبي يقول : المَرءُ يُحفَظ في وُلده ؟
سَرعان ما أحدثتم ، وعَجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أُحاول ، وقوّة على ما أطلب وأُزاول .
أتقولون : ماتَ محمد (صلى الله عليه واله) ، فخطَبٌ جليل ، استَوسع وَهنه ، واستنهر فتقه ، وانفَتَق رَتقه ، وأظلمت الأرض لِغَيبَته ، وكُسفَت النجوم لمصيبته ، واكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأُضيع الحَريم وأُزيلَت الحُرمة عند مماته ، فتلك ـ والله ـ النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة أعلنَ بها كتاب الله ـ جلّ ثناؤه ـ في أفنيَتِكم ، في مَمساكم ومَصبَحِكم ، هتافاً وصُراخاً ، وتلاوةً وألحاناً ، ولَقَبلَه ما حلّ بأنبيائه ورسله ، حكمٌ فَصل ، وقضاءٌ حتم ، وما محمد إلا رسول قد خَلَت مِن قبله الرسل ، أفإن مات أو قُتلَ انقلبتم على أعقابكم ومَن يَنقلِب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين .
ثمّ رَمَت بطرفِها نحو الأنصار وقالت : إيهاً بَني قيلة! .
أَأُهضَم تُراثَ ابي؟ ، وأنتم بمرأىً منّي ومَسمَع ، ومنتدى ومَجمَع تلبسُكم الدعوة ، وتَشملكم الخبرة ، وأنتم ذَوو العَدَد والعُدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجُنّة ، تُوافيكم الدعوة فلا تُجيبون؟ ، وتأتيكم الصَرخة فلا تُعينون؟ ، وأنتم مَوصوفون بالكفاح ، مَعروفون بالخير والصلاح ، والنُخبة التي انتُخبِت ، والخيرة التي اختيرت .
قاتَلتُم العَرَب ، وتحمّلتم الكدّ والتَعَب ، وناطحتم الأُمم ، وكافحتم البُهَم ، لا نَبرح أو تَبرحون ، نَأمُركم فتَأتَمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرَ حلبُ الأيام ، وخَضَعَت ثَغرة الشِرك ، وسَكنَت فَورة الإفك ، وخَمُدت نيران الكفر ، وهَدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حِرتُم بعد البيان؟ ، وأسررتم بعد الإعلان؟ ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان؟ ، ألا تُقاتِلون قوماً نَكثوا أَيمانهم وهَمّوا بإخراج الرسول ، وهم بَدؤكم أوّل مرّة ، أتخشَونَهم فالله أحقّ أن تَخشَوه إن كنتم مؤمنين .
ألا : قد أرى أن قد أخلَدتم إلى الخفض وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبَسط والقَبض ، وخلَوتم إلى الدعة ، ونَجَوتم مِن الضيق بالسعة ، فمَجَجتم ما وَعَيتم ، ودسعتُم الذي تسوّغتم ، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله لغنيّ حميد ، ألا : قد قلتُ ما قلتُ على معرفة منّي بالخذلة التي خامَرتكم والغَدرة التي استَشعرَتها قلوبكم .
ولكنّها فيضَة النفس ، ونَفثة الغيظ ، وخَوَر القنا ، وبثّة الصدر ، وتَقدِمة الحُجّة ، فدونكموها ، فاحتَقِبوها دَبِرَة الظَهر ، نقبةَ الخُف ، باقية العار ، مَوسومةً بغضب الله ، وشَنار الأبد ، مَوصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبِعَين الله ما تفعلون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقَلَب ينقلبون ، وأنا ابنةُ نذير لكم بين يَدَي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون.
فأجابها أبو بكر ( عبد الله بن عثمان ) وقال : يابنَة رسول الله! لقد كانَ أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، إن عَزَوناه وجَدناه أباكِ دونَ النساء ، وأخا إلفِكِ دون الأخِلاّء ، آثره على كلّ حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يُحبّكم إلا كل سعيد ، ولا يُبغضكم إلا كل شقيّ.
فأنتم عترة رسول الله الطيّبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخَير أدِلّتُنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقة في وُفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عَدَوتُ رأيَ رسول الله!!! ولا عَمِلتُ إلا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذِبُ أهلَه ، وإنّي أُشهد الله وكفى به شهيداً ، أنّي سمعتُ رسول الله يقول : نحنُ معاشر الانبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّةً ولا عقاراً ، وإنّما نورثّ الكتاب والحِكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوالي الأمر بَعدنا ، أن يَحكُم فيه بحُكمه .
وقد جعلنا ما حاولتِهِ في الكُراع والسلاح ، يُقاتلُ بها المسلمون ، ويُجاهدون الكفّار ، ويُجالدون المَردة الفُجّار .
وذلك بإجماع من المسلمين!! لم أنفَرِد به وَحدي ، ولم أستَبِدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي ، هي لكِ ، وبَينَ يديكِ ، لا تُزوى عنكِ ، ولا تُدّخر دونكِ ، وأنتِ سيدة أمّة أبيكِ ، والشجرة الطيبة لِبنيك ، لا يُدفَع مالَك من فضلكِ ، ولا يوضع في فَرعك وأصلكِ ، حُكمك نافذ فيما مَلَكت يَداي ، فهل تَرينّ أن أُخالف في ذلك أباك؟
فقالت (عليها السلام) : سبحان الله! ما كان رسول الله (صلى الله عليه واله) عن كتاب الله صادفاً ، ولا لأحكامه مُخالفاً ، بل كان يتّبع أثَره ، ويَقفو سُوَره ، أفتُجمِعون إلى الغَدر إعتلالاً عليه بالزور ، وهذه بعد وفاته شبيهٌ بما بُغيَ له من الغَوائل في حياته .
هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فَصلاً ، يقول : يَرثُني ويَرثُ مِن آل يَعقوب ، ووَرث سليمانُ داودَ ، فبيّن ( عزّ وجل ) فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشَرع مِن الفرائض والميراث ، واباحَ مِن حظّ الذُكران والإناث ، ما أزاحَ علّة المُبطلين ، وأزالَ التظنّي والشُبُهات في الغابرين ، كلا ، بل سَوّلت لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميل ، والله المُستعان على ما تَصِفون .
فقال أبو بكر : صَدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحِكمة ، ومَوطن الهدى والرحمة ، ورُكن الدين ، وعَين الحُجّة ، لا أُبعدُ صوابكِ ، ولا أُنكر خِطابكِ ، هؤلاء المسلمون بَيني وبينَكِ ، قَلّدوني ما تَقَلّدتُ ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذت ، غير مُكابرٍ ولا مُستبدّ ولا مُستأثر ، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة (عليها السلام) إلى الناس وقالت : مَعاشر الناس! المُسرعة إلى قيل الباطل ، المُغضية على الفِعل القبيح الخاسر ، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
كلا ، بل ران على قلوبكم ما أسأتم مِن أعمالكم. فأُخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولَبئسَ ما تأوّلتم ، وساء ما به أشَرتُم ، وشرّ ما منه اعتضَتّم ، لَتجدنّ ـ والله ـ محمله ثقيلا ، وغِبّه وبيلاً ، إذا كُشِف لكم الغطاء وبانَ ماوراءه الضرّاء ، وبَدا لكم من ربّكم مالَم تكونوا تحتسبون ، وخَسِر هنالك المبطلون.
ثمّ عطفت على قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه واله) وقالت :
قـد كان بَعدك أنبـاءٌ و هَنبَثـة ... لـو كنتَ شاهدَها لم تَكثُر الخُطبُ
إنّـا فَقَدنـاك فَقدَ الأرض وابِلَها ... واختلّ قومُك فاشهَدهم وقد نَكبوا
وكلّ أهـلٍ لـه قُربى ومنـزلةٌ ... عنـد الإله على الأدنين مُقتَـربُ
أبدَت رجالٌ لنا نجوى صدورهم ... لمّا مَضَيتَ و حالَت دونَك التُرُب
تَجَهّمَتنا رجـالٌ واستخفّ بِنـا ... لَمّا فُقِدتَ ، وكلّ الإرث مُغتَصَبُ
وكنتَ بَدراً ونـوراً يُستَضاءُ به ... عليك تَنزلُ مِن ذي العِزّة الكُتُب
وكان جبريل بالآيـات يؤنسنـا ... فقد فُقِدتَ ، فكلّ الخير مُحتَجَبُ
فليتَ قَبلَك كـان الموتُ صادفنا ... لمّا مَضَيتَ وحالت دونك الكُثُبُ
إنا رُزينا بمـا لَم يُرزَ ذو شَجَنٍ ... مِن البريّة لا عَجمٌ و لا عَـرَبُ
ثمّ انكفأت (عليها السلام) ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يتوقّـع رجوعهـا إليه ، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلمّا استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام) : يابن أبي طالب ، إشتملت شَملَة الجنين ، وقَعَدتَ حُجرة الظنين ، نَقَضتَ قادمة الأجدَل ، فخانَك ريشُ الأعزَل ، هذا ابنُ أبي قحافة يَبتزّني نِحلة أبي وبُلغةَ إبنيّ .
لقد أجهَرَ في خصامي ، والفَتية الألدّ في كلامي ، حتى حَبَستني قيلة نصرها ، والمهاجرة وَصلَها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خَرجتُ كاظمة ، وعُدتُ راغمة ، أضرَعتَ خَدّك يوم أضعتَ حَدّك ، إفتَرست الذئاب وافتَرَشتَ التُراب ، ما كفَفتَ قائلاً ولا أغنيتَ باطلا ، ولا خيارَ لي ، لَيتني مِتُ قبل هِينَتي ، ودون ذِلّتي ، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً.
وَيلاي في كلّ شارق ، مات العَمَد ووَهَنَ العَضُد ، شكواي إلى أبي ، وعَدواي إلى رَبّي ، اللهم أنت أشدُّ قوّةً وحَولا ، وأحدُّ بأساً وتَنكيلا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا وَيلَ عليكِ ، بل الويلُ لِشانئكِ ، نَهنِهي عن وَجدِكِ يابنةَ الصفوة ، وبقيّة النبوّة ، فما وَنيتُ عن ديني ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقُكِ مَضمون ، وكفيلُك مأمون ، وما أُعدّ لكِ خيرٌ مما قُطعَ عنك ، فاحتَسبي الله.
فقالت : حسبي الله. وأمسكت.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|