المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تربية ماشية اللبن في البلاد الأفريقية
2024-11-06
تربية الماشية في جمهورية مصر العربية
2024-11-06
The structure of the tone-unit
2024-11-06
IIntonation The tone-unit
2024-11-06
Tones on other words
2024-11-06
Level _yes_ no
2024-11-06

Leopold Infeld
20-8-2017
شخصية الشركة في دور التصفية
26-6-2016
دورة حـيـاة الـمـنـتـج Product Life Cycle
2023-06-04
تشريع الاجتهاد
12-02-2015
عناصر التقرير- كتابة النص
25-7-2021
إثبات وجود اللَّه بواسطة برهان الحركة
17-12-2015


تفسير آية (17-19) من سورة الانعام  
  
5915   06:47 صباحاً   التاريخ: 27-3-2021
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنعام /

قال تعالى : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 17 - 19].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

بين سبحانه أنه لا يملك النفع والضر إلا هو ، فقال : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} أي : إن يمسك بفقر ، أو مرض ، أو مكروه ، {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} أي : لا مزيل ولا مفرج له عنك ، الا هو ، ولا يملك كشفه سواه ، مما يعبده المشركون {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} أي : وإن يصبك بغنى ، أو سعة في الرزق ، أو صحة في البدن ، أو شيء من محاب الدنيا {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الخير والضر {قَدِيرٌ} : ولا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه ، أو محبوب .

فإن قيل : إن المس من صفات الأجسام ، فكيف قال إن يمسسك الله ؟ قلنا : الباء للتعدية ، والمراد إن أمسسك الله ضرا أي : جعل الضر يمسك ، فالفعل للضر ، وإن كان الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى ، والضر اسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره ، كما أن الخير اسم جامع لكل ما ينتفع به .

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} : ومعناه القادر على أن يقهر غيره {فَوْقَ عِبَادِهِ} معنى فوق ههنا : قهره واستعلاؤه عليهم ، فهم تحت تسخيره وتذليله بما علاهم به من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد ، ومثله قوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : 10] : يريد أنه أقوى منهم {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} معناه : إنه مع قدرته عليهم ، لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والخبير العالم بالشيء ، وتأويله : إنه العالم بما يصح أن يخبر به ، والخبر : علمك بالشيء . تقول : لي به خبر أي علم ، وأصله من الخبر ، لأنه طريق من طرق العلم ، فإذا كان القاهر ، على ما ذكرناه ، بمعنى القادر ، صح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه قاهر .

وقال بعضهم : لا يسمى قاهرا الا بعد أن يقهر غيره . فعلى هذا يكون من صفات الأفعال ، فلا يصح وصفه فيما لم يزل به .

 

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 19] .

 

(قل) يا محمد لهؤلاء الكفار {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} أي : أعظم {شَهَادَةً} ، وأصدق ، حتى آتيكم به ، وأدلكم بذلك على أني صادق . وقيل معناه : أي شيء أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ ، وعليكم بالتكذيب ، عن الجبائي .

وقيل : معناه أي شيء أعظم حجة ، وأصدق شهادة ، عن ابن عباس . فإن قالوا : الله ، والا ف‍ (قل) لهم {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالرسالة والنبوة . وقيل : معناه يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم ، وتكذيبكم إياي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} أي : أنزل إلي حجة ، أو شهادة على صدقي {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أي : لأخوفكم به من عذاب الله تعالى {وَمَنْ بَلَغَ} أي : ولأخوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة .

وروى الحسن في تفسيره عن النبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أنه قال : (من بلغه أني أدعو إلى أن لا إله إلا الله ، فقد بلغه) . يعني بلغته الحجة ، وقامت عليه ، وقال محمد بن كعب : (من بلغه القرآن ، فكأنما رأى محمدا وسمع منه) . وقال مجاهد : حيث ما يأتي القرآن ، فهو داع ونذير ، وقرأ هذه الآية . وفي تفسير العياشي : قال أبو جعفر ، وأبو عبد الله (عليه السلام) " من بلغ ، معناه من بلغ أن يكون إماما من آل محمد ، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) وعلى هذا : فيكون قوله {وَمَنْ بَلَغَ} في موضع رفع عطفا على الضمير في (أنذر) . وفي الآية دلالة على أن الله تعالى يجوز أن يسمى شيئا ، لان قوله : {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} جاء جوابه : {قُلِ اللَّهُ} . ومعنى الشيء : إنه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه . فالله سبحانه شيء لا كالأشياء بمعنى أنه معلوم لا كالمعلومات التي هي الجواهر والاعراض . والاشتراك في الاسم لا يوجب التماثل . وفي قوله {وَمَنْ بَلَغَ} دلالة على أنه خاتم الأنبياء ، ومبعوث إلى الناس كافة .

ثم قال سبحانه ، موبخا لهم : قل يا محمد لهم {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} : هذا استفهام معناه الجحد والإنكار ، وتقديره : كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة ، وقيام الحجة بوحدانية الله تعالى ؟ وإنما قال :

{أُخْرَى} ، ولم يقل آخر ، لأن الآلهة جمع ، والجمع مؤنث ، فهو كقوله : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف : 180] وقوله : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه : 51] ، ولم يقل الأول . ثم قال سبحانه لنبيه : (قل) أنت يا محمد {لَا أَشْهَدُ} بمثل ذلك ، وإن شهدتم بإثبات الشريك لله ، بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى ، والشاهد هو المبين لدعوى المدعي . ثم قال : (قل) يا محمد لمن شهد أن معه آلهة أخرى : {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} به وبعبادته من الأوثان وغيرها ، ولهذا قال أهل العلم : يستحب لمن أسلم ابتداء ، أن يأتي بالشهادتين ، ويتبرأ من كل دين سوى الاسلام .

____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 20-23 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} . تدل هذه الآية على ان الضر كالفقر والمرض ونحوهما من صنع اللَّه ، لا من صنع الناس ، وكذا كشفهما والخلاص منهما ، إذن ، لما ذا السعي والعمل ؟ .

الجواب : أولا ان السعي واجب عقلا ونقلا ، أما العقل فلأن الحياة لا تتم إلا بالعمل ، واما النقل فقد تجاوز حد التواتر ، من ذلك قوله تعالى : {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة - 10] . وقوله : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك - 15] . وفي الحديث : سافروا تغنموا . . تداووا فان الذي أنزل الداء أنزل الدواء .

وعليه ، فمن قصر في السعي ، ومسه الضر فهو المسؤول ، ومن سعى من غير تقصير ومسه الضر تقع المسؤولية على مجتمعه الفاسد في أوضاعه وأحكامه ، وإن كان المجتمع الذي يعيش فيه صالحا فقد تضرر بقضاء اللَّه وقدره .

ثانيا : إن اللَّه سبحانه لا يريد الضرر لأحد من عباده ، كيف ؟ وهو القائل : {وما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق - 29] . والقائل : {واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبادِ} [البقرة - 207] . وفي الحديث : إن اللَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها . وعلى هذا يكون المراد بالضر في الآية ما يجازى به العبد على عمله ، أو امتحانا لمصلحته وما إلى ذلك مما لا يتنافى مع عدل اللَّه ورحمته . وتكلمنا عن الرزق مفصلا عند تفسير الآية 100 من سورة المائدة ، فقرة هل الرزق صدفة أو قدر ؟

{وإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي لا رادّ لخيره وفضله ، قال الرازي : ذكر اللَّه في الخير انه على كل شيء قدير ، وفي الضر انه لا كاشف له إلا هو ، ذكر ذلك للدلالة على ان إرادة اللَّه لإيصال الخيرات غالبة على إرادته لإيصال المضار .

{وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . والقاهر يشير إلى قدرة اللَّه والخبير إلى علمه . وقهر اللَّه عباده بإيجادهم دون إرادة منهم ، وقهرهم أيضا بالموت والفناء ، قال ابن العربي في الفتوحات المكية : إن اللَّه سبحانه قهر عباده لأنهم نازعوه وخاصموه في مخالفتهم لأحكامه ، ومن خاصم اللَّه فهو مقهور ومغلوب لا محالة .

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً} . جاء في بعض الروايات : ان مشركي مكة قالوا للنبي (صلَّ الله عليه وآله) : إن اليهود والنصارى لا يشهدون لك بالنبوة ، فأرنا من يشهد لك بها ، فأنزل سبحانه {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً} . أي سلهم يا محمد من هو الذي تعلو شهادته كل شهادة ، ثم أمره تعالى بالجواب عنهم {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} . ولا جواب في الواقع غير هذا الجواب باعتراف الخصوم ، وهو ان الشاهد بيننا هو اللَّه .

{وأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ} . القرآن هو الشهادة من اللَّه على نبوة محمد ، وهو يتحداهم جميعا أن يأتوا بسورة من مثله ويدعوا من شاؤوا ، وقد حاولوا وعجزوا ، وهذا العجز أكبر شهادة على صدق النبي في رسالته . وقوله : {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ} معناه ان اللَّه سبحانه أوحى إليّ القرآن لأنذركم به يا أهل مكة ، وأنذر به كل من بلغه إلى يوم يبعثون . . قال بعض الصحابة : من بلغه القرآن فكأنه رأى رسول اللَّه (صلَّ الله عليه وآله) ، وتدل هذه الآية على أن من لم تبلغه دعوة محمد (صلَّ الله عليه  وآله) فهو معذور في ترك الإسلام . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 115 من آل عمران ، فقرة حكم تارك الإسلام .

{أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى} . الاستفهام هنا للإنكار والاستبعاد والمعنى كيف تجعلون مع اللَّه إلها آخر بعد وضوح الأدلة على وحدانيته جل وعز ، ثم أمر اللَّه نبيه أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون : {قُلْ لا أَشْهَدُ} . ثم أمره بأمر آخر : {قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} بعبادة الأصنام وغيرها .

___________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 169-171 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} إلى آخر الآية ، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان وهو الإطعام وأنموذجا مما يخافه وهو عذاب يوم القيامة ، وتممتا بهما البيان ، ولم تتعرضا لسائر أنواع الضر وأقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان ، والكل من الله عز اسمه .

فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه ، وأن من الخير ما يمس الله به الإنسان ولا راد لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء ، ورجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا .

ولما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا ، والخصم لا ينكر ذلك (2) . وأما قصر الألوهية والمعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها .

دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره ، وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه ومشيته غير مستقلين بأمر البتة ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا غير ذلك ، فما يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره ومشيته وإذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد .

فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا ، وهو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب ، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية ، والمتفرد بالمعبودية لا إله غيره ، ولا معبود سواه .

وقد عبر عن إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله : {إِنْ يَمْسَسْكَ} {وَإِنْ يَمْسَسْكَ} ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شيء يسير مما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء ، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود .

وكأن قوله تعالى في جانب الخير : {فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وضع موضع نحو من قولنا : فلا مانع يمنعه ، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض ، وتنكشف به علة قوله : {فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه ، وكذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من خير .

وتخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله : {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ويفيد قوله : {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} من التعميم نظير ما أفاد قوله : {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} .

قوله تعالى : {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} القهر هو نوع من الغلبة ، وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود ، والنار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته . وإذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها ، وهي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها وبها ، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها .

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره ، غير أن بين قهره تعالى وقهر غيره فرقا ، وهو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا وهما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال ، وهما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه .

والله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب ، بل هو قاهر بالتفوق والإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا إحراق جسم وإشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به ، قاهر عليه بالخواص والكيفيات التي أعطاها له وعبأه بها بيده ، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه وإشعاله ، وهو المالك لجميع ما للنار من ذات وأثر ، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب ، ووضع الاحتراق والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصي ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته ومشيته لكونها من أفق أعلى .

فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئا وهما متزاملان . وقد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة وهما هذه الآية وآية (61) .

وقيد الاسم في كلا الموضعين بقوله : {فَوْقَ عِبادِهِ} والغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة ، ولذا فسره الراغب بالتذليل ، والذلة في أولي العقل أظهر ، ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية .

والله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق عباده فيما يفعلونه ويؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم .

ولما نسب في الآيتين إليه المس بالضر والخير ، وقد ينسبان إلى غيره ، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية : {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا وجهلا ، الخبير لا يخطئ ولا يغلط كغيره .

 

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 19] .

 

قوله تعالى : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة ، والشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار ونحوه ، وأداء ما تحمل كذلك بالإخبار والإنباء ، وإذ كان التحمل والأداء ـ وخاصة التحمل ـ مما يختلف بحسب إدراك المتحملين وبحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل ، وبحسب قوة المؤدى بيانا وضعفه اختلافا فاحشا .

فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو والنسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه ويقع عليه بصره ، وليس الصاحي كالسكران ولا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل .

وإذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شيء شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق وجل من الأشياء ، وإليه ينتهي كل أمر وخلق ، وهو المحيط بكل شيء ومع كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لا يضل ولا ينسى .

ولكون الأمر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال : قل الله أكبر شهادة ، كما قيل : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام ـ 12] أو يقال : سيقولون الله ، كما قيل : {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون : 85] .

على أن قوله : {قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يدل عليه ويسد مسده ، وليس من البعيد أن يكون قوله {شَهِيدٌ} خبرا لمبتدأ ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله ، والتقدير : (قل الله هو شهيد بيني وبينكم) فتشتمل الجملة على جواب السؤال وعلى ما استؤنف من الكلام .

وقوله : {قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على أنه يشتمل على إخباره (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله : {قُلْ} إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) وعلى نزول القرآن من عنده كقوله تعالى : {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون : 1] أو قوله : {لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء : 166] وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره .

وتقييد شهادته تعالى بقوله {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) وقومه ، والنبي لم ينعزل عنهم ولم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة والرسالة ودعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ} فالمراد بشهادته تعالى بينه وبينهم شهادته بنبوته ، ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية : {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} على ما سيجيئ إن شاء الله .

قوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} من مقول القول وهو معطوف على قوله : {اللهُ شَهِيدٌ} إلخ ، وجعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية ، وهو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء والوعد وإن كان أحد الطريقين في الدعوة ، وقد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا إلزاميا وإنما يورث شوقا ورغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا .

ولأن دعوة الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة ، وهو مخزون مكنوز في فطرة الناس وإنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة ونزول السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة والحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار ، ولهذا كله ربما حصر شأن النبي (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) في الإنذار كما في قوله : {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [الفاطر ـ 23] وقوله : {وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت : 50] .

هذا في عامة الناس وأما الخاصة من عباد الله ، وهم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار ولا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف والرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد وسخط فيخافونها لذلك ، ومن الجنة أنها ساحة قرب ورضوان فيشتاقون إليها لذلك .

وظاهر قوله : {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب وبين من بلغ ـ والمراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) بالدعوة في زمن حياته أو بعده ـ يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله : {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} هم الذين شافههم النبي (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه .

فقوله : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} يدل على عموم رسالته (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة ، وإن شئت فقل : تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله وكتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة .

وقد قيل : {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} ولم يقل : لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه وعرف معناه واهتدى إلى مقاصده ، أو فسر له لفظه وقرع سمعه بمضامينه فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته وتشملهم مضامينه ، وقد دعا (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله) بكتابه إلى مصر والحبشة والروم وإيران ولسانهم غير لسان القرآن ، وقد كان فيمن آمن به في حياته وقبل إيمانهم سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وعدة من اليهود ولسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه .

قوله تعالى : {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ} إلى آخر الآية ، لما ذكر شهادة الله وهو أكبر شهادة على رسالته ولم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد ، وليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر : هل يشهدون بتعدد الآلهة ، وهذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن واللام ، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى .

ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال : {قُلْ لا أَشْهَدُ} أي بما شهدتم به بقرينة المقام ، ثم قال : {قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} وهو شهادة على وحدانيته تعالى ، والبراءة مما يدعون له من شركاء .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 30-35 .

2. الخاصة من الوثنية وإن كانوا يجوزون عبادته تعالى استنادا إلى أنه غير محدود الوجود لا يتعلق به التوجه العبادي لكن العامة منهم ربما عبدوه في عرض سائر الآلهة كما يظهر من تلبية مشركي مكة في الحج : لبيك لا شريك لك الله شريكا هو لك تملكه وله ملك .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام 17-18] .

 

قدرة الله القاهرة :

قلنا إنّ هدف هذه السّورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام ، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.

فالقرآن يتساءل أوّلا : لماذا تتوجهون إلى غير الله ، وتلجأون إلى معبودات تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها ؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله ، وإذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إلّا بقدرة الله ، لأنّه هو القادر القوي : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .

في الواقع إنّ سبب الاتجاه إلى غير الله إمّا لتصورهم أنّ ما يتجهون إليه مصدر الخيرات ، وإمّا لاعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم ، والخضوع إلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين الدافعين ، هذه الآية تبيّن أنّ إرادة الله حاكمة على كل شيء ، فإذا منع عن أحد نعمة ، أو منح أحدا نعمة ، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك ، فلما ذا إذن يطأطئون رؤوسهم خضوعا لغيره ؟

إنّ استعمال «يمسسك» في الخير والشر ، وهي من «مسّ» ، تشير إلى أنّ الخير والشر ـ مهما قلّ ـ لا يكون إلّا بإرادته وقدرته.

ثمّ إنّ الآية المذكورة تدحض فكرة «الثنويين» القائلين بمبدأي «الخير» و «الشر» وعبادتهما ، وتقول إنّ الإثنين كليهما من جانب الله ، ولكننا سبق أن قلنا أن ليس ثمّة شيء اسمه «الشر المطلق» .

وعليه فعند ما ينسب الشر إلى الله فإنّما يقصد به على الظاهر «سلب النعمة» وهو بحدّ ذاته «خير» ، فهو إمّا أن يكون للإيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية ، أو لمصالح أخرى .

وفي الآية التي تليها إكمال للبحث ، فيقول : {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ}.

«القاهر» و «الغالب» وإن كانا بمعنى واحد ، إلّا أنّهما من جذرين مختلفين ، «القهر» يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إبداء أية مقاومة ، وفي كلمة «الغلبة» لا يوجد هذا المعنى ، وقد تحصل بعد المقاومة ، وبعبارة أخرى : القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقا كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفؤها فورا .

يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر» تستعمل حيث يكون المقهور كائنا عاقلا ، ولكن «الغلبة» أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضا (3) .

وعليه إذا كانت الآية السابقة تشير إلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأخرى وأصحاب القوّة ، فذلك لا يعني أنّه مضطر إلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها ، بل يعني أنّ قدرته قاهرة ، وقد جاء تعبير {فَوْقَ عِبادِهِ} لتأكيد هذا المعنى.

وعلى هذا ، كيف يمكن لإنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة ، وما يملكونه من قوّة زهيدة إنّما مصدرها الله أيضا.

ولإزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر ، يقول القرآن : {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة ، لأنه خبير وعالم ولا يخطئ في استعمال قدرته أبدا.

ونقرأ في حالات «فرعون» أنّه عند ما هدد بقتل بني إسرائيل ، قال : {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} [الأعراف : 127] ، أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرة ـ وإن تكن ضعيفة ـ وسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين ، إلّا أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.

ومن نافلة القول أنّ تعبير {فَوْقَ عِبادِهِ} هو التفوق في المقام لا في المكان ، إذ ليس لله مكان محدد.

ومن العجيب جدا أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه ، على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون ـ مع كونه بشرا ذا جسم ـ يستعمل الكلمة نفسها لإظهار تفوقه السلطوي ، لا تفوقه المكاني (تأمل بدقّة) .

 

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام 19] .

 

أعظم الشّاهدين :

يذكر جمع من المفسّرين أنّ عددا من مشركي مكّة جاؤوا إلى رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) وقالوا : كيف تكون نبيّا ولا نرى أحدا يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم ، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإنجيل ، فهات من يشهد لك على رسالتك ، والآيتان المذكورتان تشيران إلى هذه الواقعة .

في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة ، ويطلبون مزيدا من الشواهد ، يؤمر النّبي (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) أن : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً} .

أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين ؟ {قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن ؟ : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ} ، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري ، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية ، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إعجازه ، فألفاظه معجزة ، ومعانيه معجزة ، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقا إلهيا للدعوة !!.

يستفاد من هذه العبارة أيضا أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) .

ثمّ يشير إلى هدف نزول القرآن ويقول : {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم ، وأنذر جميع الذين يصل إليهم ـ عبر تاريخ البشر ، وعلى امتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة ـ كلامي ، وأحذرهم من عواقب عصيانهم .

يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالبا بين الإنذار والبشرى ، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ الكلام موجه هنا إلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة ، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة ، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.

بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) ، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته ، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم .

وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم ‌السلام أنّ مفهوم إبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إلى الأقوام الأخرى فحسب ، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إلى تلك الأقوام.

جاء عن الإمام الصّادق (عليه ‌السلام) أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال : «بكل لسان» (4) .

كما أنّ من أصول الفقه المسلم بها هو مبدأ «قبح العقاب بلا بيان» وهذا ما تفيده الآية المذكورة.

فقد ثبت في أصول الفقه أنّه ما دام الحكم لم يبلغ شخصا ، فإنّه لا يتحمل مسئولية تنفيذه (إلّا إذا كان مقصرا في استيعاب الحكم) ، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسئوليتها ، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة ، بدون تقصير ، فلا مسئولية عليهم .

في تفسير (المنار) رواية عن أبيّ بن كعب قال : أتي رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام ؟ قالوا : لا ، فخلى سبيلهم ، ثمّ قرأ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، ثمّ قال : خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا (5) .

ومن هذه الآية نفهم ـ أيضا أنّ إطلاق كلمة «شيء» على الله جائز ، إلّا أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة ، بل هو خالق ولا تحده حدود .

ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم : {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى}. ويأمره أن : {قُلْ لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .

ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام ، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبي (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) على أثر كلامهم ، فيتركون المجلس آملين ، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّد (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) النظر في دعوته .

فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إلى يأس ، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون ، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته ، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي .

________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 32-37 .

2. «الضر» هو كل نقيصة يتعرض لها الإنسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض ، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون ، وإمّا في أمور أخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء .

3. تفسير «الميزان» ج 7 ، ص 34 .

4. تفسير «البرهان» ، وتفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 707 ذيل الآية .

5. تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 341 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .