المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24



تفسير آية (7-11) من سورة الانعام  
  
2319   06:51 صباحاً   التاريخ: 27-3-2021
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنعام /

قال تعالى : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام : 7 ، 11].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام : 7].

أخبر سبحانه عن عنادهم فقال : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} يا محمد {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أي : كتابة في صحيفة ، ؟ وأراد بالكتاب المصدر ، وبالقرطاس الصحيفة وقيل : كتابا معلقا من السماء إلى الأرض ، عن ابن عباس {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي : فعاينوا ذلك معاينة ، ومسوه بأيديهم ، عن قتادة ، وغيره ، قالوا اللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة ، ولذلك قال {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} دون أن يقول ، فعاينوه {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس ، لنسبوا ذلك إلى السحر ، لعظم عنادهم ، وقساوة قلوبهم .

وفي هذه الآية دلالة على ما يقوله أهل العدل في اللطف ، لأنه تعالى بين أنه إنما لم يفعل ما سألوه ، حيث علم أنهم لا يؤمنون عنده .

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام : 8-10] .

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم {قَالُوا لَوْلَا} أي : هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أي : على محمد {مَلَكٌ} نشاهده فنصدقه . ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} على ما اقترحوه ، لما آمنوا به ، واقتضت الحكمة استئصالهم ، وأن لا ينظرهم ، ولا يمهلهم ، وذلك معنى قوله {لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} أي : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ، عن الحسن ، وقتادة ، والسدي.

وقيل : معناه لو أنزلنا ملكا في صورته ، لقامت الساعة ، أو وجب استئصالهم ، عن مجاهد .

ثم قال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} أي : لو جعلنا الرسول ملكا ، أو الذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة ، كما يطلبون ذلك {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته ، لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة الا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة ، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس ، وكان جبرائيل يأتي النبي (صلَّ الله عليه واله وسلم) في صورة دحية الكلبي ، وكذلك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ، وإتيانهم إبراهيم ولوطا في صورة الضيفان من الآدميين . {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} قال الزجاج : كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي ، فيقولون : إنما هذا بشر مثلكم فقال : لو أنزلنا ملكا فرأوا هم الملك رجلا ، لكان يلحقهم فيه من اللبس ، مثل ما لحق ضعفتهم منهم ، أي : فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان ، وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه ، لا يزيدهم بيانا ، بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة .

وقيل : معناه ولو أنزلنا ملكا ، لما عرفوه الا بالتفكر ، وهم لا يتفكرون ، فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه ، فأضاف اللبس إلى نفسه ، لأنه يقع عند إنزاله الملائكة .

ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به : {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} يقول : لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها ، كما استهزأ بك قومك ، فلست بأول رسول استهزئ به ، ولا هم أول أمة استهزأت برسولها .

{فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} أي : فحل بالساخرين منهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا ، وقيل : معنى حاق بهم : أحاط بهم ، عن الضحاك ، وهو اختيار الزجاج ، أي : أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء استهزائهم ، فهو من باب حذف المضاف إذا جعلت ما في قوله : {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} عبارة عن القرآن والشريعة . وإن جعلت {ما} عبارة عن العذاب الذي كان يوعدهم به النبي ، إن لم يؤمنوا ، استغنيت عن تقدير حذف المضاف ، ويكون المعنى : فحاق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من وقوعه .

 

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام : 11] .

 

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلَّ الله عليه وآله وسلم) فقال : {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي : سافروا فيها {ثُمَّ انْظُرُوا} : والنظر : طلب الإدراك بالبصر ، وبالفكر ، وبالاستدلال ، ومعناه هنا : فانظروا بأبصاركم وتفكروا بقلوبكم ، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} المستهزئين . وإنما أمرهم بذلك ، لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة ، كانت باقية ، وأخبارهم في الخسف والهلاك ، كانت شائعة ، فإذا سار هؤلاء في الأرض ، وسمعوا أخبارهم ، وعاينوا آثارهم ، دعاهم ذلك إلى الإيمان ، وزجرهم عن الكفر والطغيان .

________________________

1 . مجمع البيان ، ج4 ، ص 12- 15 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ} . أقام النبي (صلَّ الله عليه واله) بمكة ثلاث عشرة سنة منذ نزول الوحي عليه إلى أن هاجر إلى المدينة ، وكان يدعو أهلها طوال هذه المدة إلى التوحيد والعدل ، وينهاهم عن الشرك والجور ، وكان أسلوبه في الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة ، فاستجاب له أقلهم ، وامتنع أكثرهم ، ولم يكتفوا بالامتناع ، بل تألبوا عليه ، وجعلوا يؤذونه بأيديهم تارة ، وبألسنتهم أخرى ، وكان يصبر على أذاهم ، ويحرص على إيمانهم ، ولكن اللَّه سبحانه قال له : {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف : 103] . وقال : {ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . أي لو نزلنا عليك يا محمد الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة ، فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه ، وقالوا : انه سحر .

وهذا النموذج من الناس موجود في كل جيل ، بل في عصرنا الذي نعيش فيه فئة كبيرة لا تكتفي بإنكار الملموس المحسوس ، حتى تسمي هذه الأشياء بأضدادها فتعبر عن الذئب بالحمل ، وعن الأفعى بحمامة السلام ، فهذه الولايات المتحدة تقوم بعملية حرب الإبادة في فيتنام ، وتقول : أنا أبني وأعمل للحياة . . وتلك إسرائيل تعتدي ، وتقول : أنا المعتدى عليه . .

{وقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} . لو لا بمعنى هلا ، والضمير في عليه يعود إلى محمد (صلَّ الله عليه واله) وفي قالوا إلى مشركي قريش ، فقد سألوا النبي (صلَّ الله عليه واله) أن يبعث اللَّه معه ملكا يشهد بما يدعيه ، ويكون له عونا على تنفيذ رسالته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}[الفرقان - 7] .

{ولَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} . أي لو أن اللَّه أنزل إليهم ملكا لماتوا ، ولا يؤخرون طرفة عين . وتسأل : وأية ملازمة بين إنزال الملك إليهم ، وبين هلاكهم عاجلا ؟ .

وأجاب بعض المفسرين بأن الناس إذا شاهدوا الملك تزهق أرواحهم من هول ما يشهدون . . ولا يعتمد هذا القول على أساس .

وقال آخرون : لقد سبق في حكمة اللَّه أن يهلك كل من يخالف الملك . .

وهذا أسوأ من سابقه ، لأن اللَّه سبحانه لم يهلك الذين يخالفونه في هذه الحياة ، وليس الملك بأعظم شأنا منه تعالى علوا كبيرا .

والصحيح في الجواب ان وجه الملازمة سر لم يظهره اللَّه لعباده ، ولا يدرّك هذا السر بالعقل ، فيجب السكوت عما سكت اللَّه عنه .

{ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} . لو أرسل اللَّه إلى الناس ملكا فلا يخلو : اما أن يبقى على صورته ، واما أن يتمثل في صورة البشر . . ومحال أن يبقى على صورته ، وفي الوقت نفسه يكون رسولا إلى الناس ، لأن طبيعة الملائكة غير طبيعة الإنسان ، وتبليغ الرسالة يستدعي المعاشرة والمؤانسة ، وهي لا تحصل مع تباين الخلق والطباع . . هذا ، إلى أن الملائكة لم يخلقوا للحياة على هذا الكوكب .

ولو تمثل الملك على صورة البشر لقالوا له نريد ملكا رسولا ، ولا نريده بشرا . . إذن ، فالملك بصورته لا يمكن أن يبلغ الرسالة ، وبصورة البشر لا يؤمن به مشركو مكة ، فتبقى مشكلتهم من غير حل . . وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية صريحة الدلالة على ان اللَّه سبحانه قد جادل المكذبين بالأسلوب والمنطق الذي يستعمله أهل المعقول لإفحام خصومهم .

{ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} . أي لو جعل اللَّه الملك في صورة البشر لظن الناس أنه بشر في حقيقته ، وعليه يكون اللَّه جل ثناؤه قد موّه في أفعاله ، تماما كما يموّه الناس بعضهم على بعض . .

{ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} . أي هوّن عليك يا محمد ما تلقى من استخفاف قومك ، فإن الاستخفاف بالأنبياء والمصلحين ليس وليد الساعة ، بل كان موجودا منذ القديم ، واللَّه سبحانه قد عاقب المستهزئين بأنبيائهم ، وسيحل بمن استهزأ بك ما حل بمن كان قبلهم ، وفعل فعلهم . . وهكذا كان ، فإن اللَّه سبحانه قد أهلك من سخر بمحمد (صلَّ الله عليه واله) ، وامتنّ اللَّه عليه بهلاكهم ، حيث خاطبه بقوله : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر : 95] .

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . تقدم تفسيره في الآية 137 من آل عمران .

__________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص163-165.

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} إلى آخر الآية ، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر والسمع ، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة : هذا سحر مبين ، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم : {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء : 93] .

وقد نكر الكتاب في قوله : {كِتاباً فِي قِرْطاسٍ} لأن هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا ، وقيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه ، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات النازلة على النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء : 193 - 195] .

قوله تعالى : {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} قولهم {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} تحضيض للتعجيز ، وقد أخبرهم النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [كورت : 21ٍ] إلى غيرها من الآيات .

فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه :

أحدهما : أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [حم السجدة : 13ٍ] وقال : {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ إلى أن قال ـ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص : 70ٍ] .

ولما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة ، ولا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا ـ ولن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار ـ القضاء بينهم بالقسط ، ولا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى : {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} .

على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت كما قال تعالى : {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان : 22ٍ] وهذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل قوله بعده {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان : 24ٍ] .

وقال تعالى بعده ـ وظاهر السياق أنه يوم آخر ـ : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ ، تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان : 26ٍ] ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم : {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء : 92ٍ] .

وبالجملة فقوله تعالى : {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} إلخ ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم ، وعلى هذا ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ـ إلى أن قال ـ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس : 53ٍ] وفي هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله .

وقال تعالى : {وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال : 33ٍ] .

فالمتحصل من الآية أنهم يسألون نزول الملك ، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو نزل الملك لقضي بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم ، وسيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم .

ويمكن أن يقرر معنى الآية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب ، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضي بينهم وهم لا ينظرون ، وهم لا يريدون ذلك .

وثانيهما : أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله : {وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان : 7ٍ] فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته وواقعية رسالته .

قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك واللبس بالضم التغطية على الحق ، وكأن المعنى استعاري والأصل واحد .

قال الراغب في المفردات : لبس الثوب استتر به وألبسه غيره ـ إلى أن قال ـ وأصل اللبس (بضم اللام) ستر الشيء ويقال ذلك في المعاني يقال : لبست عليه أمره قال : {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} وقال : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} ، {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ} ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} و، يقال : في الأمر لبسه أي التباس ، انتهى .

ومعمول يلبسون محذوف ، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه ، ولبس البعض على البعض الآخر .

أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه : {يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} [الزخرف : 54ٍ] وقوله : {ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} [المؤمن : 29ٍ] .

وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الإنسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق ، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه ، وتغتر بعمله ، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته ، وعند ذاك يزين له عمله ، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} [الجاثية : 23ٍ] وقال : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف : 104] .

وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع وهو غير معقول .

على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم ، ولبس الحق بالباطل على النفس والتلهي باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به ، أعاننا الله تعالى على مرضاته .

وعلى أي حال فقوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً} إلخ ، الجواب عن مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به .

ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار ، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره ، وسلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك .

قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الدهر : 3ٍ] فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث ، قال تعالى : {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى} [النجم : 41ٍ] فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له ، قال تعالى : {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى : 20ٍ] .

وبالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء ، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال : {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ} [الشعراء : 4ٍ] .

فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا ، قال تعالى : {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف : 5ٍ] .

فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري ، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا : {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا ، فهذا معنى قوله : {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} .

فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية .

وثانيا : أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الإنسانية ـ الذي ربما يحيله عدة من الباحثين ـ أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا ، وتمثل الملائكة الكرام لإبراهيم ولوط عليه‌ السلام في صورة الضيفين من الآدميين .

وجل الآيات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى : {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف : 60ٍ] لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول ، وللبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر .

وثالثا : أن قوله تعالى : {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} من قبيل قوله تعالى : {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف : 5] فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه .

ورابعا : أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض .

وخامسا : أن محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت ـ ولا محالة ـ فهم لا ينتفعون بذلك شيئا .

وسادسا : أن في التعبير : {لَجَعَلْناهُ رَجُلاً} ولم يقل : لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا ـ كما قيل ـ بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويته إلى هوية الإنسان كما قيل .

وغالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد : أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا ، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا .

وهذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب ، وإن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى : {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان : 22] .

وذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز والامتناع ، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين ، ومن المقدور لله أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم ، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم .

وكذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط عليه ‌السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم ، وكذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليه ‌السلام في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته واليقين بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم ، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة ، وفيه محذور الإلجاء ، فالإلجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان ، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم .

قوله تعالى : {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلى آخر الآيتين ، الحيق الحلول والإصابة ، وفي مفردات الراغب : ، قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال ، وقد قرئ : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ} فأزالهما ، وعلى هذا ذمه وذامه ، انتهى .

وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم عين ما استهزءوا به ، وفي الآية الأولى تطييب لنفس النبي (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله) ، وإنذار للمشركين ، وفي الآية الثانية أمر بالاعتبار وعظة .

_______________________

1 . تفسير الميزان ، ج7 ، ص19-23  .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الانعام :7] .

 

منتهى العناد !

من عوامل انحرافهم الأخرى التكبر والعناد اللذين تشير إليهما ، هذه الآية ، أنّ المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة ، لأنّ التكبر لا يسمح لهم بالاستسلام للحق والحقيقة ، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين ، ينكرون حتى الأمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان ، بل ينكرون حتى البديهيات ، كما نراه بأمّ أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.

يشير القرآن هنا إلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أنّ هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد الذين قالوا لرسول الله (صلَّ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم) : لن نؤمن حتى ينزل الله كتابا مع أربعة من الملائكة !) ويقول : {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

أي أنّ عنادهم قد وصل حدّا ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحرا لكيلا يستسلموا للحقيقة ، مع أنّهم في حياتهم اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإيمان بالحقائق ويقتنعون بها ، وما هذا بسبب ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.

وبهذه المناسبة فإنّ «القرطاس» هو كل ما يكتب عليه ، سواء أكان ورقا أو جلدا أو ألواحا ، أمّا إطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من غيره للكتابة .

 

{وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} [الانعام : 8-10] .

 

خلق المبررات :

من عوامل الكفر والإنكار الأخرى ، روح التحجج والبحث عن المبررات ، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أخرى ، مثل التكبر والأنانية ، ولكنّه ينقلب بالتدريج إلى حالة نفسية سلبية ، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.

ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم) وأشار إليها القرآن في كثير من آياته ـ ومنها هذه الآية ـ هي أنّهم كانوا يقولون : لماذا يقوم رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم) وحده بهذا الأمر العظيم ؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر ، من جنس الملائكة ؟ أيمكن لإنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه الرسالة على عاتقه ؟ {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} .

ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم) مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات ، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الإنسان بل انّ قابلية الإنسان أكثر بكثير.

يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان :

الاولى : {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} .

أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم) لهلك الكافرون ، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة ، وهو أنّه إذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس ، أي إذا تحول الغيب بنزول الملك إلى شهود ، بحيث يرى كل شيء عيانا ، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إتمام الحجة ، إذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها ، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع ، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده ، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير ، لا يفعل ذلك إلّا في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد ، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك ، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإلهي ، في هذه الحالة يحقق له طلبه ، ثمّ إذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه .

الثّانية : هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أسوة لهم ، لا بدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية ، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم ، لأنّه لا يدري شيئا عن حاجاتهم وآلامهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها ، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الاختلاف لا يحقق الهدف.

لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول : لو شئنا أن يكون رسولنا ملكا حسبما يريدون ، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإنسان وأن يظهر في هيئة إنسان : {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً} (2) .

يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة {لَجَعَلْناهُ رَجُلاً} لا تعني : أنّنا سنجعله على هيئة انسان ، كما تصور بعض المفسّرين ، بل تعني : أنّنا نجعله على هيئة البشر في الصفات الظاهرية والباطنية ، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم ـ في هذه الحالة أيضا ـ كانوا سيعترضون الاعتراض نفسه ، وهو : لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة : {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} .

«اللبس» بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبها بغيره خافيا ، و «اللبس» بمعنى ارتداء اللباس ، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل ، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكا لوجب أن يكون في صورة الإنسان وسلوكه ، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الاشتباه ، ولكانوا يشكلون علينا الإشكالات السابقة ، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والاشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم ، وعليه فإنّ نسبة «اللبس» والإخفاء إلى الله إنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.

وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له : {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.

هذه الآية في الواقع تسلية لرسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم) يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع ، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة (3) .

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الانعام : 7] .

لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أولئك الذين كذبوا بالحقائق ، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.

لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إنكارها الحقائق تأثيرا أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة ، ولهذا استعمل جملة «أنظروا» ولم يقل «تفكروا».

ولعل استعمال «ثم» لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم ، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأمم .

فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في إيقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.

________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 20- 24.

2. الضمير «جعلناه» يمكن أن يعود على الرّسول ، أو على من يرسل معه لإعانته على تثبيت النبوة وعلى الاحتمال الثّاني يكون اقتراحهم قد تحقق ، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.

3. «حاق» بمعنى أحاط به وحل به ، و {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان ، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة «جزاء» كما يقول بعضهم ، إذ يكون المعنى : العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .