أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-10-2017
5762
التاريخ: 4-10-2017
11751
التاريخ: 5-10-2017
8395
التاريخ: 5-10-2017
10215
|
قال تعالى : {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [الواقعة: 41 - 56].
ذكر سبحانه أصحاب الشمال فقال {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى جهنم أو الذين يأخذون كتبهم بشمالهم أو الذين يلزمهم حال الشؤم والنكد {في سموم وحميم} أي في ريح حارة تدخل مسامهم وخروقهم وفي ماء مغلي حار انتهت حرارته {وظل من يحموم} أي دخان أسود شديد السواد عن ابن عباس وأبي مالك ومجاهد وقتادة وقيل اليحموم جبل في جهنم يستغيث أهل النار إلى ظله ثم نعت ذلك الظل فقال {لا بارد ولا كريم} أي لا بارد المنزل ولا كريم المنظر عن قتادة وقيل لا بارد يستراح إليه لأنه دخان جهنم ولا كريم فيشتهى مثله وقيل ولا كريم أي ولا منفعة فيه بوجه من الوجوه والعرب إذا أرادت نفي صفة الحمد عن شيء نفت عنه الكرم وقال الفراء العرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه وصفا تنوي به الذم تقول ما هو بسمين ولا كريم وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة.
ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي أوجبت لهم هذا فقال {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} أي كانوا في الدنيا متنعمين عن ابن عباس وذلك أن عذاب المترف أشد ألما وبين سبحانه أن الترف ألهاهم عن الانزجار وشغلهم عن الاعتبار وكانوا(2) يتركون الواجبات طلبا لراحة أبدانهم {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} أي الذنب العظيم عن مجاهد وقتادة والإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه ولا يتوب منه وقيل الحنث العظيم الشرك أي لا يتوبون عنه عن الحسن والضحاك وابن زيد وقيل كانوا يحلفون لا يبعث الله من يموت وإن الأصنام أنداد الله عن الشعبي والأصم {وكانوا يقولون أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمبعوثون} أي ينكرون البعث والنشور والثواب والعقاب فيقولون مستبعدين لذلك منكرين له أ إذا خرجنا من كوننا أحياء وصرنا ترابا أ نبعث {أ وآباؤنا الأولون} أي أ ويبعث آباؤنا الذين ماتوا قبلنا ويحشرون إن هذا البعيد ومن قرأ أ وآباؤنا بفتح الواو فإنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام.
{قل} يا محمد لهم {إن الأولين والآخرين} أي الذين تقدموكم من آبائكم وغير آبائكم والذين يتأخرون عن زمانكم {لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} يجمعهم الله ويبعثهم ويحشرهم إلى وقت يوم معلوم عنده وهو يوم القيامة {ثم إنكم أيها الضالون} الذين ضللتم عن طريق الحق وجزتم عن الهدى {المكذبون} بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ونبوة نبيه {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون} مفسر في سورة الصافات {فشاربون عليه من الحميم} الشجر يؤنث ويذكر فلذلك قال {منها} ثم قال {عليه} وكذلك الثمر يؤنث ويذكر {فشاربون شرب الهيم} أي كشرب الهيم وهي الإبل التي أصابها الهيام وهو شدة العطش فلا تزال تشرب الماء حتى تموت عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وقيل هي الأرض الرملية التي لا تروى بالماء عن الضحاك وابن عيينة {هذا نزلهم يوم الدين} النزل الأمر الذي ينزل عليه صاحبه والمعنى هذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء في جهنم .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ،ج9 ، ص367-369.
2- في بعض النسخ : فكانوا.
{وأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ}. ذكر سبحانه أولا ما أعده للسابقين من الأجر العظيم ، ثم ما أعده لأصحاب اليمين من رحمة وثواب ، ويذكر في الآيات التي نحن بصددها ما يقاسيه أصحاب الشمال من ألوان العذاب ، منها انهم {فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ} . تلفحهم ريح ساخنة محرقة تنفذ إلى داخل الجسم فتسمم اللحم والدم ، ويشربون ماء يغلي في البطون {وظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} . ويطلق اليحموم على الأسود البهيم من كل شيء ، وعلى الدخان الكثيف ، ويصح المعنى على أحدهما وعليهما معا {لا بارِدٍ ولا كَرِيمٍ} . اليحموم ظل ، ولكنه لا يجلب بردا ولا يدفع حرا تماما كالمستجير من الرمضاء بالنار .
{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ} . طغوا وبغوا على عباد اللَّه وبلاده ، وسلبوا ويهبوا أقوات الخلائق وأرزاقهم ، وتنعموا بها كما يشتهون من لباس أنيق ، وطعام هني ، وشراب سائغ ، ومسكن فاره ، فكان جزاؤهم عند اللَّه عذاب الحريق ، وشراب الحميم ، وطعام الزقوم ، وريح السموم ، وظل من يحموم }وكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ }. قيل : المراد بالحنث العظيم الذنب العظيم ، وهو الشرك ، وغير بعيد ان يكون الحنث إشارة إلى إصرارهم على الأيمان الكاذبة بأنه لا بعث ولا جزاء كما حكى سبحانه عنهم ذلك في الآية 38 من سورة النحل :
{وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} . وقسمهم هذا نتيجة لشركهم ، وعليه يصح تفسير الحنث العظيم بالشرك .
{وكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وكُنَّا تُراباً وعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَو آباؤُنَا الأَوَّلُونَ} .
قالوا ساخرين : أينقلب التراب إنسانا ؟ . ونسوا ان اللَّه خلقهم من تراب ثم من نطفة {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} . قل لهم يا محمد : أجل ، ان اللَّه يجمع غدا الخلائق لنقاش الحساب ، وجزاء الأعمال ، ولو تركهم سدى بلا رادع ولا سائل لكان ظالما وعابثا . . تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وتقدم مثله مرارا ، منها في الآية 5 من سورة الرعد ج 4 ص 378 والآية 49 من سورة الإسراء والآية 81 من سورة المؤمنون .
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} . ضلوا عن طريق الهدى ، فكذبوا بالحق ، ونازعوا بالجهل ، فكان جزاؤهم ومصيرهم {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} . ونعترف بأنّا نجهل حقيقة هذه الشجرة ، وما أكثر ما نجهل . .
ولكنا على علم اليقين بأنها تشير إلى سوء العذاب ، وقد شبه سبحانه طلعها برؤوس الشياطين في الآية 62 من سورة الصافات . انظر ج 6 ص 304 {فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} . طعامهم أمرّ من العلقم وأنتن من الجيف ، وشرابهم آجن ساخن {فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وهي الإبل المصابة بالاستسقاء أو داء العطش لا يرويها شيء {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} . هذا إشارة إلى حال أصحاب الشمال ، ويوم الدين يوم القيامة ، والنزل ما يعد للنازل من مأكل ومشرب ، وهو شر نزل طعاما وشرابا ولباسا وفراشا . . وفوق ذلك تغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وتقترن النواصي بالأقدام . . نعوذ باللَّه من سوء العاقبة والمصير .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص224-225.
قوله تعالى: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} مبتدأ وخبر، والاستفهام للتعجيب والتهويل، وقد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين.
قوله تعالى: { في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } السموم - على ما في الكشاف، - حر نار ينفذ في المسام، والحميم الماء الشديد الحرارة، والتنوين فيهما لتعظيم الأمر، واليحموم الدخان الأسود، وقوله: {لا بارد ولا كريم} الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، وذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد بالاستظلال به ويستراح فيه دون الدخان.
قوله تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين}تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، وإتراف النعمة الإنسان إبطارها وإطغاؤها له، وذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون الإنسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا وما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة.
فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسعين في التنعم وذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه وليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفه منه، والمعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر لأنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم.
قوله تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} في المجمع،: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، والإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه.
انتهى.
ولعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم وأخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذر فيطيعون غير ربهم وهو الشرك المطلق.
وقيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة والحنث العظيم الشرك بالله، وقيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، وقيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] ، ولفظ الآية مطلق.
قوله تعالى: {وكانوا يقولون أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمبعوثون أ وآباؤنا الأولون} قول منهم مبني على الاستبعاد ولذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم لأن الاستبعاد في موردهم آكد، والتقدير أ وآباؤنا الأولون مبعوثون.
قوله تعالى: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام وشراب وهما الزقوم والحميم.
ومحصل القول إن الأولين والآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعدا وبعث آبائهم الأولين أشد استبعادا وآكد - لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم.
والميقات ما وقت به الشيء وهو وقته المعين، والمراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية.
قوله تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون} من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرهم عما ينتهي إليه حالهم يوم القيامة ويعيشون به من طعام وشراب.
وفي خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم وخسرانهم يوم البعث وهو ضلالهم عن طريق الحق واستقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم وإصرارهم على الحنث، ولو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا ولا يهلكوا.
و{من}في قوله : {من شجر} للابتداء، وفي قوله : {من زقوم} بيانية ويحتمل أن يكون {من زقوم} بدلا من {من شجر}، وضمير {منها} للشجر أو الثمر وكل منهما يؤنث ويذكر ولذا جيء هاهنا بضمير التأنيث وفي الآية التالية في قوله: {فشاربون عليه} بضمير التذكير، والباقي ظاهر.
قوله تعالى : {فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم} كلمة {على} للاستعلاء وتفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، والهيم جمع هيماء الإبل التي أصابها الهيام بضم الهاء وهوداء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، وقيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء.
والمعنى : فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم وهذا آخر ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله لهم.
قوله تعالى : {هذا نزلهم يوم الدين}أي يوم الجزاء والنزل ما يقدم للضيف النازل من طعام وشراب إكراما له، والمعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم وشرابهم هو نزل الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، والآية من كلامه تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوكان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص109-111.
العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال:
بعد الإستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول الباريء: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال}.
أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب، وممّن تكون النار مصيراً لهم، ويستعمل هذا التعبير عادةً لبيان (حسن) أو(سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا: السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة. وكذلك في قوله تعالى: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال}.
ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق القاتل من جهة (سموم) والماء المغلي المهلك من جهة اُخرى (وحميم)، وظلّ الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة (وظلّ من يحموم) هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة ... إنّها آلام وعذاب لا يطاق، ولولم يكن غيره من جزاء لكفاهم.
«سموم»: من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم، (ويقال للسمّ سمّاً لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).
و«حميم»: بمعنى الشيء الحارّ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي اُشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] .
«يحموم»: من نفس المادّة أيضاً، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.
ثمّ يضيف الباريء مؤكّداً فيقول: {لا بارد ولا كريم}.
المظلّة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اُخرى، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.
والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئاً أو شخصاً بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة فيه).
ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلاّ الشرّ والضرر (لا كرامة).
وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلاّ أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.
وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل، يقول في البداية: {إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين}.
«مترف»: كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف ـ على وزن (سبب) ـ بمعنى التنعّم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكران، وجرّته إلى الطغيان(2).
صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين، إلاّ أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.
والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الإنحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد «الزمرة» المترفة المغرورة، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم إبتداءً.
وهنالك رأي ثان وهو: إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر .. فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثاً للغرور والغفلة، فإنّها ستكون مصدراً أساسياً للذنوب، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.
ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال، فيقول سبحانه: {وكانوا يصرّون على الحنث العظيم}.
«الحنث» في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب، وقد إستعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم، لكونه مصداقاً واضحاً للذنب، وبناءً على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضاً، إلاّ أنّهم لا يصرّون عليه أبداً، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.
وفسّر البعض «الحنث العظيم» بمعنى الشرك، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك. قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وفسّر (الحنث) بالكذب، لأنّه أعظم الذنوب، ومفتاح المعاصي، خصوصاً حينما يكون الكذب توأماً لتكذيب للأنبياء (عليهم السلام) والمعاد.
والظاهر أنّ هذه جميعاً تعتبر مصاديق للحنث العظيم.
وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: {وكانوا يقولون أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون}.
وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم. وتعبير {كانوا يقولون} يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.
وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و(أصحاب اليمين) لم يعط توضيحاً عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء، إلاّ ضمن إشارة عابرة. أمّا عندما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت أفعالهم بصورة كافية، وذلك ليكون إتماماً للحجّة عليهم من جهة، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان إنسجاماً مع مبادىء العدالة تماماً من جهة اُخرى.
والمسألة الاُخرى: أنّ الذنوب الثلاثة التي اُشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اُصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.
ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاُولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] .
والتعبير بـ (تراباً وعظاماً) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب، وعظامنا إلى رميم، ومع ذلك فكيف نكون خلقاً جديد؟
ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى: (تراباً وعظاماً).
والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(3). ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح تراباً ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اُخرى، وأساساً فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية، ولن يكون عليه ذلك صعباً وعسيراً ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.
إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب: {أو آباؤنا الأوّلون}(4) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم في جهة، أو أصبحت جزءاً من بدن كائن آخر؟
ولكن، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم: {قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}(5).
«ميقات» من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد. والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب، ويأتي أحياناً كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن، مثل مواقيت الحجّ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.
ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر، مثل: (إنّ، اللام، «مجموعون» التي جاءت بصيغة إسم مفعول، ووصف «يوم» بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحاً ومؤكّداً أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اُخرى أيضاً(6).
ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ اُمّة قيامة، هم غرباء عن آيات الله تماماً.
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط، وإلاّ فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.
وقوله تعالى : {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 51 - 56]
عقوبات جديدة للمجرمين:
هذه الآيات إستمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال، حيث يخاطبهم بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ }(7) [الواقعة: 51، 52].
كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط بـ (أصحاب الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارناً بمأكل ومشرب المقرّبين وأصحاب اليمين.
والجدير بالذكر أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم «الضالّون المكذّبون» الذين يتّسمون مضافاً إلى الضلال والإنحراف بأنّ لديهم روح العناد والإصرار على الباطل في مقابل الحقّ.
(زقّوم) كما ذكرنا سابقاً: نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم، وتقال أحياناً لكلّ نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار(8).
وللمزيد حول (الزقّوم) يراجع نهاية الآية (62) سورة الصافات، وكذلك نهاية الآية (43) سورة الدخان.
والتعبير بـ {فمالئون منها البطون} إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّاً فيملؤون بطونهم.
وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!
يتبيّن ذلك في قوله تعالى: {فشاربون عليه(9) من الحميم فشاربون شرب الهيم}.
إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدّة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتّى يهلك، وهذا هو نفس مصير {الضالّون المكذّبون} في يوم القيامة.
«حميم»: بمعنى الماء الحارّ جدّاً والحارق، وتطلق عبارة (وليّ حميم) على طبيعة العلاقة الصادقة الوديّة الحارّة، و«حمّام» مشتقّ من نفس المادّة أيضاً.
(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم، وإعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء، وهي في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير، ويستعمل هذا التعبير للعشق الحادّ أو للعشّاق الذين لا يقرّ لهم قرار.
ويعتبر بعض المفسّرين أنّ معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلّما سقيت بماء تسرّب منها فتظهر الظمأ دائماً.
وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول: (هذا نزلهم يوم الدين).
فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالإستقرار في ظلال الأشجار الوارفة، ويتناولون ألذّ الفواكه وأطيب الأطعمة، وأعذب الشراب الطهور، ويطوف حولهم الولدان المخلّدون وحور العين، وهم سكارى من عشق الباريء عزّوجلّ؟
أين اُولئك؟ وأين هؤلاء؟
مصطلح (نزل) كما قلنا سابقاً بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز، وتطلق أحياناً على أوّل طعام أو شراب يؤتى به للضيوف، ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفاً، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من الطعن فيهم، وأنّه إذا كان كلّ هذا العذاب هو مجرّد إستقبال لهم، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم؟
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص509-515.
2 ـ لسان العرب، ج9، ص17.
3 ـ يجب الإنتباه هنا إلى تكرار حرف الإستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.
4 ـ الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) إستفهامية، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الإستفهامية
عليها.
5 ـ إستعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ «لام» كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).
6 ـ هور، الآية 103; مريم، الآية 95.
7 ـ (من) في (من شجر) تبعيضية، و(من) في (زقّوم) بيانية.
8 ـ مجمع البحرين ومفردات الراغب، ولسان العرب، وتفسير روح المعاني.
9 ـ الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثاً (منها) يعود على {شجر من زقّوم} وفي هذه الآية كان الضمير مذكراً (عليه) يعود على الشجر، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث، وكذلك ثمر، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|