أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2017
2437
التاريخ: 28-9-2017
3120
التاريخ: 28-9-2017
4220
التاريخ: 28-9-2017
2739
|
قال تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 1 - 8].
{اقتربت الساعة} أي قربت الساعة التي تموت فيها الخلائق وتكون القيامة والمراد فاستعدوا لها قبل هجومها {وانشق القمر} قال ابن عباس اجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن فعلت تؤمنون قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ربه أن يعطيه ما قالوا فانشق القمر فرقتين ورسول الله ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا وقال ابن مسعود انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) شقتين فقال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اشهدوا اشهدوا وروي أيضا عن ابن مسعود أنه قال والذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقي القمر وعن جبير بن مطعم قال انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقال ناس سحرنا محمد فقال رجل إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم.
وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وجبير بن مطعم وعبد الله بن عمر وعليه جماعة المفسرين إلا ما روي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال معناه وسينشق القمر وروي ذلك عن الحسن وأنكره أيضا البلخي وهذا لا يصح لأن المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ولأن اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه ومن طعن في ذلك بأنه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار فقوله باطل لأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه ولأنه قد وقع ذلك ليلا فيجوز أن يكون الناس كانوا نياما فلم يعلموا بذلك على أن الناس ليس كلهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه وإنما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.
{وإن يروا آية يعرضوا} هذا إخبار من الله تعالى عن عناد كفار قريش وأنهم إذا رأوا آية معجزة أعرضوا عن تأملها والانقياد لصحتها عنادا وحسدا {ويقولوا سحر مستمر} أي قوي شديد يعلو كل سحر عن الضحاك وأبي العالية وقتادة وهومن إمرار الحبل وهو شدة فتله واستمر الشيء إذا قوي واستحكم وقيل معناه سحر ذاهب مضمحل لا يبقى عن مجاهد وهومن المرور وقال المفسرون لما انشق القمر قال مشركو قريش سحرنا محمد فقال الله سبحانه {وإن يروا آية يعرضوا} عن التصديق والإيمان بها قال الزجاج وفي هذا دلالة على أن ذلك قد كان ووقع وأقول ولأنه تعالى قد بين أن يكون آية على وجه الإعجاز وإنما يحتاج إلى الآية المعجزة في الدنيا ليستدل الناس بها على صحة النبوة ويعرف صدق الصادق لا في حال انقطاع التكليف والوقت الذي يكون الناس فيه ملجئين إلى المعرفة ولأنه سبحانه قال {ويقولوا سحر مستمر} وفي وقت الإلجاء لا يقولون للمعجز أنه سحر.
{وكذبوا} أي بالآية التي شاهدوها {واتبعوا أهواءهم} في التكذيب وما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم عليه {وكل أمر مستقر} فالخير يستقر بأهل الخير والشر يستقر بأهل الشر عن قتادة والمعنى أن كل أمر من خير وشر مستقر ثابت حتى يجازى به صاحبه إما في الجنة أوفي النار وقيل معناه لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف عن الكلبي.
{ولقد جاءهم} أي ولقد جاء هؤلاء الكفار {من الأنباء} يعني الأخبار العظيمة في القرآن بكفر من تقدم من الأمم وإهلاكنا إياهم {ما فيه مزدجر} أي متعظ وهو بمعنى المصدر أي وازدجار عن الكفر وتكذيب الرسل {حكمة بالغة} يعني القرآن حكمة(2) تامة قد بلغت الغاية والنهاية {فما تغن النذر} أي أي شيء تنفع النذر مع تكذيب هؤلاء وإعراضهم وهو جمع النذير وقيل معناه فلا تغني النذر شيئا أي أن الأنبياء الذين بعثوا إليهم لا يغنون عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بكفرهم لأنهم خالفوهم ولم يقبلوا منهم عن الجبائي وقيل النذر هي الزواجر المخوفة وآيات الوعيد.
ثم أمره سبحانه بالإعراض عنهم فقال {فتول عنهم} أي أعرض عنهم ولا تقابلهم على سفههم وهاهنا وقف تام {يوم يدع الداع إلى شيء نكر} أي منكر غير معتاد ولا معروف بل أمر فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما واختلف في الداعي فقيل هو إسرافيل يدعو الناس إلى الحشر قائما على صخرة بيت المقدس عن مقاتل وقيل بل الداعي يدعوهم إلى النار ويوم ظرف ليخرجون أي في هذا اليوم يخرجون من الأجداث ويجوز أن يكون التقدير في هذا اليوم يقول الكافرون.
وقوله {خشعا أبصارهم} يعني خاشعة أبصارهم أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب وإنما وصف الأبصار بالخشوع لأن ذلة الذليل أو عزة العزيز تتبين في نظره وتظهر في عينه {يخرجون من الأجداث} أي من القبور {كأنهم جراد منتشر} والمعنى أنهم يخرجون فزعين يدخل بعضهم في بعض ويختلط بعضهم ببعض لا جهة لأحد منهم فيقصدها كما أن الجراد لا جهة لها فتكون أبدا متفرقة في كل جهة قال الحسن الجراد يتلبد حتى إذا طلعت عليها الشمس انتشرت فالمعنى أنهم يكونون ساكنين في قبورهم فإذا دعوا خرجوا وانتشروا وقيل إنما شبههم بالجراد لكثرتهم وفي هذه الآية دلالة على أن البعث إنما يكون لهذه البنية لأنها الكائنة في الأجداث خلافا لمن زعم أن البعث يكون للأرواح.
{مهطعين إلى الداع} أي مقبلين إلى صوت الداعي عن قتادة وقيل مسرعين إلى إجابة الداعي عن أبي عبيدة وقيل ناظرين قبل الداعي قائلين هذا يوم عسر عن الفراء وأبي علي الجبائي وهو قوله {يقول الكافرون هذا يوم عسر} أي صعب شديد وقد قيل أيضا في قوله {فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر} أقوال أخر ( أحدها ) أن المعنى فأعرض عنهم إذا تعرضوا لشفاعتك يوم يدع الداعي وهو يوم القيامة فلا تشفع لهم ذلك اليوم كما لم يقبلوا منك اليوم ( وثانيها ) أن معناه فتول عنهم فإنهم يرون ما ينزل بهم من العذاب يوم يدع الداعي وهو يوم القيامة فحذف الفاء من جواب الأمر ( وثالثها ) أن معناه فتول عنهم فإنهم يوم يدعو الداعي صفتهم كذا وكذا وهي ما بينه إلى قوله {يوم عسر} ( ورابعها ) فتول عنهم واذكر يوم يدع الداعي إلى آخره عن الحسن .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص310-312.
2- [بالغة].
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وأزفت الآزفة بمعنى واحد ، وهوان يوم القيامة آت لا ريب فيه { وانْشَقَّ الْقَمَرُ} . قال أكثر المفسرين : ان المشركين طلبوا من رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن يشق القمر فرقتين ان كان صادقا . . فسأل ربه ، فانشق القمر ، ثم عاد إلى ما كان . . . وليس من شك ان هذا ممكن في ذاته ، ولكن الإمكان شيء ، والوقوع شيء آخر ، لأن الوقوع يفتقر إلى دليل الإثبات ، ولا دليل على ان الانشقاق حدث في عهد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، بل الأدلة قائمة على العكس ، وهي :
أولا : ان هذا لا يتفق مع العديد من الآيات التي نصت بصراحة على ان النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) لم يستجب لاقتراح المشركين في طلب الخوارق والمعجزات ، وانه أجابهم بما أمره اللَّه : {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا} - 94 الإسراء . وفي الآية 59 من هذه السورة أي سورة الإسراء بيّن سبحانه ان المقترحين يظلون على الكفر حتى ولو أجيبوا إلى ما يقترحون : {وما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} . وقال أيضا : {وإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عَنْها غافِلِينَ} - 146 الأعراف . . هذا ، إلى ان اللَّه سبحانه لم يبق عذرا لمتعلل بعد ان تحدى العالم كله بقوله : {وإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} - 23 البقرة .
ثانيا : ان انشقاق القمر حدث كوني هام ، فلو وقع لرآه أهل الشرق والغرب ، ودوّنه العلماء والمؤرخون الأجانب وغيرهم ، كما دوّنوا ما هو دونه من الأحداث .
ثالثا : ان الانشقاق من الموضوعات التي لا تثبت إلا بالخبر المتواتر ، وخبر الانشقاق من أخبار الآحاد ، فلا يصح الاعتماد عليه في هذا الباب ، والفرق بين الخبر الواحد والمتواتر ان رواة الثاني كثيرون ومختلفون في ظروفهم وأهدافهم بحيث لا يجمعهم على الكذب جامع - بحسب العادة - والخبر الواحد بعكس ذلك ، ولك ان تفرق بينهما بأن الخبر المتواتر يفيد الاطمئنان دون الخبر الواحد .
رابعا : ان قوله تعالى : {وانْشَقَّ الْقَمَرُ} بعد قوله : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} - يدل على ان القمر ينشق حين تقوم الساعة ، وان المراد من الانشقاق هنا هو نفس المراد منه في قوله : {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} - 1 الانشقاق أي يتصدع ما فيها من الكواكب يوم القيامة .
{وإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} لا نهاية له على مدى الأيام .
وفي الآية 24 من سورة المدثر حكى سبحانه عن الوليد بن المغيرة انه قال : {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يروى {وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} . لقد أعماهم الهوى والجهل عن كل حجة ودليل ، فكذّبوا بكتاب اللَّه ولقائه على الرغم من الدلائل الواضحة { وكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} . هذا تهديد لمن أعرض عن القرآن ، والمعنى ان كل شيء ثابت في علم اللَّه تعالى لا تخفى عليه خافية ، ومنه إعراض من أعرض عن القرآن ، ومثله قوله تعالى في الآية 66 من سورة الأنعام : {وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهُو الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{ولَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ} . المراد بالأنباء هنا كل آية في القرآن فيها عظة وعبرة ، وترغيب وترهيب ، أو تدل على طريق الايمان باللَّه واليوم الآخر والوحي الذي نزل على رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، والمعنى ان اللَّه سبحانه بيّن للمشركين على لسان نبيه محمد الدلائل الكافية على الحق ، والمواعظ الوافية
في الزجر عن الباطل {حِكْمَةٌ بالِغَةٌ } . كل ما جاء في القرآن فهو حكمة بلغت الغاية في العظة والدلالة على الحق ، ولكن {فَما تُغْنِ النُّذُرُ} مع العناد والإصرار على الكفر والضلال .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} يا محمد لأنك قد بلَّغتهم رسالات ربك ، فلم يستجيبوا ، وبالغت في النصيحة فلم يقبلوا {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْداثِ} . والنكر بضم النون والكاف ، وهوما تنكره النفوس ولا تطيق له حملا ، والمراد به هنا العذاب . . وهذا تهديد ووعيد للذين أعرضوا عن الحق ، وان لهم يوما اسود لا مفر من عذابه ، وهو اليوم الذي يخرجون من القبور إلى لقائه وحسابه أذلاء خاضعين يموج بعضهم ببعض من الحيرة والدهشة { كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ} لكثرتهم حيث يجمع اللَّه الأموات بعد إحيائهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، وفيه إيماء إلى ان الحشر يكون بالروح والجسم معا {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} مسرعين إلى دعوة اللَّه للحساب والجزاء { يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} شديد الأهوال والمخاطر ، عظيم الآلام والمخاوف ، ومثله : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} - 44 المعارج .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص189-191.
سورة ممحضة في الإنذار والتخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة والحضور عند ربهم.
تبدأ السورة بالإشارة إلى آية شق المقر التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اقتراح من قومه، وتذكر رميهم له بالسحر وتكذيبهم به واتباعهم الأهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة وأنباء الأمم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الأنباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيىء حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الأجداث وحضورهم للحساب.
ثم تشير إلى قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر وليس قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعز عند الله منهم وما هم بمعجزين، وتختتم السورة ببشرى للمتقين.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها، ولا يعبأ بما قيل: إنها نزلت ببدر، وكذا بما قيل: إن بعض آياتها مدنية، ومن غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.
قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} الاقتراب زيادة في القرب فقوله: {اقتربت الساعة} أي قربت جدا، والساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة.
وقوله: {وانشق القمر} أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكة، وقد استفاضت الروايات على ذلك، واتفق أهل الحديث والمفسرون على قبولها كما قيل.
ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي حيث قالوا: معنى قوله: {انشق القمر} سينشق القمر عند قيام الساعة وإنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.
وهو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله {آية} مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم وقولهم: سحر مستمر ومن المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق ويلجئون فيه إلى المعرفة، ولا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: أنها سحر مستمر فليس إلا أنها آية قد وقعت للدلالة على الحق والصدق وتأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر.
ومثله في السقوط ما قيل: إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الأرض كما أن الأرض جزء منفصل من الشمس فقوله: {وانشق القمر} إشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد.
وذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} إذ لم ينقل عن أحد أنه قال للقمر: هو سحر مستمر.
على أن انفصال القمر عن الأرض اشتقاق والذي في الآية الكريمة انشقاق، ولا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشيء في نفسه قطعتين دون انفصاله من شيء بعد ما كان جزء منه.
ومثله في السقوط ما قيل: إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه وكذا ما قيل: إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الأمر ووضوح الحق.
والآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.
قوله تعالى: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} الاستمرار من الشيء مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة، ولذا يطلق على الدوام والاطراد فقولهم: سحر مستمر أي سحر بعد سحر مداوما.
وقوله: {آية} نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، والمعنى وكل آية يشاهدونها يقولون فيها أنها سحر بعد سحر، وفسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق، وبعضهم بالذاهب الزائل، وبعضهم بالمستبشع المنفور، وهي معان بعيدة.
قوله تعالى: {وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر} متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أتى به من الآيات أي وكذبوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أتى به من الآيات والحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل وصدق أو كذب فسيعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق أو كاذب، على الحق أولا فقوله: {وكل أمر مستقر} في معنى قوله: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
وقيل متعلق التكذيب انشقاق القمر والمعنى: وكذبوا بانشقاق القمر واتبعوا أهواءهم، وجملة {وكل أمر مستقر} لا تلائمه تلك الملاءمة.
قوله تعالى: {لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} المزدجر مصدر ميمي وهو الاتعاظ، وقوله: {من الأنباء} بيان لما فيه مزدجر، والمراد بالأنباء أخبار الأمم الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة وقد احتمل كل منهما، والظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الأمم الهالكة أن المراد بالأنباء التي فيها مزدجر جميع ذلك.
قوله تعالى: {حكمة بالغة فما تغن النذر} الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها، والبلوغ وصول الشيء إلى ما تنتهي إليه المسافة ويكنى به عن تمام الشيء وكماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها ومن حيث أثرها.
وقوله: {فما تغن النذر} الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار والكل صحيح وإن كان الأول أقرب إلى الفهم.
والمعنى: هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها واتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الإنذارات؟.
قوله تعالى: {فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر} التولي الإعراض والفاء في {فتول} لتفريع الأمر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر ولا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم ولا تلح عليهم بالدعوة.
وقوله: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر} قال الراغب: الإنكار ضد العرفان يقال: أنكرت كذا ونكرت، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، وذلك ضرب من الجهل قال تعالى: {فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم}.
قال: والنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف.
انتهى.
وقد تم الكلام في قوله: {فتول عنهم} ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم والزواجر التي ذكروا بها على سبيل الإنذار، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة ومن عاقبة حال الأمم المكذبين من الماضين في لحن العتاب والتوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه وتقطع منابت أعذارهم في الإعراض.
فقوله: {يوم يدع الداع} إلخ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: {فتول عنهم} سئل فقيل: فإلى م يئول أمرهم؟ فقيل: {يوم يدع} إلخ، أي هذه حال آخرتهم وتلك عاقبة دنيا أشياعهم وأمثالهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وليسوا خيرا منهم.
وعلى هذا فالظرف في {يوم يدع} متعلق بما سيأتي من قوله: {يخرجون} والمعنى: يخرجون من الأجداث يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر، إلخ وإما متعلق بمحذوف، والتقدير اذكر يوم يدعو الداعي، والمحصل اذكر ذاك اليوم وحالهم فيه، والآية في معنى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ } [الزخرف: 66] ، وقوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102].
ولم يسم سبحانه هذا الداعي من هو؟ وقد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 52] .
وإنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الأجداث والحضور لفصل القضاء وخروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الإيمان بالآيات وإعراضهم وقولهم: سحر مستمر.
ومعنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم وهو القضاء والجزاء.
قوله تعالى: {خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} الخشع جمع خاشع والخشوع نوع من الذلة ونسب إلى الأبصار لأن ظهوره فيها أتم.
والأجداث جمع جدث وهو القبر، والجراد حيوان معروف، وتشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث إن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض ويختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } [المعارج: 43، 44].
قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص48-51.
شقّ القمر!!
أحدهما: قرب وقوع يوم القيامة، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا وإستيعابنا للمعرفة الكونية.
والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة إنشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة الباريء عزّوجلّ المطلقة، وكذلك تدلّ ـ أيضاً ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشقّ القمر}.
وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة (أزفت الآزفة) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضاً، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة، ومن جهة اُخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.
إنّ إقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة: «إنشقاق القمر و اقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود ... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بعثت أنا والساعة كهاتين»(2) مشيراً إلى إصبعيه الكريمين.
ومن جهة اُخرى، فإنّ إنشقاق القمر دليل على إمكانية إضطراب النظام الكوني، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد، إستناداً إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.
قال ابن عبّاس: اجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فلقتين، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي: «يا فلان يا فلان، اشهدوا»(3).
ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية: (إنشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة الشمسية، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اُخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة، وأنكروا كلّ معجزة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدا القرآن الكريم، عندما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال، واجهوا عناءاً في توجيه هذه المعجزة الربّانية، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث ...
والحقيقة أنّ مسألة «إنشقاق القمر» كانت معجزة، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.
لقد كان جديراً بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك، ليعلموا أنّ للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزات عديدة أيضاً.
وإذا اُريد الإستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الإطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول سبحانه: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}.
والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)معجزات عديدة، وشقّ القمر هو إستمرار لهذه المعاجز، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الإستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم: إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».
وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا: (حبل مرير) أي: محكم، والبعض فسّرها بمعنى: الطارئ وغير الثابت، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.
أمّا قوله تعالى: {وكذّبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقر} فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.
إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تكذيب معاجزه ودلائله، وكذلك تكذيب يوم القيامة، هو اتّباع هوى النفس.
إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ، ومن جهة اُخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيداً عن ضوابط المسؤولية، وذلك إشباعاً لرغباتهم وشهواتهم، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسؤوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف ...
نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ ...
وبالنسبة لقوله تعالى: (وكلّ أمر مستقر)، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحاً، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.
ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، فالأعمال الصالحة أوالسيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.
ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والإتّهامات لا تقوى على الإستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه، حيث إنّ كلّ شيء (خير أوشرّ) يسير بالاتجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.
وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاْنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 ) حِكْمَةٌ بَلِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْء نُّكُر ( 6 ) خُشَّعاً أَبْصَرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( 7 )مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَفِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}.
يوم البعث والنشور:
تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.
والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.
يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب إنزجارهم عن القبائح والذنوب: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} وذلك ليلقي عليهم الحجّة.
وبناءً على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين، وما يوجد من نقصان أو خلل يكمن فيهم، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.
والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الاُمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.
ويضيف تعالى: {حكمة بالغة فما تغن النذر} فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة، إلاّ أنّها لا تفيد أهل العناد(4) (5).
تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل»، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة، وإلاّ فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الاُمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة ... كلّ هذه الاُمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.
الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على إستعداد لقبول الحقّ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف، وهو الدعوة إلى الحساب، حيث يقول سبحانه: {فتولّ عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر}(6).
وعلى هذا تكون عبارة: (يوم يدع الداع) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة: {فتولّ عنهم}. لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى: {فتولّ عنهم} جاءت بصيغة الأمر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عندما يدعوهم الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّاً.
وهنا يثار السؤال التالي: هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عندما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟
ذكر المفسّرون إحتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52]، يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.
أمّا المراد من (شيء نكر)(7) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوماً من حيث وقته قبل قيام الساعة، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم، أو جميع هذه الاُمور، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.
وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة: {خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنّهم جراد منتشر}.
نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.
والتشبيه هنا بـ (الجراد المنتشر) لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه، كما هي حركة إنتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والإضطراب خلافاً للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو، مضافاً إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.
نعم، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله تعالى: { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]
والحقيقة أنّ هذا التشبيه هوما ورد أيضاً في الآية (4) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه: { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] .
وأمّا قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (اهطاع) أي مدّ الرقبة، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.
وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين، لذا يضيف سبحانه معبّراً عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله: ({يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8].
والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده الباريء عزّوجلّ بقوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.
مسألة :
لماذا كان يوم القيامة يوماً عسيراً؟:
ولماذا لا يكون عسيراً؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة، وخاصّة عندما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها، سواء كانت صالحة أم طالحة: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 16] .
ومن جهة ثالثة، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة، و الإعتذار عن التقصير، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اُخرى إلى الحياة يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].
ونقرأ كذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27] . ولكن هيهات.
ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تُنسيى الاُمّهات أولادها، وتسقط الحوامل أجنّتهن، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد، قال تعالى: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] .
والدليل على إضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالإفتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم، قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى } [المعارج: 11 - 15] .
إذاً، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الاُخرى المهولة التي وردت في آيات اُخرى أن يكون ذلك اليوم يوماً مريحاً وبعيداً عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص367-380.
2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص29.
3 ـ ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اُخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.
4 ـ (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).
5 ـ نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الاُمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمناً فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست إستفهامية.
6 ـ في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.
7 ـ (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|