أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2017
6357
التاريخ: 28-9-2017
2740
التاريخ: 28-9-2017
3120
التاريخ: 30-9-2017
2437
|
قال تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُو كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 18 - 32].
قال سبحانه {كذبت عاد} أي بالرسول الذي بعثه الله إليهم وهو هود (عليه السلام) فاستحقوا الهلاك فأهلكهم {فكيف كان عذابي} لهم {ونذر} أي وإنذاري إياهم ثم بين كيفية إهلاكهم فقال {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا} أي شديدة الهبوب عن ابن زيد وقيل باردة عن ابن عباس وقتادة من الصر وهو البرد {في يوم نحس} أي في يوم شؤم {مستمر} أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسته سبع ليال وثمانية أيام حتى أتت عليهم ومستمر من صفة اليوم أي يوم مستمر ضرره عام هلاكه وقيل هو نعت للنحس أي استمر بهم العذاب والنحس في الدنيا حتى اتصل بالعقبى قال(2) الزجاج وقيل أنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور رواه العياشي بالإسناد عن أبي جعفر (عليه السلام) {تنزع الناس} أي تقتلع هذه الريح الناس ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدق رقابهم فيصيرون {كأنهم أعجاز نخل منقعر} أي أسافل نخل منقلع لأن رءوسهم سقطت عن أبدانهم عن مجاهد وقيل معناه تنزع الناس من حفر حفروها ليمتنعوا بها عن الريح وقيل معناه تنزع أرواح الناس عن الحسن {فكيف كان عذابي ونذر} وهو تعظيم للعذاب النازل بهم وتخويف لكفار مكة .
ثم أقسم سبحانه فقال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} قد فسرناه وقيل أنه سبحانه إنما أعاد ذكر التيسير لينبىء أنه يسره على كل حال وكل وجه من وجوه التيسير فمن الوجوه التي يسر الله تعالى بها القرآن هو أن أبان عن الحكم الذي يعمل عليه والمواعظ التي يرتدع بها والمعاني التي تحتاج إلى التنبيه عليها والحجج التي يميز بها بين الحق والباطل عن علي بن عيسى {كذبت ثمود بالنذر} أي بالإنذار الذي جاءهم به صالح ومن قال إن النذر جمع نذير قال معناه أنهم كذبوا الرسل بتكذيبهم صالحا لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع لأنهم متفقون في الدعاء إلى التوحيد وإن اختلفوا في الشرائع.
{فقالوا أ بشرا منا واحدا نتبعه} أي أ نتبع آدميا مثلنا وهو واحد {إنا إذا لفي ضلال} أي نحن إن فعلنا ذلك في خطإ وذهاب عن الحق {وسعر} أي وفي عناء وشدة عذاب فيما يلزمنا من طاعته عن قتادة وقيل في جنون عن ابن عباس في رواية عطاء والفائدة في الآية بيان شبهتهم الركيكة التي حملوا أنفسهم على تكذيب الأنبياء من أجلها وهي أن الأنبياء ينبغي أن يكونوا جماعة وذهب عليهم أن الواحد من الخلق يصلح لتحمل أعباء الرسالة وإن لم يصلح له غيره من جهة معرفته بربه وسلامة ظاهره وباطنه وقيامه بما كلف من الرسالة {أ ألقي الذكر عليه من بيننا} هذا استفهام إنكار وجحود أي كيف ألقي الوحي عليه وخص بالنبوة من بيننا وهو واحد منا {بل هو كذاب} فيما يقول {أشر} أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بالنبوة.
ثم قال سبحانه {سيعلمون غدا من الكذاب الأشر} وهذا وعيد لهم أي سيعلمون يوم القيامة إذا نزل بهم العذاب أ هو الكذاب أم هم في تكذيبه وهو الأشر البطر أم هم فذكر مثل لفظهم مبالغة في توبيخهم وتهديدهم وإنما قال {غدا} على وجه التقريب على عادة الناس في ذكرهم الغد والمراد به العاقبة قالوا إن مع اليوم غدا {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم} أي نحن باعثو الناقة بإنشائها على ما طلبوها معجزة لصالح وقطعا لعذرهم وامتحانا واختبارا لهم وهاهنا حذف وهو أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثم تعود عليهم بمثله لبنا فقال سبحانه إنا باعثوها كما سألوها فتنة لهم عن ابن عباس {فارتقبهم} أي انتظر أمر الله فيهم وقيل فارتقبهم أي انتظر ما يصنعون.
{واصطبر} على ما يصيبك من الأذى حتى يأتي أمر الله فيهم {ونبئهم} أي أخبرهم {أن الماء قسمة بينهم} يوم للناقة ويوم لهم {كل شرب محتضر} أي كل نصيب من الماء يحضره أهله لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة تحضره الناقة وفي يومهم يحضرونه هم وحضر واحتضر بمعنى واحد وإنما قال قسمة بينهم تغليبا لمن يعقل والمعنى يوم لهم ويوم لها وقيل إنهم كانوا يحضرون الماء إذا غابت الناقة ويشربونه وإذا حضرت حضروا اللبن وتركوا الماء لها عن مجاهد {فنادوا صاحبهم} أي دبروا في أمر الناقة بالقتل فدعوا واحدا من أشرارهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة {فتعاطى فعقر} أي تناول الناقة بالعقر فعقرها وقيل أنه كمن لها في أصل صخرة فرماها بسهم فانتظم(3)
به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها وكان يقال له أحمر ثمود وأحيمر ثمود قال الزجاج والعرب تغلط فتجعله أحمر عاد فتضرب به المثل في الشؤم قال زهير :
وتنتج لكم غلمان أشأم كلهم *** كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
{فكيف كان عذابي ونذر} أي فانظر كيف أهلكتهم وكيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم {إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة} يريد صيحة جبرائيل (عليه السلام) عن عطاء وقيل الصيحة العذاب {فكانوا كهشيم المحتظر} أي فصاروا كهشيم وهو حطام الشجر المنقطع بالكسر والرض الذي يجمعه صاحب الحظيرة الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها من برد الريح والمعنى أنهم بادوا وهلكوا فصاروا كيبيس الشجر المفتت(4) إذا تحطم عن ابن عباس وقيل معناه صاروا كالتراب الذي يتناثر من الحائط فتصيبه الرياح فيتحظر مستديرا عن سعيد بن جبير .
ثم أقسم سبحانه فقال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} قال قتادة أي فهل من طالب علم يتعلم.
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص316-320.
2- وفي نسخة : ((قاله)).
3- انتظم الصيد : طعنه ، او رماه حتى ينفذه.
4- وفي نسخة : ((المتفتت)) .
{كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ } ؟ . عاد قوم هود كذبوا نبيهم ، فأخذهم اللَّه بالعذاب الأليم ، وبيّن نوع هذا العذاب بقوله : { إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ }. أرسل سبحانه عليهم ريحا باردة عنيفة في يوم عسير وخطير ، فلقد استمرت ريح العذاب في هذا اليوم حتى أفنتهم عن آخرهم {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} . اقتلعتهم الريح الصرصر من أماكنهم ، وألقت بهم صرعى تماما كأسافل نخل اقتلعت من الأرض {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ}؟ . كرر سبحانه هذا السؤال مبالغة في التحذير والانذار {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ؟ . أنظر الآية 17 من هذه السورة فالنص والتفسير واحد .
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} . ثمود قوم صالح . وجمع سبحانه النذر مع ان الذي كذبوه كان نذيرا واحدا ، وهو صالح لأن تكذيب أي نبي هو تكذيب لجميع الأنبياء لوحدة الرسالة والمرسل {فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} ؟ صالح منا وفينا . . وعرفناه صغيرا وكبيرا . . فكيف نتبعه ؟ ولا يتبعه ويصدقه إلا ضال أو مجنون . . أجل ، لوكان له مال وعبيد وإماء لهان الخطب وكان لتصديقه وجه {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا} ؟ مستحيل . . كيف وهو واحد منا ؟ {ولَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ} - 34 المؤمنون .
{ بَلْ هُو كَذَّابٌ أَشِرٌ } . ويكفي في الدلالة على كذبه انه واحد منهم . . هذا هو منطقهم . . إذن ، فالمسألة مسألة أشخاص وأفراد ، لا مسألة حق ومبادئ . .
فلا بدع ، فهذا هو منطق أرباب المناصب والمكاسب في كل زمان ومكان . . وأيضا منطق أهل الجهل والتقليد .
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} . هل هو صالح أو الذين كذبوه ؟ .
أجل ، سيعلمون عما قريب انهم هم المفترون البطرون عند ما يمتحنهم اللَّه بالناقة ، فيعقرونها ، ويحل عليهم غضب من ربهم وعذاب مهين {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ } ابتلاء وامتحانا يتميز به الخبيث من الطيب {فَارْتَقِبْهُمْ واصْطَبِرْ} انتظر قليلا يا صالح ، واصبر على أذاهم ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والهوان .
{ونَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} . أخبرهم ان الماء مناصفة بينهم وبين الناقة . . هم يحضرون يوما يستوفون فيه نصيبهم من الماء ، وتحضر هي يوما لنفس الغرض {فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ} . لم ترضهم قسمة الماء هذه فدعوا أشقى رجل فيهم ليعقر الناقة ، فلبى الشقي الدعوة ، قال تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها} - 12 الشمس . فعقر الناقة ، ووقع العذاب . .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : {فتعاطى} ما ذا أراد به ؟ . فمن قائل : المراد ان الشقي شرب الخمر ثم عقر الناقة . وقائل : انه حمل آلة العقر وأقبل على الناقة وعقرها . . وغير بعيد أن يكون المراد بالتعاطي هنا الاقدام بدون اكتراث .
{فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ} ؟ . كان مدمرا ، والتكرار مبالغة في التحذير والانذار { إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} . أخذتهم صيحة العذاب فأصبحوا كفتات النبات اليابس تذروه الرياح . وقال الرازي :
(استعمل الهشيم كثيرا في الحطب المكسر اليابس) . وهذا الهشيم يحظره صاحب الحظيرة لماشيته ، وعليه يكون وصف الهشيم بالمحتظر مجازا لا حقيقة {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . وعسى أن ينتفع بهذا التكرار من ضل سواء السبيل . وتقدمت قصة هود وصالح في سورة هود وغيرها .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص195-196.
قوله تعالى: {كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر} شروع في قصة أخرى من القصص التي فيها الإزدجار ولم يعطف على ما قبلها - ومثلها القصص الآتية - لأن كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر والردع والعظة لو اتعظوا بها.
وقوله: {فكيف كان عذابي ونذر} مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله: {إنا أرسلنا} إلخ، وليس مسوقا للتهويل وتسجيل شدة العذاب وصدق الإنذار كسابقه وإلا لتكرر قوله بعد: {فكيف كان} إلخ، كذا قيل وهو وجه حسن.
قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر} بيان لما استفهم عنه في قوله: {فكيف كان عذابي ونذر} والصرصر - على ما في المجمع، - الريح الشديدة الهبوب، والنحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، ومستمر صفة لنحس، ومعنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة والشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم ولا نجاة.
والمراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] ، وفي موضع آخر: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7].
وفسر بعضهم النحس بالبرد.
قوله تعالى: {تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} فاعل {تنزع} ضمير راجع إلى الريح أي تنزع الريح الناس من الأرض، وأعجاز النخل أسافله، والمنقعر المقلوع من أصله، والمعنى ظاهر، وفي الآية إشعار ببسطة القوم أجساما.
قوله تعالى: {فكيف كان عذابي - إلى قوله – مدكر} تقدم تفسير الآيتين.
كلام في سعادة الأيام ونحوستها والطيرة والفأل في فصول :
1 - في سعادة الأيام ونحوستها:
نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر ولا يكون الأعمال أو نوع خاص من الأعمال فيه مباركة لعاملها، وسعادته خلافه.
ولا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة ولا نحوسته وطبيعة الزمان المقدارية متشابهة الأجزاء والأبعاض، ولا إحاطة لنا بالعلل والأسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث وكينونة الأعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل وأسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، ولذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لأثره حتى يعلم أن الأثر أثره وهو غير معلوم في المقام.
ولما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة والنحوسة كما لم يكن سبيل إلى الإثبات وإن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة.
هذا بحسب النظر العقلي.
وأما بحسب النظر الشرعي ففي الكتاب ذكر من النحوسة وما يقابلها، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } [القمر: 19] ، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] ، لكن لا يظهر من سياق القصة ودلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة والشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا وهو سبع ليال وثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الأسابيع وهو ظاهر وإلا كان جميع الزمان نحسا، ولا بدوران الشهور والسنين.
وقال تعالى: { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2، 3] ، والمراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، وظاهر أن مباركة هذه الليلة وسعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لأمور عظام من الإفاضات الباطنية الإلهية وأفاعيل معنوية كإبرام القضاء ونزول الملائكة والروح وكونها سلاما، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5].
ويئول معنى مباركتها وسعادتها إلى فضل العبادة والنسك فيها وغزارة ثوابها وقرب العناية الإلهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة والكبرياء.
وأما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد والنحس من أيام الأسبوع ومن أيام الشهور العربية ومن أيام شهور الفرس ومن أيام الشهور الرومية، وهي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث(2) أكثرها ضعاف من مراسيل ومرفوعات وإن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث إسنادها.
أما الروايات العادة للأيام النحسة كيوم الأربعاء والأربعاء لا تدور(3) وسبعة أيام من كل شهر عربي ويومين من كل شهر رومي ونحو ذلك، ففي كثير منها وخاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الأسبوع وأيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهادة الحسين (عليه السلام) وإلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار ونزول العذاب بأمة كذا وخلق النار وغير ذلك.
ومعلوم أن في عدها نحسة مشئومة وتجنب اقتراب الأمور المطلوبة وطلب الحوائج التي يلتذ الإنسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى وتقوية للروح الدينية وفي عدم الاعتناء والاهتمام بها والاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق وهتكا لحرمة الدين وإزراء لأوليائه فتئول نحوسة هذه الأيام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل وأسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الأيام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتني بأمرها.
وأيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شيء من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الأيام كما عن مجالس ابن الشيخ، بإسناده عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري (عليه السلام) في حديث: قلت: يا سيدي في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس والمخاوف فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة وسباسب(4) البيداء الغائرة بين سباع وذئاب وأعادي الجن والإنس لآمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عز وجل وأخلص في الولاء لأئمتك الطاهرين وتوجه حيث شئت واقصد ما شئت. الحديث. ثم أمره (عليه السلام) بشيء من القرآن والدعاء أن يقرأه ويدفع به النحوسة والشأمة ويقصد ما شاء.
وفي الخصال، بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال: رأيت أبا إبراهيم (عليه السلام) يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال: أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي واحتجم.
وفي الخصال، أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته. وكتب إليه مرة أخرى يسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من احتجم في يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة، ووقي من كل عاهة، ولم(5) تخضر محاجمه.
وفي معناها ما في تحف العقول،: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمه فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك. فقال (عليه السلام) لي: يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟. قال الحسن: فأثاب إلى عقلي وتبينت خطئي فقلت: يا مولاي أستغفر الله. فقال: يا حسن ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبدا، وهي توبتي يا بن رسول الله. قال: ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. أ ما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟ قلت: بلى يا مولاي. قال: لا تعد ولا تجعل للأيام صنعا في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي.
والروايات السابقة - ولها نظائر في معناها - يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الأيام النحسات هو تطير عامة الناس بها وللتطير تأثير نفساني كما سيأتي، وهذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الإنسان على ذلك، وبالالتجاء إلى الله سبحانه والاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.
وحمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الأيام على التقية، وليس بذاك البعيد فإن التشاؤم والتفاؤل بالأزمنة والأمكنة والأوضاع والأحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شيء كثير عند الأمم والطوائف المختلفة على تشتتهم وتفرقهم منذ القديم إلى يومنا وكان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الأول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسع لأحد أن يردها كما في كتاب المسلسلات، بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الأربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي عليا يقول: سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن آخر الأربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.
وأما الروايات الدالة على الأيام السعيدة من الأسبوع وغيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الإشارة في الأخبار الدالة على نحوستها من الوجه الأول فإن في هذه الأخبار تعليل بركة ما عده من الأيام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثته وكما ورد: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا فقال: اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها، وما ورد: أن الله ألان الحديد لداود (عليه السلام) يوم الثلاثاء، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخرج للسفر يوم الجمعة، وأن الأحد من أسماء الله تعالى.
فتبين مما تقدم على طوله أن الأخبار الواردة في سعادة الأيام ونحوستها لا تدل على أزيد من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا وقبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، وأما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة واختصاصه بخواص تكوينية عن علل وأسباب طبيعية تكوينية فلا، وما كان من الأخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أولا اعتماد عليه.
2 - في سعادة الكواكب ونحوستها
وتأثير الأوضاع السماوية في الحوادث الأرضية سعادة ونحوسة.
الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الأيام ونحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شيء من ذلك كسعادة الشمس والمشتري وقران السعدين ونحوسة المريخ وقران النحسين والقمر في العقرب.
نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الأرضية ارتباطا بالأوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت والسيارات، وغيرهم يرى ذلك بين الحوادث وبين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت وأوردوا لأوضاعها المختلفة خواص وآثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره.
والقوم بين قائل بأن الأجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية، وقائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية، أوهي معدات لفعله تعالى وهوالفاعل للحوادث أوأن الكواكب وأوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية ولا إعداد، أوأنه لا شيء من هذه الارتباطات بينها وبين الحوادث حتى على نحوالعلامية وإنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي، كذا.
وشيء من هذه الأحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق وربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص والحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الأوضاع السماوية والحوادث الأرضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يصدق ذلك كذلك.
وعلى هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا وأما أصل ارتباط الحوادث والأوضاع السماوية والأرضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.
وأما القول بكون الكواكب أو الأوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل بكونها ذوات نفوس ناطقة أولم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.
وأما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا ونحسا وتصديقا وتكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام: منها: ما يدل بظاهره على تسليم السعادة والنحوسة فيها كما في الرسالة الذهبية، عن الرضا (عليه السلام): اعلم أن جماعهن والقمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل وخير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر.
وفي البحار، عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى الخبر، وفي كتاب النجوم، لابن طاووس عن علي (عليه السلام): يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب.
ويمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الأمر بالصدقة لدفع النحوسة كما في نوادر الراوندي، بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث: إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، ويمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي والحادثة الأرضية بنحو الاقتضاء.
ومنها: ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث والنهي الشديد عن الاعتقاد بها والاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة،: المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار.
ويظهر من أخبار أخر تصدقها وتجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها والبناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم.
ومنها: ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع وكثيره لا يدرك كما في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها وهو يعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني، وإن كانت لا تضر بديني فو الله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك وقليله لا ينتفع به.
الخبر.
وفي البحار، عن كتاب النجوم لابن طاووس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم حق هي؟ قال لي: نعم فقلت له: وفي الأرض من يعلمها؟ قال: نعم وفي الأرض من يعلمها،: وفي عدة من الروايات: ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند وأهل بيت من العرب: وفي بعضها: من قريش.
وهذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الأوضاع والأحكام ارتباطا ما في الجملة.
نعم ورد في بعض هذه الروايات: أن الله أنزل المشتري على الأرض في صورة رجل فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له انظر أين المشتري؟ فقال: ما أراه في الفلك وما أدري أين هو؟ فنحاه وأخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ وقال: انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناك.
الخبر، وهو أشبه بالموضوع.
3 - في التفاؤل والتطير
وهما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير وترقبه وهو التفاؤل أو على الشر وهو التطير وكثيرا ما يؤثران ويقع ما يترقب منهما من خير أوشر وخاصة في الشر وذلك تأثير نفساني.
وقد فرق الإسلام بين التفاؤل والتطير فأمر بالتفاؤل ونهى عن التطير، وفي ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا.
أما التفاؤل ففيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تفاءلوا بالخير تجدوه، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه(6).
وأما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الأنبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لأنبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون، وأجاب عن ذلك أنبياؤهم بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا ولا الباطل حقا، وأن الأمر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير والشر والسعادة والشقاء قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [يس: 18، 19] ، أي ما يجر إليكم الشر هو معكم لا معنا، وقال: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [النمل: 47] ، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا ومن معي فليس لنا من الأمر شيء.
وقد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة وفي دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل والدعاء، وهي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية ففي الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبوعبد الله (عليه السلام): الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا.
ودلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة، ومثله الحديث المروي من طرق أهل السنة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق.
وفي معناه ما في الكافي، عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كفارة الطيرة التوكل.
الخبر وذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشيء أثر حتى يتضرر به، وفي معناه ما ورد من طرق أهل السنة على ما في نهاية ابن الأثير،: الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل.
وفي المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والأتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك(7).
ويلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الأمور المعدودة عند العامة مشئومة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر وغير ذلك وقد وردت في النهي عن التطير بها والتوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة، وفي النبوي المروي من طرق الفريقين: لا عدوى(8)، ولا طيرة، ولا هامة، ولا شؤم، ولا صفر، ولا رضاع بعد فصال، ولا تعرب بعد هجرة، ولا صمت يوما إلى الليل، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يتم بعد إدراك.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص61-69.
2- أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمه.
3- اربعاء لا تدور هي آخر اربعاء الشهر.
4-السباسب ، جمع سبسب ، المفازة.
5- هذه الجملة اشارة الى نفي ما في عدة من الروايات ان من احتجم في يوم الاربعاء او يوم الاربعاء لا تدور اخضرت محاجمه ، وفي بعضها خيف عليه ان تحضر محاجمه.
6- كما ورد في قصة الحديبية ، جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه واله ، قد سهل عليكم امركم . وكما في قصة كتابه الى خسرو وبرويز يدعوه الى الاسلام فمزق كتابه وارسل اليه قبضة من تراب فتفاءل صلى الله عليه واله منه ان المؤمنين سيملكون ارضهم .
7- الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي والخصال والمحاسن والفقيه وما في المتن مطابق لبعض نسخ الفقيه.
8- العدوى مصدر كالأعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه الى غيره كما يقال في الجرب والوباء والجدري وغيرها ، والمراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية ان يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب الى مشيئة الله تعالى ، والهامة ما كان أهل الجاهلية يزعمون ان روح القتيل تصير طائرا يأوي الى قبره ويصيح ويشتكي العطش حتى تؤخذ بثأره ، والصفر هو التصفير عند سقاية الحيوان وغيره.
مصير قوم عاد :
تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وبإختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.
وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى: {كذّبت عاد}.
لقد بذل هود (عليه السلام) غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله، وكان (عليه السلام) كلّما ضاعف سعيه وجهده لإنتشالهم من الكفر والضلال إزدادوا إصراراً ونفوراً ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشىء من الثراء والإمكانات المادية، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة إنغماسهم في الشهوات، جعلتهم صمّ الآذان، عميّ العيون، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد، ولهذا تشير الآية الكريمة بإختصار حيث يقول سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر).
كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه: {إنّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر}.
«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ)، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز، لذا اُطلق عليها (صرصر).
أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الاُفق أحياناً، كما يطلق العرب أيضاً كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).
«مستمر» صفة لـ (يوم) أولـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاُولى هو إستمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] .
وتعني في الحالة الثانية إستمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.
كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعندما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أُمرت بعذابهم والإنتقام منهم، كما في قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] .
إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة مورد البحث.
ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: (تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر).
«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.
كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجىء تحت الأرض لحفظ أنفسهم، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اُخرى، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.
«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خَلْفُ أو تحت، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس، ثمّ قُلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.
وللسبب المذكور أعلاه، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله: {فكيف كان عذابي ونكر}.
فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!
وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار الربّاني؟.
والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه: {فكيف كان عذابي ونذر} حيث تكرّرت مرّتين: الاُولى: في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد، والثانية: في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الإختلاف بين قوم عاد والأقوام الاُخرى، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وإنتقاماً، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.
وقوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
العاقبة الأليمة لقوم ثمود:
تكملة للأبحاث السابقة، تتحدّث الآيات الكريمة بإختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.
لقد بذل نبيّهم «صالح» (عليه السلام) أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى.
قال تعالى: {كذّبت ثمود بالنذر}.
قال بعض المفسّرين: أنّ كلمة (نذر) تعني (الأنبياء المنذرين) ولذا فإنّهم يرون بأنّ تكذيب قوم ثمود لنبيّهم صالح (عليه السلام) كان بمثابة تكذيب لكلّ الأنبياء، ذلك أنّ دعوة الأنبياء أجمع هي دعوة واحدة ومنسجمة، لكن الظاهر أنّ (نذر) جاءت هنا جمع (إنذار) وهو الكلام الذي يتضمّن التهديد، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاً (عليهم السلام).
ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود: {فقالوا أبشراً منّا واحداً نتّبعه، إنّا إذاً لفي ضلال وسعر}.
نعم، إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزاً عن الإستجابة لدعوة الأنبياء (عليهم السلام)، لقد قالوا: إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ إمتيازات علينا ليصبح زعيماً وقائداً نطيعه ونتّبعه، كما لا يوجد سبب لإتّباعه.
وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالّة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا، ولذا لا يمكن أن يكونوا أنبياء إلهيين.
وإستفاد قسم آخر من المفسّرين من تعبير (واحداً) أنّ قوم صالح كانوا ينظرون إلى نبيّهم أنّه شخص (عادي) وليس له مال وفير ولا نسب رفيع يمتاز به عليهم.
كما يفسّر البعض كلمة (واحداً) أنّه شخص واحد لا يمتلك العمق والإمتداد الإجتماعي الذي يتطلّبه الموقع القيادي في ذلك العصر، حيث النصرة والمؤازرة.
وهنالك رأي ثالث يذهب إلى أنّ المقصود بكلمة (واحداً) ليس هو الواحد العددي، بل مرادهم الواحد النوعي، أي انّه فرد من نوعنا وجنسنا ونوع البشر لا يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية حيث مقتضى ضرورة التبليغ للرسالات السماوية ـ حسب رأيهم ـ أن يكون النّبي أو الرّسول (ملكاً).
وطبعاً يمكن الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة ..
وعلى كلّ حال، فإنّ إدّعاءات قوم صالح كانت واهية وغير منطقية.
(سعر) على وزن (حُمُر) جمع سعير، وفي الأصل بمعنى إشتعال النار وهيجانها، وفي بعض الأحيان بمعنى (جنون) لأنّ الإنسان المجنون يكون في حالة هيجان خاصّة، لذا يقال في بعض الأحيان ناقة مسعورة.
ويحتمل أنّ قوم ثمود أخذوا هذا التعبير من نبيّهم (صالح) (عليه السلام) حيث كان يقول لهم: إذا لم تتخلّوا عن عبادة الأصنام وتستجيبون إلى دعوة الله فإنّكم في «ضلال وسعر»، وكان ردّهم: {أبشراً منّا واحداً نتّبعه إنّا إذاً لفي ضلال وسُعُر} وعلى كلّ حال فإنّ ذكر كلمة (سعر) بصيغة الجمع جاءت هنا للتأكيد والإستمرار، سواء كان معناها الجنون أو إشتعال النار.
وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون: إذا اُريد نزول الوحي على إنسان، فلماذا اختّص بصالح من بيننا، مع وجود الشخصيات الأكثر مالا والأقوى إعتباراً: {أاُلقي الذكر عليه من بيننا}.
وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكّة، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة النّبي بأقوال مماثلة: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } [الفرقان: 7] .
وتارةً يقولون: { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
ثمّ تساءلوا: إذا قدّر لبشر أن يتصدّى لمهمّة الرسالة الإلهيّة، فلماذا كان الإختيار لأشخاص مغمورين ليس لهم ظهير من عشيرة ولا كثرة من مال ...
هذه الإشكالات التي تحكي السطحية في التفكير كانت تتناقلها وتتداولها أجيال المشركين جيلا بعد جيل للتشكيك في الرسالات الإلهية، وذلك لتصوّرهم أنّ من كان خلال إفتراضهم أنّ من يتصدّى لهذه المهمّة لابدّ أن يكون ذا قوّة وقوم ومال ونسب وجاه ومنصب فهو شخصية مهمّة، وهذه الاُمور تدلّ على شخصية وكرامة الإنسان، في حين أنّ أكثر العناصر الظالمة والمتجبّرة هي المتّصفة بالصفات السابقة.
ويمكن تفسير الآية أيضاً ـ كما إختاره بعض المفسّرين ـ على ضوء التساؤلات التي أطلقها قوم ثمود والتي تتركّز بما يلي: ما هي علّة نزول الوحي على صالح (عليه السلام)؟ ولماذا لم ينزل علينا جميعاً؟، وما هي المميّزات التي إختصر بها صالح (عليه السلام) ليتميّز علينا بهذا الخصوص!؟ وهذا المعنى ورد أيضاً في سورة المدثر، الآية 52 حيث يقول سبحانه في ذلك: (بل يريد كلّ امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة).
ثمّ تختتم الآية بقوله سبحانه: {بل هو كذّاب أشر} وذلك إتّهاماً لصالح (عليه السلام)بالكذب فيما ادّعاه من إختصاص من الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كلّ اُمورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته ..
(أشِر) وصف من مادّة (أشر) على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحدّ.
ويردّ الباريء عزّوجلّ عليهم بصورة قاطعة بقوله: {سيعلمون غداً من الكذّاب الأشر}.
وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رماداً، وبعد أن يجازيهم الله بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء الله المقرّبين، وسيعلمون أيضاً أنّ هذه الإفتراءات هي أحقّ بهم وألصق.
ومعلوم أنّ المراد من «غدا» هو المستقبل القريب، وإنّه حقّاً لتعبير رائع.
والسؤال المطروح هنا: في الوقت الذي نزلت هذه الآيات على قوم ثمود كان العذاب قد وقع عليهم مجازاة لأعمالهم، فما معنى (سيعلمون) مع أنّهم قد هلكوا؟.
هنالك إجابتان على هذا السؤال:
الاُولى: إنّ حديث الآيات الكريمة كان موجّهاً للنبي صالح (عليه السلام)، ومن المعلوم أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم حينئذ.
الثّانية: إنّ المقصود من (غداً) هو يوم القيامة الذي سيظهر فيه كلّ شيء بوضوح. (والتّفسير الأوّل هو الأنسب عند ملاحظة الآيات اللاحقة).
وهنا يطرح تساؤل آخر: لماذا قال تعالى: (سيعلمون غداً)؟ في الوقت الذي لمس مشركو قوم ثمود صدق دعوة النّبي صالح (عليه السلام) لما شاهدوه من معجزاته غير القابلة للإنكار؟
ويتّضح الجواب على هذا التساؤل إذا علمنا أنّ للعلم مراتب، ويمكن إنكاره من قبل الآخرين في بعض مراتبه، وقد يصل العلم بهم إلى مرتبة، لا يمكن إنكارها لما تمثّله من حقيقة صارخة متجسّدة للعيان، والمقصود هنا من جملة: (سيعلمون غداً) هو العلم الحقيقي الذي لا يمكن إنكاره، والذي هو حقيقة العذاب الذي سيحلّ بقوم ثمود بصورة لا ريب فيها مطلقاً.
ثمّ يشير سبحانه إلى قصّة «الناقة» التي اُرسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالح (عليه السلام) حيث يقول: {إنّا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر}.
(الناقة) اُنثى البعير، وهي ليست كبقيّة النوق لما تتّصف به من خصوصيات خارقة للعادة، وطبقاً للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجّة دامغة للمنكرين والمعاندين.
معنى «الفتنة» ـ كما مرّ في بحث سابق ـ هو التمحيص والإختبار، وإكتشاف مدى الإخلاص والصفاء والإستقامة عند الإنسان.
ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جعلوا أمام إمتحان عسير، حيث يستعرض سبحانه هذا الإختبار لهم بقوله: {ونبئّهم أنّ الماء قسمة بينهم كلّ شرب محتضر}(2)يوم لهم ويوم للناقة.
ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، ولكن كما يذكر الكثير من المفسّرين فإنّ ناقة صالح (عليه السلام) كانت تشرب كلّ الماء يوم يكون شربها، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه، ولذلك فإنّهم إقترحوا حلا وهو: أن يكون الماء يوماً لهم وآخر للناقة.
وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء القوم وقعوا في مضيقة من ناحية الماء، ولم يطيقوا وجود الناقة ومشاطرتها لمائهم يوماً كاملا خصوصاً ما يحتمله بعض المفسّرين من شحّة الماء في القرية (مع العلم أنّ هذا لا يتناسب مع ما ذكر في الآيات (146 ـ 148) من هذه السورة، حيث المستفاد من هذه الآيات أنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض مليئة بالبساتين والعيون).
وعلى كلّ حال فإنّ قوم ثمود المتمردّين عقدوا العزم على قتل الناقة، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم صالح (عليه السلام) من مسّها بسوء، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك.
ونظراً لإستخفافهم بهذا التحذير {فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها} يقول الله سبحانه: (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر).
ويمكن أن يكون المراد بـ (صاحب) أحد رؤساء ثمود، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ بـ (قدارة بن سالف)(3).
و(تعاطى) في الأصل بمعنى تناول الشيء، أو تبنّى الموضوع وتقال أيضاً عند إنجاز الأعمال المهمّة والخطيرة وكذلك الأعمال الشاقّة، أو العمل المقابل بعوض.
كلّ هذه التفاسير تجمّع في الآية مورد البحث، لأنّ الإقدام على القتل يستدعي جرأة وخسارة كبيرة، كما أنّه عمل شاقّ، وكذلك يستلزم اُجرة في الغالب.
(عَقَرَ) من مادّة (عقر) على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر، وإذا إستعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.
والجدير بالذكر أنّ قتل الناقة نسب لشخص واحد في هذه الآية، في الوقت الذي يلاحظ نسبة القتل في سورة (الشمس) لقوم ثمود جميعاً حيث يقول سبحانه: (فعقروها)، ويمكن تعليل هذا الأمر بأنّ فعل الشخص القاتل كان نيابة عن الجميع وبرضاهم، وكما نعلم فإنّ الذي يرضى بفعل قوم يكون شريكاً لهم فيه(4).
وجاء في بعض الرّوايات أنّ (قدارة) كان قد شرب مسكراً، وقد أقدم على هذا العمل القبيح والجناية الكبيرة وهو في هذه الحالة.
وفي طريقة قتل الناقة أقوال كثيرة، حيث يذهب البعض إلى أنّ قتلها كان بالسيف، ويقول البعض الآخر: إنّ (قدارة) قد نصب لها كميناً وراء صخرة وضربها بالسهم أوّلا ثمّ هجم عليها بالسيف.
وتأتي الآية الكريمة اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم، حيث يقول سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر) ثمّ وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردّين المعاندين حيث يضيف سبحانه: {إنّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر}.
«الصيحة» هنا تعني الصوت العظيم الذي يأتي من السماء، ويحتمل أن يكون إشارة للصاعقة المخيفة التي ضربت قريتهم، حيث يقول سبحانه: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت: 13]
(الهشيم) من مادّة (هشم) على وزن «حسم» وفي الأصل بمعنى إنكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات، وتطلق عادة على النباتات اليابسة المتكسّرة التي يهيؤها الرعاة لمواشيهم بعد سحقها، كما تطلق أحياناً على النباتات اليابسة المسحوقة بأرجل الحيوانات في الحضيرة.
(محتظر) في الأصل من مادّة (حظر) على وزن (حفز) بمعنى المنع، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها، ومفردها (الحظيرة)، و«محتظر» على وزن محتسب ـ هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.
والإستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّاً ومعبّر للغاية، حيث لم يرسل الله لهم جيوشاً من السماء أو الأرض للتنكيل بهم، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة، فكانت صاعقة رهيبة، أخمدت الأنفاس، وكان إنفجاراً هائلا حطّم كلّ شيء في قريتهم، فأصبحت بيوتهم وقصورهم كحظيرة المواشي، وأجسادهم المحطّمة كالنبات اليابس المرضوض المهشّم.
إنّ إستيعاب هذا اللون من العذاب كان صعباً وعسيراً للأقوام السالفة، ولكنّه يسير بالنسبة لنا، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات، حيث أنّها تحطّم كلّ شيء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.
ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة العذاب الإلهي التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدّين، وعلى بيوتهم وقصورهم، عسى أن يكون عبرة ودرساً للآخرين، حيث يقول سبحانه: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
وهكذا تنهي الآيات الكريمة هذا المشهد المثير بالتأكيد على ضرورة الإستفادة من هذه الدروس البليغة، حيث التعابير الحيوية الواضحة، والقصص المعبّرة، والإنذارات المحفّزة والتهديدات القويّة.
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص387-400.
2 ـ «محتضر» إسم مفعول من مادّة (حضور) و(شرب) بمعنى السهم والنوبة الخاصّة بالماء، وبناءً على ذلك فإنّ مفهوم جملة (كلّ شرب محتضر) أي أنّ نوبة كلّ شخص من الماء حاضرة له، ولا يحقّ للآخرين الحضور والتزاحم عليها.
3 ـ قدارة على وزن (منارة) ـ كان رجلا قبيح الشكل والسيرة، ومن أكثر الأشخاص شؤماً في التاريخ.
4 ـ كما بيّنا شرح هذا الموضوع تحت عنوان (الإرتباط الرسالي) في الآية 65 سورة هود.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|