أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-9-2017
4631
التاريخ: 26-9-2017
14075
التاريخ: 26-9-2017
10401
التاريخ: 26-9-2017
3776
|
قال تعالى : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 31 - 45].
لما ذكر سبحانه الفناء والإعادة عقب ذلك بذكر الوعيد والتهديد فقال {سنفرغ لكم أيه الثقلان} أي سنقصد لحسابكم أيها الجن والإنس عن الزجاج قال والفراغ في اللغة على ضربين ( أحدهما ) القصد للشيء يقال سأفرغ لفلان أي سأجعله قصدي ( والآخر ) الفراغ من شغل والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن وقيل معناه سنعمل عمل من يفرغ للعمل فيجوده من غير تضجيع فيه وقيل سنفرغ لكم من الوعيد بتقضي أيامكم المتوعد فيها فشبه ذلك بمن فرغ من شيء وأخذ في آخر والشغل والفراغ من صفات الأجسام التي تحلها الأعراض وتشغلها عن الأضداد في تلك الحال ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى مجازا ويدل على أن الثقلين المراد بهما الجن والإنس قوله {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} أي تخرجوا هاربين من الموت يقال نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية.
{من أقطار السماوات والأرض} أي جوانبهما ونواحيهما والمعنى حيث ما كنتم أدرككم الموت {فانفذوا} أي فاخرجوا فلن تستطيعوا أن تهربوا منه {لا تنفذون إلا بسلطان} أي حيث توجهتم فثم ملكي ولا تخرجون من سلطاني فأنا آخذكم بالموت عن عطاء ومعنى السلطان القوة التي سلط(2) بها على الأمر ثم الملك والقدرة والحجة كلها سلطان وقيل {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تخرجون إلا بقدرة من الله وقوة يعطيكموها بأن يخلق لكم مكانا آخر سوى السماوات والأرض ويجعل لكم قوة تخرجون بها إليه فبين سبحانه بذلك أنهم في حبسه وأنه مقتدر عليهم لا يفوتونه وجعل ذلك دلالة على توحيده وقدرته وزجرا لهم عن معصيته ومخالفته وقيل إن المعنى في الآية إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا فإنه لا يمكنكم ذلك {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تعلمونه إلا بحجة وبيان عن ابن عباس وقيل لا تنفذون إلا بسلطان معناه حيث ما شاهدتم حجة الله وسلطانه الذي يدل على توحيده عن الزجاج.
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي بأي نعمة تكذبان؟ أ بإخباره عن تحيركم لتحتالوا له بعمل الطاعة واجتناب المعصية أو بإخباره عنكم إنكم لا تنفذون إلا بحجة لتستعدوا لذلك اليوم {يرسل عليكما شواظ من نار} وهو اللهب الأخضر المنقطع من النار {ونحاس} وهو الصفر المذاب للعذاب عن مجاهد وابن عباس وسفيان وقتادة وقيل النحاس الدخان عن ابن عباس في رواية أخرى وسعيد بن جبير وقيل النحاس المهل عن ابن مسعود والضحاك والمعنى لا تنفذون ولو جاز أن تنفذوا وقدرتم عليه لأرسل عليكم العذاب من النار المحرقة وقيل معناه أنه يقال لهم ذلك يوم القيامة {يرسل عليكما} أي يرسل على من أشرك منكما وقد جاء في الخبر يحاط على الخلق بالملائكة(3) بلسان من نار ينادون {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من} إلى قوله {يرسل عليكما شواظ من نار} وروى مسعدة بن صدقة عن كليب قال كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأنشأ يحدثنا فقال إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد وذلك أنه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن(4) فيك فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس والملائكة ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فيصير الجن والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثم ينادي مناد {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم} الآية فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة.
وقوله {فلا تنتصران} أي فلا تقدران على دفع ذلك عنكما وعن غيركما وعلى هذا فيكون فائدة الآية إن عجز الثقلين عن الهرب من الجزاء كعجزهم عن النفوذ من الأقطار وفي ذلك اليأس من رفع الجزاء بوجه من الوجوه {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي بإخباره إياكم عن هذه الحالة لتتحرزوا عنها أم بغيره من النعم فإن وجه النعمة في إرسال الشواظ من النار والنحاس على الثقلين هوما في ذلك لهم من الزجر في دار التكليف عن مواقعة القبيح وذلك نعمة جزيلة.
{فإذا انشقت السماء} يعني يوم القيامة إذا تصدعت السماء وانفك بعضها من بعض {فكانت وردة} أي فصارت حمراء كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة أو الصفرة فيكون في الشتاء أحمر وفي الربيع أصفر وفي اشتداد البرد أغبر سبحان خالقها والمصرف لها كيف يشاء والوردة واحدة الورد فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بذلك وقيل أراد به وردة النبات وهي حمراء وقد تختلف ألوانها ولكن الأغلب في ألوانها الحمرة فتصير السماء كالوردة في الاحمرار.
ثم تجري {كالدهان} وهو جمع الدهن عند انقضاء الأمر وتناهي المدة قال الحسن هي كالدهان التي يصب بعضها على بعض بألوان مختلفة قال الفراء شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه وهو قول مجاهد والضحاك وقتادة وقيل الدهان الأديم الأحمر وجمعه أدهنة عن الكلبي وقيل هو عكر الزيت يتلون ألوانا عن عطاء بن أبي رياح.
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وجه النعمة في انشقاق السماء حتى وقع التقرير بها هوما في الإخبار به من الزجر والتخويف في دار الدنيا {فيومئذ} يعني يوم القيامة {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي لا يسأل المجرم عن جرمه في ذلك الموطن لما يلحقه من الذهول الذي تحار له العقول وإن وقعت المسألة في غير ذلك الوقت بدلالة قوله {وقفوهم إنهم مسئولون} وتقدير الآية فيومئذ لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان عن ذنبه وقيل معناه فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان سؤال استفهام ليعرف ذلك بالمسالة من جهته لأن الله تعالى قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ للمحاسبة وقيل إن أهل الجنة حسان الوجوه وأهل النار سود الوجوه فلا يسألون من أي الحزبين هم ولكن يسألون عن أعمالهم سؤال تقريع وروي عن الرضا (عليه السلام) أنه قال {فيومئذ لا يسأل} منكم {عن ذنبه أنس ولا جان} والمعنى أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب في الدنيا عذب عليه في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه.
{يعرف المجرمون بسيماهم} أي بعلامتهم وهي سواد الوجوه وزرقة العيون عن الحسن وقتادة وقيل بأمارات الخزي {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} فتأخذهم الزبانية فتجمع بين نواصيهم وأقدامهم بالغل ثم يسحبون في النار ويقذفون فيها عن الحسن وقتادة وقيل تأخذهم الزبانية بنواصيهم وبأقدامهم فتسوقهم إلى النار والله أعلم {هذه جهنم} أي ويقال لهم هذه جهنم {التي يكذب بها المجرمون} الكافرون في الدنيا قد أظهرها الله تعالى حتى زالت الشكوك فادخلوها ويمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي والأقدام قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم.
{يطوفون بينها وبين حميم آن} أي يطوفون مرة بين الجحيم ومرة بين الحميم فالجحيم النار والحميم الشراب عن قتادة وقيل معناه أنهم يعذبون بالنار مرة ويتجرعون من الحميم يصب عليهم ليس لهم من العذاب أبدا فرج عن ابن عباس والآني الذي انتهت حرارته وقيل الآني الحاضر {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الوجه في ذلك أن التذكير بفعل العقاب والإنذار به من أكبر النعم لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العذاب وحثا وبعثا على فعل ما يستحق به الثواب .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص341-344.
2- في المخطوطة : يتسلط.
3- في نسخة : وبلسان.
4- في نسخة : ((بما)).
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهً الثَّقَلانِ } أي سنحاسبكم ، وهو تهديد ووعيد لمن أذنب وتمرد من الإنس والجان . وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي {سمي الإنس والجان بالثقلين لثقلهما على وجه الأرض} ، وفي الحديث : اني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي سميا بذلك لعظمهما وشرفهما} . {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ . أبقدرته تعالى على البعث والحساب والجزاء أم بماذا ؟ .
والحساب والجزاء من أعظم النعم على الخلق وإلا كان المظلوم أسوأ حالا ومآلا من الظالم .
{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ والأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ} . أبدا لا نجاة لكم من لقاء اللَّه ، ولا مهرب من أرضه وسمائه إلا ان تفروا من اللَّه إلى اللَّه بتوفيق منه إلى التوبة والاقلاع عن الذنب ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : {إِلَّا بِسُلْطانٍ} لأن التوبة والانقطاع إليه تعالى قوة وحصن يقي التائب المخلص من غضب اللَّه وعذابه {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ }؟ أبقدرته عليكم أم بتحذيره وإنذاره أم بغير ذلك ؟ .
{يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ ونُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ} . قالوا : الشواظ لهب بلا دخان ، والنحاس هنا دخان بلا لهب ، ومهما يكن فإن المعنى المحصل من الآية هو الإشارة إلى أهوال الساعة وآلامها ، وان المجرم لا خلاص له من هذه الآلام والأهوال بشفيع ولا ناصر} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ أبعذاب من طغى وبغى أم بماذا ؟ {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ} . تذوب السماء بما فيها من كواكب كما يذوب الدهن على النار ، ويصبح لون هذا السائل كحمرة الورد . . والغرض من هذا التشبيه وما إليه مما جاء في سائر الآيات هو الإشارة إلى خراب الكون ودماره يوم تقوم الساعة } فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟
ومن أظلم وأشقى ممن كذّب بالصدق وتعالى على الحق ؟ .
} فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ ولا جَانٌّ }. وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : {وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} - 24 الصافات إذا فعلنا ذلك تبين لنا ان في يوم القيامة مواقف يسأل الناس في بعضها عما كانوا يعملون ، وفي بعضها لا سؤال ولا جواب بل انتظارا للسؤال والحساب أو بعد الفراغ منه .
انظر تفسير الآية 65 من سورة يس ج 6 ص 321 {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}؟
أ بموقف العرض للحساب أم بموقف الانتظار له ؟ وكلاهما ضنك وأليم ، ما في ذلك ريب . . ولكن الجزاء نعمة من اللَّه حيث {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأَقْدامِ} . يؤخذ مبني للمجهول ، وبالنواصي مفعول نائب عن الفاعل وهم ملائكة العذاب ، والمعنى ان للمجرمين علامات تدل عليهم وتميزهم عن الصالحين ، وفوق ذلك تجمع ملائكة العذاب نواصيهم إلى أقدامهم بالقيود والأغلال ، ويسحبونهم في النار على وجوههم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} من المواعظ والزواجر .
{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} . هذا أبلغ جواب لمن كذّب بعذاب اللَّه ، وهو أن يلقى فيه : {ونَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} - 42 سبأ .
{يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} . ضمير بينها يعود إلى جهنم ، والحميم شراب حار ، أما وصفه بالآن فإنه يوحي بأن هذا الشراب بلغ الغاية والنهاية من الحرارة حتى كأن المجرمين يشربون منه وهو على النار ، والمعنى لا عمل للمجرمين إلا التردد بين الجحيم وشراب الحميم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ .
بعذاب الجحيم أم بشراب الحميم ؟ وكل منهما نعمة من اللَّه لأنه حكم العدل ، وسيف الحق .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص211-213.
هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية وهي نشأة الرجوع إلى الله وجزاء الأعمال ويعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف النشأة الأولى ويعد آلاء الله فيها عليهم.
قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بأمور ثم تركها وقصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماما به.
فمعنى {سنفرغ لكم} سنطوي بساط النشأة الأولى ونشتغل بكم، وتبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم وحسابهم ومجازاتهم بأعمالهم خيرا أوشرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.
ولا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة وكونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة وسعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.
والثقلان الجن والإنس، وإرجاع ضمير الجمع في {لكم} و{إن استطعتم} وغيرهما إليهما لكونهما جمعا ذا أفراد.
قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} إلخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة وهو خطاب تعجيزي.
والمراد بالاستطاعة القدرة، وبالنفوذ من الأقطار الفرار، والأقطار جمع قطر وهو الناحية.
والمعنى: يا معشر الجن والإنس - وقدم الجن لأنهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات والأرض والخروج من ملك الله والتخلص من مؤاخذته ففروا وانفذوا.
وقوله: {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك وليس لكم والسلطان القدرة الوجودية، والسلطان البرهان أو مطلق الحجة، والسلطان الملك.
وقيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات والأرض من أقطارهما، وقد عرفت أن السياق لا يلائمه.
قوله تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الذي لا دخان فيه، ويقرب منه ما في المجمع، أنه اللهب الأخضر المنقطع من النار، والنحاس الدخان وقال الراغب: هو اللهب بلا دخان والمعنى ظاهر.
وقوله: {فلا تنتصران} أي لا تتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء والتخلص عن العناء لسقوط تأثير الأسباب ولا عاصم اليوم من الله.
قوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}أي كانت حمراء كالدهان وهو الأديم الأحمر.
قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب والجزاء تصف حال المجرمين والخائفين مقام ربهم وما ينتهي إليه.
ثم الآية تصف سرعة الحساب وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
والمراد بيومئذ يوم القيامة، والسؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، ولا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ، لأن اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، ويختم على الأفواه في بعضها وتكلم الأعضاء، ويعرف بالسيماء في بعضها.
قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام} في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم؟ فأجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم إلخ، ولذا فصلت الجملة ولم يعطف، والمراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.
وقوله: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، والنواصي جمع ناصية وهي شعر مقدم الرأس، والأقدام جمع قدم، وقوله: {بالنواصي} نائب فاعل يؤخذ.
والمعنى: - لا يسأل أحد عن ذنبه - يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي والأقدام من المجرمين فيلقون في النار.
قوله تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون - إلى قوله - آن} مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، وقال الطبرسي: ويمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي والأقدام قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم.
انتهى.
والحميم الماء الحار، والآني الذي انتهت حرارته والباقي ظاهر.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص93-95.
التحدّي المشروط :
النعم الإلهيّة التي إستعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم، إلاّ أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة، وخصوصيات المعاد، وفي الوقت الذي تحمل تهديداً للمجرمين، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.
يقول سبحانه في البداية: {سنفرغ لكم أيّه الثقلان}(2)(3).
نعم، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حساباً دقيقاً على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.
ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالباً بالتوجّه الجادّ لعمل ما، والإنصراف الكلّي له، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.
إلاّ أنّه إستعمل هنا لله سبحانه، تأكيداً على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيراً أوشرّاً، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير، وعلينا أن نتصوّر كم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.
(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضاً، إلاّ أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادةً لمتاع وحمل المسافرين، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعوراً وعلماً ووعياً له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضاً كما قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة: 2] حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة، إلاّ أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.
التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.
وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اُخرى: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.
وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اُخرى بقوله: {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} للفرار من العقاب الإلهي (فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان) أي بقوّة إلهية، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.
وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل بن زياد المربي للروح: (ولا يمكن الفرار من حكومتك).
«مَعْشَرْ» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة»، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل، فإنّ مصطلح (معشر) يقال: للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.
«أقطار» جمع (قُطْر) بمعنى أطراف الشيء.
«تنفذوا» من مادّة (نفوذ)، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.
وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لإستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات، وقد ورد إختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا، أوكليهما؟
ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به العاصون في ذلك اليوم.
إلاّ أنّ البعض بلحاظ جملة: (لا تنفذون إلاّ بسلطان) إعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في عالم الآخرة أيضاً، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لإختباركم، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.
وفسّرها البعض تفسيراً رابعاً حيث قالوا: إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الإستدلالية.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول:
«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد; {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان} فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(4).
كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضاً.
ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.
والتهديد هنا لطف إلهي أيضاً، فالبرغم من أنّه يحمل تهديداً ظاهرياً، إلاّ أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.
وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية حيث يقول سبحانه: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران}.
«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات، وابن منظور في لسان العرب، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.
و«نحاس» بمعنى الدخان أو(الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.
وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل، ولا مناص إلاّ التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.
ثمّ يضيف سبحانه قوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.
وقوله تعالى : {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)..... } [الرحمن: 37 - 45]
يُعرفُ المجرمون بسيماهم:
تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب، يقول سبحانه في بداية الحديث:{فإذا انشقّت السماء فكانت وردةً كالدهان}(5).
ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّاً في كلّ الوجود، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه; وهي إنشقاق وتناثر الكرات السماوية، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.
(وردة) و(ورد) هو الورد المتعارف، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر، فإنّ معنى الإحمرار يتداعى للذهن منها.
ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى «الخيل الحمر»، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة، وفي الشتاء يحمرّ، ويقتم لونها في البرد الشديد، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارةً يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقاً، وأحياناً أصفر، واُخرى أسود قاتم ومعتم.
«دهان» على وزن (كتاب)، بمعنى الدهن المذاب، وتطلق أحياناً على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية، وغالباً ما تكون لها ألوان متعدّدة، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أوإختلاف لونها.
وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اُخرى من حوادث عالمنا هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلاّ إذا رأيناها.
ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء، ولطف من ألطاف الله سبحانه، يتكرّر هذا السؤال: {فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان}.
وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم، حيث يقول سبحانه: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}.
ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم، فهو يوم البروز، وكلّ شيء يُقرأ في وجه الإنسان.
قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاُخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة، كما ورد في الآية: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] وكما في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92، 93] .
ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّاً، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه، حيث لابدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية، وطبقاً لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفاً، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقاً، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.
كما أنّ بعض المواقف الاُخرى لا يسمح له بالكلام، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس: 65] .
كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(6).
وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(7).
وخلاصة القول: إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها، وكلّ واحدة منها أشدّ رعباً من الاُخرى.
ومرّة اُخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.
نعم إنّه لا يسأل حيث {يعرف المجرمون بسيماهم}(8) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال، واُخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس: 38 - 41] .
ثمّ يضيف سبحانه: (فيؤخذ بالنواصي والأقدام).
«النواصي»: جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الإتّصال والإرتباط، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه، كما تأتي أحياناً كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.
أقدام: جمع «قدم» بمعنى الأرجل.
والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في جهنّم، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!
ومرّة اُخرى يضيف سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.
ثمّ يقول سبحانه: {هذه جهنّم التي يكذّب بها المجرمون}.
وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون بإستمرار في هذه الدنيا. وقيل: إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه: هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.
ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول: {ويطوفون بينها وبين حميم آن}.
«آن» و«آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق، وفي الأصل من مادّة (إنا) على وزن (رِضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.
وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم، حيث يعطى لهم ماء مغلي {أو يصبّ عليهم} ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب جهنّم، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون، قال تعالى: {يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71، 72] .
والتعبير بـ {يطوفون بينها وبين حميم آن} في الآية مورد البحث، يتناسب أيضاً مع هذا المعنى.
ومرّة اُخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ، الذي هو لطف من الله يقول الباريء عزّوجلّ: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص460-467.
2 ـ يجب الإلتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريتين (النور آية 31، والزخرف آية 49) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاُخرى بالألف الممدودة، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.
3 ـ مع كون «الثقلين» تثنية فالضمير في لكم أتى جمعاً وذلك إشارة إلى مجموعتين.
4 ـ تفسير الصافي ص517 وتفسير مجمع البيان ج9 ص205.
5 ـ توجد إحتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية، أم فجائية، أم ظرفية، والظاهر أنّ الإحتمال الأوّل هو الأولى، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا: (فإذا انشقّت السماء فكانت وردةً كالدهان، كانت أهوال لا يطيقها البيان).
6 ـ كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.
7 ـ كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (111).
8 ـ (سيما) في الأصل بمعنى العلامة، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|