إن النزوع نحو تأسيس نظري للمبحث الدلالي العام، كان ولا يزال دأب الدراسات التي تناولت مسألة ”المعنى"، ورمت إلى بلورة أفكارها ضمن رؤى تنظيرية تتوخى الشمولية في الدراسة والعالمية في الأهداف. وإن التراكم الفكري اللغوي منذ مدرسة "براغ" التي ركزت اهتمامها على الصوت والدلالة، ومدرسة "كوبنهاجن" التي اهتمت بدراسة العلامة اللغوية، قد رسم للغويين المحدثين اتجاهاً يكاد يكون واضحاً نحو إرساء علمي لنظرية الدلالة، ولا يمكن في هذا الوضع إغفال الجهد المضني الذي قدمه العالم اللغوي دي سوسير، إذ كانت لأفكاره وآرائه ومنهجه في الدراسة الألسنية، أكبر الأثر في مسار علم الدلالة الحديث.
إن مصطلح "النظرية اللغوية" يدل على اكتمال في الرؤية وحصول النتيجة العلمية، غاية البحث وإطراد في السنن اللغوية، لكن المبحث الدلالي الحديث لم تكتمل حلقاته بعد، فلا زالت توجد الإضافات العلمية التي تقدم تأويلات جديدة لظاهرة لغوية تخص الدلالة، ومع ذلك تأسست نظريات تناولت مسألة "المعنى" من كل جوانبها، مما أدّى إلى تشعب البحث في متعلقات المعنى اللغوية وغير اللغوية، وحاولت تقديم معايير موضوعية تنحسم معها كل قضايا الدلالة موضوع الخلاف بين اللغويين، غير أنها فتحت عوالم أخرى جديدة لتتسع معها رقعة البحث الذي تباينت فيه آراء العلماء في التناول وطرائقه، والتأويل ومعاييره،
ص81
ووجدت بين ذلك أفكار رغم أهميتها إلا أنها لم ترتق إلى مصاف النظرية العلمية، وذلك لافتقارها لصفة الشمولية في التناول ووقوعها أسيرة لمناخ فكري –أيديولوجي- ساد العصر.
الاختلاف في الرؤية التنظيرية بين العلماء يرجع إلى اختلاف في المنهج أو الطريقة المعتمدة في الدراسة، وإذا تأملنا مختلف النظريات الغربية الحديثة التي عكفت على البحث في الدلالة، نلقى أغلبها يتوزع على خمسة حقول تخضع لخمسة مناهج تبناها اللغويون في التنظير: أما المنهج الأول فهو المنهج الشكلي الصوري الذي يصف المدلولات بالنظر إلى الشكل الذي يجمعها في بنية واحدة وهو تفرعها عن أصل واحد. أما المنهج الثاني فهو المنهج السياقي الذي يتم من خلاله تصنيف المدلولات لاعتبارات تركيبة وتعبيرية وأسلوبية. أما المنهج الموضوعي المقامي النفسي فهو المنهج الثالث الذي يحدد معه مدلول اللفظ والخطاب اللغوي، باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه، أما المنهج الرابع فهو منهج الحقول الدلالية المهتم بتحديد البنية الداخلية للمدلول، واعتبار القرابة الدلالية والعلائقية بين المدلولات (المفاهيم)، أما المنهج الخامس فهو منهج التحليل المؤلفاتي الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل اللفظ إلى مؤلفاته وعناصره.
وتجدر الإشارة إلى أن النظريات العربية في أي حقل من حقول العلم والمعرفة، ومنها حقل الدراسة الدلالية، لها مرجعيتها التاريخية والفكرية، وتخضع لتصورات اجتماعية معينة لا يمكن اسقاطها من أي مقاربة علمية، وهو ما حدا ببعض علماء العرب المحدثين إلى الدعوة لضرورة تجديد التراث من داخله دون إغفال "المفاتيح" العلمية الحديثة، ولا بد معها من احتياطات منهجية على النتائج التي نصل إليها. ومع ذلك لا يثنينا شيء عن إجراء اسقاطات منهجية ونظرية واعية على المنظومة المعرفية التراثية، وكون النظريات الغربية استمدت معالم قواعدها وتطبيقاتها من لغات أجنبية غير اللغة العربية، لا يعد مانعا من الاستفادة من أفكارها في تعاملنا مع التراث العربي، ذلك أن "اللغة العربية بصفتها "لغة" تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبة والدلالية) وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(1).
وتحديدا للإطار النظري العام لعلم الدلالة، سنعرض لبعض النظريات التي قدمت معايير أولية لمسألة المعنى وما تفرع عنها وسنقتصر في عرضنا على أهم معالم النظرية وقواعدها وذلك بما يخدم غايات البحث وأهدافه.
ص82
__________________
([1]) عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، ص56.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|