أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-9-2017
755
التاريخ: 17-9-2017
704
التاريخ: 26-8-2017
883
التاريخ: 26-8-2017
983
|
مقدمات ولاية العهد ومراسمه:
1 - عن إبراهيم بن العباس، قال: كانت البيعة للرضا (عليه السلام) لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين (1)، وقيل في التأريخ غير ذلك.
2 - وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): وذكر جماعة من أصحاب الأخبار ورواة السير والآثار وأيام الخلفاء: أن المأمون لما أراد العقد للرضا علي بن موسى (عليه السلام) وحدث نفسه بذلك، أحضر الفضل بن سهل، فأعلمه ما قد عزم عليه من ذلك، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه، ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له المأمون: إني عاهدت الله أنني إن ظفرت بالمخلوع (2) أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض. فلما رأى الحسن والفضل عزيمته على ذلك، أمسكا عن معارضته فيه، فأرسلهما إلى الرضا (عليه السلام) فعرضا ذلك عليه، فامتنع منه، فلم يزالا به حتى أجاب، ورجعا إلى المأمون، فعرفاه إجابته، فسر بذلك، وجلس للخاصة في يوم خميس، وخرج الفضل بن سهل، فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى، وأنه قد ولاه عهده وسماه الرضا (3)، وأمرهم بلبس الخضرة والعود لبيعته في الخميس الآخر، على أن يأخذوا رزق سنة (4).
فلما كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القواد والحجاب والقضاة وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون، ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا (عليه السلام) عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف، ثم أمر ابنه العباس بن المأمون يبايع له أول الناس، فرفع الرضا (عليه السلام) يده فتلقى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة. فقال الرضا (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هكذا كان يبايع، فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت البدر (5) وقامت الخطباء والشعراء، فجعلوا يذكرون فضل الرضا (عليه السلام)، وما كان من المأمون في أمره. ثم دعا أبو عباد بالعباس بن المأمون، فوثب فدنا من أبيه فقبل يده، وأمره بالجلوس، ثم نودي محمد بن جعفر بن محمد، وقال له الفضل بن سهل: قم، فقام فمشى حتى قرب من المأمون، فوقف ولم يقبل يده، فقيل له: امض فخذ جائزتك، وناداه المأمون: ارجع يا أبا جعفر إلى مجلسك، فرجع. ثم جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيقبضان جوائزهما، حتى نفدت الأموال. ثم قال المأمون للرضا (عليه السلام): أخطب الناس وتكلم بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن لنا عليكم حقا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكم علينا حقا به، فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم، ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس (6).
3 - وروى الصدوق في (العيون) و(الأمالي) عن الحسين بن أحمد البيهقي، عن محمد بن يحيى الصولي، عن الحسن بن الجهم، عن أبيه، قال: صعد المأمون المنبر ليبايع علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فقال: أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والله لو قرئت هذه الأسماء على الصم والبكم لبرئوا بإذن الله عز وجل (7).
4 - قال الطبري: جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولي عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسماه الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 201 (8).
5 - وروى الصدوق في (العيون) عن البيهقي، عن أبي بكر الصولي، عن أبي ذكوان، عن إبراهيم بن العباس الصولي، قال: كانت البيعة للرضا (عليه السلام) لخمس خلون من شهر رمضان سنة 201 (9).
6 - وروى الشيخ الصدوق بالإسناد عن الريان بن شبيب، قال: إن المأمون لما أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين، وللرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وللفضل ابن سهل بالوزارة، أمر بثلاثة كراسي فنصبت لهم، فلما قعدوا عليها، أذن للناس فدخلوا يبايعون، فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر ويخرجون، حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار، فصفق بيمينه من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، فتبسم أبو الحسن الرضا (عليه السلام)، ثم قال: كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة، غير هذا الفتى، فإنه بايعنا بعقدها. فقال المأمون: وما فسخ البيعة من عقدها؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): عقد البيعة هو من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر. قال: فماج الناس في ذلك، وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (عليه السلام)، وقال الناس: كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة! إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم. قال: فحمله ذلك على ما فعله من سمه (10).
7 - وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): وأمر المأمون فضربت له الدراهم، وطبع عليها اسم الرضا (عليه السلام)، وزوج إسحاق بن موسى بن جعفر بنت عمه إسحاق ابن جعفر بن محمد، وأمره بحج بالناس، وخطب للرضا (عليه السلام) في كل بلد بولاية العهد. فروى أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثني من سمع عبد الجبار بن سعيد يخطب في تلك السنة على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة، فقال في الدعاء له: ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
ستة آباء هم ما هم *** أفضل من يشرب صوب الغمام (11).
8 - وذكر المدائني، عن رجاله، قال: لما جلس الرضا علي بن موسى (عليه السلام) في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء، وخفقت الألوية على رأسه، فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا (عليه السلام)، أنه قال: كنت بين يديه (عليه السلام) في ذلك اليوم، فنظر إلي وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إلي أن ادن مني، فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: لا تشغل قلبك بهذا الأمر، ولا تستبشر به، فإنه شيء لا يتم (12). وهذا الحديث يدل على علم الإمام المسبق بنوايا المأمون الحقيقية بوعيه النافذ للظروف التي دعت المأمون إلى تقليده ولاية العهد، وأنه كان مطمئنا بعدم تمامية هذا الأمر بعلم مسبق عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
تهنئة الشعراء:
1 - وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن علي الخزاعي، فلما دخل عليه قال: إني قد قلت قصيدة، وجعلت على نفسي ألا أنشدها أحدا قبلك، فأمره بالجلوس حتى خف مجلسه، ثم قال له: هاتها. قال: فأنشده قصيدته التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى أتى على آخرها (13). فلما فرغ من إنشاده قام الرضا (عليه السلام) فدخل إلى حجرته، وبعث إليه خادما بخرقة خز فيها ستمائة دينار، وقال لخادمه: قل له: استعن بهذه على سفرك واعذرنا. فقال له دعبل: لا والله ما هذا أردت، ولا له خرجت، ولكن قل له: أكسني ثوبا من أثوابك، وردها عليه، فردها عليه الرضا (عليه السلام) وقال له: خذها، وبعث إليه بجبة من ثيابه. فخرج دعبل حتى ورد قم، فلما رأوا الجبة معه أعطوه بها ألف دينار، فأبى عليهم، وقال: لا والله ولا خرقة منها بألف دينار، ثم خرج من قم، فاتبعوه وقطعوا عليه، وأخذوا الجبة، فرجع إلى قم، وكلمهم فيها، فقالوا: ليس إليها سبيل، ولكن إن شئت فهذه ألف دينار، قال لهم: وخرقة منها، فأعطوه ألف دينار وخرقة من الجبة (14).
2 - وكان مع دعبل إبراهيم بن العباس، فأنشده: أزالت عزاء القلب بعد التجلد * مصارع أولاد النبي محمد (15).
3 - وأنشده أبو نؤاس:
مطهرون نقيات ثيابهم *** تتلى الصلاة عليهم أينما ذكروا
خروج الإمام (عليه السلام) لصلاة العيد:
روى علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا، قالا: لما حضر العيد، وكان قد عقد للرضا (عليه السلام) الأمر بولاية العهد، بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الرضا (عليه السلام): قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس. فقال له المأمون: إنما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. ولم تزل الرسل تردد بينهما في ذلك، فلما ألح عليه المأمون أرسل إليه: إن أعفيتني فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. وأمر القواد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا (عليه السلام). قال: فقعد الناس لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القواد والجند إلى بابه، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس. فاغتسل أبو الحسن (عليه السلام) ولبس ثيابه، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفا منها على صدره، وطرفا بين كتفيه، ومس شيئا من الطيب، وأخذ بيده عكازة، وقال لمواليه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف، قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلا، ورفع رأسه إلى السماء، وكبر وكبر مواليه معه، ثم مشى حتى وقف على الباب، فلما رآه القواد والجند على تلك الحال، سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض، وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها وتحفى. وكبر الرضا (عليه السلام) على الباب، وكبر الناس معه، فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج، لما رأوا أبا الحسن (عليه السلام) وسمعوا تكبيره. وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل، افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع. فبعث إليه المأمون: قد كلفناك شططا وأتعبناك، ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع، وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه. فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفه فلبسه، وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم (16).
صورة العهد الذي كتبه المأمون بولاية العهد للرضا (عليه السلام):
كتب المأمون بخطه، ومن إنشائه عهدا للرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وأشهد عليه، وكتب عليه الرضا (عليه السلام) بخطه الشريف، وذكره عامة المؤرخين. قال علي بن عيسى الإربلي في (كشف الغمة): في سنة 670 وصل من مشهده الشريف أحد قوامه، ومعه العهد الذي كتبه المأمون بخط يده، وبين سطوره وفي ظهره بخط الإمام (عليه السلام) ما هو مسطور، فقبلت مواقع أقلامه، وسرحت طرفي في رياض كلامه، وعددت الوقوف عليه من منن الله وإنعامه، ونقلته حرفا حرفا، وهو بخط المأمون: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده. أما بعد، فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام دينا، واصطفى له من عباده رسلا دالين عليه وهادين إليه، يبشر أولهم آخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا لهم، ومهيمنا عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 42] (17). فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي والرسالة، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة، التي بها تقام فرائض الله وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه. فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل، 69: وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة. فحق على من استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه، أن يجهد لله نفسه، ويؤثر ما فيه رضى الله وطاعته، ويعتد لما الله مواقفه عليه ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود (عليه السلام): {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] (18)، وقال الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] (19). وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها، وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة؟ وبالله الثقة، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد، والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة. وأنظر الأمة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائفه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه، وسنة نبيه (عليه السلام) في مدة أيامه وبعدها، وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين، ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم، ومفزعا في جمع إلفتهم، ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم، ما عظمت به النعمة، وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة، والسعي في الفرقة، والتربص للفتنة. ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها، من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها، فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل ما يقدر عليه في ورعه ودينه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا له تعالى بالاستخارة في ذلك، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره، مقتصرا مما علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره وجهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وأبتلي أخبارهم مشاهدة، واستبرى أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة، فكانت خيرته بعد استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه عن الدنيا، وتسلمه من الناس. وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشيا، وحدثا ومكتهلا، فعقد له بالعهد والخلافة من بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنه فعله إيثارا له وللدين، ونظرا للإسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحق، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين. ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعوا مسرعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك منه رحما، وأقرب قرابة، وسماه الرضا، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين. فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي بن موسى، على اسم الله وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمر الذي إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله. وكتب بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين (20). صورة ما كان على ظهر العهد بخط الإمام (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.
أقول وأنا علي الرضا بن موسى بن جعفر: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وآمن نفوسا فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغيا رضى رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين. وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمه، إذا كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفا من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبائقة تبتدر. وقد جعلت الله على نفسي إذ استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافته، العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأن لا أسفك دما حراما، ولا أبيح فرجا ولا مالا، إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] (21). وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحؤول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين، والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله، يقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا. وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والفضل بن سهل، وسهل ابن الفضل، ويحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين. الشهود على الجانب الأيمن: شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق، وكتب بخطه في التأريخ المبين فيه: عبد الله بن طاهر بن الحسين، أثبت شهادته فيه بتأريخه، شهد حماد بن النعمان بمضمونه ظهره وبطنه، وكتب بيده في تأريخه، بشر بن المعمر، يشهد بمثل ذلك. الشهود على الجانب الأيسر: رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة التي هي صحيفة الميثاق، نرجو أن يجوز بها الصراط ظهرها وبطنها، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء والأجناد، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة على جميع المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتأريخ [المعين] فيه (22). هذا ما ذكره صاحب (كشف الغمة)، وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص): ثم قرئ العهد في جميع الآفاق، وعند الكعبة، وبين قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنبره، وشهد فيه خواص المأمون وأعيان العلماء، فمن ذلك شهادة الفضل بن سهل كتب بخطه: شهدت على أمير المؤمنين عبد الله المأمون، وعلى أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر، بما أوجبا به الحجة عليهما للمسلمين، وأبطلا به شبهة الجاهلين، وكتب فضل بن سهل في التأريخ المذكور. وشهد عبد الله بن طاهر بمثل ذلك، وشهد بمثله يحيى بن أكثم القاضي، وحماد ابن أبي حنيفة، وأبو بكر الصولي، والوزير المغربي، وبشر بن المعتمر، في خلق كثير.
___________
(1) إعلام الورى: 343.
(2) المراد أخوه محمد بن هارون الأمين.
(3) تقدم في ملامح من شخصيته (عليه السلام) أن الذي سماه الرضا (عليه السلام) وكناه بأبي الحسن هو الإمام الكاظم (عليه السلام).
(4) ذكر أبو الفرج في المقاتل: 375 نحو هذا الحديث، إلا أنه قال: فأرسلهما إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدداه. ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد.
(5) البدر: جمع بدرة، وهي عشرة آلاف درهم.
(6) الإرشاد 2: 260 - 262، مقاتل الطالبيين: 562 - 565، الفصول المهمة: 252 - 253، بحار الأنوار 49: 145 / 13، إعلام الورى: 334 - 335.
(7) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 147 / 18، أمالي الصدوق: 525 / 15، بحار الأنوار 49: 130 / 6.
(8) تأريخ الطبري 8: 554.
(9) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 245 / 2، بحار الأنوار 49: 221 / 9، العوالم 22: 368 / 1.
(10) علل الشرائع: 239 / 1، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 138، بحار الأنوار 49: 144 / 21، حلية الأبرار 2: 457، العوالم 22: 249 / 4.
(11) الإرشاد 2: 263، مقاتل الطالبيين: 376، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 145 / 14، المناقب 4: 364، الفصول المهمة: 253، بحار الأنوار 49: 146.
(12) الإرشاد 2: 263، الفصول المهمة: 253، إعلام الورى: 335، بحار الأنوار 49: 147.
(13) سنذكرها في فصل مستقل فيما بعد مع بعض تفسيرها.
(14) الإرشاد 2: 264، رجال الكشي: 504 / 970، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 263.
(15) العوالم 22: 258. 66: (2) العوالم: 258، كشف الغمة 3: 107، إعلام الورى: 328.
(16) الكافي 1: 488 / 7، الإرشاد 2: 264 - 265، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 149 / 21، الفصول المهمة: 257 - 258، المناقب 4: 371، بحار الأنوار 49: 134 / 9، العوالم 22: 246 / 2، كشف الغمة 3: 68، إعلام الورى: 336 - 337.
(17) الأنفال: 42.
(18) ص: 26.
(19) الحجر: 92 و93.
(20) كشف الغمة 3: 123 - 127، الفصول المهمة: 253 - 255، بحار الأنوار 49: 148 / 25.
(21) الإسراء: 34.
(22) كشف الغمة 3: 127 - 128، الفصول المهمة: 255 - 257، بحار الأنوار 49: 152.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|